سنة 651 م، سقطت دولة الفُرس تحت ضربات القوة العربية الناشئة، وانهارت الإمبراطورية الفارسية لتسقط أراضيها في يد العرب المنتصرين. ولكن رغم مرور أكثر من ألف وثلاثمائة عام على سقوط إمبراطورية الفُرس، وتتابع أنظمة حاكمة مختلفة على أرض إيران، ما زال الأحفاد يحلمون بإعادة مجد الأجداد، وإقامة إمبراطورية فارسية جديدة على نفس المنطقة الشاسعة التي كانت تشغلها، والتي تمثّلها الآن منطقتنا العربية. وقولي هذا ليس عن اطّلاع على ما يثبت -بالدليل القاطع- وجود أجندة إيرانية للسيطرة، في شكل بروتوكولات أو أهداف معلنة أو مدوّنة، وإنما عن معطيات تشير لوجود مثل تلك الأجندة، وساذج من يتصور أن أهدافا كهذه تتم صياغتها في شكل نقاط مكتوبة وموضوعة في كتاب متاح للجميع! التنين الفارسي يخرج من المتحف تلك المعطيات تبدأ بسرعة ترابط وتشكّل العناصر الفارسية في الدولة العربية في شكل تكتّل فارسي قوي ساهم في إسقاط الدولة الأموية وإقامة دولة العباسيين، ومشاركتهم في السيطرة على الحكم خلال العصر العباسي الأول، ثم تمكّنهم -بعد ذلك بقرون- من إقامة دولة فارسية جديدة مستقلة في إيران على يد الأسرة الصفوية، ثم توالت الأنظمة الحاكمة حتى الثورة الإيرانية على الأسرة "القاجارية" وتولي رضا شاه الحكم تحت مسمى يُستخدم لأول مرة في إيران هو "إمبراطور"، وتأكيدا على فكرة "الإمبراطورية" قام "رضا" بإضافة لقب "بهلوي" لاسمه، (وهو لقب ملكي فارسي قديم)، كما تلقّب ب"شاهنشاه" (أي ملك الملوك، وهو لقب فارسي قديم أيضا)، مما أكد عودة الدولة الفارسية القديمة من رقادها الطويل. إيران.. الراعي الرسمي للشيعة إعادة إحياء المسمّيات القديمة لم يكن من قبيل الحنين للماضي وأمجاده، فتَحَوُّل تلك المسمّيات إلى "سياسات واضحة" في عصر ما بعد الثورة الإسلامية أثبت جدية الإيرانيين في الرغبة في إعادة كيانهم العملاق القديم، صحيح أن هذا من أحلام أي شعب ينحدر من حضارة عريقة سادت يوما، ولكن إيران بالذات تمتلك لذلك دافعين إضافيين: إغراء إحياء المجد القديم، والعقيدة الشيعية الإثناعشرية المرتبطة بوعود تَسَيُّد الأرض. بالنسبة للدافع التاريخي فإن الشعب الإيراني من الشعوب القليلة في المنطقة التي استطاعت أن تحافظ على قيمها الثقافية القديمة، رغم تتابع حركات الهجرة والغزوات على تلك المنطقة، وهذا الصمود يغري أصحابه -بطبيعة الحال- بأن يتقدّموا خطوات إضافية في سبيل تحقيق حلمهم القومي بالعودة للمكانة القديمة المفقودة. أما الدافع الديني، فهو أن العقيدة الشيعية الإثناعشرية ترتبط بفكرة أن أتباعها هم الفرقة الوحيدة التي تعتنق الدين الحق، وأن عليها واجبا مقدسا بنشره ومحاربة ما سواه، وإعداد الأرض لعودة الإمام الثاني عشر الغائب، ليستحقّ أتباعه أن يرثوا الأرض وما عليها، وهي فكرة وجدت طريقها لعقيدة الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فرئيس الدولة يكون من التزاماته أمام الله والفقهاء وشعبه أن يعمل على نشر المذهب الشيعي ورفع شأنه، والمؤمنون كل صلاة يُطلقون نُذُر الموت بحق من يرفض فكرة "ولاية الفقيه"، بحضور خطيب المسجد الذي يتكئ على الرشاش كعلامة على أن فكرة "الجهاد المستمرّ" من مكوّنات عقيدة الدولة. لأسباب كهذه يعتبر النظام الحاكم في إيران نفسه مسئولا عن الشيعة في مختلف بقاع الأرض، ويعمل على نشر وتدعيم فكرة أن الشيعي الذي لا يتبع فقيها ما هو في حقيقة الأمر ليس مؤمنا حقا، وبالطبع فإن وراء هذه الدعوة يبدو الهدف الخفي في خلق لوبي شيعي عالمي له عدة فروع في مختلف الدول التي يمثل فيها الشيعة نسبة لا بأس بها، لخدمة الدولة الشيعية عند اللزوم. مسمار الشيعة كما أسلفتُ القول فإن إيران تعتبر نفسها راعية للشيعة في العالم، مما يجعل لها مبررا -من وجهة نظرها- للتدخل في شئون الدول ذات الكثافة الشيعية العالية كالعراق ولبنان، فضلا عن صدور بعض التصريحات الإيرانية التي تشير إلى إيمانها بأن "لها حقا" في المنطقة، ويبدو ذلك بشدة في إصرار الإيرانيين على استخدام وصف "الخليج الفارسي" لوصف الخليج العربي، وكذلك لبعض التصريحات التي قالت بوجود "حقوق تاريخية" إيرانية في دولة البحرين، ومعروف أن تلك الدولة أغلبية سكانها من الشيعة، وأنها كانت قديما من ممتلكات الدولة الفارسية. هل تدعم إيران "حماس" و"حزب الله" لله في لله؟ بالإضافة إلى ذلك يبدو الدور الإيراني واضحا في المنطقة من خلال دعم إيران لحركتي "حماس" في فلسطينالمحتلة، و"حزب الله" في جنوب لبنان، وبغضّ النظر عن أية تفسيرات عاطفية لأن ذلك الدعم هو نوع من المشاركة في "الجهاد في سبيل الله" فإن في السياسة اليوم واقعا يقول إن العواطف هامشها شديد الضيق أو شبه منعدم، وإن المصالح فقط هي ما تحكم علاقة الأخ بأخيه! وإيران ليست استثناء من تلك القاعدة، ودعمها ل"حماس" و"حزب الله" لن يكون مجانيا، ولو بدا كذلك اليوم، فعادة ما يكون دعم الدول لهذه الحركة المسلحة أو تلك منطلقا من رغبة الدولة الراعية في أن يكون لها مخلب قط في المنطقة، ربما تستخدمه اليوم، وربما غدا! هل افتتن الشيعة بجزيرة العرب كما افتتن اليهود بأرض الميعاد؟ السؤال الآن: لماذا منطقتنا العربية؟ هل فقط لكونها تقع في نفس النطاق الجغرافي للإمبراطورية القديمة؟ إن كان هذا جوابا منطقيا فهو ليس كل التفسير، بل نصفه، فثمة تفسير إضافي هو أن أمريكا -العدو اللدود لإيران- تستخدم بعض البلدان العربية كقواعد انطلاق لها، وتستخدم دولا أخرى كقواعد دعم للجيش الأمريكي أثناء قيامه بأية مهامّ في المنطقة، ومع ارتفاع احتمالات حدوث صدام أمريكي-إيراني مباشر يكون من مصلحة الأمن القومي الإيراني أن تسارع هي بحرمان أمريكا من قواعدها ومصادر دعمها، وهذا من شأنه قلب كل الموازين. في ساعة الصفر الرهان سيكون على العرب الواضح إذن أن لإيران أكثر من دافع لتكون لها أجندة للسيطرة على المنطقة، إن لم يكن بشكل مباشر فبطريق زرع "مخالب القط" هنا وهناك، أو الارتباط مع بعض الدول العربية باتفاقيات مسيلة للّعاب تجعل تلك الدول تحرص على الحياد عند وقوع أية صدامات سياسية عربية إيرانية، أو حتى أن تأخذ صراحة صف إيران.. إذن فلو أن ثمة خلافا فعلى طريقة قيام إيران بفرض سيطرتها، لا على مسألة وجود مخطط أم لا، فكما أسلفتُ القول، هذا ليس مما يتطلب كتابا به بروتوكولات واضحة، فالسياسة وألاعيبها ومخططاتها -بعيدة المدى وقصيرته- أعقد من هذا بكثير!