مشكلة نظرية المؤامرة في عصرنا الحالي أن أغلب المؤمنين بها لا يفعلون ذلك من منطلق توفُّر معطيات واقعية تثبت ذلك، وإنما من منطلق أن "الآخر" لا بد أن يكون متآمرًا علينا ما دام ليس مثلنا ولسنا مثله.. ورغم سلامة نسبة لا بأس بها من نظريات المؤامرة إلا أن المنطق يقتضي أن يكون المؤمن بأحدها أو بعضها أو حتى كلها على بينة من الجذور التاريخية لما يؤمن به. وها هنا محاولة بسيطة للعرض السريع للجذور التاريخية لبعض أبرز نظريات المؤامرة الرائجة في عصرنا الحالي في مجتمعنا. المؤامرة اليهودية هي أقوى النظريات ترددًا في الضمائر، وتجد لنفسها رواجًا في الكثير من كتابات المفكرين وخطابات رجال الدين ومناقشات المهتمين بالمتغيرات السياسية من حولنا. ولكنها ابتُذِلَت، فصارت "شماعة" يعلق عليها كل من هب ودب -بالذات بعض أصحاب الخطاب الديني- أية كوارث ومصائب تحل بنا. والحقيقة أن الأمر يحتاج لنظرة مصححة، فمجرد وصف المؤامرة ب"اليهودية" به مخالفة للمنطق والعدل والواقع، فمن حيث المنطق فإنه لم يحدث قط في التاريخ الحديث أن اجتمع مائة بالمائة من أهل ملة واحدة أو مبدأ واحد على مخطط واحد، ربما كان هذا منطقيًا في عصور المجتمعات الأولى حيث كانت العادة أن كل أهل مبدأ أو دين أو ارتباط عرقي يجمعهم وطن واحد جامع لهم مانع لغيرهم، أما في عصرنا هذا حيث يتفرق أهل الملل والعقائد في مختلف الأوطان فإن مجرد اجتماع الكلمة بين أهل ديانة واحدة على مخطط واحد موجه لخصم واحد بنمط وطريقة واحدة هو أمر شبه مستحيل. وأما عن منافاة هذا الاعتقاد في وجود مؤامرة تجمع كل اليهود للعدالة، فأمر واضح يستند على رفض الإنسان صاحب الفطرة السوية مبدأ "تعميم الإدانة" لكل أهل هذه الديانة أو تلك، وهو نفس المنطلق الذي نرفض به تعميم تهمة الإرهاب على العرب والمسلمين. وأخيرًا عن منافاة فكرة "المؤامرة اليهودية" للواقع فإن سند ذلك هو ذلك الفرق الطبيعي بين "اليهودي" و"الصهيوني"؛ فالأول مجرد معتنق لدين كتابي، والآخر معتنق لمبدأ يعتقد بأحقية اليهود في منطقة جغرافية معينة بناء على توقع مستقبلي لمصير معين، يستند على واقعة محددة هي إقامة دولة يهودية في أرض فلسطين لانتظار نزول "الماشيح/ المسيح" لإقامة مملكة الرب. وهو معتقد يعتنقه كثير من غير اليهود، مما يعني أن وصف المؤامرة الصهيونية ب"اليهودية" فيه ظلم لليهود اللا صهيونيين، وفيه نفي للتهمة عن الصهاينة غير اليهود. السند الآخر لمسألة "منافاة الواقع" هو أن اليهود -عبر الزمان والمكان- لم يكونوا قط فئة واحدة ذات ثقافة وتاريخ واحد، ولا حتى مذهب ديني واحد، والمتتبع للأصول التاريخية لأبرز الجماعات اليهودية في مختلف المجتمعات يعجز عن الوصول بها جميعًا لنقطة واحدة مشتركة في التاريخ إلا فيما ندر، وبشكل لا يعبّر عن وحدة الثقافة ولا المذهب الديني والسياسي. والواقع أن جذور فكرة "المؤامرة اليهودية" إنما تعود لإساءة تفسير بعض آيات القرآن الكريم التي دعت المؤمنين ل"لاتخاذ الحذر" في التعامل مع اليهود بحكم ارتباط تاريخهم القديم بمعاداة الأنبياء والمحاولات الإصلاحية، دون أن تعتبر أن العلاقة معهم علاقة عداوة بالضرورة. وكذلك لارتباطهم في العقيدة المسيحية بتعذيب وصلب السيد المسيح -وفق الرواية المسيحية- وأخيرًا لارتباطهم في بعض المراحل التاريخية بعمليات جباية الضرائب، وهي مسألة كانت تسبب نفورًا لدى العامة بطبيعة الحال. إذن.. فردّ الأمر لموقعه يقتضي أن نقول بوجود "مؤامرة صهيونية" لا "يهودية"، بالإضافة -بالطبع- لالتزام المنطق والدقة عند نَسب هذه الواقعة أو تلك للمؤامرة المذكورة، عبر معطيات واقعية عملية محترمة. فواقع وجود "مؤامرة صهيونية" ضدنا لا يعني أن ننسب إليها كل سلبياتنا! المؤامرة الصليبية للأسف الشديد التصق وصف "الصليبية" على "الأفعال الضارة عبر التاريخ" الصادرة من "متعصبين مسيحيين" منذ الحملات التي وصفها المؤرخون العرب ب"الإفرنجية" وحتى يومنا هذا، وهو ظلم فادح للصليب كرمز للفداء في المسيحية، وما يتضمنه ذلك من تناقض مع واقع ارتباط الحملات الأوروبية على الشرق -في العصور الوسطى وحتى الآن- بالمصالح المادية والمعنوية. ولكنه للأسف مصطلح شاع حتى صار من العسير استخدام غيره، فنحن إذن مضطرون لاستخدامه، والجدير بالذكر أن أول من استخدمه لوصف تلك الأعمال الأوروبية العدوانية في العصور الوسطى ضد الشرق العربي الإسلامي كانوا المعتدين أنفسهم. الواقع يقول إنه توجد بالفعل مؤامرة صليبية، ولكن -كما قلتُ فيما يخص اليهود- لا يمكن أن نضمّ للضالعين في تلك المؤامرة كل من هو مسيحي، لنفس الأسباب السالف ذكرها بأعلى، بالإضافة لواقع يقول إن المؤامرات الصليبية الأولى كانت موجهة إلى "كل ما ليس كاثوليكيًا" فاليهود ذُبِحوا في القدس عند غزوها، والمسيحيون الأرثوذكس تعرضوا للاضطهاد والتشريد، بل وثمة حملات صليبية "داخلية" شهدتها أوروبا، سواء ضد المخالفين للمذهب الكاثوليكي أو للمارقين من الملوك عن سلطة البابا في روما، فالحملات إذن كانت من أجل "كثلكة الشرق والعالم كله" أيًا كان خصمها. وسبب ربط الماضي بالحاضر فيما يتعلق بالمجريات الحالية يرجع لبروز التيار اليميني المتطرف في الساحة السياسية الدولية -بالذات من جهة أمريكا- وربط بعض قيادات هذا التيار -وعلى رأسهم جورج بوش الابن- تصرفاتهم العدوانية تجاه البلدان العربية والإسلامية ب"الحروب الصليبية". والحقيقة أن الدين أصبح مبتذلاً في ساحة السياسة، يتمسح به كل من هب ودب لتبرير عدوانه على الآخرين لإضفاء القدسية عليه وإبعاد الأنظار عن الأغراض "الدنيوية" لهذا العدوان. إذن فهذا نوع دنيوي من "المؤامرات الصليبية"، والنوع الديني منها متوفر أيضًا ولكنه مقتصر على أصحاب التعصبات الدينية من المسيحيين، وحتى هؤلاء لا يمكن أن نعمم الحكم عليهم، فليس كل متعصب متآمر، ولا متواطئ، فعالَم المؤامرات أكثر تعقيدًا من تقسيم معسكراته بسهولة ويسر. ولنلاحظ أن رفض تعميم نظرية المؤامرة الصليبية على كل مسيحي يستمد عدالته من رفضنا تعميم تهمة الإرهاب على كل مسلم! والحقيقة أن من أهم أسباب تعميم تلك التهمة اتساع نطاق التيارات الدينية الإسلامية المرتبطة بالجمود على نظرة فقهاء العصور الوسطى للعلاقة بين المسلم وغير المسلم، وأكثرها تيارات نشأت وترعرعت في مجتمعات لم تعرف منذ زمن بعيد مسألة التعددية الدينية على أرضها. وهذه مسألة تحتاج لتدخل من رجال الدين الثقات المتبحرين في هذا الشق بالذات لإعادة الأمور إلى نصابها. المؤامرة الشيعية يكثر مؤخرًا الحديث عن "مؤامرة المد الشيعي" في المجتمعات السنية، والواقع أن ثمة دعائم قوية لتلك النظرية، ولكن علينا أولاً أن نلاحظ أن المذهب الشيعي منقسم لفرق واتجاهات عدة، وقد سبق أن عرضتُ رأيي في مسألة التعميم تلك، إذن فالحديث هنا عما يمكن اعتباره "مؤامرة شيعية إيرانية" وهي نظرية لها أسانيدها في المذهب الديني/ السياسي للدولة الإيرانية. فمما تنص عليه مبادئ الجمهورية الإيرانية أن يعمل ولي الأمر على نشر المذهب الشيعي الإثناعشري بأي شكل؛ بحيث يحقق السيادة لذلك المذهب في الأرض، وتُرفَع "التقية" عن الشيعة في البلدان غير الشيعية، و"التقية" جزء مهم من المذهب الشيعي وهي أن يخفي الشيعي مذهبه طالما كان في بلد لا يعترف به، ولا يجاهر به إلا عندما يصبح -المذهب- هو السائد المسيطر بيد فقهائه. والساحة السياسية تشهد تداخلات إيرانية في عمق المنطقة، منها ما هو مقبول نوعًا كدعم المقاومة اللبنانية والفلسطينية، ومنها ما هو منفّر مريب كالتدخل في النزاع السني - الشيعي في العراق، ودس الخلايا الترويجية للمذهب الشيعي في مصر، ومحاولة تحويل دعم المقاومة ل"مسمار جحا" تتدخل من خلاله في الشأن العربي. والحقيقة أن الحديث عن المؤامرة الشيعية إنما هو قديم جدًا، يعود لما قبل قيام دولة الفاطميين في المغرب العربي، ثم انتقالها إلى مصر، ثم قيام النزاع بين الخلافتين السنية في بغداد والشيعية في القاهرة، حتى حسمه نور الدين محمود زنكي وصلاح الدين الأيوبي وأسد الدين شيركوه لصالح الخلافة السنية، وإن بقيت ذيول شيعية تصطدم من حين لآخر بالدولة السنية، سواء في شكل تنظيمات إرهابية كحركة الحشاشين، أو محاولات لقيام دولة -قامت أخيرًا- على يد الصفويين في إيران حيث قامت الدولة الصفوية، ثم خليفتها القاجارية، ثم الحكم الشاهاني في بداية القرن العشرين، وأخيرًا الجمهورية الإسلامية الإيرانية من عام 1979، سلسلة من الدول الشيعية في إيران طالما اصطدمت بالقوى السنية من المماليك والعثمانيين وحتى البلدان الخليجية ومصر في العصر الحديث. وما يزيد من قوة النظرية أمران: الأول ذلك الطابع السري للمذهب الشيعي الإثناعشري، وتضمنه مسألة "التخطيط السري البطيء لإقامة الدولة"، والثاني ما يتردد في دهاليز عالم السياسة من وجود علاقات مريبة سابقة -وربما حالية- بين إيران وإسرائيل والولايات المتحدة، خاصة خلال حرب الخليج الأولى -العراق وإيران- وخلال محاولات أمريكا لإسقاط نظام صدام بعد حرب الخليج الثانية. إذن فهذه مؤامرة لها دلائل، ولكن -كما قلتُ- دونما تعميم على كل أتباع المذهب الشيعي، ودون إلقاء للاتهامات بغير أدلة. بقي أن أقول إن من أهم أسباب ذلك الميل الطبيعي عند الكثيرين للتوجس من إيران هو ارتباط مذهب "آيات الله" بسيل من اللعنات والتوعدات لمخالفي مذهبهم، صحيح أن الواقع يقول إن إيمان أي منا بعقيدته يعني اقتناعه -بديهيًا- بمخالفة عقيدة غيره للصواب، إلا أن هذا شيء والاقتناع بوجوب الاصطدام بالآخر ومعاداته وضربه شيء آخر! المؤامرات الهلامية! وهو نوع مستفز من نظريات المؤامرة، نظريات تعتمد على وجود مؤامرة غامضة شيطانية ضد الإنسانية، من نوعية "مؤامرة المسيخ الدجال التي يديرها من مقره بمثلث برمودا"، حيث يتم مزج عدة ألغاز في نظرية واحدة بشكل هزلي يضيق به أي عقل متزن. أو نظريات تقوم على وجود خدعة كبرى يعلم الله وحده من وراءها من عينة "صدام لم يمُتْ، وابن لادن ليس شخصية حقيقية"، وهي نوعية من النظريات لا تستحق الحديث عنها، وما ذكرتها هنا إلا على سبيل لفت النظر إلى أي مدى يمكن أن يصل الاستخفاف بالعقول! الخلاصة: هذه عينات من أبرز نظريات المؤامرة التي يحسبها الكثيرون ناشئة من ظروفنا الحالية، بينما هي في حقيقة الأمر قد وُلِدَت ونشأت ونمت عبر زمن طويل.. منها ما هو سليم، ومنها ما هو فاسد، ولكن المؤكد أن مبدأ "التآمر" موجود في كل إنسان وفي كل جماعة بشرية، طالما بقيت الأرض ومن عليها. (تم) واقرأ أيضا تاريخ شكل تاني.. المُؤامَرة! (1) تاريخ شكل تاني.. المُؤامَرة! (2) تاريخ شكل تاني.. المؤامرة (3) تاريخ شكل تاني المؤامرة (4) تاريخ شكل تاني.. المؤامرة (5) تاريخ شكل تاني.. المؤامرة (6).. روما عدوة المسيحية باتت حاضنتها تاريخ شكل تاني.. المؤامرة (7) تاريخ شكل تاني.. المؤامرة (8) تاريح شكل تاني... المؤامرة (9) تاريخ شكل تاني.. المؤامرة (10) هكذا كان الرسول نبياً وزعيماً في نفس الوقت (11) التحرر الفكري للمسلمين الاوائل ساعدهم في صد المؤامرات (12) تاريخ شكل تاني.. المؤامرة 13: إنسانية المسلمين كانت سلاحهم لصد المؤامرات