وصلتُ إلى مطار "نيويورك" في السادسة والنصف، بعد إحدى عشرة ساعة قضيتها بين سماع الأغاني وقراءة مقالات علينا قراءتها. بين الصحو والنوم كنت أفتح شباك الطائرة فلا أرى سوى الظلام؛ على أرض مطار "نيويوك"، تصوّرت مصر الكرة الأرضية التي أراها صغيرة، وأنا سابحة في الطريق اللبني. ربما لهذا السبب لم أشارك الواقفين في الطابور المؤدّي إلى باب الطائرة في حالتي تلك.. بدا الزحام للنزول مبكراً شيئاً تافهاً لا داعي له. أدركت سخف ما فعلته في منطقة "الجوازات"، فالساعة تشير إلى السابعة إلا الربع، أقف في نهاية الصف؛ الطائرة التالية في التاسعة، الطابور يتحرك ببطء، وإن استمرّ الحال على هذا النحو فلن أنتهي من الإجراءات قبل ساعة.. قرّرت أن أقف عشر دقائق أخرى، أخرجت نسخة من التذكرة، في استعداد أن أخاطب الشرطية التي تقف عن بعد، لو كنت في مصر لساعدني الواقفون للوصول إليها، ولتمّ استثنائي من الطابور. جلست الفتاة التي تقف في الطابور التالي على الأرض، أخرجت الmp3 من حقيبتها، وضعت السماعات في أذنها في استرخاء، كان في رأسي بعض التصوّرات، خمس دقائق أخرى وسأخترق جموع الواقفين، أعرف أنه لن يكون فأل حسن أن أستقبل الولاياتالمتحدة بالبكاء أمام الشعوب التي تقف أمامي الآن؛ لكن للضرورة أحكام. شعرت بالارتياح لأن الشرطية كانت "أفروأمريكان"؛ فكّرت أن التفاهم معها، سيكون أسهل بعد خمس دقائق من الآن، كنت ممتنّة للفتاة "الأفروأمريكان" التي أجرت معي "الإنترفيو" في السفارة الأمريكية؛ والواحد أحياناً يحبّ طائفة بأكملها أو يكرهها بسبب صدفة أو حادثة، الأهم من ذلك أنها ذكّرتني بالناس في مصر؛ كأني أقف في الأقصر مثلاً، وهؤلاء سوّاح ينتظرون دخولهم إلى "الكرنك".. يبدو أن الأرض ستكون حاضرة أينما ذهبت؛ ولا رادّ لقضاء الله. مرت عدة دقائق.. أزاحت السيدة الشريط الأسود هذه المرة لكي تطلب من مجموعة من الأشخاص التوجّه إلى كبائن أخرى، تبدّد الواقفون على دفعات، كما لو كنت في فيلم كرتون، الساحر أخذهم إلى مكان ما، في الخلفية تلتمع النجوم، شرائح من الأزرق والأخضر والأسود تظهر وتختفي، وقفت أمام جهاز البصمات، رأيته في المرة الأولى في السفارة الأمريكية وقت مقابلة "الفيزا"؛ البصمات بالنسبة لي تعني رجلاً يجلس على مكتب، يضغط على أصبعي أول ما يلمس الحبّارة، يحدث ذلك عادة في مناسبات يحدوها التفاؤل؛ عندما استخرجت "فيش وتشبيه" وقت التعيين في الجامعة، أو عند استفتاء تعديل الدستور قبل أعوام. دخلت شيئاً ما يشبه الكابينة عليها "ستارة سوداء"، كانت المرة الأولى التي أشارك فيها في استفتاء، في ذلك الوقت كانت الأغاني الوطنية تُذاع على القنوات المحلية بمعدّل مرة كل ربع ساعة، جميلة تلك الأغاني؛ بالأخصّ أغنية "مي سليم"، التي تنادي فيها على "جرجس" و"محمد"، كانت تضرب حسّي الوطني في الصميم، ترفعني فوق فوق، كان من الممكن وقتها أن تغرورق عيني بالدموع لأقل سبب.. مددت يدي بالورقة للرجل في اعتزاز، قابلني بنظرة ملولة، كأنه يراقب الطلاب في الامتحان، وأنا الطالبة الوحيدة التي لم تخرج من اللجنة. وضعت أربعة أصابع على لوح شفّاف يميل إلى الاخضرار، طلبت مني السيدة إعادة المحاولة.. في لحظات كتلك تصبح اللغة كائناً لا فائدة منه، الملامح كذلك، لا تشي إلا بالقليل، كأني أقف أمام عربة تتوالى عليها الفرشاة من ناحينين، الألوان تكون واضحة للوهلة الأولى، تتحول إلى اللون الأبيض، أنا متأخّرة على الطائرة. وصلت إلى مطار "لويفل" بولاية "كنتاكي" في الواحدة والنصف ظهراً، صعدت بسلم كهربائي إلى مكان استلام الأمتعة، كان معي حقيبة يدي، أحذت الحقيبة الأخرى من على الشريط، أخذت وضع الاستعداد على السلم الكهربائي الذي يصعد بي، شاهدت الحقيبتين تمرّان على السنون المعدنية في أول السلم، علامة أخيرة على وصولي. وضعت الحقيبتين على الجانب، خاطبت السيدة في الاستعلامات، كانت عجوزا أنيقة، أنا قادمة من مصر، -وهل بإمكاني أن أنكر مثلاً- وأريد أن أكلّم جامعة "لويفل" في التليفون. بدت ملامح الاندهاش على وجه السيدة: الأهرامات؟ نعم. ابتسمت: لا بد أنك أخذتِ طريقاً طويلاً حتى تصِلِي؟ نعم، ثلاث طائرات.. كان هناك تليفونات على يساري، يعلوها لوحة إرشادات، ارتحت أنها طلبت لي الرقم، انتظرت عشر دقائق، قضيتها في قراءة رواية كانت معي.. فتح الأبواب الإلكترونية استدعى لي الشعور بالخدر؛ كأني أجلس على حافة حمام سباحة، أطيل النظر إلى المياه الرقراقة، أسأل نفسي إن كنت سأجيد العوم بعد قليل.