تبدأ اليومية في مطار القاهرة الدولي (المبني الجديد مبهر، نظيف، منظم، مضاء، صوت المذيعة واضح بكل اللغات، كل شيء عكس ما عرفته في السنوات الماضية علي مدار عشرات الرحلات منه وإليه) وتنتهي في مطار فرانكفورت الدولي (الذي أعتقد واعتقادي له أسباب عديدة أنه مطار كئيب جداً). السفر من القاهرة إلي أوتاوا يمر بمطار من اثنين لا ثالث لهما، مطار باريس أو مطار فرانكفورت. مسألة تعود. وصلت مبكرة إلي كاونتر إير فرانكفورت. زحام الخامسة صباحاً ثقيل، الناس نصف نيام ومتوترون والأطفال يثيرون ضجة غير محتملة. أنظر من حولي متثائبة: هل كل هؤلاء الناس مصريون؟ معظمهم... يتأكد حدسي عندما يتكلمون. عائلات وأطفال، شباب كول لكنتهم أجنبية، أغنياء متعجرفون قضوا دقائق قليلة في طابور الفرست كلاس القصير خوفاً علي الجاكيت الأبيض والحذاء الإنجليزي من نظرات الحاسدين، موظفون وزوجاتهم وأولادهم واقفون في طابور الدرجة الاقتصادية الطويل يتأففون من الانتظار. بعضهم يستعرض الباسبور الأجنبي وكأنه صك عبور للجانب الآخر، جانب الغرباء والأثرياء. والبعض الآخر صابر ومتلمظ. طبقة متوسطة تفضحها ورقة كلينكس مهترئة تتمسك بها سيدة سمينة في يد ينغرس فيها خاتم ذهبي هائل عار من الذوق، أطفال الموبايل والأيبود لغتهم فظة وشقاوتهم تدل علي نقص في التربية وأفواههم مفتوحة ببلاهة أمام فتاة أجنبية ترتدي ثوباً قصيراً بلا أكمام، كروش رجال متدلية تحت قميص بني حال لونه أو جاكيت أزرق داكن يلمع بتأثير المكواة المتكررة. قليلون من الأجانب، أوروبيون، كنديون، عائلة هندية وأخري صومالية، طالب ياباني وحيد. كل هؤلاء إلي فرانكفورت. ومنها ربما إلي مكان آخر من العالم. كل هؤلاء يلتقون في قاعة الانتظار الكبيرة، البوابة التي تؤدي لنفق الطائرة. بوابة دخول فقط، الوصول إليها يعني عدم إمكانية العودة للبلد. بعد قليل ينحشر كل هؤلاء وأنا معهم في حيز الطائرة الجامبو 707 آخر المتقدمين لدخول الطائرة هم المصابون بالكلوستروفوبيا أو الخوف من الأماكن المغلقة مثلي، والمصابون بفوبيا أو الخوف من الارتفاعات الشاهقة. كمبيوترات كثيرة مفتوحة، لقتل الوقت أو لمجرد التباهي، رنة موبايل أخيرة قبل أن يفقد الجهاز أهميته مع اقتراب موعد الإقلاع، كتاب ضخم أو جريدة يومية واستغراق شبه كامل في قراءة ينقصها التركيز. ثمة عين علي الشاشة التي يظهر عليها رقم الرحلة وتوقيت الإقلاع، وعين علي البنت الزنانة التي لم تكف عن البكاء منذ دخلت مع أمها من بوابة المطار. يارب! اجعل هذه البنت وأمها تجلسان في مؤخرة الطائرة حتي يتسني النوم. أنتِ في مكان محدد، تعرفين أنه المطار، لكنكِ أيضاً في لا مكان. صفته أنه معبر وليس مسكناً. ثابت، غير أن استيعاب الحركة وظيفته الرئيسية. بدون سابق إنذار، يتحرك الجميع صوب النفق المؤدي لبطن الطائرة. الحركة المفاجئة يبدؤها الرجل الذي بدا منذ لحظات مستغرقاً في قراءة الجريدة وجعلك تنعسين علي إيقاع رفيف الورق كلما قلب الصفحة. عينه المعلقة بالشاشة ورد فعله السريع ينمان عن توتر حاول علي مدار ساعة أن يخفيه خلف الجرنال. علي عكس المتوقع، النساء أكثر صبراً من الرجال. في الطابور الواقف يتسلين بالفرجة والأحاديث الجانبية، فيما تتعلق أعين الرجال بأول الطابور لحساب المسافة الفاصلة بينهم وبين النفق، كأنهم في سباق مع المسافة. بعد الخروج من الطائرة، يتفرق المصريون في أنحاء المطار الجديد وتسود لغة أخري، الألمانية. في المقهي، معظم الناس يتكلمون بهذه اللغة، ويحيون الجالسين إلي جوارهم كلما التقت الأعين. في البداية تصورت أنني أمام عجوز متصاب يبتسم لي دون سابق معرفة، يفتح باباً لحديث لم أكن مستعدة لاحتماله ولا حتي من قبيل الأدب. ثم اكتشفت أن الجميع هنا يفعلون ذلك، عند الجلوس إلي المقعد وعند مغادرته يحيون جيرانهم بالألمانية. تحول العجوز المتصابي إلي عجوز طيب. وألمانيا الغريبة لألمانيا أليفة، بمجرد فك شفرة السلوك. ابتسمت وحييته بهزة من رأسي وهو يدفع الحساب ويقوم بصعوبة من مقعده الخشبي متجهاً إلي حيث لا أعلم. سرت غير بعيد عن المقهي وجلست إلي مقعد لا يسمح بالاسترخاء. لم أكن أريد النوم، كنت فقط أريد الدخول في ذاتي والاختلاء بها بعيدا عن الضوضاء. أوصلت الكمبيوتر بالكهرباء لشحن البطارية وجلست أراقبه. سأكتفي بالنوم في الطائرة. سائحة كوبية توسمت من ملامحي أني أتحدث الإسبانية. سألتني وأجبتها بالإنجليزية وأنا أتفحص أوراق سفرها. كانت تشعر أنها تائهة رغم أنها تمضي في الاتجاه السليم. طمأنتها وأشرت أن تكمل في نفس الاتجاه، رأساً إلي كوبا. عائلة تركية مكونة من أب وأم عجوزين وابن وحفيد جلسوا في الجهة المقابلة غير بعيد عني. علي الحائط الكبير خلفهم إعلان هائل عن سجائر دانهيل. يقول الإعلان بعدة لغات إن التدخين يقتل. ليست السيجارة في ذاتها، السيجارة بريئة من المسئولية، الفعل الإنساني الواعي بمخاطر التدخين هو الذي يقتل. صور السجائر جميلة دائماً وجذابة، الأصابع الرشيقة التي تحملها، الخط الذهبي الأنيق الذي تكتب به اسم الماركة علي المبسم. أخرج العجوز فجأة علبة سجائر، تناول واحدة بين شفتيه مباشرة من العلبة وشرع في إشعالها. الابن انتبه للرائحة وسحب السيجارة بسرعة من فم أبيه ودهسها بحذائه وسط ذهول الأب والأم. هل وصلت به الوقاحة إلي هذا الحد؟ الابن يشرح بهدوء سبب فعلته والأب لا ينصت، عابس ومأخوذ. ثم قاما معا، الابن ينظر يميناً وشمالاً، سارا باتجاه مكتب الاستعلامات. سيسألون عن الغرفة المخصصة للتدخين في المطار. عند الطائرة المتجهة لأوتاوا، التقي ببعض المصريين الذين سافروا معي من القاهرة. كالعادة في المطارات، تتبعني وجوه وتسقط وجوه كنت أتمني لو أنها تابعت الطريق معي. لكن المفاجأة دائماً سارة، كأنني كنت علي موعد دون أن أدري.