شدّني عنوان ذلك الخبر الذي سارعت بقراءته، لا سيما وقد أعطاه النقل عن "الجارديان" البريطانية ثقلاً.. يبشر الخبر بظهور "سلاح تكنولوجي" في الأسواق المصرية بنهاية العام الحالي، يمكّن المرأة من ردع المتحرشين بها، والذين لا يحرموننا وجودهم في أي نوع من المواصلات العامة، ويفسدون علينا نزهات الأعياد، وأحيانًا جولات التسوق في أوقات الزحام، والذين لم تسلم منهم "أنثى" مهما كان زيّها أو عمرها أو هيئتها، أو حتى درجة جمالها.. إلا من رحم الله. قفزت إلى تفاصيل الخبر بكل سعادة وحماس، لأعرف كيفية استعمال "السلاح التكنولوجي" الفتاك -كما يوحي اسمه لقارئة أنثى بانتهاء إحدى مشكلاتها في ركوب المواصلات إلى الأبد- ولم أستطع وقف سيل التخيلات التي تبادرت إلى ذهني في الثانية التي سبقت وصول عيني إلى السطور.. فمن هذه التخيلات مثلا؛ أن يكون هذا السلاح هو الصاعق الكهربيّ الذي نرى النساء يستخدمنه للدفاع عن أنفسهن في الحالات المشابهة (بالأفلام الأجنبية طبعًا).. وتخيلت -فيما تخيلت- أداة شبيهة بعصًا قصيرة ونحيفة تنتهي بسنّ دقيق، تطول به الضحية من يتحرش بها، فتلقنه درسًا يجعله يقبض يده التي تستحق قطعها.. وتخيلت في أسوأ خيالاتي رذاذ الفلفل الذي رأيناه مرارًا في الأفلام الأجنبية من الحقب الأقدم، فليس جديدًا أو غريبًا أن يصدّر إلينا الغرب نفاياته التقنية وغيرها، لنفرح بها نحن فرحة العيد، ونعاملَها على أنها مخترعات جديدة وصلتنا لتوّها من الخارج، ونعيشَ عليها عقودًا حتى يتحفنا الغرب بتصدير نفاية أخرى شبع من استخدامها، واكتشف أضرارها حتى قرر أنها لا تصلح لاستعمال شعوبه المتقدمة، لذا فهو يلقيها إلى الشعوب المتخلفة بالشرق الأوسط، التي تفرح كثيرًا بهذه "العظمة" الجديدة. كانت هذه خيالاتي المريضة عن الاختراع الذي سيمثل الخلاص لكل أنثى تستخدم المواصلات العامة.. وأخيرًا فرضت السطور نفسها على عينيّ.. كيف تتصورون أن يكون هذا "السلاح التكنولوجي"؟ إنه في الحقيقة "جهاز".. (هذه بداية جيدة ومبشرة لا ريب) هذا الجهاز يتيح للضحية الإبلاغ عن أية حوادث تحرش يمكن أن تتعرض لها، وذلك عن طريق إرسال رسالة نصية إلى "جهاز كمبيوتر" مركزي، (ليس حتى فريق مساعدة بشريًا) بعدها يصل للضحية رد "يعرض" عليها المساعدة، ويمنحها "نصيحة عملية" لما يمكن أن تقوم به في الوقت نفسه!! هل تنتطرون تعليقًا؟ حسنًا.. لن أحدثكم عمّا شعرت به فجأة من خَدَر غير مُبرر في لساني ونصف جسدي الأيسر بعد ما قرأت، ولكن سأحدثكم عن الموقف الذي تذكره زميلي بعد سماعه طريقة عمل "الجهاز" .. أخبرني الزميل أنه كان يبحث في السوق عن وسيلة لإبادة الصراصير الداجنة.. التي تشاركنا منازلنا صيفًا. وكان فيما وجده: "العجينة الفتاكة"، وتلقف المسكين العبوة بحماس من وجد الخلاص، ليقرأ كيفية عملها، فوجد المكتوب على غلافها: "العجينة الفتاكة" لإبادة الصراصير بسرعة وفاعلية وأمان.. تعمل العجينة على تجفيف المياه داخل جسم الصرصور، حتى يموت في خلال 15 يومًا.. (لا تعليق!). هلّا زدتكم من الشعر بيتًا؟ "السلاح التكنولوجي" يحتوي على خريطة "مفصلة ومتاحة للجميع" لأكثر الأماكن التي توجد بها تحرشات جنسية في مصر! نعم أعزائي، ولست أدري ما الهدف من هذه الخريطة.. هل الهدف منها أن يعرفها من لا يعرفها من هؤلاء المتحرشين أو من "مراهقي العيد" الذين يمارسون التحرش بمناطق مختلفة وبشكل عشوائي، فيصبح للتحرش في مصر "نوادٍ مفتوحة" بعينها يقصدها المتحرشون ليطبقوا حكمة "الاتحاد قوة"، وليتبادلوا خبراتهم في الموضوع، وأحدث الطرق فيه، حتى يصبح التحرش في مصر "مُمنهجًا"؟! هل يتم إعلان تلك المناطق رسميًا "مناطق تحرشات"، وتوضع لافتة تحذيرية في مداخلها: "احذر.. منطقة تحرش!"، ويُفرض بها منع التحرش.. أقصد منع التجوال للإناث، وفي حالة دخول أية أنثى إلى هذه المناطق أو مرورها بها وتعرضها للتحرش؛ فلا تلومنّ إلا نفسها الأمارة بالسوء، التي قضت بأن يكون لها مصلحة تقضيها في هذه المنطقة أو تلك، أو حتى يتعسها حظها بأن تكون أحد سكان تلك المناطق! وبناء على كون الأخت "ربيكا شياو" إحدى الأجنبيات ممن دفعوا هذا المشروع إلى النور؛ تساءلتُ كذلك عمّا إذا كان سيُضاف إلى مفاتيح الخرائط رمز يشير إلى مناطق التحرش، وأن تصدر خرائط مصر السياحية في طبعتها الجديدة مزودة بهذا الرمز الإرشادي للسياح! وتبادرت إلى ذهني صورة فوج سياحي يهبط من حافلة أنيقة، بصحبة مرشده الأمين، وهو يحذر الفوج من أن تضل إحدى السائحات طريقها، فتجد نفسها عالقة في إحدى مناطق التحرش.. وا حسرتا عليكِ يا بلدي..! وكان أكثر تساؤلاتي تفاؤلا: هل ستكون "خريطة مناطق التحرش" هذه وسيلة ضغط حقًا على السلطات الأمنية، لسَنّ إجراءات تكافح هذه الكارثة الأخلاقية؟ لا سيما وأنه لا توجد مواد محددة في القانون تجرّم التحرش، وفقًا لتصريح مراسل "الجارديان" في القاهرة. أغلقت الخبر وأنا أتحسس في اعتزاز "دبوس الأمان" كما يحلو لي أن أسميه، وهو دبوس طويل أحتفظ به دومًا في موضع يسهل عليّ التقاطه سريعًا، وردّ أية يد تستحق قطعها "مشكوكة" إلى مكانها.