بالملاحظة، ندرك أن كل جسم يخلو من محتواه يحلّ محل ذلك المحتوى شيء بديل؛ فالزجاجة التي تُفرَغ من مائها يدخل إليها الهواء بدلا منه، والعكس صحيح.. هذا المثال ينطبق أحيانا على الساحة الدولية؛ فالمساحة التي يشغلها الدور المصري في المنطقة العربية لو خلت فإن هذا سيعني بالضرورة تسلل عنصر/ دولة أخرى لشغل نفس المساحة، والله أعلم ماذا قد تكون أجندة ومخططات تلك الدولة. الشرق الأوسط.. الأورومتوسط.. أشياء من هذا القبيل هذا عن الشِقّ الاحتمالي لتخلي مصر عن دورها العربي، أما الشِق المؤكد فهو وجود خطة قوية تسير على خطى ثابتة لتغيير خريطة المنطقة وانتماءات عناصرها، فتعبير "الشرق الأوسط" وُلِدَ من الأساس لخدمة هذا التغيير؛ فبعد أن كانت منطقتنا توصف ب"العربية" أصبحت تحمل اسم "الشرق الأوسط"، فتم بذلك فصل الأجنحة الغرب إفريقية من التصنيف، وإدخال دول غير عربية فيه، مثل إيران وتركيا وقبرص وإسرائيل التي تم ذلك التغيير لأجل دمجها قسرا في البُعد الجغرافي للبلاد العربية. كذلك تم خلق كيانات إقليمية تخدم نفس الغرض، كالمنظمات الدولية المصنفة على أنها "أورومتوسطية" (أوروبا + البحر المتوسط) أو شرق أوسطية... إلخ. تلك المنظمات تعمل في مختلف المجالات الأساسية لأي مجتمع: الثقافة، السياسة، التجارة، التعليم، الصحة... إلخ. وتلَوِّح بخدمات ومزايا مغرية لأعضائها، وفي نفس الوقت تسعى لاحتكار الاتصال الإنساني والتبادل النفعي؛ بحيث تفرض حالة من العزلة الجزئية أو الكلية على الدولة التي تُحجم عن الانضمام إليها.. وبالطبع فإن إسرائيل عضو أساسي في مثل تلك المنظمات؛ باعتبارها دولة شرق أوسطية، أورومتوسطية! تمزيق الذات والكارثة أن الدول العربية -وعلى رأسها مصر مع الأسف- فعلت نفس الأمر فيما بينها، فكثرت المعاهدات والمنظمات الإقليمية الداخلية على حساب الجامعة العربية التي "يُفتَرَض" أنها الجامعة الأم للعرب، فأصبح للخليج مجلس التعاون الخليجي، ودرع الجزيرة "منظومة دفاعية"، وانزوت دول غرب إفريقيا في إقليميّتها، وجرت محاولة لذلك في الشام عطّلتها الخلافات بين أنظمة الحكم، وجرت تجربة قصيرة العمر لمجلس تعاون عربي مصغّر سرعان ما انهار على إثر احتلال العراق -أحد مؤسسي هذا المجلس- لدولة الكويت! والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لا يتم أولا وقبل كل شيء إصلاح الجامعة العربية -شكلا ومضمونا- أو حتى إيجاد بديل عنها لو كان الإصلاح غير ممكن، ولا بأس بالتعاون الإقليمي بعد ذلك، ولكن بعد إصلاح ما قالوا لنا إنه "بيت العرب". وأعتقد أني في غير حاجة للحديث عن حالة التفرق والتشرذم العربية، فقد بلغت مرحلة مأساوية جعلت الحديث عنها أشبه بوصف الماء بالماء "وكأننا والماء من حولنا .. قومٌ جلوسٌ حولهم ماءُ"! والسؤال هو: أين مصر من كل ذلك؟ لعبة القَصّ واللَّصق السياسي مع الأسف مصر كانت -وما زالت- لفترة طويلة جدا جزءا من لعبة "القصّ واللصق" التي تُمارَس في حق العرب. منذ اتفاق الدول الأوروبية في نهايات القرن التاسع عشر على تقاسُم تركة الدولة العثمانية المُحْتَضرة، وحتى اتفاقية "سايكس - بيكو" بين فرنسا وبريطانيا التي تم بموجبها تقسيم الشام والعراق بينهما، ومن قبلها اتفاقية الوفاق بين الدولتين؛ بحيث تُطلق فرنسا يد بريطانيا في مصر مقابل أن تُطلق بريطانيا يد فرنسا في المغرب! وبعد انقلاب يوليو 1952 واستيلاء ضباط الجيش على الحكم، تم بتر السودان من مصر، ولكن هذا لا يمنع أن نظام عبد الناصر نجح في إقامة روابط عربية متينة وجبهة عربية قوية، رغم حالة العداء التي واجهت النظام الجمهوري المصري من بعض الأنظمة العربية الملكية! وفي نهايات عهد الرئيس السادات تم هدم هذه الجبهة من جانبين: المصري الذي انفصل بموقفه من إسرائيل (كامب ديفيد - الاعتراف بإسرائيل) عن الموقف العربي الموحّد الرافض للكيان الصهيوني، والعربي الذي رفض تفهّم الموقف المصري أو التفاعل معه بذكاء ومرونة. وفي النصف الأول من عهد الرئيس مبارك تمّت إعادة العلاقات، ولكن –مع الأسف- انحدر مستوى الأداء السياسي المصري لحدّ تضرر العلاقات مع حليف قديم -سوريا- وضعف وترنّح دورنا كراعٍ للقضية الفلسطينية، واحتلال دولة تقلّ عنا كثيرا من حيث الوزن السياسي -قطر- لدورنا في التعامل القيادي مع الشئون اللبنانية والفلسطينية والعراقية! ولأن مصر -كما يقول الأستاذ "هيكل"- يؤثّر حالها في العرب، فإن مرضت مرضوا وإن صحّت صحّوا، فمع الأسف انعكس تدهور أحوالها على الدول العربية؛ مما خلق مزيدا من التشرذم والتمزق، امتدا لا على مستوى العلاقات بين الدول العربية فحسب، بل بين الفِرَق الداخلية لبعض هذه الدول كلبنان والعراق واليمن والسودان وفلسطين، وهي دول تقع في دائرة أمننا القومي، مما يهدد بانتقال العدوى إلى داخلنا المستعدّ حاليا بالفعل لأن يتمزق! والنتيجة؟ يستمر القصّ واللصق؛ السودان على شفا التمزّق، حركات انفصالية في اليمن، همسات عن خطة لخلق دولة كردية على حساب سوريا والعراق الذي ما زال حتى تلك اللحظة محتلا، ومن يدري متى يأتي دورنا! هناك من يخلق الظروف لتصبح الاتحادات الشرق أوسطية والأورومتوسطية هي الحل، ولكنها تحتاج لفراغ تدسّ نفسها فيه حتى توسّع نطاقها، ذلك الفراغ لا يأتي إلا بمزيد من تمزّق العرب، وتمزّق العرب لا يأتي إلا بمزيد من قصر نظر الأنظمة في التعامل مع نطاقات أمنها القومي، وقصر النظر هذا مع الأسف أصبح يمتد للداخل المصري، فبعض مناطق مصر تُعامَل كأنها خارجها أو كانها "مناطق خاضعة للاحتلال المصري" مثل سيناء والنوبة وأقاصي الصعيد! وهذه نتيجة طبيعية لتقصيرنا في حق نطاقات أمننا القومي حتى أصبحت تضيق حولنا، وتتسلل تبعات ذلك الإهمال مع ضيقها إلى داخل حدودنا السياسية! المسئولية قد يقول البعض: "وماذا تفعل مصر؟ ماذا بيد مصر لتفعله؟ وهل مصر هي المسئول الوحيد عن ما يحدث؟". بالتأكيد مصر ليست المسئول الوحيد، ولكنها المسئول الأول؛ فثمة واقع يقول إن التمزق العربي والذي يتخذ في بعض الدول صورة تمزق داخلي، هو عدوى تنتقل من مكان لآخر داخل النطاق الجغرافي والسياسي والثقافي الواحد، وهو جزء من خطة تشمل مصر بالتأكيد ما دام واقعها الجغرافي عربيا، وواقعها الثقافي عربيا، وواقعها السياسي عربيا! وتأخّر بلوغ مصر دورها لمجرد أن نظامها السياسي على وفاق -بشكل أو بآخر- مع النظم الراعية لذلك التمزق العام لا يعني أنها خارج الحِسبة؛ فالمسألة براجماتية (نفعية) بحتة لا مكان فيها للتوافقات الودية! والواقع الآخر هو أن مصر هي الدولة العربية الوحيدة التي بلغت في العصر الحديث من القوة السياسية ما يسمح لها بالتدخل في أدقّ وأعمق الشئون العربية -داخلية وخارجية- بما يخدم القضايا العربية عامة، منذ أن بدأ محمد علي باشا استعادة النطاق العربي الإفريقي لمصر، وحتى يومنا هذا لم توجد قوة عربية فاعلة بذات القوة المصرية، مما يخلق مسئوليتين إحداهما أدبية من مصر تجاه العرب، والأخرى عملية نفعية من مصر تجاه نفسها وأمنها! الختام افتح كتب التاريخ وانظر.. تحتمس الثالث غزا فلسطين لأجل أمننا القومي، أحمد بن طولون بلغ سوريا لخدمة أمننا القومي، صلاح الدين حين دخل مصر سعى لمدّ نفوذه لليمن لأجل تأمين جنوبنا، السلطان المملوكي برسباي غزا قبرص لتأمين سواحلنا الشمالية.. محمد علي بلغ بجيشه أبواب الأستانة ليؤمّن القاهرة، إسماعيل توغّل جنوبا لحماية نيلنا.. عبد الناصر حارب في اليمن ليقي تجربة الجمهورية مؤامرات الملكيين... إلخ. أعتقد أن كل واحد من هؤلاء لو عاد للحياة وسألناه: "لماذا فعلتها؟" لاستنكر السؤال، ثم أجاب بتلقائية: "لأنها مسألة أمن قومي!". مصادر المعلومات: 1- الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق: محمد حسنين هيكل. 2- اختلال العالم: أمين معلوف. 3- لمصر لا لعبد الناصر: محمد حسنين هيكل. 4- خريف الغضب: محمد حسنين هيكل. 5- العروش والجيوش: محمد حسنين هيكل. 6- المثقفون العرب وإسرائيل: د.جلال أمين. 7- التنوير الزائف: د.جلال أمين. 8- تاريخ تطور حدود مصر الشرقية: د.ألفت الخشاب. 9- قبرص والحروب الصليبية: د.سعيد عاشور. 10- تاريخ العرب الحديث: د.رأفت الشيخ. 11- أمريكا والعالم: د.رأفت الشيخ. 12- عصر سلاطين المماليك: د.قاسم عبده قاسم. 13- محمد علي وأولاده: د.جمال بدوي. 14- دولة الأيوبيين في مصر والشام: د.محمد سهيل طقوش. 15- موسوعة مصر القديمة: سليم حسن. 16- المواجهة المصرية الأوروبية في عهد محمد علي باشا: د.محمد عبد الستار البدري. 17- إبراهيم باشا في سوريا: سليمان أبو عز الدين. 18- مصر والمصريين في عهد مبارك: د.جلال أمين. واقرأ أيضاً: مسألة أمن قومي(1).. لماذا نحمّل أنفسنا الهَمّ؟ مسألة أمن قومي(2).. ذلك القادم من الشرق مسألة أمن قومي (3) أشقاء الخليج وحصان طروادة! العراق.. الضلع المفقود في المثلث العربي! السودان.. يتيم تركه أهله على مائدة اللِئام!