هرباً من جحيم الاغتيالات، والسيارات المُفخخة، ونيران قوات الاحتلال؛ ترك الكثير من العراقيين بلادهم؛ بحثاً عن الأمن والأمان، الذي وجدوه في مصر مع شعبها الطيب، ليعيشوا مع أشقائهم المصريين دون أدنى شعور بالتمييز، فاشتروا المنازل، وأقاموا المشروعات الاستثمارية والتجارية، وافتتحوا المحالّ، خاصة تلك التي تُقدّم المأكولات العراقية الأصيلة، ومارسوا مهنهم بكل حرية وأشهرها مهنة الحلاقة والسمسرة وغيرها. ورغم مرور أكثر من ثماني سنوات على الغزو الأمريكي للعراق، إلا أن الآلاف من العراقيين ارتبطوا بمصر، وفضّلوا مواصلة حياتهم بها واندمجوا مع إخوانهم المصريين في نسيج واحد دون تفرقة. تجمعات عراقية في فيصل ومدينة نصر و6 أكتوبر ذهبْت إلى العراقيين في تجمعاتهم بمناطق فيصل ومدينة نصر والسادس من أكتوبر للتعرف على مدى ارتباطهم بمصر وشعبها، واكتشاف العالم السحري للأكلات العراقية التي تعلّق بها المصريون وعشقوها مثل العراقيين. يقول "علي الشمّاع" الذي جاء من العراق عام 2005 ليقيم بمدينة نصر، ويؤسس شركة تصدير أنه اختار مدينة نصر تحديداً ليُقيم بها مع أسرته، وقرر إقامة مشروعه الاستثماري بها؛ لأنها قريبة من مطار القاهرة، وهي أول الأحياء السكنية التي وصل إليها عندما زار مصر لأول مرة قادماً من نويبع. وأضاف: استأجرت شقة بمبلغ 2000 جنيه شهرياً، إضافة إلى شقة أخرى كمقر للشركة.. والحقيقة أن جيراننا المصريين يتعاملون معنا بمنتهى الود، وهذا ما شجّعني على استثمار أكثر من مليون جنيه في شركة التصدير والاعتماد على العمالة المصرية، خاصة أنني أعمل في مجال تصدير المواد الغذائية مثل الألبان والخضروات إلى العراق. تسهيل عمليات الإقامة "ماجد حاتم" صاحب مطعم عراقي بمدينة نصر أشار إلى أنه عندما جاء لمصر لم يكن أمامه سوى افتتاح مطعم للأكلات العراقية؛ لأنه كان يمتلك مطعماً مماثلاً في بغداد، وتم افتتاح المطعم قبل عام واحد، وهو يعمل بشكل جيد ويلقى إقبالا كبيراً سواء من العراقيين أو من المصريين. ويستطرد: "نأمل أن يتم تسهيل إجراءات عمليات الإقامة بالنسبة للعراقيين؛ فليس كل عراقي يستطيع إقامة مشروع تجاري في مصر، فأنا مثلاً تم التصريح لي بالإقامة لمدة عام حسب نظام هيئة الاستثمار المصرية عقب افتتاح المطعم، ويتم تجديدها مع استمرار نشاطي التجاري".
العراقيون متأقلمون مع المجتمع المصري (عدسة: يوسف محمود) مصر.. بلد الأمن والأمان أما "عبد الكريم عباس" –صاحب سوبر ماركت بمدينة 6 أكتوبر- فيقول: وصلت إلى القاهرة منذ عامين، وقد اخترت اللجوء لمصر؛ لأنها تنعم بالأمان المفقود في العراق، كما أن الحياة بها غير مكلّفة مقارنة بدول عربية كثيرة، علاوة على أن المصريين شعب طيب نعرفه ويعرفنا جيدا؛ فقد عاش أكثر من 6 ملايين مصري في العراق في فترة الثمانينيات من القرن الماضي. وأضاف: نذهب في الإجازات لزيارة الأهرامات والأزهر الشريف ومنطقة خان الخليلي، ونشاهد مسرحيات عادل إمام. في حي المعادي الهادئ التقيت مع "أبو آيات" وهو مهندس معماري جاء إلى مصر منذ ثلاثة أعوام بحثا عن الأمن، ونجح في افتتاح شركة استثمار عقاري، واستأجر شقة ولم يعد أمامه مشكلة للإقامة بشكل شرعي. وقال: "وجدت ترحيبا من المصريين بوجودي بينهم؛ فهم بالفعل شعب طيب ويحب العراقيين على وجه الخصوص". محالّ حلاقة ومراكز إنترنت ويقول "علي صادق" المقيم بحي فيصل: بعد الغزو الأمريكي للعراق عمّت الفوضى أرجاء العراق، وهربت واتجهت في البداية إلى سوريا ثم الأردن، لكن أسعار المساكن والإيجارات في هذين البلدين كبيرة للغاية، ولذلك قررت التوجه إلى مصر، مصطحبا زوجتي وأطفالي الخمسة، وقد استأجرت شقة مقابل 2000 جنيه شهريا، ومحلا لممارسة مهنتي وهي الحلاقة. أما "قيس محمد" -وهو لواء شرطة متقاعد- فيؤكد أنه عندما حضر إلى مصر قبل أكثر من ثلاثة أعوام حصل على إقامة سياحية مدتها ثلاثة أشهر، وبعدها حصل على الكارت الأصفر من مكتب الأممالمتحدةبالقاهرة، والذي يمنح الإقامة لمدة 9 أشهر قابلة للتجديد. وأضاف: "استأجرت أحد المحال بمنطقة فيصل بالقرب من مكان سكني، وقمت بتجهيزه بعدد من أجهزة الحاسب الآلي، وافتتاحه كصالة إنترنت، ويحقق دخلا معقولا، يكفيني أنا وأسرتي". خطف الأطفال في العراق وفي مدينة 6 أكتوبر، وتحديدا في حي الأردن، التقيت مع "حسن محسن" -أستاذ جامعي- الذي تحدث عن أسباب مجيئه لمصر عقب غزو العراق قائلا: أتيت أنا وأسرتي بحثا عن الأمان، بعد أن قامت مجموعة مسلحة في العراق بخطف أحد الأطفال من أمام المدرسة التي تدرس بها ابنتاي، وقد شاهدتا الواقعة، مما سبب لهما حالة من الخوف، ومع تزايد مثل هذه الأحداث المأساوية والعنف والدمار قررنا السفر لمصر؛ لأنها البلد العربي الأكثر أمنا. وأوضح: "بعض معارفي من العراقيين الذين أتوا قبلي إلى مصر رشّحوا لي مدينة 6 أكتوبر للإقامة بها، حيث إنها مدينة جديدة، وأسعار الإيجارات بها مناسِبة لظروفي، وبالفعل أتيت إلى هنا، واستأجرت شقة بمبلغ 600 جنيه شهريا". الحفاظ على أمن مصر يؤكد "رائد العزاوي" -صحفي عراقي- أن أعداد العراقيين في مصر حوالي 100 ألف شخص -حسب تقديرات الأممالمتحدة- وهناك 5 آلاف عراقي قدّموا طلبات لجوء سياسي إلى مصر وهو عدد كبير، ولذلك نقدّم العذر للمسئولين المصريين في مسألة تسهيل تقديم الإقامة؛ فالعراق بلد محتل، يرتع فيه الإرهاب والمخابرات الأجنبية والعملاء، ومن حق مصر أن تحمي أرضها من دخول أي شخص يهدّد أمنها. وأضاف: "العراقيون متأقلمون مع المجتمع المصري، وهذا ليس من فراغ؛ إذ عاش في العراق آلاف المصريين خلال فترة الثمانينيات، وكنا سُعداء بهذا العدد الكبير؛ لدرجة أنه كانت لا تخلو مائدة أسرتي من مصري؛ إذ كان لعائلتي مصنع يعمل به 200 موظف منهم 190 مصريون". الصحفيون العراقيون في القاهرة أما "حازم العبيدي" -كاتب عراقي- فقال: العراقيون جاءوا إلى مصر هرباً من العنف وأعمال القتل ولم يشعروا بُغربة؛ لشعورهم بالتقارب مع المجتمع المصري، وهناك العديد من الأماكن في مصر تُشبه أماكن في العراق. وأضاف أن عدد الصحفيين العراقيين في مصر يصل إلى 100 صحفي، ومعظمهم حصلوا على الإقامة من خلال الهيئة العامة للاستعلامات باعتبارهم مراسلين، والبعض حصل على الحماية الدولية من مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. ويقول "محمد عيدي" وهو طالب عراقي بكلية طب الأسنان بجامعة القاهرة: إن هناك أكثر من 20 طالبا ًعراقياً معي بالفرقة الثالثة فقط، ولذلك لم أشعر بأي غُربة، خاصة أنني أرتبط بعلاقات صداقة قوية بالطلاب المصريين، علاوة على أنني كنت أعيش بمدينة الناصرية في العراق، وهي مدينة يقطن بها أكثر من نصف مليون مصري.
الأكلات العراقية يقبل عليها المصريون والعراقيون (عدسة: يوسف محمود) الحلويات العراقية التي يعشقها المصريون وفي محل "عجائن المنصور" يقف الشاب العراقي "أحمد علي" الذي لم يكمل دراسته في السنة النهائية بكلية العلوم الاقتصادية بجامعة بغداد؛ حيث جاء وزوجته إلى مصر عقب الحرب مباشرة، وافتتح مع شريكه المصري محل العجائن المتخصص في صنع الحلويات العراقية. قال: "أطلقت على المحل اسم "المنصور" تيمُّنا بالخليفة أبو جعفر المنصور الذي بنى بغداد، ومن أشهر المخبوزات التي نقوم ببيعها "الكاهي وقيمر والبورك باللحم أو الجبنة" وهي مخبوزات تلقى إقبالا كبيرا من المصريين والعرب". قَصات الحلاقين العراقيين تجذب الشباب المصري وتعتبر مهنة الحلاقة من أشهر المهن التي يعمل بها العراقيون في مصر؛ ففي محل "المنصور للحلاقة" بحي فيصل اشتهر صاحبه ويُدعى "عمر هاشم" بين أبناء المنطقة بقَصاته المميزة؛ وأشهرها "المارينز" و"الكات" ويقول: "في أحيان كثيرة يطلب المصريون عمل قَصة "كاظم الساهر". ولا يقتصر الأمر على المصفّفين الرجال، ولكن هناك محالّ الكوافير ومنه كوافير "نهلة الزهري" بمدينة 6 أكتوبر والذي له شهرة واسعة، ويتردد عليه العديد من الفتيات والسيدات المصريات والعراقيات. كما تنتشر مهنة السمسار العقاري بين العراقيين المقيمين في مصر، فيقول "أحمد النجار" سمسار عراقي: "خلال فترة وجيزة تعرّفت على أصول العمل في هذه المهنة بمساعدة سماسرة مصريين، والذين لم يبخلوا عليّ بخبرتهم، وأصبحت أتعامل مع أكثر من 600 عميل أغلبهم من العراقيين الوافدين لمصر. السفارة العراقية: أغلبية الوافدين من الطبقة المتوسطة توجهت إلى سفارة العراق بالقاهرة، وهناك أكدت مصادر مسئولة أن أعداد العراقيين في مصر تتراوح بين 80 ألف و100 ألف شخص، أغلبهم ينتمون للطبقة المتوسطة، وقد جاءوا إلى القاهرة بمبالغ مالية لا بأس بها، مكّنتهم من شراء شقق سكنية وإقامة مشروعات استثمارية وتجارية، وأقلية منهم تحتاج للدعم ومساعدة السفارة. وأوضحت المصادر أن العراقيين الوافدين لمصر أغلبهم من السُّنّة والشيعة وقليل من الأكراد، وكلهم وجدوا الترحاب من المصريين ولم يشعروا بأي غُربة، ولذلك فضّل أغلبهم الاستمرار والعمل والإقامة في مصر، رغم عودة الهدوء النسبي في العراق. إذن ما يربط بين الشعبين العراقي والمصري ليس فقط اللغة أو الدين، ولكنها علاقة لها طبيعتها الخاصة؛ فالعراق في فترة الثمانينيات من القرن الماضي بالذات كان ملاذا لآلاف المصريين الباحثين عن فرصة عمل مُربحة ترتقي بمستوى معيشتهم، ومع بداية الألفية الثالثة استقبل الشعب المصري شقيقه العراقي الهارب من جحيم الحرب، وفي الحالتين لم يشعر أي شعب بالغربة، وانصهرا في بعضهما، وهي حالة لو تم تفعيلها بين جميع الأشقاء العرب؛ لأصبحنا قوة يخشاها أعداؤنا.
أبناء دجلة والفرات في أحضان النيل * خمسة جد اضغط على الصورة لمشاهدة الجاليري: