سبق السيف العذل، وتلقّت أمريكا أعنف ضربة لها بعد "بيرل هاربور"، واهتزّ العالم وهو يرى زعيمة النظام العالمي تترنح تحت هول الصدمة، بينما "بن لادن" و"الظواهري" يحتفلان بنصرهما الثمين. هكذا تنتهي رواية "لورانس رايت" لقصة صعود القاعدة وزعيميها وصولاً إلى هجمات 11 سبتمبر 2001 التي أصبحت نقطة فاصلة في تاريخ العالم الحديث. الكتاب في مجمله عمل بحثي رائع، بذل الكاتب لأجله خمس سنوات من عمره، قضاها بين جمع معلومات وصور وخيوط ولقاءات مع أكثر من 500 شخص، حرص على ذكر أسمائهم في نهاية كتابه، مع إفراد فصل ختامي أوضح فيه باقي مصادر معلوماته. والقارئ يمكنه أن يختلف مع بعض أو كل رؤية "لورانس رايت" للقصة كلها أو بعض فصولها، ولكنه لا يستطيع أن يُنكر حقيقة أن الرجل قد بذل مجهودًا ضخمًا يستحق الاحترام. فضلاً عن أسلوب العرض الممتع الشبيه برواية ضخمة (والقارئ الأمريكي مولع بالروايات ذات الحجم العملاق) منه بعمل أكاديمي أو بحثي. ومما يُحسَب لأسلوب الكاتب قدرته الواضحة على نقل القارئ لأجواء الأحداث بسهولة شديدة، فأنا وأنا أقرأ الكتاب كنت أنتقل معه وأحس أجواءه المختلفة، من رحلة سيد قطب لأمريكا منتصف القرن العشرين، وقاهرة الستينيات حيث نشأ "الظواهري"، وسعودية السبعينيات حيث نشأ "بن لادن"، فضلاً عن الأجواء السودانية وجبال أفغانستان ودهاليز مباني مكتب التحقيقات الفيدرالي، كل تلك الأجواء المتنوّعة بشدة استطاع "رايت" أن يضعنا فيها بسلاسة تثير الإعجاب، ودعونا لا ننسى أنه ليس صحفيًا فحسب، بل هو كذلك روائي، وقد مزج بحنكة بين صفتيه الصحفية والروائية ليُخرِج هذا العمل. ومما يمكن للقارئ العربي أن يختلف فيه مع المؤلف هو رؤيته للتدخل الأمريكي في شئون البلدان؛ فهو في بعض عباراته يصف تدخّل أمريكا في بعض المناطق العربية والإسلامية بأنه تدخّل لأجل السلام والعدالة لا تنتظر عليه شكرًا، ومن حقه بالطبع أن تكون له رؤيته تلك كأمريكي، ولكن كان أحرى به -من وجهة نظري على الأقل- أن يلقي الضوء على الرؤية العربية العامة لذلك التدخل. فضلاً عن أن رؤيته تلك تحمل من المثالية قدرًا مثيرًا للدهشة خاصة من صحفي مثله المفترض به أن يعلم أن التحرّكات الدولية تحكمها -عادة- المصالح لا المُثل العليا. كذلك قد ينتقد القارئ الناطق بالعربية ذلك الربط المباشر بشكل مستقيم بين القاعدة وأحداث 11 سبتمبر 2001؛ حيث إن الأمر قد تعرّضت له نظريات عدة، منها ما يتهم إسرائيل ومنها ما بلغ به اتهام الإدارة الأمريكية ذاتها بتدبير الأمر، وأُنبّه -عزيزي القارئ- هنا أن المؤلف لم يفعل أكثر من أن مارَسَ حقه في أن يعرض رؤيته خط سير وتسلسل الأحداث وفق ما توفّر لديه من أدلة وبراهين وخيوط قادته لتلك النقطة، والإنصاف يقتضي مني أن أُؤكّد أنني أثناء وبعد قراءة العمل لم أشعر للحظة أن "رايت" يحاول ليّ أعناق المعطيات ليصل بالقارئ لتلك النتيجة: القاعدة هي المسئولة عن هجمات 11 سبتمبر! فهو ببساطة قدّم ما عنده وترك للقارئ مساحات كافية من التفكير ليختار ما يقتنع به وما لا يقبله عقله. ومما يضاف للعمل ذلك الأسلوب الحميمي من الاقتراب من الجانب الإنساني من الشخصيات الرئيسية بالأحداث: سيد قطب، "الظواهري"، "بن لادن"، "جون أونيل"، وغيرهم... ومحاولة إزالة تلك الصورة المبهمة عنهم، خاصة عن أسامة بن لادن الذي استفاض الكاتب في أكثر من موضع بالكتاب في الاقتراب من حياته العائلية وعلاقته بأسرته وأصدقائه، ولحظات حزنه ومرحه وانفعالاته الإنسانية البسيطة، فضلاً عن محاولة وضعه في مكانه الطبيعي كإنسان، منحرف عن الأسلوب السوي لمعالجة الأمور، ولكنه إنسان، مما يساعد كثيرًا في فهم الخلفية النفسية والثقافية والاجتماعية لذلك الرجل الذي ربط بنفسه اسمه بالإرهاب المنتسب -ظلمًا- للإسلام. ومما احترمته بالعمل ما نمّت عنه بعض أجزائه من الفهم السليم لدى المؤلف للآيات القرآنية التي تحض على الجهاد، فهو لم يفسّرها ذلك التفسير العمومي الغربي المعتاد -للأسف- من كثير من أصحاب الأقلام -خاصة الأمريكيين- والذين لا يبذلون مجهودًا كافيًا لفهم السياق التاريخي لتلك الآيات، والتفسير الفقهي لها في ضوء تحريم الإسلام للاعتداء، ولكن المؤلف تناولها بنضج وموضوعية شديدة، مما يشي بدراسة جيدة للإسلام، أو باستعانته بمختص بالدين الإسلامي، وكلاهما أمران يُضيفان إيجابيات له وللعمل كله. "البروج المُشيّدة" كتاب متميّز، وأية سلبيات أو مؤاخذات قد أكون ألقيت الضوء عليها لا تنفي عنه أهميته ككتاب ينبغي على القارئ العربي قراءته. وهو إن كان بالنسبة للقارئ الغربي وسيلة للتعرف بشكل محايد موضوعي على عالم الإرهاب المتأسلم، فإنه بالنسبة للقارئ العربي وسيلة للتعرّف على كيفية نظرة كثير من أصحاب الأقلام الغربيين لنفس العالم. فضلاً عن كونه "تجربة" تستحق الاحترام في عالم الكتابات الوثائقية والتحليلية، جمعت بين الدقة الأكاديمية والسلاسة الأدبية، فتميّزت شكلاً ومضمونًا، حتى وإن اختلفنا مع بعض محتوياتها. وقد حرصتُ أثناء عرضي للكتاب على ألا أتطرّق لكل ما جاء به باستفاضة، احترامًا لحق القارئ أن "يكتشف" الجديد به عند قراءته، فأنا فقط قمتُ بتوجيهه و"استفزازه" لقراءة العمل، ولكني حرصت على ألا "أحرقه" له.. فأرجو أن أكون قد وُفّقت في ذلك. (تم) واقرأ أيضاً: البُروج المُشَيَّدة.. القاعدة والطريق إلى 11 سبتمبر أسامة بن لادن.. "المرعب" ميلاد القاعدة: أجواء دامية ماديا ومعنويا السودان.. حلم دولة عالمية للمسلمين 11 سبتمبر.. عندما تصارعت أجهزة الأمن الأمريكية