يولع اللبنانيون بشكل خاص بعلم بلادهم؛ حيث ترى العلم معلقا أينما ذهبت؛ بل يحتفظ به البعض أيضا في منازلهم؛ فالشعب اللبناني يتعامل مع العلم اللبناني مثلما تتعامل شعوب أخرى مع صورة الرئيس أو الملك، ربما كان ذلك لسبب وجيه جدا؛ هو أن لبنان دولة ديمقراطية تنقسم فيها السلطة بشكل فعلي بين الرئيس ورئيس الوزراء ورئيس مجلس النواب، وتتداول فيها السلطات، وهو ما تفتقده دول أخرى كثيرة. ولا يمكنك أن تنظر للعلم اللبناني دون أن تبدي اهتماما بشجرة الأرز التي تتصدر العلم، كرمز للبنان كلها، وهو السبب الذي يجعلنا -نحن معشر السياح- في غاية الفضول لأن نرى الأرز.. نسأل عن الأرز في بيروت، فتجاوبنا الابتسامات الساخرة..كيف تسأل عن الأرز في بيروت؟.. الأرز لا ينمو سوى في قمم الجبال. والأرز واحد من أسباب عديدة جعلتنا نختار بشري هدفاً لرحلتنا في شمال لبنان؛ فإلى جانب وقوعها في حضن وادي قاديشا ومكانتها التاريخية وجمالها الباهر واحتوائها لمتحف جبران خليل جبران؛ فهي أيضا على مرمى حجر من أشهر غابة لشجر الأرز في العالم. بدأت رحلتنا لغابة الأرز في الصباح الباكر.. يسمونها أرز الرب.. تبعد مسافة ثلث ساعة عن بشري، وقد زارها الرئيس الفرنسي الراحل الجنرال شارل ديجول ووصفها ب"وردة الجبل" منبهرا بأشجارها وكنائسها القديمة التي تعود للقرن الثالث عشر الميلادي.. أخذَنا صاحب الفندق بسيارته إلى الغابة صاعدا الجبل، وتركَنا هناك لندخل المحمية الطبيعية ونقف نتأمل أشهر ما يميز لبنان.. شجرة الأرز الطويلة بأغصانها وأوراقها الخضراء الفريدة والتي صارت رمزا للبنان كلها.. عبر التاريخ تميز شجر الأرز بصلابته ومقاومته للحرارة، وكان الفينيقيون يصدّرونه للمصريين القدماء وللمستعمرات الفينيقية حول البحر المتوسط، وتقول التوراة: إن الملك سليمان طلب كميات كبيرة من الأرز من ملك صور لبناء معبده في القدس. هذه الغابة هي أشهر محميات الأرز في لبنان كلها والعالم أجمع، تقع على ارتفاع أكثر من 1800 مترا، بها ما يقرب من 400 شجرة أرز منها ستة أشجار عمرها يقارب الألفي عام، طولها حوالي 35 مترا، وعرض جذعها يصل ل 14 مترا.. في الشتاء يكسو الجليد هذه المنطقة من الأرز؛ فتتحول إلى جنة أخرى من اللون الأبيض تكسوه خضرة الأرز، وهي مشكلة أجمل مناطق التزحلق على الجليد في العالم. انتهت جولتنا بين أشجار الأرز، و قررنا أن نأخذها سيرا على الأقدام للعودة إلى بشري.. المشي في حد ذاته قمة المتعة وأنت تمضي على أعلى قمة في الوادي نازلا الطريق المنحدر صوب بشري.. وليس في وسعك -وأنت تعيش هذه اللحظات الجميلة- سوى أن تمتم "سبحان الله".. تخيل الوادي الأخضر السحيق على يسارك، والجبل على يمينك تكسوه الأشجار، وينساب منه ينبوع ماء صغير يصدر خريرا خافتا جميلا كأنه موسيقى تصويرية لفيلم عن قدرة الخالق عز وجل، وخلفك تبدو أشجار الأرز كخلفية طبيعية للعالم، وأمامك آثار الحضارة القليلة متمثلة في بشري التي تبدو من الأعلى بكافة تفاصيلها ببيوتها الصغيرة ذات الأسقف الحمراء المائلة على الطرز الأوروبية، والكنائس القديمة، والصلبان الضخمة المعلقة عليها مفتخرة بأصولها المارونية.. لا ننسى هنا أن البطاركة الموارنة استقروا في هذا الوادي منذ عام 1440 حتى منتصف القرن الثامن عشر، وكان وادي قنوبين هو المركز الكاثوليكي الوحيد في الشرق قبل القرن الثامن عشر، ومقصد الحجاج القادمين من الغرب. الحقيقة أننا في بشري اقتربنا أكثر من الطبيعة البشرية اللبنانية المضيافة المرحبة بالغرباء.. في بيروت من الصعب أن تقترب كثيرا من اللبنانيين؛ لأن بيروت صاخبة أكثر من اللازم، والكل يبحث فيها وراء لقمة العيش.. بشري تختلف.. الطبيعة الهادئة تحكم المكان.. حتى حركة السياحة رغم نشاطها هادئة أيضا.. في كل مكان في بشري كنا نجد الأطفال يلوحون لنا بأيديهم في الطريق ويرحبون بنا.. عندما نتوقف لنسأل سؤالا عن الطريق نجد الكل يرحب بنا ويتطوع بالإجابة من أصحاب المحلات إلى الأهالي البسطاء الجالسين أمام بيوتهم الصغيرة وقت الغروب.. ودائما هناك الدعوات للضيافة التي تبدأ من شرب الشاي؛ وحتى الدعوة للمبيت في البيت. ولأنني العربي الأوحد مع أصدقائي السويسريين كنت أنا المسئول عن سؤال اللبنانيين عن الطرق، وكان محدثي يميز على الفور اللهجة المصرية.. أحيانا أخرى نحاول تجاوز اختلاف اللكنات؛ فيتصل الأصدقاء السويسريون مع اللبنانيين مباشرة باللغة الفرنسية التي يجيدها الطرفان إجادة شبه تامة.. فالفرنسية لغة رسمية في سويسرا، والانتداب الفرنسي ترك آثاره على لسان اللبنانيين.. حينها أحتاج أنا للترجمة من أصدقائي السويسريين! عندما وصلنا إلى الفندق كان قد حان لتوديع بشري بعد يومين من أجمل أيام الرحلة، أعددنا حقائبنا، وقفزنا مع مجموعة من السياح الأجانب داخل الباص المتجه مباشرة نحو الجنوب.. ساعتان ووصلنا بيروت.. وخلال ساعة أخرى كنا في محطة شارل حلو في وسط بيروت.. ركبنا التاكسي متجهين إلى سوريا، والتفتنا نلقي نظرات الوداع على بيروت.. نستعيد صوت فيروز "عنك بدي أبقى ويغيبوا الغِيّاب.. أتعذب وأشقى يا محلي العذاب.. وإذا إنت بتتركني.. يا أغلى الأحباب.. الدنيا بترجع كذبة.. وتاج الأرض تراب".. ونفتقد الحمص اللبناني والتبولة والفتوش والدبكة اللبنانية وبحر بيروت الجميل.. صحيح أنني لم أزر بعلبك بمعبدها الروماني الشهير، لم أزر صيدا، لم أزر صور، لم أزر قانا؛ لكن الوقت كان قد أزف بالرحيل.. كان صوت فيروز لا يزال يردد في أذني "بحبك يا لبنان يا وطني"، وكنا نلقي النظرات الأخيرة على بيروت، وكان التاكسي ينطلق بنا نحو الشرق تجاه نقطة المصنع الحدودية.. نحو دمشق.. مدينة الياسمين.
2- بيروت.. فرقتها السياسة وجمعتها فيروز 3- بيروت.. حيث لا يسمح للمصريين بالدخول 4- مغارة "جعيتا".. أجمل كهوف الكون!! 5- فى بلد الأرز 5 .. الجنة اسمها بشرى.. في بلد الأرز 6 .. شجر الأرز * خمسة جد اضغط على الصورة لمشاهدة الجاليري: