صداقتي خلال المرحلة الابتدائية مع "محمد العفيفي"، كانت صداقة عجيبة جداً؛ إذ إننا كنا نختلف على كل شيء، وعلى الرغم من هذا كنا مرتبطين بعضنا ببعض، على نحو مدهش، وكنا لا نكفّ عن الحديث أبداً، حتى أننا لو قضينا أسبوعاً معاً، لما انقطعت أحاديثنا لحظة واحدة، وهذا كان يثير توتّر أساتذتنا، وعلى الرغم من أن كلاً منا كان متفوّقاً دراسياً -"محمد" كان أكثر تفوقاً بكثير- فإنهم سعوا لفصلنا عن بعضنا البعض، حتى لا ينشغل أينا بالآخر.. وفي كل مرة يفعلون، كنا نبكي.. ونبكي.. ونبكي.. ولا نتوقّف عن البكاء أبداً، حتى نعود للجلوس على "دكة" واحدة، ومكان واحد.. كنت ضيفاً مستمراً في منزل "محمد"، وكان هو ضيفاً مستمراً في منزلي، وكان أهلنا يعلمون مدى ارتباطنا الشديد، ولم يحاول واحد منهم فصل هذا الارتباط، على الرغم من شكوى المدرسين.. ربما لأننا كنا متفوّقين.. الشيء الوحيد، الذي كنا نتفق فيه، هو أن كلاً منا كان شغوفاً بالمواد العلمية، وإن اختلفنا أيضاً في نوعيتها.. كنت أنا شغوفاً بالعلوم.. و"محمد" مجنوناً بالرياضيات.. ولم يكن أحدنا يهوى ممارسة الرياضة، وكنا نسعى للفرار من الأنشطة الرياضية بأية وسيلة.. وكنا دوماً غارقين في لعبتنا المفضلة.. الشطرنج.. في تلك الأيام، كان التعليم الابتدائي يختلف تماماً عما هو عليه هذه الأيام، فقد كانت هناك حصص أساسية، لا يتم استبدالها بأي شيء آخر.. "حصة المكتبة" وفيها نذهب كلنا إلى مكتبة المدرسة، ونجلس لنطالع أي كتاب فيها باستمتاع، دون أن نتعرّض بعدها للأسئلة والامتحانات والاختبارات والدرجات وخلافه، لذا فقد كنّا نعشق حصة المكتبة، وننتظرها طوال الأسبوع.. و"حصة الأنشطة"، وهي موضوع قصة طريفة تستحق أن أرويها هنا؛ ففي حصة الأنشطة هذه كان على كل طالب أن ينتقي نشاطاً من أربعة ليمارسه خلال تلك الحصة.. التربية الزراعية.. والتربية الموسيقية.. والأشغال.. والتدبير المنزلي.. وعندما حانت لحظة اختيارنا للنشاط، الذي ينبغي أن نمارسه في الحصة، جلست مع "محمد" لنختار.. لم يكن أحدنا يجيد أية آلة موسيقية، وبالطبع لن ننضم إلى قسم الكانافاة وأشغال التريكو، على الرغم من أن والدة "محمد" كانت مدرّسة الأشغال في المدرسة، ولن نجيد شيئاً حتماً في التدبير المنزلي.. فلتكن التربية الزراعية إذن.. والتحقنا بالفعل بقسم التربية الزراعية، مع الأستاذ "سيد"، الذي راح يُعلّمنا كيفية الزراعة، وعمل المربّات والشربات المركَّز، وهي أمور أثارت في نفسينا منتهى الملل.. ولما كنا أيامها قمة في النشاط والشقاوة و"العفرتة" بالطبع، رحنا نبحث حولنا عما نفعله، واكتشف "محمد" أنه خلفنا مباشرة يوجد دولاب أرضي، يحوي كل ما صنعه الأستاذ "سيد" من برطمانات المربى وزجاجات الشربات، وكان يضع على سطح كل منها طبقة من الشمع، لمنعها من التلف، وتخزينها لأطول فترة ممكنة... وفي غفلة منه، فتحنا الدولاب، ولاحظ "محمد" أنه بدفع طبقة الشمع من أحد جانبيها، فإنها تميل، وتسمح لنا بالحصول على المربى أو الشراب... وقد كان.. وبعد ثلاثة أسابيع ،كشف الأستاذ "سيد" الأمر، عندما اكتشف أن نصف برطمانات المربى وزجاجات الشراب خالية، فثار وهاج وماج، وقدَّم فينا شكوى لإدارة المدرسة، وتم تغطية الأمر عن طريق إخراجنا من صف التربية الزراعية، بناءً على طلب الأستاذ "سيد" الغاضب.. وكان علينا أن نختار نشاطاً آخر.. واقترح "محمد" أن نلتحق بصف مادة الأشغال، باعتبار أن مدرّسته هي والدته، وستحسن معاملتنا هناك.. وعلى الرغم من تخوفي، التحقنا بمادة الأشغال، التي صوَّر لي "محمد" أنها ستكون الهناء والنعيم كله.. ولكن والدته صدمتنا.. صدمتنا عندما طلبت مني أن أحضر مفرش كروشيه وخيوطًا وإبرة، و... يا للمصيبة!!.. تخيلت نفسي أجلس على مقعد في المنزل، منهمكاً في صنع المفرش، وبين فكيّ لبانة ألوكها.. وبالطبع رفضت هذا بشدة.. ولكن والدة "محمد" كانت تعرف والدتي، وأخبرَتها بهذا، وفوجئت بوالدتي تسارع لشراء المفرش والخيوط و... ولم يكن هناك حل آخر... غادرنا مادة الأشغال واتجهنا مباشرة إلى حجرة الموسيقى، باعتبار أنه من رابع المستحيلات أن نلتحق بالتدبير المنزلي... وهناك، كدنا نفقد الوعي، عندما طلبت منا أبلة "جليلة" أن نرتدي قميصاً أبيض لامعاً، وشورتاً أزرق، وبابيوناً ضخماً أزرق اللون، ثم أعطت كلاً منا ما بدا وكأنه غطاء حلة كبيرة، علينا أن نضربه بغطاء مماثل، عندما تشير إلينا، فيصدر عن ارتطام غطاءي الحلة صوت يصم آذاننا.. احتملنا هذا يوماً.. ويومين... وثلاثة.. ثم وضعنا معاً خطة خبيثة.. كنا نضرب غطاءي الحلة.. ولكن ليس عندما تشير أبلة "جليلة".. كنا نضربها في أي وقت... وكل وقت... ولأن هذا يفسد الموسيقى تماماً، فقد طردتنا أبلة "جليلة" شر طردة من حصة الموسيقى... وفرحنا جداً في البداية... فرحنا بنجاح خطتنا.. وبخروجنا من صف الحلل المزعج، و... وفجأة، ذهبت السكرة، وأتت الفكرة.. لقد استنفدنا كل الأنشطة، ولم يتبقَّ أمامنا إلا ما هربنا منه منذ البداية.. التدبير المنزلي.. ولما كانت حصة الأنشطة إجبارية، فقد ذهبنا والخزي يملأ نفوسنا، إلى حصة التدبير المنزلي، واستقبلتنا أبلة "دولت" بترحاب كبير؛ لأننا الولدان الوحيدان في فصل التدبير المنزلي كله.. وكدنا نبكي عندما تصوَّرنا أنفسنا بمريلة مطبخ، نعدّ المكرونة بالصلصة، ونشهق مع تقلية الملوخية... ولكن المفاجأة كانت مدهشة.. وعظيمة.. فجيل أبلة "دولت" لم يكن يؤمن بأن يطبخ الأولاد، أو يتعلموا الطبيخ، لذا فقد كانت تستخدمنا كذوَّاقة فقط، باعتبار أن الأولاد أفضل من يتذوّقون، والبنات أفضل من يطبخن.. وتحوَّلت حصة الأنشطة أخيراً إلى الجنة التي كنا نحلم بها... "محمد" وأنا نجلس عند النافذة، منهمكين في مطالعة مجلات "سوبرمان" و"باتمان" و"سمير"، والبنات يطبخن، ثم يقدمن لنا الطعام، ويقفن كلهن مع أبلة "دولت"، في انتظار رأينا.. حياة "هارون الرشيد" وحياتك!!.. ولكن أيام العز لا تدوم.. لقد انتهى العام الدراسي، وجاءت الإجازة الصيفية... إجازة صيف 1967م، و.. للذكريات بقية... واقرأ أيضاً: لمحات من حياتي (1) لمحات من حياتي (2)