كارثة حقيقية تنهش أجساد الفقراء المرضى، وتقضي على ما تبقّى فيها من أسباب للحياة.. الفقر وليس غيره هو الذي دفعهم إلى ذلك، الكارثة تتمثّل في بيع الأدوية الفاسدة في الأسواق الشعبية، وعلى رأسها "سوق الجمعة" بمنطقة السيدة عائشة، ليشتريها غير القادرين على توفير نفقات علاج أدوية الصيدليات والمستشفيات. أدوية من قمامة المنازل والمستشفيات! قررت أن أرصد رحلة هذه الأدوية، وكانت البداية عندما اصطحبني أحد الزبالين في جولة له بالشوارع أثناء قيامه بعمله، الزبال والذي يُدعَى "ناصر البنا" يتجوّل بسيارة "ربع نقل"، عمله يبدأ قبل السادسة صباحاً، صعدت مع "ناصر" إلى المنازل لجمع القمامة من صناديق شققها، لاحظت أنها -أي القمامة- تضمّ علاجات وأدوية سواء على شكل زجاجات أو براشيم، بعدما تخلّص منها الأهالي إما لفسادها أو لعدم جدوى العلاج بها، وكانت بكميات قليلة، أما الكميات الأكبر المجموعة منها، فوجدتها عندما توجهنا لجمع مخلفات إحدى الصيدليات الموجودة بشارع قصر العيني والمستشفيات والعيادات الخاصة المنتشرة بهذا المكان. "الزرايب" معقل تجميع الأدوية الفاسدة راقبت "ناصر" وهو يُلقي بالقمامة داخل صندوق سيارته المرتفع؛ لتختلط الأدوية ببقايا الطعام الفاسدة والمخلّفات الأخرى، وبعدما انتهى من جمع القمامة في المنطقة التي يعمل بها في العاشرة صباحاً، توجّهت معه لمكان تجميع القمامة -الأكبر والأشهر في مصر- وهو الموجود بمنطقة "الزرايب" في منشية ناصر، وعندما صعدت معه بالسيارة، وجدت تلالاً من المخلفات في كل ركن بالمنطقة، وحركة العمل بها لا تهدأ ليل نهار. تركت "ناصر" يُلقي بحمولته في أحد المقالب الكبيرة، وتوجّهت إلى أماكن فرز الزبالة؛ وهي المهمة التي يقوم بها سيدات وأطفال الزبالين، فيقومون بفرز محتويات الزبالة حسب نوعها؛ فالبلاستيك لا يختلط مع الورق أو القماش -مثلاً- فكل نوع يتم تجميعه على حدة؛ لإعادة بيعه لمصانع تطوير المخلفات. الزبالة كلها فوائد بعد انتهاء الفرز، لم أجد أمام إحدى السيدات وتُدعَى "ميرفت" -التي تقوم بالفرز- سوى أكوام من الأدوية المختلفة، فتوجّهت إليها وسألتها عن مصير هذه الأدوية، فقالت: "الزبالة كلها فوائد، فكل شيء له سوقه، فهذه الأدوية نقوم بتوزيعها على باعة "سوق الجمعة"، بنظام الجملة؛ حيث يتم تعبئتها في أجولة "قذرة" ولا يتعدّى سعر الجوال الواحد عشرة جنيهات، ليقوم الباعة بعرضها على الزبائن". كلام "ميرفت" كان صدمة كبيرة، خاصة أنني شاهدت حجم الملوثات التي تعرّضت لها الأدوية، سواء أثناء نقلها أو فرزها، علاوة على أن أغلبها فاسد بالفعل، ومنتهي الصلاحية والفاعلية. المصيبة أن كومة الأدوية التي كانت موجودة بالمنطقة لم تكن الوحيدة، ولكنني كلما تجوّلت، وجدت أطناناً منها في طريقها إلى أجساد الفقراء. أدوية على أرض "سوق الجمعة" تركت منطقة الزبالين، وأنا على ظهر سيارة نقل -خاصة بأحد باعة الأدوية- ووصلنا إلى "سوق الجمعة"، وقام البائع الذي يُدعى "نبيل سيد" بتفريغ حمولة الأدوية الفاسدة من أعلى السيارة، وقام بإلقائها على الأرض بشكل عشوائي، في شكل أكوام تختلط بطين الأرض. السوق به كل أنواع الأدوية وحتى مُستحضرات التجميل الرخيصة تحدّثت مع "نبيل" بعدما انتهى من تفريغ الحمولة، وقال: "الأدوية التي أقوم ببيعها تُعالج كل شيء، فهناك أدوية للكُحة وأخرى للصداع وثالثة للأمراض الجلدية وغيرها، ولها زبائن كثيرون يحضرون من المناطق العشوائية والشعبية؛ مثل: (الدويقة، وبولاق الدكرور، والسيدة عائشة، والإمام الشافعي) لشرائها؛ لرخص سعرها، فأي نوع دواء لا يزيد سعره على 4 جنيهات، وإما تكون عبوات كاملة أو ناقصة تم استعمالها قبل ذلك". وأشار إلى أن الزبون لا يهتم بتاريخ صلاحية الدواء أو مدى ما تعرّض له من تلوّث، فهو يبحث عن أي أمل في الشفاء، حتى ولو بدواء فاسد؛ لأنه لا يقدر على شراء غيره. 35 بائعاً.. وأرباح 120 جنيهاً وأوضح أن "سوق الجمعة" به أكثر من 35 بائعاً لهذه الأدوية، التي لا تخضع للرقابة من قِبل أي جهة، كما هو الحال بالنسبة لسلع "سوق الجمعة" كلها، وعدد الباعة في تزايد مُستمر، خاصة أن أرباح الأدوية كبيرة؛ فالبائع قد يُحقق ربحاً يومياً يصل إلى 120 جنيهاً. تجوّلت في السوق، وكلما توقفت عند بائع للأدوية، وجدت الناس يتكالبون على بضاعته؛ لشراء أكبر كمية منها بغضّ النظر عن فاعليتها وصلاحيتها. الفقر يدفع المرضى لشراء أدوية السوق التقيت بواحد من الزبائن وهو "حسين فرغلي"، وأشار إلى أنه حضر من منطقة الدويقة القريبة من السوق؛ لشراء مرهم للجلد، وقد وجده وقام بشرائه بجنيه واحد، على الرغم من أنه قد تم استعماله قبل ذلك، ولكنه لا يبالي بذلك؛ لأن مثيله الذي يُباع في الصيدليات سعره 30 جنيهاً، ولا يقدر على شرائه؛ لأن دخله الشهري من عمله كبائع فول سوداني لا يكفي نفقات طعام أبنائه الخمسة، حتى يشتري له دواء من الصيدليات، بعدما أصابه مرض الطفح الجلدي. أما "شوقية عبد الخالق" (ربة منزل) فقالت: "تعوّدت على شراء الأدوية من "سوق الجمعة" دون استشارة طبيب، ولكن فقط أقتنع بكلام البائع وأعتبره كالطبيب؛ حيث إنه يفهم في نوعية الأدوية التي تناسب كل مرض". وأضافت: "السوق به كل أنواع الأدوية، وحتى مُستحضرات التجميل الرخيصة مثل الروج والبودرة وكريمات البشرة وغيرها... موجودة بكميات كبيرة، وسعر العبوة منها لا يتعدّى الثلاثة جنيهات". وأوضحت أنها تسكن بمنطقة السيدة عائشة القريبة من السوق، التي تتردد عليه أسبوعياً؛ لشراء أدوية لها؛ لأنها مريضة بمرض صدري، وأحد أبنائها مُصاب بمرض في عينيه. مثل هذه الحالات موجود بالسوق منها الكثير، يبحثون عن وسيلة، ربما ترحمهم من الأمراض التي تنهش أجسادهم الهزيلة، والتي يمنعهم الفقر من علاجها، مُرددين أنهم يعيشون كالأموات، فلا فرق حين تكون موتتهم بدواء فاسد!