لو بحثت في تاريخ الاحتلال الإنجليزي لمصر، ستجد أن كافة حركات المقاومة كانت شعبية بالأساس.. وطيلة فترة الاحتلال الإنجليزي الذي امتدّ من عام 1882 إلى عام 1954 كان الشعب المصري حينها؛ هو البطل الأول. 1882 نهار خارجي على مقهى بحي الأزبكية ينصت الزبائن جميعاً لما يقوله أحد ضباط الحامية القادم من الإسكندرية؛ فالخديوي "توفيق" رغم إذعانه لطلبات "عرابي" تحت الالتفاف الشعبي؛ فإنه لم ينسَ أمر وقوفه نِداً له، وما كاد البارودي يقدّم استقالته من الحكومة اعتراضاً على تدخل إنجلتراوفرنسا السافر في شئون البلاد، ورغبتهما في حلّ الوزارة حتى قبلها الخديوي وهو يلعب لعبته الخفية مع الإنجليز الرابضين في مياه المتوسط، منتهزين أية فرصة للانقضاض على الإسكندرية. يجرع جرعة ماء هائلة ويواصل روايته لما يحدث بالإسكندرية التي باتت تغلي الآن: - "التفّ الجميع لبقاء "عرابي" ناظراً للجهادية؛ فاتخذت إنجلترا الأمر ذريعة، وزادت من أسطولها حول المدينة؛ وزرعت الفتنة بين أهلها حتى قامت هذه المذبحة وقُتل فيها بعض الأجانب، ولم يخجل الخديوي من الذهاب تحت حماية الجنود الإنجليز لقصر رأس التين". الأيام تدور ببطء لتشوي الجميع بنار الترقّب، والأخبار تأتينا محبطة؛ أعلن "عرابي" العصيان على الخديوي بعد أن أعلن (أي الخديوي) انحيازه التام للمحتل، وأخذ في جمع كل من استطاع القتال من كافة المناطق؛ لكن الجيش الإنجليزي لا يزال يتقدم ليحيط بالإسماعيلية ويعزل الجيش المصري في "القصاصين"، بعد أن أعمل مذبحة بين الأهالي هناك. عشرون يوماً فحسب مرّت؛ لكنها غيّرت كل شيء.. الناس تسير مُطرقة بوجوهها للأرض؛ فالخيانة آتت أُكُلها حيث خانهم بعض البدو والضباط الذين دلوا الإنجليز على ثغرات الجيش المصري، وتمّ حصار جيش عرابي في التلّ الكبير، ليقبض عليه الإنجليز وينفونه ل"سيلان". الآن أصبح الجنود الإنجليز في كل مكان.. وها هو يوم 14 من سبتمبر يشهد أول ظهور لهم كمحتلين فوق قلوبنا. مصطفى كامل: الأمم لا تنهض إلا بنفسها 1906 نهار داخلي بأحد البيوت المصرية أخي يخلع طربوشه عائداً من عمله؛ أهرع لملاقاته لأسمع ما دار.. أخي يُخرج جريدة "اللواء" ويروي لنا إحدى المقالات التي كتبها مصطفى كامل، والتي تندّد بالاحتلال وتطالب بالجلاء وبالاستقلال وبعدم الاعتماد على فرنسا؛ حيث أيّدت إنجلترا في الاتفاق الودّي.. يقرأ إحدى الجمل ويكرّرها: "الأمم لا تنهض إلا بنفسها". أخي يقرأ بتروٍّ وبنبرة قوية.. أتأمل قامته الطويلة وحديثه عن المجالس التي يحضرها مع الكبار؛ حيث يتحدّثون عن أمور البلاد، وأتأمله بانبهار عندما يروي كيف قابل الزعيمَ مصطفى كامل، وعن الحماسة التي ألقاها في نفوسهم بخطبة، وبقدرته على جمع الشعب حوله ليوضح حقنا في الاستقلال.. يجلسني على ركبتيه ويعدني باصطحابي يوماً ما.. أخي رائع بالفعل. أستمع لنقاش بينه وبين أبي؛ يلومه أبي على اشتراكه في المظاهرات فيردّ عليه بحماسة: - "الكل في الشارع؛ فحادثة دنشواي أخرجت الجميع عن صبره وعقله؛ فضربة شمس قتلت ضابطاً إنجليزياً تجعلهم يعدمون أربعة فلاحين أبرياء، ويُجلد العشرات أمام ذويهم، وصار الغضب فيضاناً في الصدور". أخي تأخّر في العودة اليوم.. يخبرنا أبي بقلقه؛ فالإنجليز صاروا عدائيين تجاه أي تجمهر.. أعيد قراءة العناوين الرئيسية في الصحيفة التي تخبرنا بسفر مصطفى كامل لأوروبا لفضح ممارسات الإنجليز.. أفيق على جَلَبة وأسمع أحد أصدقاء أخي بالخارج يخبرنا أنه أُطلق عليه الرصاص من الجنود الإنجليز بعد تظاهرة شارك فيها.. تصرخ أمي وأسمعه يردد لها أن أخي صار شهيداً. 1919 في قرية بالحوامدية للمرة الثانية ننطلق لقطع السكة الحديد.. ولقطع إمداد السكّر عنهم.. لم نعد نخشى بنادقهم كما في المرة الأولى.. اليوم صرنا أكثر تنظيماً.. نظمنا مجموعات لتراقب الطرق، وأخرى لتهجم على الجنود تنزع منهم بنادقهم..لم يعد يعرف الخوف طريقه في القلوب.. فلم يعد لدينا ما نخسره بعد أن مضغ الفقر عظامنا.. كفانا مهانة؛ فطيلة الأعوام الأربعة الماضية ذُقنا مرارة الحرب التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل؛ سوى أننا بين مطرقة الإنجليز وسندان الدولة العثمانية. اكتوينا بالظلم ومصادرة المحاصيل والدواب؛ حتى أن أطفالي كانوا ينامون ليالي كثيرة بلا عشاء بعد أن باعت زوجتي الحلة النحاس، لنبتاع القمح الذي صار شحيحاً كالذهب لنجده أسود اللون، ورغم ذلك التهمناه عن آخره. الكلّ يهتف "يحيا سعد"، والكل صار بالطرقات يهتف أو يواجه الحاميات البريطانية بلا تفرقة.. نساءً وشيوخاً وشباباً؛ كلهم خرجوا.. تأتينا الأخبار من القاهرة.. الإضراب صار شاملاً كافة القطاعات.. طلبة المدارس والجامعات.. والموظفين وأصحاب المتاجر.. الجنود أصابهم الخوف، وبدأوا يتراجعون عندما تهدر عليهم أمواج الشعب؛ لكنهم لا يتورّعون عن إطلاق الرصاص في صدور الصبية والنساء؛ لكننا لن نجبن. صورة لأحد منشورات المقاومة السرية المسلحة عام 1952 1942 العباسية نزرع الألغام حول معسكرهم وننسحب ببطء شديد.. أنتبه على صوت أقدام أحد الجنود فأختبئ خلف أحد المباني وأعطي الإشارة لزميلي أن يهرب هو.. يخفت صوت الأقدام فأنطلق بكل قوة؛ فليس إلا ثوانٍ ويحين الانفجار حسب اتفاقي معهم أن يشعلوا الفتيل في الموعد المتفق عليه سواء عدنا جميعاً أم لم يعد منا أحد.. أجد نفسي مدفوعاً بقوة هائلة فأرتمي على الرمال؛ حيث أطاحت بي قوة الانفجار.. أنظر حولي لأرى النار تشتعل في المعسكر، وسارينة الإنذار تدوّي فأنهض لأركض كما لم أركض من قبل؛ فلن يلبث الجند أن يمشطّوا المنطقة بحثاً عنا. أصابتنا الحرب بكل آفاتها.. صارت البضائع شحيحة ورديئة.. وظهر نوع جديد من الأثرياء لم نعرفه.. ف"مرعي" الذي كان مثار سخرية المنطقة كلها لصعْلكته صار يبيع البطاطين والملابس من مخلّفات الحرب بسعر مذهل.. صار مألوفاً أن تجده مع الجنود؛ إما يبيعهم البراندي المغشوش أو يتفق معهم على طلبية جديدة للمعسكر.. ألمح أحد الجنود الإنجليز يسير مترنحاً إثر الشراب.. فأنتبه لأعطي إشارة لزميلي.. يلتقطها ليُهرع خلف الحائط بانتظار قدوم الجندي المترنّح له كي يريحه من ترنّحه؛ بينما أراقب له الطريق. 1956 السويس الصواريخ لا تنقطع ليل نهار؛ لم نعد نعرف من نحارب.. إنجلترا أم فرنسا أم إسرائيل.. قرار تأميم القناة أصاب الغرب بالجنون، نمسك بالبنادق ونطلق منها طلقات متتابعة.. لم أعتد استخدامها بعدُ؛ لكن الغضب هو الذي يحركني الآن.. نُهرع بكل ما أوتينا من قوة؛ حيث لن تلبث الطائرات أن تأتي لتدكّ تلك المنطقة عن آخرها. أنباء طيّبة عن إجبار إنجلتراوفرنسا على الانسحاب تحت تأثير نفوذ الولاياتالمتحدة.. إسرائيل لا تزال على عجرفتها؛ لكنها تُذعن أخيراً لقرار وقف إطلاق النار.. الكل يتطلع بأمل يرتجف في القلوب في قرب انتهاء احتلال دام 74 عاماً.