لعل القارئ العربي لم يسمع عن "هيرتا مولر" الكثير إلا منذ عدة أيام، وذلك بعد إعلان الأكاديمية السويدية عن فوزها بجائزة نوبل للآداب 2009، ولا يعكس ذلك جهله إطلاقاً؛ بل يشف عن ضعف حركة الترجمة وقصور دور النشر التي حرمت المكتبة العربية من أي ترجمة لأي من أعمال "مولر" حتى لحظة فوزها بالجائزة. و"هيرتا مولر" ليست بالمجهولة أو بالكاتبة خفيفة الوزن حتى لو غاب اسمها من ترشيحات النقاد لجائزة نوبل هذا العام؛ بل إن اسمها معروف في "أدب الأقليات" -لو جاز لنا أن نطلق هذه التسمية- فأعمالها تدور في أجواء الاضطهاد والكبت والبحث عن الحرية وسط مجتمع لا يُفكر بالطريقة التي تفكر بها شخصياته؛ إما لأسباب عرقية أو لغوية أو دينية وهو أمر ليس ببعيد عن نشأة هذه الكاتبة جميلة الروح.. والعقل!
إنه حقاً عالم قاسٍ! تاريخ الميلاد: 17 أغسطس 1953 (بعد حوالي ثماني سنوات من نهاية الحرب العالمية الثانية التي تركت آثارها واضحة على عائلة "هيرتا" وعلى وطنها وعلى العالم بأسره). مكان الميلاد: نيتسكي دورف Nitzkydorf، تلك البلدة الرومانية الصغيرة التي تقع على الحدود مع ألمانيا، وسكانها أقلية ممن يتحدثون الألمانية. هل الانتماء إلى الأقلية تميز أم نقطة ضعف؟ هل من المميز أن تتحدث الألمانية وسط مجتمع أغلبية سكانه يتحدثون بالرومانية؟ إن والد "هيرتا" -على سبيل المثال- اختار طريقه بعناية، وقرر الانضمام إلى قوات "SS" أو البوليس السري للحزب النازي، في حين أن هزيمة ألمانيا النازية في نهاية الحرب جاءت بكارثة على أسرة "مولر" بأكملها؛ فتلك البلدة الهادئة وقعت في أيدي الدببة السوفيت الذين لا يرحمون، وسيقت والدة "هيرتا" قسراً للعمل في المعسكرات السوفيتية لمدة خمس سنوات كاملة، لا لذنب جنته سوى أن السوفيت أدركوا ميزة الرومانيين المتحدّثين باللغة الألمانية، هذه عمالة رخيصة تحت أيديهم، أفلا يستغلونها بعناية؟!! إن رواية "مولر" الأخيرة "Atemschaukel" والتي ترجمت إلى الإنجليزية بعنوان: "كل ما أملكه هو كل ما أحمله معي"، تحكي عن شاب في السابعة عشر من عمره، يُقاد غصباً على يد السوفيت للعمل في معسكراتهم الرهيبة، وهي رواية محطمة للأعصاب حقاً..
لمَ لم تجب على سؤالي بعد؟ هل الأقلية متميزون أم مقهورون؟ تعال ولنرَ كيف عاشت "مولر" في حقبة السبعينيات، قبل أن تجيبني على سؤالي. درست "مولر" في جامعة (تيميشوارا Timişoara) كلاً من الأدب الروماني والألماني. ولأنها تدرك انتمائها إلى أقلية لغوية صغيرة؛ فقد انضمت إلى جماعة أدبية قوامها أدباء شبان ينتمون مثلها إلى ذات الأقلية المتحدثة باللغة الألمانية، ولأنهم واعون بقضايا مجتمعهم فقد رفضوا -كعادة باقي الأقليات- أن ينغلقوا على أنفسهم في دائرة صغيرة؛ بل قرروا ممارسة كل أنواع حرية التعبير في وجه نظام (تشاوشيسكو) والذي يعد واحداً من أسوأ النظم الديكتاتورية في أوروبا الشرقية بأسرها.
الآن يأتي عام 1979، وهو عام فارق في حياة "مولر" التي تعمل مترجمة في أحد المصانع منذ عامين، هل تدري لماذا؟ لأنها فقدت وظيفتها بسبب رفضها التجسس على زملائها في العمل لصالح الشرطة السرية الرومانية أو ما يعرف بال Securitate، هنا تتعرض لمضايقات لا حد لها من قهر واشتباه وتضييق الخناق على أي فرصة عمل متاحة أمامها.
ثم يأتي العام 1982 والذي نُشرت فيه أول مجموعة قصصية لمولر بعنوان (منخفضات Niederungen) وتتراوح قصصها بين تشريح دقيق لمجتمع الأقلية الألمانية داخل رومانيا؛ حيث وصفت قومها بالانعزال والعنف وإدمان الخمور وعدم التخلص من الأفكار النازية إلى الآن، وبين توجيه انتقادات لاذعة إلى المجتمع الروماني بأسره بقسوته وغلظته واضطهاده للأقليات.
قد يمكنك أن تتهم "مولر" بالمغالاة والمبالغة في نقد المجتمع الروماني لصالح الأقلية التي تنتمي إليها، قد تتساءل: كيف يمكن اضطهاد أناس بناء على اللغة التي يتحدثون بها فقط؟ لن أحاول أن أقرب لك الصورة بالحديث عن الأمازيغ في الجزائر أو النوبة في مصر؛ فالأوضاع الإنسانية مختلفة وطرق تعامل الحكومات متغيرة، كما أن النطاق الإقليمي الخاص بنا لا يصح مقارنته بشرق أوروبا الآن؛ لكن تعال نتحدث بلغة الأرقام كي أقرّب لك الصورة التي تقصدها (مولر).
في بلدة (نيتسكي دروف) -التي ولدت فيها مولر- كان عدد الرومانيين الذين يتحدثون الألمانية عام 1977 حوالي 1130 نسمة، أما في عام 2005 فقد بلغ عددهم 19 فرداً فحسب! معلومة بليغة للغاية كما ترى!
الفرار من الجحيم إلى جهنم! عندما نُشرت مجموعة (منخفضات) في رومانيا عام 1982، قامت الرقابة بحذف كل ما تعتقده مسيئاً للمجتمع الروماني؛ لكن المجموعة تسربت إلى ألمانيا لتنشر كاملة غير منقوصة عام 1984، ولتزداد قبضة الأمن الروماني على "مولر" الذي منعها من نشر أي عمل خاص بها، وهنا فاض الكيل بمولر وزوجها الأديب (ريتشارد فاجنر) ونجحا في الهرب إلى (برلين) عام 1987، وهي إلى الآن أستاذة زائرة في عدد من الجامعات، كما أنها عضو في أكاديمية دراسات اللغة الألمانية. خبر سعيد آخر، تم إسقاط نظام (تشاوشيسكو) الرهيب بعد إعدامه وزوجته عقب محاكمة لم تستمر سوى ساعتين! وهي أسرع محاكمة ديكتاتور في القرن العشرين!
* لا يزال شعور الخوف حبيساً بداخلها، ولا تزال ذكريات الملاحقات الأمنية تطاردها في كوابيسها، وهذه من الميكانزمات النفسية الشهيرة كاستمرار الشعور حتى بعد زوال المؤثر، واستمرار الخوف حتى بعد سقوط الديكتاتور! كأن (تشاوشيسكو) استنسخ نفسه داخل عقل وقلب كل روماني، ولعل هذا قريب الشبه من (الأخ الأكبر) الذي يلاحقك أينما كنت في رواية (أورويل) الشهيرة! * أنها تركت وراءها وطناً وأحلاماً ورؤى، لا تزال رومانيا بداخلها بارزة في شخوصها وأعمالها، ولعل عدم قدرتها على التكيف في ألمانيا ناتج عن إحساسها بانسلاخها عن وطنها الأصلي، وزراعتها في تربة غريبة لا تصلح لنمو براعمها فيها! وسنجد في روايتها (الترحال على ساق واحدة) مظاهر اليأس التي تنتاب أبطالها الذين هاجروا إلى عالم جديد، مسموح لهم بالصراخ والنواح؛ لكنهم لا يستطيعون، لأنهم لم يتعودوا على ذلك!
ستظل تهمة الأقليات تحاصر "مولر" إلى الأبد؛ فالرومانيين استقبلوا خبر فوزها بجائزة نوبل في فتور كبير، فهم يعتقدون أنها مندسة على مجتمعهم، وأن محاولتها لتشريح سلبيات المجتمع ما هي إلا خيانة للوطن! بينما الألمان رغم استقبالهم الخبر بترحاب؛ لكنهم بلا شك يشعرون بأنها دخيلة عليهم، أو لعل شعورها بهذا هو ما يفسد حلاوة الفوز لديها!
تتميز لغة "مولر" بشاعريتها وقدرتها على رصد التفاصيل المادية وخلجات النفس البشرية؛ إلا أن بعض النقاد يعيب عليها انغماسها في اللغة على حساب نسج الحبكة بصورة صحيحة، لكن هذه معلومات هامشية لن تهمنا -يا عزيزي القارئ- لأني أنا وأنت لا زلنا محرومين من ترجمة عربية لأعمال "مولر" إلا لو تحمس أحدنا للقراءة لها بالإنجليزية أو الألمانية؛ علماً بأن هذا العمل البطولي يظل استثناءً من القاعدة!
وأنا أراهن أن أعمال (هيرتا مولر) -عند ترجمتها إلى العربية- ستنال صدى واسعاً بين قرائنا؛ لأنها عوالم تمثل مناطق تماس مع حياتنا؛ فالأقليات في وطن مثل رومانيا لا يمكن مقارنتها -بالحسابات العقلية- بأوضاع الأقليات في بلادنا؛ لكن التجربة الإنسانية قد تتسع لضم المشاعر المنصهرة في بوتقة واحدة، لتصبح مرادفات القهر والألم والمرارة لها نفس المعنى مهما تغيرت الأشكال والبلدان!
• هيرتا مولر هي المرأة الثانية عشر التي تفوز بجائزة نوبل للآداب، كما أنها ثامن الكتّاب الألمان الذين حصدوا هذه الجائزة، وآخرهم بالطبع (جونتر جراس) والذي فاز بها عام 1999. • فازت بجائزة (كلايست) للأدب الألماني، وجائزة (فورت) للأدب الأوروبي، وروايتها الجديدة مرشحة بقوة لكسب (جائزة ألمانيا للكتاب) بعد وصولها إلى قائمة الترشيحات القصيرة، وسيتم الإعلان عن الجائزة خلال الأسبوع القادم. • تردد اسم الإسرائيلي (عاموس عوز) بقوة كأحد أبرز المرشحين للجائزة، والكاتبة الفرنسية من أصل جزائري (آسيا جبار)، والروائي الأمريكي (فيليب روث)، والشاعر السوري (أدونيس). • بدأت الثورة ضد (تشاوشيسكو) من بلدة (تيميشوارا) وهي ذات المدينة التي تعلمت "مولر" في جامعتها!