هناك من يتناصبان العداء في الطفولة، غير أنهما في الصبا والشباب يتحوّلان إلى أعز صديقَيْن، وهناك من تستمر بينهما الكراهية حتى الموت خاصة إذا كانت ميولهما في الأعمال غير المشروعة متشابهة، ومهارتيهما في الشر متكافئة، وحتى الفتاة التي خطفت قلب كل منهما واحدة، فإلى أي النوعين ينتمي "السقا" و"النبوي" في "الديلر"؟ لا شك أنك عرفت من إعلانات الفيلم أنهما من الفريق الثاني! الرأي لك لفت نظري في مقالي السابق عن فيلم "عسل إسود" احتجاج البعض على عنوانه "مصر هي الموزّة بتاعتي" لرفضهم لفظ "الموزّة"، التي تُعبّر عن البنت الجميلة الحبوبة في اللغة الشبابية السائدة والمنتشرة، والتي استخدمها الكاتب كواحد من الشباب يُوجّه مقاله لقراء شباب، في موقع شبابي، بهدف توصيل المعنى إليهم بلغتهم وإحساسهم، كما اعترض البعض عما جاء في المقال من ألفاظ مشينة -من وجهة نظرهم- مثل كلمة "وساخات" رغم أنها كلمة مأخوذة من اللغة العربية الفصحة، وورد ذكرها في روائع الأدب العربي من كتب وروايات، لتُعبّر عن أشياء ليست نظيفة، ولا أدري ما هي الكلمة التي أُعبّر بها عن أشياء غير نظيفة تحدث في مجتمعنا غير "وساخات"؟! وغيرها من الكلمات التي يبدو أنها لم ترقَ للبعض الذي طالب الموقع بعدم إدراج مثل هذه الكلمات التي تسيء، وتشين، وتتوغّل، وتستمر وكأنها مثل المبيد الحشري! في الحقيقة لقد سعدت كثيراً بتلك التعليقات التي عبّرت عن كم الازدواجية، و"الشيزوفرينيا" الرهيبة التي يعاني منها مجتمع تنتشر في شوارعه، ووسائل مواصلاته، ومدارسه، بل ومعظم بيوته ألفاظاً تجريحية رهيبة، تُؤذي الأذن وتضر السامعين، وتقتلع الأدب من النفوس اقتلاعاً، بعد أن تجبر المستمع على استخدام ألفاظ مماثلة ليرد على الإساءة بإساءة، ثم يُطالب البعض بعد كل هذه الألفاظ البشعة ألا نستخدم لفظ "موزة" الذي معناه أصلاً -في تفسير كلمات الشباب- لا يخرج عن حدود الأدب واللياقة، والأغرب أن الكل ترك المقال وتحليل الفيلم، ومناقشة سلبيات الواقع المصري، ليُركّز فقط على "القشور"، لكن ما علاقة كل هذا بفيلم "الديلر"؟ العلاقة يا حضرات أن الفيلم ورد به شتائم صريحة، وليست تشبيهية، من سبّ مباشر بألفاظ لا تحتمل أكثر من معنى، ولا يمكنني حتى أن أذكرها لمجرد التوضيح، وسأترك فهم مقصدي لمن شاهد الفيلم، بل والجديد ها هنا هو موضة جديدة ينفرد بها الفيلم لأول مرة في السينما المصرية، من حركات جديدة بالفم كتلك التي يُحدِثها النائم في نومه، وكانوا يُحذّرونا من فعلها في طفولتنا؛ لأنها تنجّس الفم أربعين يوماً.
فبعد موضة "إيه سفن إيه" واستخدام الشتائم الإنجليزية الفجّة في أفلامنا مثل:"Please Don't F..k Me" و"Mother F..ker" وغيرها من الشتائم الأجنبية التي ظهرت في أفلامنا العربية الأخيرة مثل "ليلة سقوط بغداد"، و"إتش دبور"، والتي أثبتت جهل الموظفين في الرقابة على المصنفات الفنية بأبسط قواعد اللغة الإنجليزية، باعتبارهم "تعيلم مجاني"، جاء الدور على موضة جديدة، تجعلني أكاد أجزم أن الأيام القادمة ستحمل لنا أفلاماً بها شتائم أفظع وأبشع، دون وجود أي حذف، أو مونتاج، أو حتى "الغروشة" عليها ب"تيت" وهذا أضعف الإيمان.
الطريف أن استخدام هذه الألفاظ والأصوات في الفيلم أصاب البعض بالذهول، وجعل المشاهدين ينظرون لبعضهم البعض بدهشة، ليسأل كل مُشاهِد المُشاهِد المجاور له بعينيه: "هو اللي أنا سمعته ده بجد ولا وداني سمعت غلط"؟ بينما قام البعض الآخر بالتصفيق، والتصفير، والضحك الذي تشعر معه أن صاحب الضحكة يريد أن يقول: "حلوة.. قول كمان".
ورغم ذلك رغم كل ما سبق فكاتب المقال لا يُحقّر من شأن الفيلم، أو يحكم عليه بعدم الجودة، بل -فقط- يناقش ظاهرة تستحق الرصد، لكن بعيداً عنها، يمكنني أن أقول إن "الديلر" عمل فني متميّز، خلق كاتبه "مدحت العدل" شخصيات من لحم ودم، ترفض تصرفاتها لكنك تشعر بدوافعها ومبرراتها، بحكم الواقع المرير الذي نشأت فيه، والجميل أن معظم الشخصيات الشريرة لا تفعل الشر لمجرد الشر؛ إذ ستجد في كل منها لمسة إنسانية، ومسحة من حب الخير رغم الجو الإجرامي الذي تعيش فيه تلك الشخصيات، بخلاف فكرة الفيلم الرائعة، وقدرته الهائلة على محاكاة الواقع الإجرامي الغربي، والتوغّل في أدق تفاصيله، كما أجاد كل فنان فيه دوره وبرع فيه، سواء "مي سليم - سماح" التي اجتهدت كثيراً في أول تجربة سينمائية لها، و"خالد النبوي - علي الحلواني" الذي قام بدور عالمي يجعلك تشعر أنك تشاهد أحد نجوم هوليوود في فيلم مصري، و"نضال الشافعي" حريف التمثيل الذي أتقن شخصية المجرم الشامي بشكله، ولَكْنَته، وطريقة كلامه المتقنة لأقصى درجة، وبالطبع ذلك الشقي العفريت "أحمد السقا - يوسف الشيخ" الذي أدّى دور المجرم الطيب الذي يبحث طوال الوقت عن نفسه الطيبة في مجتمع مليء بالأشرار دون أن يجدها.
بخلاف ديكور "فوزي العوامري" الذي خلق بيئة تحاكي الواقع الذي يناقشه الفيلم في كل مشهد من مشاهد الفيلم، سواء عشوائيات مصر، أو خرابات تركيا، أو قصور أوكرانيا، وتصوير "سامح سليم" الممتاز، وبراعة استايلات "إيناس عبد الله"، بينما شعرت بعلامة استفهام أمام موسيقى "مودي الإمام" التصويرية، التي شعرت بتشابه بعض جملها الموسيقية مع موسيقى فيلمي "Batman begins" و"Dark Knight" الجزء الأول والثاني، لكنها على كل حال أدّت المطلوب منها، أما المخرج "أحمد صالح" فرغم أخطاء "الراكور" التي ظهرت في بعض مَشاهِد الفيلم، كمشهد يظهر فيه الأبطال يرتدون ملابس صيفية، ومشهد آخر يرتدون فيه الجواكت، وغيرها من الأخطاء، إلا أن ظروف الفيلم الصعبة، وتأجيلاته العديدة التي حدثت أكثر من مرة لأكثر من سبب، وجملة المشاكل التي مرّ بها تجعلني أتفهّم ذلك، وأضعه موضع اعتبار، بل إنني لا أملك سوى التصفيق له على خروج الفيلم بهذا الشكل رغم كل تلك الظروف، وشعرت وشعر كل من شاهد الفيلم معي أن هذا الفيلم لو كان تم تصويره في ظروف أفضل من ذلك، لكان من علامات السينما المصرية.
كلمة أخيرة سيُمثّل هذا الفيلم إشكالية كبيرة.. هل نشاهد الأفلام المتميّزة ونتغاضى عن ألفاظها وحركاتها التي تعمّدها المؤلف أو المخرج أو حتى الأبطال لتحاكي الواقع الصعب، أم إن وجود هذه الألفاظ والحركات الصوتية لهو سبب كفيل بمقاطعتها وعدم دخولها؟! وأيهما أصعب.. وجود ألفاظ صعبة وحركات صوتية ذات مغزى؟ أم مشاهد ساخنة بها عري وإيحاءات جنسية؟
أنا من عشّاق أحمد السقا، لذا أحسده على هذا الذكاء والنفسية الصافية، في ترك المساحة والحرية لكل فنان يعمل معه في أفلامه، حتى يبرع بشدة ويخرج أفضل ما عنده دون أن "ينفسن" منه، حتى وإن "سرق منه الكاميرا" أو "خطف منه السوكسيه"، مثلما حدث مع مصطفى شعبان في "مافيا"، وخالد صالح في "تيتو"، وعمرو واكد في "إبراهيم الأبيض"، وخالد النبوي في "الديلر"، لذا يخرج "السقا" في كل مرة هو النجم، ويستمر هو بطل الدور الأول في كل أفلامه.