بالرغم من أن خبر استقالة الرئيس الألماني "هورست كولر" من منصبه قبل أيام لم يحظَ باهتمام كبير من وسائل الإعلام؛ بسبب أحداث غزة، فإن الحدث في حد ذاته يحمل العديد من النقاط التي تبدو مثيرة ومُدهشة في بلد كبير مثل ألمانيا. فاستقالة الرئيس جاءت بسبب تصريح له أثناء تفقّده للوحدات الألمانية العاملة ضمن قوات الناتو بأفغانستان، برر فيه إمكانية إرسال قوات الجيش للخارج للحفاظ على المصالح الاقتصادية للبلاد.. هذا التصريح مرّ مرور الكرام على وسائل الإعلام المحلية على اعتبار أن الرجل صادق فيما يقول بأن المصالح الاقتصادية هي التي تحكم السياسة الخارجية للدول من الناحية الواقعية.. إلا أن هذا الأمر يُعدّ مخالفاً للدستور الألماني، فضلاً عن كونه يُسيء إلى صورة ألمانيا التي أرسلت قواتها إلى أفغانستان من أجل المشاركة في الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب.
وهنا التقط الخبر مدوّن ألماني شاب لم يزِد عمره على 20 عاماً؛ حيث تعجّب من صمت أجهزة الإعلام عليه، فقام بإرسال هذا الخبر عبر البريد الإلكتروني لوسائل الإعلام غير المحلية، فضلاً عن إثارة الموضوع على موقع "تويتر". وكان كل همّ الشاب هو معرفة لماذا صمتت أجهزة الإعلام عن الخبر؟!! لكن المفاجأة أن وسائل الإعلام والقوى السياسية المناوئة للرئيس عملت على استغلال هذا التصريح، ونالت من الرئيس واتهمته بأنه ينتهج دبلوماسية الحرب، وهو ما لا يتماشى مع السياسة الألمانية..
وبالرغم من أن مكتب الرئيس حاول تبرير تصريحاته بأنه أسيء فهمها، وأن الرئيس كان يقصد مشاركة قوات من البحرية الألمانية في منطقة القرن الإفريقي لمواجهة القرصنة وحماية المصالح الاقتصادية الدولية والألمانية التي تمر بهذه المنطقة، فإنه لم يحظَ بالقبول، مما دفع الرئيس إلى تقديم الاستقالة، بالرغم من أنه يفترض أن ولايته الثانية والأخيرة تنتهي عام 2014، أو بمعنى آخر لم يمضِ على ولايته الثانية سوى عام واحد فقط، لكنه أصرّ على الاستقالة، بالرغم من أن البرلمان الذي قام بانتخابه لم يُطالِبه بذلك، لكن الرئيس اختار هذا القرار بمفرده معتبراً أن النقد الذي تعرّض له أفقده الاحترام اللازم للبقاء في منصبه. وهكذا يتضح كيف أن الرجل شديد الحساسية، وأنه فضّل ترك منصبه عن توجيه اللوم له، بالرغم من أنه لم يخطِئ فعلياً في القول بأن نشر قوات الجيش في الخارج قد يكون من أجل تأمين مصالحها الاقتصادية، فهذا سلوك الدول الكبرى مثل أمريكا وغيرها، كما أنه نفس نهج الدول الاستعمارية التي استعمرت دول آسيا وإفريقيا من أجل تأمين مصالحها، لكنه رفض تبرير الخطأ، كما أنه لم يعمل على استغلال وسائل الإعلام الرسمية للتأكيد على أن ما قاله حدث له تحريف أو أسيء فهمه، كما لم يُعدّد إنجازاته السابقة منذ تولّيه الرئاسة عام 2004 حتى تشفع له في أعين الناس، بل إنه لم يُؤجّل قرار الاستقالة بالرغم من الظروف الصعبة التي تمر بها بلاده وسائر دول الاتحاد الأوربي حالياً بسبب أزمة اليورو، فضلاً عن الأزمة الطاحنة في اليونان، والتي تحمّلت الدول الأوربية -وفي مقدّمتها ألمانيا- جزءاً كبيراً من فاتورتها. نقول لم يحدث كل هذا على غرار ما يحدث في الكثير من دول العالم الثالث التي غالباً ما يتم رفع اللافتات في الشوارع وإخراج مسيرات "مسيسة" ترفع شعارات "بالروح بالدم.. نفديك يا ريس"، كما كان من الملاحظ أن الحزب الديمقراطي المسيحي الحاكم الذي ينتمي إليه بزعامة المستشارة "ميركل" لم يدعمه في موقفه.. ف"ميركل" لم تُدلِ بأي تصريح يُفيد وقوفها بجانبه والدفاع عنه، كما أن مسئول السياسة الخارجية في الحزب انتقده، واعتبر أنه لم يكن موفّقاً في تصريحاته، وهكذا حتى حزب الرئيس لم يدعمه، والسبب ليس هو الرغبة في التخلّص منه، فهم الذين انتخبوه العام الماضي في انتخابات حرّة ونزيهة، ولكن تركوه هذه المرة لأنه أخطأ، والحق أحق أن يُتّبع.. وبالتالي فإن تفكير الحزب الحاكم الآن ليس في إقناع الرئيس بالعدول عن موقفه، والبقاء في الحكم حتى 2014، وبعدها وبموجب الدستور يتم اختيار رئيس جديد بدلاً منه، وإنما يبحث الحزب الآن عن الشخصية المناسبة التي تحظى بموافقة البرلمان بمجلسيه "البوندستاج، والبوندسرات"؛ لأن اختيار شخصية غير مناسبة قد يجعل الحزب الحاكم يخسر في الانتخابات القادمة.. وعلى هذا فإن تفكير الحزب ليس في الأشخاص، حتى وإن كان الشخص هو رئيس البلاد (كان يعرف بالرئيس الاستيراتيجي)، بقدر ما هو في الحزب ذاته (المؤسسة على اعتبار أنها هي الدائمة، ولن تزول باستقالة رئيس، أو انتهاء مدة رئاسته 5-10 سنوات فقط، أو حتى وفاته) فالحزب هو الذي يبقى، والأشخاص إلى زوال. والدرس الأخير من هذه التجربة الرائعة هو أن الذي حرّك الموضوع عن غير قصد مدوّن شاب كل همّه معرفة أسباب صمت وسائل الإعلام عن إثارة الموضوع.. فكانت النتيجة استقالة الرئيس، وهو ما يعني أن للشباب دوراً إيجابياً في الحياة العامة، بما فيها الحياة السياسية، وليس هذا الدور قاصراً على الرجال أو الشيوخ فحسب.