محمد المخزنجي كان رساما بارعا، وأكثر ما برع فيه هو رسم الغانيات عرايا، لهذا قيل إنه هو من اخترع "البورنوجرافيا" في اليونان القديمة، والبورنوجرافيا كانت تعني حرفيا "رسم العاهرات"، وهي على أية حال لم تبتعد كثيرا عن هذا الإطار برغم مرور القرون، وبرغم نسيان مؤسسها اليوناني "بارازيوس"، الذي كانت رسوماته الفاحشة غذاء لجنون الشبق الروماني فيما بعد، والذي كان بدوره جزءا من جنون أكبر وأشنع، في إمبراطورية لم تكن غير لحظة جنون في التاريخ.
كان بارازيوس قد قام بشراء واحد من أسرى الحروب التي لم تكن تنقطع في زمنه، ليكون "موديلا" له في لوحة "بروميثيوس مُسَمَّرا" التي طُلِبَت منه لمعبد أثينا، وكان الأسير الذي اشتراه الرسام عجوزا؛ "ليعمق الإحساس بنظرة الرعب التي تسبق لحظة الموت"، وهي اللحظة التي كانت هوسا إغريقيا تحول إلى جنون روماني على اعتبار أنها اللحظة التي تؤصِّل المثل الأعلى لأبناء الإمبراطورية المحاربة، طلاب البطولة والمجد، والذين كان هاجسهم الأكبر هو الحصول على "ميتة جميلة"، ولم يكن الجمال لديهم إلا دموياً وداعراً!
وضع الرسام البورنوجرافي موديله العجوز تحت التعذيب، لكن العجوز لم يَبْدُ له متألماً كما ينبغي، فزاد عليه جرعة التعذيب بعد تثبيت يديه بالمسامير، وأثارت صرخات العجوز شفقة المحيطين بالرسام فعبّروا عن استنكارهم، لكنه كان مشغولا عنهم بإعداد مساحيقه وألوانه وأدوات الرسم، والتأكّد من فاعلية سياط الجَلد ونيران الحرق ومسامير الثَقب وسلاسل التكبيل. وكان الرسام يُحفِّز ويُحمِّس الجلاد: "عذّبه أكثر، أكثر، ممتاز، فلتبقِهِ هكذا، هذا هو حقا وجه بروميثيوس المتألم بشدة، بروميثيوس المحتضر". واقتطف بارازيوس النظرة المشتهاة، فنيا، قُبيل أن يلفظ العجوز آخر أنفاسه.
هذه الحكاية أضاءت لي عتمة ادّعاء يروِّجه البعض، عن ضرورة ابتعاد الفنان أو الأديب عن الاشتباك المباشر مع قضايا أمته؛ لأن هذا الاشتباك يلوّث نقاء الإبداع! وهي مقولة حق في الظاهر يُراد بها باطل في الباطن، فمفهوم وواضح أن المباشرة في أي عمل فني تُفسد جلال ونقاء هذا العمل، لكن غير المفهوم هو مطالبة الأدباء والفنانين بعدم إبداء رأيهم المباشر فيما يعيشونه ويعايشونه، وتحديدا كتابة الأدباء مقالات وأعمدة صحفية تتناول مُجريات الأمور.
فهذا الادّعاء -على افتراض صدقه- يمثل درجة من درجات وحشية وأنانية رسام البورنوجرافيا الأول، وهو يسلخ الأسير العجوز؛ ليحصل على "نظرة الرعب" المطلوبة للوحته؛ لأن وقوف الفنان متفرجا على عجوز، أو وطن، أو شعب، يتم سلخه، هو موقف مماثل لمن يقوم بالسلخ أو يأمر به، وإن اختلف في الدرجة، خاصة إذا كان الفنان قادرا على تقديم إسهام مباشر يوقف، أو يعرقل، أو على الأقل يفضح حقارة الجَلد والسلخ.
يوسف إدريس حسم هذا الجدل عندما حاصرته الأصوات التي لم تكن كلها بريئة ولا صادقة، تطالبه بالكف عن كتابة مقاله الأسبوعي والعودة لكتابة القصص خوفا على موهبته الإبداعية من التآكل في كتابة المقالات، فقال بطريقته بليغة التجسيد ما معناه أن الأديب عندما يجد نفسه في بيت يحترق، هل يهرب ويجلس على كرسي أمام البيت ليشاهد الحريق ويسمع صرخات الضحايا ليكتب قصة مؤثرة، أم يندفع ليشارك في إطفاء الحريق وإنقاذ الضحايا، ثم تأتي القصة أو لا تأتي بعد ذلك؟!
هذه هي المسألة، فنحن إزاء وطن يحترق بالفعل، وأمة يتم سلخها، ونحن داخل هذا الوطن، ومن لحم هذه الأمة، وأضعف الإيمان أن نصرخ، لنردع الجُناة أو نُربكهم قليلا، أو على الأقل نلفت الأنظار إلى جرمهم الذي يصعب استكماله إلا في الظلام والصمت. وهذا في حد ذاته نوع من المقاومة، ودرجة من درجات التأثير بإعاقة تمادي التدمير. ثم إننا لسنا في حالة ديمقراطية حقيقية تجعل اقتحام الأدباء والفنانين لحقل ألغام التعبير المباشر نوعا من المزايدة الضارة بنقاء الإبداع الفني والأدبي.
تاريخ الأدب العالمي يخبرنا بأن المشاركة بالكتابة والرأي المباشرَيْن، لم يكونا ترفا، بل شرفا حرص على بلوغه مبدعون كبار، فديستويفسكي كان -إضافة لرواياته العظيمة- يكتب مقالات "يوميات كاتب" بكل الجرأة والعمق، وهيمنجواي كان ناطقا مباشرا بتقارير أحوال الحرب الإسبانية ضد ديكتاتورية فرانكو، وماركيز لم يكفّ عن الكتابة الصحفية والسعي لنصرة قضايا بلده وقارته بل حتى الحق العربي ضد إسرائيل. وخوان غويتسلو عاش في سراييفو تحت القصف ليدوي بصوتها المذبوح عبر العالم. وقائمة الشرف تطول.
إنه اضطرار محفوف بالمخاطر لا اختيار محاط بالأمان، ومما لا شك فيه أن التفرغ لحالة الإبداع الأدبي والفني هو أمتع وأرهف وآمن وأسلم، لكن الاشتباك بالرأي المباشر مع مجريات الأمور في الوطن، يكاد يكون استجابة غريزية كما صيحات الطير دفاعا عن عشه وأفراخه ونطاق وجوده، ويصبح واجبا في حالة الكاتب القادر على هكذا كتابة، فليس كل الأدباء ممتلكين لهذه الهبة حتى يسري عليهم وجوب التكليف..
نجيب محفوظ برغم علوّ قامته الأدبية الشامخة، كانت مقالاته الموجزة التي يكتبها بنفسه في الأهرام، أبعد ما تكون عن الجاذبية والتوهج، بينما كان مقال يوسف إدريس الأسبوعي حدثا يكاد يشتعل ويُشعل وجدان القارئ. واعتَرف نجيب محفوظ بذلك عندما اختص مقالات يوسف إدريس بالإشارة ضمن أهم ما يهتم بمتابعته في الصحافة؛ هذا لأن نجيب محفوظ كان كبيرا بحق، والكبير لا يستنطع -أي لا يُغالي- ولا يتكلّف الادّعاء.
شيء أخير هو أن هذا النشاط لدى من يقدر عليه، وتتاح له فرصة إظهاره، إن تجاهله وراوغه؛ سواء بسبب الأنانية أو الحسابات أو الجبن، سيظهر في إبداعه حتما، فأعطاب الروح تكشفها الكتابة لا تغطيها، مهما كانت الصنعة حاذقة، ومهما كان (اللّوَع).. لعوبا!