قضت ثلاثة أرباع عمرها بالمطبخ اتّباعا لنصيحة أمها "أقرب طريق لقلب جوزك معدته"، ولم تتأثر طول هذا الوقت بغنى أو فقر عبر رحلتها في الحياة، ففي البدايات كانت تقف لتصنع الفول وشوربة العدس والبصارة والكشري والمسقعة، وبعد أن منّ الله عليها أصبحت تصنع الفراخ والأسماك واللحوم. كان جدي -رحمه الله- طباخاً، ورغم ذلك لم يكن بالمنزل سوى رجل، أبداً لا يقترب من المطبخ ولا يضع يده في الطعام سوى ليأكله، ولكنه كان يُسمعها من التعليقات ما يشي بأنها تلميذة بليدة في مدرسته، لم ولن تتعلم منه أبداً. فبمجرد أن تضع له الطعام وتذهب إلى المطبخ لتحضر شيئاً، يتعالى صوته "يا مدام.. هاتي الملح!" فتضحك جدتي وتأتيه بالملح وهي ترد: "حاضر يا بيه"، فنضحك جميعاً رغم تكرار المشهد بشكل يومي تقريباً، مع اختلاف الطلب في كل مرة. جدتي ككل امرأة مصرية لها قواعد مطبخية وعادات غذائية لا يمكنها التخلي عنها حتى لو كانت خاطئة. فالخضار لازم يكون مسبّك.. والبصل هو عصب المطبخ.. والسَّلَطة لازم تكون خضراء.. والفول مسمار المعدة.. والعيش لا غنى عنه.. والمكرونة بالصلصة.. والسفرة الدائمة هي شوربة لسان عصفور وأرز وخضار مطبوخ ولحمة أو فراخ مقليين أو مشويين.. والمسلوق ده أكل العيانين.. لا أعرف من أين جاءت بخلطتها السرية هذه، والتي تعلي من شأن الطعم بغضّ النظر عن الفائدة، فتسبيك الخضار أو مجرد وضعه على النار يضيع معظم ما يحويه من فيتامينات، وإقرار السلَطة الخضراء ك"السلطة" القومية لبيتنا حرمنا من معرفة أشكال وألوان أخرى من السلَطات، والعيش والمكرونة ولسان العصفور والأرز كانوا كفيليين بجعلنا جميعاً مثل "القطط السِّمَان". المهم يأتي اللقاء الرهيب بحضور "طنط جيجي" لقضاء الصيف معنا على أحد الشواطئ، و"طنط جيجي" هي النتاج الطبيعي لزواج "علي ابن الجنايني" من "إنجي بنت الباشا" يعني هي الفرع العالي اللي في عيلتنا المتواضعة، "طنط جيجي" في سن يقرب سن جدتي تقريباً، ولكن من يراهما معاً سيظن أن جدتي أمها، ف"طنط جيجي" ما زالت تحتفظ بأسنانها ورشاقتها رغم التجاعيد، وترفض أن "تلبّخ" في الأكل، فتأكل ما يأكله الغوغاء من أمثالنا. جدتي ترى "طنط جيجي" ست "محفلطة ومسلوعة وعرقوبها يقطع رقبة الوزة"، ولا تستطيع جدتي استيعاب مفهوم الصلصة البيضاء في مكرونة "طنط جيجي"، فالصلصة لازم تكون حمراء. وتتأفف جدتي على طريقة "دبور" من سلطاتها وبابا غنوجها وطعامها "اللي مالوش طعم" -من وجهة نظرها طبعا!!- رغم سعادتنا الكبيرة بطعمه وبألوانه، ف"طنط جيجي" أستاذة في تزيين الأطباق، وتلوين السفرة بكل ما هو صحي ومفيد. "طنط جيجي" تفطُر عادة عصير برتقال وفرنش توست عليه معلقة مربّى، في نفس ذات الوقت "تضرب" جدتي رغيف عيش وطبق فول معتبر، مع عدد لا بأس به من أقراص الطعمية. "طنط جيجي" تتغدى سلطة تونة أو خضار مسلوق مع استيك أو فيليه مسلوق، جدتي تأكل عيش وطبيخ وورك فرخة وطبق رز وبتنجان مخلل. "طنط جيجي" بتتعشى زبادي، جدتي بتتعشى بباقي الأكل الفائض من وجبة الغداء. والنتيجة مذهلة، فعلى المدى القريب كانت تكاليف طعام "طنط جيجي" خلال فترة المصيف على عكس ما توقعنا جميعا أقل كثيراً من تكاليف طعامنا -الذي نظنه بسيطاً وعلى قدّ الحال- وعلى المدى البعيد يستطيع أي كفيف تمييز الفرق بين الوضع الصحي ل"طنط جيجي" التي تستطيع بسهولة تمييز "الحباية" التي ظهرت مؤخرا فوق حاجبي. في الوقت الذي لا تستطيع فيه جدتي من تمييزي في صورة كبيرة الحجم لا يظهر فيها سواي. الآن.... "طنط جيجي" تجلس لتقصّ لنا مغامراتها العاطفية قبل قيام الثورة، وجدتي تجلس صامتة تماماً تائهة العقل.. وعندما ترى أختي تلوك شيئاً في فمها تسارع بسؤالها: بتاكلي إيه؟ فترد أختي: مسقّعة، فتندهش جدتي وكأنها لا تعرف ما تعنيه الكلمة: مسقعة معمولة بإيه؟، فترد أختي بدهشة أكبر: مسقعة يا نينة.. مسقعة معمولة بالبتنجان.. سلامتك. تطلق جدتي قنبلة ضحك وهي تقول: أول مرة أشوف مسقعة معمولة بالبتنجان!!