اخترت عنوان هذا المقال بالعامية المصرية لأنني بهذه الكلمات تحديداً قد سمعت هذا السؤال مطروحاً على سمعي وعلى فكري عشرات المرات: "ليه بلدنا وسخة؟". وأحياناً كانت هناك إضافة بسيطة لهذا السؤال: "للدرجة دي". وهو عنوان يقرر مبدئياً أننا جميعا كمصريين متفقون أن مصر بلد غير نظيف. أو هذا ما أظنه. فمن الصعب أن أتخيل أن يعترض مصري واحد ويدّعي العكس حتى لو كان رئيس الوزراء المصري د. أحمد نظيف شخصياً. من غير المتصوّر أن أجده يسألني كيف تبدأ بتقرير حال غير متفق عليه بين المصريين؟ فمصرنا بلد غير نظيف للأسف الشديد. ومع هذا الاتفاق العام على قذارة بلدنا، هناك اتفاق عام يربط عدم النظافة هذه بالفقر في مصر. فكثيراً ما استمعت إلى تبريرات لا نهاية لها مع مصمصة شفاه تؤكد أننا بلد فقير، ذو إمكانيات محدودة، لا يمكننا ونحن نسعى لتحقيق الكفاف أن نحقق النظافة المرجوة. أو أننا نجري وراء لقمة العيش ليل نهار، فكيف يمكننا التفكير في رفاهية كالنظافة؟ وتحولت النظافة مع تعليق لافتة الفقر إلى ظاهرة مبررة إلى شريحة من المواطنين. والحقيقة أنه لا علاقة بين الفقر والنظافة؛ لسبب في منتهى البساطة ودون الدخول في تبريرات تبدو فلسفية: أن هناك مناطق شديدة الفقر في العالم وشديدة النظافة في نفس الوقت. قمت بزيارة قرى في سوريا وفي المغرب وفي تونس شديدة البؤس وأزقّتها وشوارعها ومنازلها نظيفة. ولماذا نعبر الحدود المصرية؟ فقد شاهدت قرى نوبية جنوب خزان أسوان نظيفة وفقيرة جدا. فلا علاقة إذن بين هاتين الظاهرتين ولنلقِ جانبا لافتة الفقر، فصحيح أنه لو كان الفقر رجلا لقاتلناه، وبكل ما أوتينا من قوة، ولكنه في هذه التهمة الفقر بريء تماما. لماذا إذن مصرنا قذرة؟ عوامل كثيرة تضافرت، سوف أسعى إلى أن أوجزها بشكل متتالٍ، وسوف أفرد لكل عامل بعضاً من أجنحته: أولا: هناك بالتأكيد الخلل في العلاقة بين الخاص والعام في الوعي المصري. الكراهية التاريخية العميقة تجاه الدولة - النظام (في معظم فترات تاريخنا وبالتأكيد في هذه المرحلة التي نعيشها)، وعلاقتها بالتعامل السيئ للمواطن مع الفضاء العام (هي فلوسنا؟! - هي بتاعتنا؟!). فحالة التمرد العام على النظام أثرت وتؤثر بالسلب في علاقتنا مع المساحة العامة. هناك قول مصري شائع يتعلق بفهمنا للحيز الخاص والعام: فنحن دائما نقول إن منازلنا من الداخل نظيفة، ولكن أمام باب شقتنا هناك تل من القمامة. السلم في حال يرثى له. أمام باب المبنى الذي نقيم فيه أكوام من الطوب والزلط، ولكن لا أحد يهتم طالما أننا نعتني بفضائنا الخاص وهو داخل الشقة التي نعيش فيها. نجد واجهة عمارة جميلة وفي جزء من جدارها نتوء يشوّه المنظر لنافذة أو شرفة مخالفة أبدعها ونفّذها أحد السكان. لا يهم أنها تؤذي الفضاء العام ولا تخصّ الفضاء الخاص. والأمثلة في هذا المجال لا حصر لها. ثانيا: التربية والنشأة داخل العائلة وعلاقتها بقيمة النظافة في قائمة القيم المنقولة للنشء؛ فالتربية داخل العائلة المصرية لا تضع النظافة في مكانة أساسية داخل منظومة القيم الخاصة التي يتم غرسها في الأبناء. فالنظافة في العموم هي مسئولية الأم أو الخادمة في العائلات الثرية، وهذه المسئولية إذا تم نقلها إلى الأبناء فيتم هذا الأمر كعقاب أو بالإكراه. الأمر الذي يجعل في النهاية علاقة النشء بتحقيق النظافة علاقة إما منعدمة أو علاقة كراهية أصيلة. وبالتالي فيتم تربية أبنائنا على الفوضى من ناحية أو التبعية المطلقة فيما يتعلق بالنظافة والاعتماد على طرف آخر من ناحية أخرى. وتأتي النظافة في ذيل قائمة القيم التي يتلقاها الطفل. وما أقصد للتوضيح بجملة "ما يتلقاه الطفل" هو جملة ما يحصل عليه من إشارات رمزية معقدة، وإحالات تربوية تشكل نسقه العام، وليس ما أقصده بالتأكيد ترديد الأهل أو المدرسة لشعارات جوفاء مثل "مدرستك نظيفة" وغيرها من شعارات تدعو للرثاء. فالنشء يتشكّل ذهنه وضميره عن طريق تركيب آلاف الإشارات التي تأتي إليه من الفعل المجتمعي الواقعي المحيط به. ثالثا: عدم وجود رابط في وعي المصري بالعلاقة البديهية بين القذارة العامة والصحة. والعلاقة بين نظافة البيئة الخاصة من ناحية وبيئة الشارع والحي والمدينة والبيئة العالمية من ناحية أخرى. فنجد في الشارع المصري باعة يعرضون منتجات غذائية وهي معرضة للتلوث وللحشرات. وكأنه أمر عادي جدا. يتم استخدام الأكياس البلاستيكية لحمل منتجات غذائية ساخنة كالفول أو الطعمية أو الخبز دون الاهتمام بالتفاعل الكيميائي شديد الضرر بين الغذاء وبين البلاستيك الرديء الصنع. كما أنه لا علاقة في ذهن المصري بين الممارسات اليومية التي تؤدي إلى إتلاف نظافة المشهد العام في أسيوط مثلا وصحة من يقيم في بني سويف. أو بين من يرمي بمخلفات مصنعه في النيل وبين صحة ابنته. أو بين القذارة في الحي الذي نقيم فيه وبين تجمعات عائلات محترمة من الفئران والذباب ومدى تأثيرها على صحتنا. والأمثلة في هذا المجال لا حصر لها. وأستكمل الموضوع في الأسبوع المقبل. اليوم السابع بتاريخ 16 مايو 2010