سياسات النزاع: عندما تذكر كلمة نزاع.. فإن هذا يعني أنه يوجد طرفان أو أكثر لهذا النزاع.. ولحل أي نزاع يجب أن يتم الوصول لحل يرضي جميع أطراف النزاع.. والحل (Solution) يختلف عن التسكين (Mitigation) ويختلف عن التكيف (Adaptation). والثلاث مصطلحات السابقة هي ثلاثة أنواع مختلفة من السياسات المتبعة لحل أي موقف سياسي في العالم, يتم اتّباعها بترتيبها في حالة فشل أحدها يأتي الآخر... وهكذا، ومشكلة أي نزاع في العالم أن كل طرف يعتبر منظوره هو المنظور الأوحد للمشكلة، ولا يمكن أن تحل أي مشكلة إلا بأخذ الآخر في الاعتبار. مشكلة المياه ليست حديثة، بل هي مشكلة قديمة تم تسكينها, ومشكلة سياسات التسكين أنها لا تعني انتهاء المشكلة بل تعني تأجيلها إلى حين؛ مثل عدم استذكارك لامتحان آخر العام, فالامتحان موجود لكنك قمت بتأجيل استذكارك لفترة من الزمن مما يزيد من احتمالات )الكحكة(! وتعني في هذه الحالة الفشل في حل المشكلة. ولحل أي مشكلة فنحن نحتاج لتفكير ثلاثي الأبعاد لا يقسّم المشكلة لطرف شرير وطرف طيب, فنظرية (كرعون وسلاحف النينجا) لا مكان لها بعالم الواقع. فماذا نريد؟ وماذا يريد الآخر؟ لنجيب على هذا يجب معرفة وجهة نظر الآخر ووجهة نظرنا, قبل أن تبدأ المشكلة بفترة وجيزة كنت قد بدأت أشعر بالقلق بعدما اشتركت في حوار مطول مع مجموعة من زملائي بالجامعة التي أدرس بها بكندا، وهم مجموعة من الطلاب الأفارقة الممولين من منظمات دولية لعمل أبحاث عن توزيع المياه بإفريقيا.. ووجهة نظر دول المنبع -وبخاصة إثيوبيا- أن هناك فاقداً من الماء يقدر بحوالي 12-15% يمكن توفيره إذا ما تم بناء سد بإثيوبيا لتخزين هذه المياه -على غرار السد العالي- ليتم استخدام هذه المياه لتوليد الكهرباء وفي تنمية الأراضي وغيرها من الأغراض التنموية, كان ما أقلقني ما يمتلكونه من منطق ليس به بأس عملياً أو علمياً، وكان ردي -الذي صدمهم أيضاً- أن كل ما يقولونه لا يمكن أن نقبله؛ لأن حكوماتهم غير مستقرة، وفي أي لحظة قد يأتي انقلاب ما بشخص ما ذي غرض ما لا يعلمه إلا الله، ليغير تلك الأهداف السلمية إلى أهداف تحكمية فمعنى أن تقوم أي دولة من دول المنبع ببناء سد أنها تحكمت في مجرى النهر.. وإن تحكمت في نهر النيل فقد تحكمت في أمن وأمان 80 مليون مصري، وذلك ليس بالمقبول.. ولأنهم باحثون محترفون لم يوجد مكان للعواطف في تقيمهم لما أقول وما كان منهم إلا أن قاموا بضمّ مشكلة الأمن المائي لمصر كبُعد من أبعاد الدراسة كما عرفت فيما بعد. وكما فهمت فيما بعد فإن مصر يتم إظهارها في صورة الجانب الشرير المسيطر، والذي لا يسمح للدول الإفريقية الفقيرة بالتنمية؛ وذلك عن طريق الترهيب بالقوة العسكرية، مما جعلني أنزعج من التلويح الأخرق بإمكانية الحرب من أجل المياه، والذي ينمّ عن سذاجة سياسية غير عادية؛ فإن لم تكن قوة عظمى -ولسنا كذلك للأسف- فسياستك محورها يجب أن يكون كسب تأييد وتعاطف العالم، وليس تأكيد مزاعم الآخرين بأنك الطرف المستبد, على أي حال عرفت فيما بعد أن ذلك سيتم تعديله إلى اقتراح تضامني بين مصر وإثيوبيا بأن تقوم مصر ببناء السد بنفسها في مقابل أن يكون لمصر حق الإشراف عليه، وأن تساعد مصر الدول الإفريقية بما تملكه من تكنولوجيا وموارد بشرية في التنمية بدلا من اعتماد الدول الإفريقية على دول مثل الصين والتي بالتأكيد أكثر تكلفة.. ولا تتعجب فبلدك بالنسبة للأفارقة هي الولاياتالمتحدة بالنسبة للعالم الغربي. وهو اقتراح لا بأس به، ولكنه يحتاج لدراسة متعمقة لست في موقع يمكنني من الحكم عليه تماما.. مرت أسابيع معدودة بعد هذا الحوار وظهرت مشكلة اتفاقية المياه مما أكد لي أنه توجد علاقة أكيدة بين تلك الدراسات الدولية وموقف دول المنبع؛ فهم لا يتحركون وحدهم بل يلقون تأييداً عالمياً وإن لم يكن ظاهراً الآن، ولكنه بالتأكيد سيظهر في حالة التهديد المصري العسكري لدول المنبع, ورأيي المتواضع أنه لا بديل عن الخيار السياسي, والدول الإفريقية من الممكن أن نكسبها في صفنا سياسياً بدلا من أن نخسر العالم كله.
افتراض أن الدول الإفريقية تتحجج بحجج واهية وغرضهم إيذاء مصر بإيعاز إسرائيلي ليس صحيحاً، فحججهم ليست واهية من واقع دراستي، ومعرفتي فإن منطقهم صلب وإن كان ما يحدث بإيعاز إسرائيلي فإن فشلنا في إدارة الأزمة -لا قدر الله- فعلينا لوم أنفسنا وليس إسرائيل. ختاما قال لي صديقي محمد البرقوقي طالب الدكتوراه: "عارف لو السد ده اتبنى صاروخ مجهول الهوية زي ما إسرائيل بتعمل ونجيبه الأرض". قلت له: "إحنا مش اسرائيل.. المجتمع الدولي مش هيدينا فيتو". ضحك قائلا: "يا عم ده فيه شالوم دلوقتي، ده ممكن الصاروخ يطلع من إسرائيل". أدعو الله أن يوفق مصر وسياسيي مصر في حل هذه المشكلة ودياً، اللهم وفقهم وارحمنا واعف عنا.. آمين يا رب.