لقد انتشر استخدام العنف من قِبَل بعض الجماعات المسلّحة في العديد من البلدان مثل مصر والجزائر وغيرها؛ استناداً لفهم خاطئ من قبل هذه الجماعات لقضايا الشرع. فهم يرون أن هؤلاء الحكام كفرة لا يحكمون بما أنزل الله، كما أنهم يوالون الكفار مثل الدول الغربية والولايات المتحدة وغيرها، والله عز وجل يقول {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ] [المائدة 51].
كما أن بعضهم ينظرون إلى الأقليات غير المسلمة على اعتبار أنهم نقضوا العهد بعدم أدائهم للجزية، وكذلك يستحلّون حرمة السياح؛ لأن بلادهم معادية للإسلام، ومن ثم فهم يستخدمون القوة المسلحة -تحديداًَ- لمواجهة كل هؤلاء على اعتبار أن التغيير باليد هو أحد وسائل تغيير المنكر.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن بعض هذه الجماعات -مثل الجماعة الإسلامية- شرعت في عملية مراجعات فكرية شرعية لهذه الأفكار التي لم تؤدّ سوى إلى فشلهم في تحقيق أهدافهم؛ فضلاً عن تعرّض معظم أتباعهم إما إلى القتل أو السجن.
الكفر نوعان: أصغر وأكبر هناك سؤال يثار دائماً هل حكام المسلمين كفرة؟
إن الحديث في هذا الموضوع الشائك يتطلب منا أولاً الإجابة عن السؤال التالي: هل الحكام المسلمون الذين لا يطبّقون الشريعة الإسلامية ولا يحكمون بما أنزل الله كفرة؟ أم هم عصاة فَسَقة فقط؟ ثم هل يتطلب الأمر الخروج عليهم بالسلاح؟
الدكتور القرضاوي في كتابه "فقه الجهاد" يوضّح هذا الأمر بقوله: إن رأي الخوارج الذين كفّروا سيدنا علياً، وخرجوا عليه لعدم الثأر من قتلة سيدنا عثمان، ومن يؤيدهم من هذه الجماعات حديثاً، يقولون: إن هؤلاء الحكام كفرة كفراً يُخرِجهم من الملة استناداً لظاهر النصوص من قوله تعالى {ومَنْ لم يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأولَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ} [المائدة 44].
وهذا هو تفكيرهم في تكفير مرتكب الكبيرة كذلك، وبالطبع عدم تطبيق الشريعة من أعظم الكبائر.
أما رأي أهل السنة؛ فهو أن الكفر نوعان: الكفر الأصغر: وهو كفر المعصية. والكفر الأكبر: وهو كفر العقيدة.
فهؤلاء الحكام يؤمنون بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً ورسولاً؛ ولكنهم غلبت عليهم شهواتهم وضعف أنفسهم وحبهم للدنيا؛ فتركوا كثيراً مما أنزل الله، اتّباعاً للهوى أو إرضاء للغرب، أو غير ذلك؛ فشأن هؤلاء شأن المسلم الزاني أو شارب الخمر؛ فهو فاسق عند أهل السنة؛ لكنه ليس بكافرٍ الكفرَ الذي يخرجه من الملة.
وكذلك مَثَله مَثَل الذي يحكم بغير ما أنزل الله ما لم يصرّح بما يدل على كفره دلالة بيّنة واضحة كأن يقول: إن شريعة الإسلام لا تصلح لهذا العصر، وأن قوانين الغرب أصلح منها للبشر؛ خاصة وأن هؤلاء الحكام يقولون: إننا متمسكون بأن دين الدولة هو الإسلام، وأننا نقيم الصلوات ونبني المساجد وغيرها من شعائر الدين، وبعض هؤلاء الحكام يعتذرون بعدم تطبيق الشريعة بأنهم ضعفاء أمام قوة الغرب والولايات المتحدة الذين لا يريدون لنا الحكم بالإسلام؛ فالحقيقة أننا لسنا أحراراً في بلادنا كما ينبغي..
كل هذه الاعتبارات التي يسوقها هؤلاء الحكام تجعلنا -والكلام للقرضاوي- نتثّبت ونتحرى في قضية الاتهام بالتكفير.. والخطأ في تبرئة مائة كافر من تهمة الكفر أهون وأفضل من سفك دم مسلم واحد بتهمة الكفر بغير ذنب؛ فقد قال الغزالي "والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك مَحْجَمة من دم مسلم".
كذلك نوعان من الحكام ويضيف القرضاوي بأننا أمام نوعين من الحكام المسلمين: الأول: هو الذي يعترف بالإسلام ديناً للدولة وبالشريعة مصدراً للقوانين؛ لكنه مفّرط في تطبيقها؛ فأهل السنة وجمهور المسلمين يعتبرونه مسلماً عاصياً غير خارج عن الملة ما لم يستحلّ محرماً أو ينكر معلوماً من الدين بالضرورة -كأن يقول بأن الحجاب ليس فرضاً أو الصلاة- ومعظم الحكام من هذا النوع.
الثاني: هو العلماني المتطرف الذي يجاهر بالعداوة للشريعة ويسخر منها ويعتبرها مناقضة للحضارة والتقدم، وقليل من الحكام ينتمون لهذا النوع، وهؤلاء هم الذين يجب مقاومتهم والخروج عليهم.
ولكن كل هذا مقيّد بحدود القدرة والإمكان؛ فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وكثيراً ما يؤدي استعمال القوة في غير موضعها إلى كوارث كبيرة ربما أعاقت العودة إلى الشريعة لفترة قد تطول أو تقصر؛ لذا فالأوْلى بالمسلمين هنا في هذه الحالة أن يتفقوا على آليات سلمية للتغيير، ويستفيدوا مما وصل إليه العالم عن طريق الوسائل الديمقراطية في التغيير، أو أي طريقة أخرى لا تترتب عليها فتنة في الأرض وفساد كبير.
للتغيير بالقوة شروط يوضّح القرضاوي نقطة في غاية الأهمية لا يفقهها الكثير من الجماعات الإسلامية المسلحة، وهي تلك المتعلقة بشروط تغيير المنكر الذي يقوم به الحاكم أو الحكومة بالقوة.
أولاً: أن يكون هذا المنكر محلّ إجماع من قِبَل الفقهاء على حرمته؛ بحيث لو أجمع على حرمته الفقهاء الأربعة المشهورون -أو حتى الثمانية- وخالفه غيرهم أو حتى عالم واحد من أهل الاجتهاد؛ فلا يعد منكراً تجب إزالته بالقوة، وهناك قاعدة فقهية متّفق عليها وهي "لا إنكار في المسائل الاجتهادية والخلافية".
لذا فإذا اختلف الفقهاء مثلاً في حكم التصوير أو الغناء باستخدام آلة موسيقية؛ فلا يجوز لفئة أن تحمل الآخرين بالقوة على اتباع مذهبها.
ثانياً: أن يكون هذا المنكر المرتكَب واضحاً ظاهراً.
ثالثاً: وهو يعد من أهم الشروط، هو القدرة الفعلية على التغيير.. وبالطبع من أراد مواجهة الحاكم والحكومة؛ فلا بد أن يملك القدرة على ذلك.
لكن السؤال هو: من الذي يملك القدرة على التغيير في هذه الحالة؟ هناك ثلاث قوى في المجتمع أو الدولة قادرة على ذلك: أولها: القوات المسلحة التي يستند إليها الكثير من الحكام في الوصول إلى الحكم عبر الانقلابات العسكرية أو البقاء في الحكم؛ فمن كانت لديه القدرة على تحريك القوات المسلحة لتحقيق مطالب الشعب ومقاصد الشرع دون أن يخشى وقوع فتنة لا تُعرف عواقبها؛ فعليه أن يفعل؛ وإلا فلا.. خاصة إذا كانت الدولة هي المسيطرة على هذه القوات؛ فيمكن أن تقهر بها المعارضة كما حدث في الجزائر والصين في مواجهة الطلبة المحتجّين في ميدان السلام السماوي وغير ذلك.
ثانيها: المجلس النيابي الذي يملك السلطة التشريعية والذي يملك إصدار القوانين التي تزيل المنكر؛ فضلاً عن القدرة على محاسبة الحكومة وعزلها، والوصول إلى البرلمان لا يتم إلا من خلال الانتخابات، ومن ثم فإن المشاركة فيها واجبة وفق قاعدة "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
الثالثة: قوة الجماهير الشعبية والتي لا يستطيع أحد أن يقف أمامها حتى القوات المسلحة ذاتها؛ لأنها في النهاية جزء منها، وهذا ما حدث مع ثورة الخميني في إيران؛ فلم يكن معه إلا قوة الجماهير التي كانت أقوى من الجيش وأسلحته.
ومن لم يملك إحدى هذه القوى الثلاثة؛ فما عليه إلا الصبر حتى يملكها أو يملك إحداها، وعليه حينئذ أن يغيّر المنكر باللسان والقلم والدعوة، ولا يجب عليه أن يعرّض نفسه لما لا يقدر عليه من أذى السلطان؛ فقد قال الإمام أحمد "لا تعرض للسلطان فإن سيفه مسلول".
رابعها: وهو هام للغاية، ألا يترتب على إزالة المنكر بالقوة حدوث منكر أكبر أو فتنة في المجتمع؛ بمعنى ألا تؤدي هذه المواجهة المسلحة لوقوع فتنة تسفك فيها دماء الأبرياء وتنتهك الحرمات وتنتهب الأموال، ويزول الأمن وتنتشر الفوضى، وتكون العاقبة أن يزداد المنكر تمكناً ويزداد المتجبرون تجبراً وفساداً في الأرض.
وفي النهاية يبقي سؤال نطرحه بعد هذا العرض الرائع للقرضاوي، هل توافرت هذه الشروط الأربعة السابقة للجماعات الإسلامية المسلحة؛ خاصة الشرطين الثالث والرابع؟
بالطبع لا..
بل على العكس كانت النتيجة تعرّض أعضاء هذه الجماعات وأُسرهم للقتل والاعتقال والتضييق، وكُره المجتمع لهم؛ فهل يعود هؤلاء إلى المجتمع ثانية ويعملون على تغيير المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة وعبر الوسائل السلمية بما فيها الوسائل الديمقراطية، أم لايزالون يكفرون بالديمقراطية على اعتبار أن مصدرها بلاد الغرب الكفار؟؟
واقرأ أيضاً الجهاد السلميّ في ظل سلطان جائر (9) هل تجاهد المرأة مثل الرجل؟ (8) مع القرضاوي: انتشار الإسلام بالسيف.. قول مردود عليه (7) مع القرضاوي: هل لازم نجاهد في فلسطين؟ (6) مع القرضاوي: هل يجب الجهاد مرة كل سنة؟ (5) مع القرضاوي: الجهاد بالنفس من أجل أرض فلسطين (4) مع القرضاوي: رسالة للفنانات المحجبات.. الاعتزال ليس الحل (3) مع القرضاوي.. الجهاد ولا التربية.. ربّي نفسك أولاً (2) في معنى الجهاد.. جاهد نفسك قبل مجاهدة عدوك