تخرج علينا وسائل الإعلام بين الحين والآخر بحوادث وجرائم يقوم بها "الهنجرانية"؛ ولكن الشيء اللافت هو أن أغلب المُتّهمين من الفتيات والسيدات، وجرائمهن متعلقة بالسرقة والنشل؛ لذلك قرّرت أن أعرف السر في ذلك، باختراق عالم "الهنجرانية" بكل مخاطره. تَطلّب الأمر في البداية البحث عنهم؛ فوجدتهم يتركّزون بمناطق (المطرية والزيتون والإمام الشافعي والبساتين وغيرها).. اتجهت إلى هذه المناطق أكثر من مرة دون الحصول على أي شيء؛ لأن الهنجرانية منغلقون على أنفسهم. وفي إحدى المحاولات أثناء جلوسي على أحد المقاهي الشعبية بمنطقة الإمام الشافعي المجاورة للمقابر، تحدّثت مع أحد الزبائن عن كيفية الوصول إلى الهنجرانية؛ فأشار إلى رجال من الجالسين بالمقهى، وقال إنه من "الهنجرانية"، وأن زوجته من نفس القبيلة. السرقة شرف عند الهنجرانية! اقتربت من هذا الرجل الذي يدعى سعدون (اسمه الحركي)، في البداية تردّدت في الحديث معه؛ لكنني فوجئت أنه يتكلم معي دون تحفُّظ معلَن قائلاً: "إن العمل بالسرقة شرف كبير من وجهة نظر الهنجرانية، والفتاة التي لا تجيد ذلك لا تستحق العيش بيننا". وبعد ذلك وافق سعدون على إجراء حديث معه ومع زوجته؛ بشرط حصوله على مبلغ من المال مقابل ذلك، ولم أجد سبيلاً غير ذلك؛ خاصة مع صعوبة الدخول إلى عالم "الهنجرانية" دون أن يصطحبني أحد منهم.
اتجهت مع سعدون إلى منزله، الذي وجدته عبارة عن عشة صغيرة وسط عدد من العشش والبيوت البسيطة بالمنطقة، وهناك التقيت بزوجته، التي كانت عائدة من عملها وعرّفتني بنفسها باسمها الحركي (أم حسن) وقالت: نفتخر بأننا من "الهنجرانية"، ومن هم ليسوا من قبيلتنا نطلق عليهم "فلاحين"، فهم أقلّ منا ذكاء، ولا يجوز أن يتعلموا مهنتنا (النشل والسرقة) التي نتوارثها منذ قديم الأزل ونعتبرها مهنة شريفة، ولا نجد فيها أي عيب، وما نعتبره عيباً هو أن تعمل الفتاة في الدعارة أو تجارة المخدرات، ونحرص على أداء الصلوات وصيام شهر رمضان". الهنجرانية يقيمون الاحتفالات عند ولادة الأنثى لأن البنت تجني الأموال من النشل الإعدام مصير الفتاة التي ترفض العمل بالنشل! وأضافت فتاة أخرى من الهنجرانيات تدعى "غزالة" أن أصولهم من الهند، وأنهم كانوا يعيشون جميعاً في مكان واحد في شكل قبيلة، وبمرور الزمن توزّعوا في تجمّعات صغيرة بين الأحياء والمناطق المختلفة؛ ولكن علاقات المودة مازالت قائمة بينهم تقوّيها علاقات المُصاهرة؛ فهم لا يتزوّجون سوى من بعضهم البعض. وقالت "غزالة": نُقيم الاحتفالات الكبرى عند ولادة الأنثى؛ لأننا نعتبر البنت ثروة فهي تجني الأموال من النشل، أما الولد فكل دوره هو مساعدة الفتاة بشكل بسيط جداً في عملها؛ فقد يكون دوره المراقبة أو الاستطلاع أو قيادة السيارات التي تستخدم في عمليات السرقة، والفتاة التي ترفض العمل في النشل أو السرقة تكون منبوذة، وقد يُحكم عليها بالقتل من أهل القبيلة، وهذا مايحدث أيضاً معها إذا أصرّت على الزواج من خارج القبيلة. وأوضحت: لا نلحق أولادنا بالمدارس لأنها بلا فائدة؛ ولكن فقط تتعلم الفتاة أو الطفلة النشل بمجرد بلوغها سن العشر سنوات من خلال مرافقتها لأمها إلى الأسواق والمناطق المزدحمة أثناء عملها في النشل، وتكون البداية بتعليم الطفلة نشل بعض الفاكهة من السوق، ثم بعد ذلك تبدأ مرحلة التدريب على سرقة النقود، وبعدها سرقة الذهب؛ علاوة على الجانب النظري الذي تتعلمه الطفلة من فتيات وسيدات القبيلة للإلمام بكل فنون السرقة والنشل، ولذلك يرتفع سعر مهر العروسة ويزيد الإقبال على الزواج منها كلما أظهرت كفاءة في عملها بالنشل. والهنجرانيات يسرقن أي شيء؛ ولكن التي تعتبر ذات كفاءة عالية هي تلك المتخصصة في سرقة المصوغات الذهبية من أيدي الضحايا في المواصلات العامة بطريقة القص بآلة حادة مصنوعة خصيصاً لهذا الغرض -حسب قولها. كما تشكّل الهنجرانيات فيما بينهن عصابات لسرقة محلات الذهب، ويتم التخطيط لها في وجود شيخ القبيلة الذي يحدد الاختصاص حسب المهارة، ويباشر تنفيذ الخطة حتى عودة المنفّذات بسلامة. السرقة والنشل في فصل الصيف وموسم الحج! عندما أردت الإلمام بتفاصيل أكثر عن هذا العالم الغريب، ذهبت إلى شيخ القبيلة واسمه الحركي عند الهنجرانية "الأسد"، وهو رجل في السبعين من عمره يقيم بمنطقة المطرية.. اصطحبني إليه سعدون حتى يطمئن للحديث معي، وبدأ يكشف لي المزيد من الأسرار. وقال: "الهنجرانية" ينتشرون في معظم الدول العربية خاصة في سوريا والأردن، ومنهم من يحضر إلى مصر للسرقة والنشل على شواطئ المدن الساحلية، التي تكون مزدحمة بالمصطافين، وقد يذهب عدد منهم إلى السعودية في مواسم الحج للنشل. للهنجرانية لغة خاصة بهم مثل الشفرة لهم لغة خاصة بهم! كما أشار إلى أن لهم لغة خاصة بهم مثل الشفرة؛ فمثلاً كلمة "لاموها" تعني حكومة، و"لامو" تعني ضابط، و"شبلة" تعني ذهب, وكلمة "وادو" تعني أموال و"مزنارة" تعني ساعة وغيرها من الرموز التي يستخدمونها في عملهم حتى لا يفهمها غيرهم. وهناك فرق بين النشّالة الهنجرانية والأخرى الفلاحة؛ فالفلاحة لا تجيد السرقة سوى في الأماكن المزدحمة وتكون مرتبكة؛ بينما الهنجرانية تسرق في أي مكان إذا لاحت لها الفرصة، وتكون أسرع وأكثر اتزاناً واحترافاً، والهنجرانية لا تسرق الأعمى أو الأخرس؛ لأن إحساسهما بأجسادهما يكون أعلى من غيرهما، وبالتالي قد يكشفان أمرها. النشل بالحيوانات وبالحكايات! طرق النشل تختلف حسب القبيلة؛ فقبيلة "الخيش" تحترف النشل عن طريق التسول؛ حيث ترتدي الفتاة الملابس الرثّة وتستوقف أي شخص بالشارع لتحدّثه عن مرض زوجها ومعاناتها في تربية الأبناء، وغالباً ما تكون بجوارها إحدى بناتها لتقوم بنشل الزبون لحظة انشغاله بسماع تفاصيل حكايتها، أما قبيلة "السوالم"؛ فهم يسرقون باستخدام الحيوانات خاصة القرود، وتتركز أماكن نشاطهم في الضواحي والأقاليم؛ مستغلّين سذاجة بعض الأهالي، وهناك نوع من الهنجرانيات يقع نطاق عملهن بالمطارات ويتخصصن في نشل حقائب المسافرين. ويستطرد "الأسد" (شيخ القبيلة): من أشهر سيدات عائلات القبيلة خبرة في النشل: حكمت، وتحية، وقدارة، وأم صدقي، وتعد الأخيرة "معلّمة" كبيرة؛ فبالرغم من كبر سنها؛ إلا أنها تتولى متابعة شئون من يتم القبض عليهن من النشالات، وتذهب وراءهن إلى أقسام الشرطة والمحاكم، وتوفّر لهن الطعام والمال والمحامين. الهنجرانية بكل حال من الأحوال يرتكبون جرائم في حق المجتمع؛ لكن المشكلة أنهم لا يعرفون أن ما يقومون به شيء غير مقبول؛ بل إن معتقداتهم ترسّخت على أن السرقة شرف والنشل مهارة يتفاخرون بها. وتبقى المشكلة موجودة ومستمرة رغم الملاحقات الأمنية؛ طالما أغفلنا حل المشكلة من الجذور، بالتوغل بين هذه الفئة ومحاولة دمجهم وتأهيلهم قبل أن يتحولوا إلى قنابل موقوتة تهدد استقرار المجتمع.