فرد ذراعيه النحيلتين وتثاءب بعمق. طوال عمره المديد كان يحب التثاؤب.. يشعر دائما بمتعة شديدة وهو يتثاءب بكسل ممتدا على فراشه الواهن.. يرى أن التثاؤب إحدى متع الحياة التى لا يستطيع أحد حرمانه منها! نهض ببطء شديد.. عبث فى لحيته القطنية بأصابعه العجوزة.. أعد إفطاره البسيط ثم تناوله.. ارتدى ملابسه ثم توجه خارجا من كوخه العتيق.. مشى نحو نهر ال"بانتير".. البانتير هو نهره المفضل.. هناك الكثير من الأنهار الأخرى كال"شاكوف" وال"ريبون" وال"ملتاجو".. كلهم أنهار ساحرة فعلا ولكنه يعشق البانتير.. هناك على ضفافه قضى أكثر أيام حياته حميمية.. هناك تصارع مع أصدقاء شبابه لينالوا إعجاب الفتيات. هناك رأى حبيبة عمره "لاروجى" لأول مرة.. هناك ابتسم لها وبادلته الابتسام. هناك ودع لاروجى عندما أخبرته باضطرارها الزواج من "لوستكوفنى" تاجر النبيذ لأن أباها يريده.. هناك ضحك وتوتر وصاح وبكى.. وهناك يجلس دائما " ساشينت ".. ساشينت العجوز الذى يشبهه كثيرا.. نفس العيون المتعبة والنظرات الملولة.. نفس الجسد الممصوص والشعر الأشيب.. نفس اللحية القطنية والصوت الهادىء.. ساشينت الذى ينتظره دائما عند البانتير.. يجلسان نفس الجلسة ليتحدثا طوال اليوم محدقين فى مياه البانتير الصافية.. يحكيان ذكرياتهما.. يغنيان ل " عرلوباك " مطربهما المفضل.. يبتسمان وتدمع أعينهما.. ثم يأتى الليل معلنا لحظة رحيل كل منهما إلى كوخه. وصل إلى البانتير.. ها هو ساشينت جالس مادا قدميه فى المياه.. بالتأكيد شعر به ولكنه لم يلتفت.. من ينظر إلى مياه البانتير لا يمكنه الالتفات عنها أبدا.. - أتساءل متى سيأتى اليوم الذى آتى فيه إلى البانتير ولا أجدك يا ساشينت! قالها له مازحا.. لينظر له ساشينت ويبتسم بخبث محبب قائلا: - عندما ينضب البانتير وتجف مياهه.. وقتها لن تجد ساشينت أبدا! ضحك كثيرا ثم جذب ساشينت من لحيته قائلا: - أيها العجوز المتصاب.. لا أفهم بالضبط لماذا ضل ملك الموت طريقك كل هذا الوقت!.. يكفيه فقط أن يقوده مزاجه لبضع لحظات من الرومانسية هنا عند البانتير ليراك.. وقتها لن يضيره أبدا قبض روحك على سبيل التسلية وتزجية الوقت! - لن تصدقنى إذا قلت لك أنه كان هنا منذ أيام ورآنى وابتسم لى!.. صدقنى هو غير قادر على إيذائى. المشكلة الحقيقية تكمن فيك أنت يا صديقي. مد يده ليتحسس جبهة ساشينت ثم قال: يبدو أن الشيخوخة بدأت تسيطر عليك فعلا يا ساشينت. لقد أصبحت تهذى يا رجل! لوح ساشينت بيده فى عدم اكتراث.. ثم أمسك بقبضته بعض التراب وقذفه بحدة فى المياه. مرت دقيقة ثقيلة من الصمت وساشينت منهمك فى التقاط التراب والقاءه فى المياه حتى استوقفه وأمسك ذراعه بعصبية: - يكفى ذلك يا ساشينت.. يكفى تماما.. لقد ألقيت أتربة بما فيه الكفاية. لقد تعكر النهر كثيرا.. كفى! - اعذرنى يا صديقي.. ولكنك تعرف جيدا أننى مضطر.. ظننتك اعتدت ذلك ولكنك تثبت لى يوما بعد يوم أنك لا زلت طفلا! - سامحنى يا ساشينت.. أنت تعرفنى جيدا.. تعرف أننى أتفهم ما يحدث ولا أملك الاعتراض.. ولكننى أتألم يا ساشينت.. أعتقد أن حقى فى التألم هو حق مشروع تماما! - حسنا.. تألم كما يحلو لك.. ولكن بهدوء من فضلك! نظر لساشينت بعتاب ثم نظر إلى مياه البانتير التى تعكرت لتوها.. كم أنت قاسى يا ساشينت! نظر ساشينت إلى وجهه العابس وابتسم.. ربت على كتفه فى رفق ثم هزه بمرح وقال له: كم اشتقت لأغنية عرلوباك القديمة "لن أبق وحدى أبدا".. منذ زمن لم أسمعها.. ما رأيك؟ أندندنها سويا؟ ابتسم ابتسامة عريضة ثم نظر له بفرحة طفولية قائلا: أحقا تعنى ما تقول؟! ستغنيها معى الآن؟! هز ساشينت رأسه مؤكدا.. ثم بدأ صوتاهما يعلوان بكلمات الأغنية.. "حتى لو اختفت كل الشهب من السماء.. حتى لو انفجرت كل النجوم لينتشر اللهيب.. حتى لو قرر اللهيب نفسه أن يتلاشى.. حتى لو تخلت عنى كل الموجودات.. وتركتنى حاملا عجزى على كتفى.. لن أبق وحدى أبدا! ". اتسعت ابتسامته وشعر بنشوة غامضة تسرى فى كيانه.. ثم واصل الغناء مع ساشينت.. "كثيرا ما تعاملنى حياتى بقسوة.. كثيرا ما أشعر أنها تكرهنى حقا.. ولكننى لن أكرهها.. لن أشبع لها رغبتها بهذه البساطة.. سأجبرها أن تحبنى.. نعم أستطيع ذلك.. سأحبها بعنف.. سأعشقها بغضب.. فقط كى أنتصر عليها.. ولا أبقى وحدى أبدا" ارتفع صوت ضحكاته ودمعت عيناه. كاد يطير من الفرحة عندما رأى ساشينت يلتقط بعض الأزهار عطرة الرائحة من حوله ثم يلقيها فى مياه البانتير وهو يواصل الغناء.. "فى النهاية.. يكفيني أننى دائما معى وحتى لو حدث يوما ولم أعد أتحمل الحياة معى سأحاول أن أحبنى أكثر.. لأجبرنى أنا الآخر على حبى.. ولا أبق وحدى أبدا". شعر بسعادة غامرة تجتاح جنبات روحه وهو ينظر إلى مياه البانتير التى زينتها الورود. نظر إلى ساشينت بامتنان كبير. ثم نهض عندما وجد الشمس موشكة على الاختفاء بشكل كامل. ودع ساشينت ووعده باللقاء غدا. سار بخطوات هادئة نحو كوخه وهو لا يزال يردد الأغنية. ثم بدأت الذكريات تعصف برأسه الأشيب. تذكر كيف تركه كل من حوله بعدما أصبح طاعنا فى السن. تذكر كيف كانوا يعاملونه بقسوة وازدراء. تذكر كيف كانوا يسخرون منه ويعتبرونه شيخا مخرفا. تذكر كيف قلت زياراتهم له يوما بعد يوم حتى تركوه تماما ليذوب كل منهم فى حياته وينسوه بشكل كامل..
تذكر كيف بدأ ساشينت يظهر فى حياته فجأة. ثم يصبح أهم أسباب بقاءها! هو يعرف جيدا الحقيقة.. يعرف جيدا أن ساشينت لا وجود له سوى فى خياله!.. ساشينت بالفعل مجرد فكرة داخل رأسه.. ولكنه حقيقي تماما كالبانتير.. ساشينت حقيقي أكثر من أصدقاءه الذين تركوه وحيدا.. حقيقي أكثر من أبناءه الذين اقتلعوه من حياتهم.. حقيقي أكثر من كل من عرفهم فى حياته من ذوى اللحم والدم.. ساشينت كان حقيقيا فى كل كلمة قالها.. كان حقيقيا فى كل تصرف فعله.. كان حقيقيا عندما عكر البانتير بالتراب.. كان حقيقيا عندما زين البانتير بالورود.. كان حقيقيا عندما غنى وضحك وبكى معه.. ساشينت.. فكرته التى ستبقى طالما بقى البانتير.. فكرته التى انتصرت على كل من تركه حاملا عجزه على كتفيه.. فكرته التى هزمت اختفاء الشهب وانفجار النجوم وتلاشى اللهيب. ساشينت الذى سيبقى دائما عند البانتير.. سيجده هناك طالما أراد ذلك.. فقط لأنه قرر ألا يبقى وحده أبدا!
أسامة أمين ناصف التعليق قصة ممتازة، رائع يا أسامة هذا السرد الهادئ الرصين المحبوك. وهذا الاستخدام الرمزي للعلاقة بين النهر والصديق والأغنية، والرواي نفسه، تداخل مركب وجميل. لذلك لا يجوز لكاتب يكتب مثل هذا النص أن يخطئ أكثر من عشرة أخطاء لغوية. مشتاق لقراءة نصوص أخرى. د. سيد البحراوي أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب، جامعة القاهرة