هذه المقولة الخاصة بانتشار الإسلام بالسيف بالرغم من كونها مقولة قديمة، تم الردّ عليها من قِبل بعض المستشرقين غير المسلمين مثل "توماس أرنولد" في كتابه الشهير "الدعوة إلى الإسلام"، وغيره من علماء المسلمين مثل الشيخ "محمد الغزالي"، ومن قبله الإمامين "ابن تيميّة" و"ابن القيم"، وهما من أئمة السلف اللذان يتبنى أفكارهما الآن بعض الذين أساءوا فهم الإسلام، وكذلك فَهْم هذين الإمامين. نسيء لديننا بأيدينا بالرغم من الردود السابقة؛ إلا أن بعض الكتّاب من المسلمين، وكذلك بعض الجماعات الإسلامية، ترى أن العلاقة بين المسلم وغير المسلم مثل اليهود والنصارى هي القتال؛ حتى وإن كانوا مسالمين للمسلمين ولم يشاركوهم في قتال أو حرب. وهي أقاويل تنسف العلاقات الدولية، وتسيء إلى المسلمين ودينهم الذي هو دين السلام {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال 61]، والذي تحيّته السلام "السلام عليكم ورحمه الله"، وعلى غير المسلمين "السلام على من اتبع الهدى". فكيف يكون دين يعتبر القتال شيئاً مكروهاً {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة 216]، هو دين السيف؟! هو دين يُكره الغير على اعتناقه؟! وهل فعلاً سيرة الرسول تؤكد هذا المعنى؟ أم أن الرسول لم يقاتل إلا من أراد دولة الإسلام الوليدة -حين ذاك- بمكروه وأذى، في إطار الدفاع الشرعي عن النفس الذي تجيزه كل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية الداخلية والقانون الدولي.
آية السيف يردّ عليها إمام السلف هذا هو ردّ أئمة السلف.. الإمام "ابن تيميّة" الذي يعتبره السلفيون إمامهم، وكذلك تلميذه "ابن القيم" يردّ على هؤلاء الذين يقولون بضرورة قتال الكفار لأنهم كفار؛ استناداً لفهم خاطئ لآية أطلقوا عليها خطأ -هم والمستشرقون- (آية السيف)، وهي {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة 5]. فيقول الإمام "ابن تيميّة" في رسالته بعنوان "قاعدة مختصرة في قتال الكفار"، والتي أوردها الدكتور "يوسف القرضاوي" في كتابه فقه الجهاد. "وكانت سيرته (صلى الله عليه وسلم) أن كل من هادنه من الكفار لا يقاتله، وهذه كتب السيرة والتفسير والحديث والفقه والمغازي -أي الغزوات- تنطق بهذا؛ فهو لم يبدأ أحداً من الكفار بقتال، ولو كان الله أمره بقتال كل كافر لكان يبتدئهم بالقتال. لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ويؤكد هذا المعنى تلميذ "ابن تيميّة" الإمام "ابن القيم" في كتاب "هداية الحيارى من اليهود والنصارى" بقوله: "ولم يُكره أحداً -أي النبي (صلى الله عليه وسلم)- قطّ على الدين؛ وإنما كان يقاتل من يحاربه ويقاتله، وأما من سالمه وهادنه فلم يقاتله، ولم يكرهه على الدخول في دينه امتثالاً لأمر ربه؛ حيث يقول {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ} [البقرة 256]. ومن تأمّل سيرته تبيّن أنه لم يُكره أحداً على دينه قط؛ وإنما قاتل من قاتله، وأما من هادنه فلم يقاتله ما دام مقيماً على هدنته، لم ينقض عهده؛ بل أمره الله أن يفي بعهده معهم ما استقاموا -أي التزموا- على ذلك كما قال تعالي {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة 7]. ولما قَدِم المدينة صالَحَ اليهود وأقرّهم على دينهم -أي لم يجبرهم على الدخول في الإسلام- فلما حاربوه ونقضوا العهد وبدءوه بالقتال قاتلهم، ثم عفا عن بعضهم وأجلى بعضهم وقتل بعضهم. وكذلك لما هادن قريشاً عشر سنين -إشارة إلى صلح الحديبية- لم يبدأهم بقتال حتى بدءوا هم بقتاله؛ فعند ذلك غزاهم في ديارهم -ويعني هنا فتح مكة، ويلاحظ أن الرسول لم يقاتلهم مع قدرته على ذلك- وكانوا هم يغزونه قبل ذلك، كما فعلوا يوم غزوة أُحد، ويوم الخندق -غزوة الأحزاب- ويوم بدر أيضاً؛ حيث جاءوا لقتاله، ولو انصرفوا عنه لم يقاتلهم". انتهى كلام "ابن القيم"، ولو أردنا تلخصيه لقلنا: إنه (صلى الله عليه وسلم) لم يُكره أحداً على الدخول في دينه البتة؛ وإنما دخل الناس في دينه اختياراً وطوعاً. اختيار أقباط مصر الإسلام طوعاً لا كرهاً وحول هذا المعنى يؤكد القرضاوي أن تاريخ المسلمين يشير إلى أن البلاد التي فتحها المسلمون لم ينتشر فيها الإسلام إلا بعد مدة من الزمن، حين زالت الحواجز بين الناس والدعوة للإسلام، واستمعوا إلى المسلمين في جوّ هادئ مسالم، بعيداً عن صليل السيوف، ورأوا من أخلاق المسلمين ما دفعهم إلى حب هذا الدين. وانظر إلى بلد كمصر وقد فتحت في عهد عمر بن الخطاب؛ ولكن ظلّ الناس على دينهم النصراني عشرات السنين، لا يدخل فيه -أي في الإسلام- إلا الواحد بعد الواحد؛ حتى إن الرجل القبطي الذي أنصفه عُمر واقتصّ لابنه من ابن والي مصر المسلم عمرو بن العاص؛ حين قال عمر مقولته الشهيرة لعمرو بن العاص "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، هذا الرجل القبطي لم يدخل في الإسلام رغم أنه شاهد من عدالته ما يبهر الأبصار. الخُلق لا السيف ما نشر الإسلام وهنا يسوق القرضاوي أمثلة تاريخية على دول انتشر بها الإسلام دون إرسال جيوش إليها مثل العديد من الدول الآسيوية وكذلك الأفريقية؛ فقد انتشر الإسلام في العديد من الدول الآسيوية مثل الفلبين وإندونيسيا -أكبر الدول الإسلامية الآن- عن طريق التجار المسلمين من حضرموت وغيرها؛ حيث رأوا من أخلاق هؤلاء ما شجعهم على اعتناق الإسلام، كما دخل الإسلام أفريقيا أيضاً عن طريق التجار والطرق الصوفية. وشَهِد شاهد من أهلها ويدلل القرضاوي بشهادة المستشرق "توماس أرنولد" في كتابه "الدعوة إلى الإسلام"؛ حيث يقول القرضاوي: "لقد أثبت هذا الكاتب في كتابه، بما لا يدع مجالاً للشك، أن الإسلام لم ينتشر في العالم بحد السيف؛ بل انتشر بالحجة والإقناع، وأخلاق المسلمين، ولم يثبت في التاريخ قطّ أن شعباً من الشعوب أو قبيلة من القبائل أو حتى أسرة من الأسر أُجبروا على التخلي عن دينهم أو الدخول في الإسلام". وهكذا يوضّح القرضاوي وغيره أن الإسلام لم ينتشر بحدّ السيف، وأن المسلمين لم يكونوا البادئين بالقتال؛ إلا في بعض الحالات التي كان يتهيأ الأعداء لمباغتة المسلمين في عقر دارهم؛ لذا كان لابد من مواجهة هؤلاء وعدم الانتظار حتى قدومهم في إطار ما يعرف الآن باسم "الحرب الوقائية". وهكذا؛ فإن العلاقة بين المسلمين وغيرهم قائمة بالأساس على السلام؛ إلا إذا أراد هؤلاء التنكيل بالمسلمين؛ فعندئذ يجب عليهم ردّ العدوان، وهذا أمر مستقرّ في القانون الدولي والمواثيق الدولية كميثاق الأممالمتحدة الذي ينصّ على حق الدفاع عن النفس في حالة وقوع عدوان.
اقرأ أيضاً: في معنى الجهاد.. جاهد نفسك قبل مجاهدة عدوك مع القرضاوي.. الجهاد ولا التربية.. ربّي نفسك أولاً (2) مع القرضاوي: رسالة للفنانات المحجبات.. الاعتزال ليس الحل (3) مع القرضاوي: الجهاد بالنفس من أجل أرض فلسطين (4) مع القرضاوي: هل يجب الجهاد مرة كل سنة؟ (5) مع القرضاوي: هل لازم نجاهد في فلسطين؟ (6)