جلست أقرأ في "من أوراق أبي نواس" قصيدة لأمل دنقل الذي توفي عام 1983، واندهشت عندما وجدت القصيدة تتحدث عن الواقع الحالي بتفصيلاته المقيتة، هل كان هذا الشاعر يقرأ الطالع أو النازل أو يرى في منامه ما يعيشه أبناؤه ومعاصروهم في هذه الأيام؟!! وقفت حائرا: هل يقصد هذا التحول الذي شهدته مصر في الآونة المنصرمة، هل يقصد تحولها إلى نظام الخصخصة الذي أتى على كل شيء، والتحول من المعسكر الروسي الذي وضعها عليه عبد الناصر والناصريون من بعده لتتحول من هذه الاشتراكية إلى الرأسمالية التابعة للمعسكر الغربي في أمريكا. هل يقصد هذا التحول الذي طال كل شيء وحوّله إلى أوراق؛ الأفكار تحولت إلى أوراق، والسياسة أصبحت أوراقا، والنقود تمثلها الأوراق، والأحلام تحولت لمجرد أوراق. وأصبح لكل شيء ما يوازيه أو يحدد قيمته من هذه الأوراق؛ حتى أضحت الأوراق تفقد قيمتها شيئا فشيئا؛ إما تدهورا على شاشات البورصة، أو بخساً لثمن الثقافة والفنون، أو حتى انحطاطا لأحزاب سياسية كانت تمثل يوما منهجا ودستوراً وأوراقاً. والأسئلة تلح عليّ حتى انتهيت من قراءة القصيدة، فأعدت قراءتها مرة أخرى من البداية لتستوقفني عباراتها المضيئة التي كشفت ستر الواقع الحالي بعين البصيرة. "ملِكٌ أم كتابهْ?" صاحَ بي صاحبي; وهو يُلْقي بدرهمهِ في الهَواءْ ثم يَلْقُفُهُ.. فقلتْ: "الكِتابهْ" "ملِكٌ أم كتابة?" صحتُ فيهِ بدوري.. فأجابَ: "الملِكْ" (دون أن يتلعثَمَ.. أو يرتبكْ!)
ليصور لنا أمل دنقل نموذجين من الشعب أحدهما اختار أن يحوي أوراق السلطة، في الوقت الذي اختار فيه النموذج الآخر أن يحوز أوراق الثقافة. وقد يبدو لنا منذ الطلة الأولى على حال المجتمع أن هناك فرقاً بين النموذجين في طبيعة الحياة والوقوف أمام الظلم أو حتى في طبيعة البطش؛ لكن كل ذلك يتلاشى حينما تجد أن الكل يعمل في خدمة من يملك، الذي أصبح ما يملكه أكثر مما في يده؛ فقد غدا الأول نديماً للسلطان، وأداته المطواعة في تبرير أعماله وإضفاء المنطق والثقافة والعمق السياسي على الفساد الذي لا يبصره العوام..!! هل يعني الشاعر الأحزاب السياسية التي تتقنع بقناع المعارضة الزائفة لتترك الشعب يدير ظهره مطمئناً؟!! هل يعني أجهزة الإعلام الموجهة، بأضوائها الكاذبة وأخبارها الخادعة، وتركها لأمانة الرسالة كوسيلة وصْل بين أطراف الشعب، حتى دون تعريف أو تثقيف أو تبصير؟!!
في الوقت نفسه الذي غدا فيه الآخرون يد السلطان لحمايته فقط بدلاً من خدمة الشعب والبحث عن حقوقهم ورد الظالم ونصرة المظلوم وحماية البلاد من كل معتدٍ غاشم داخلي وخارجي..!! ويطل التساؤل برأسه مرة أخرى والحيرة بكل أطرافها: هل كان الشاعر يقصد أجهزة الأمن بتنويعاتها المختلفة ومسمياتها الكثيرة سيئة السمعة؛ هل تحولت كلها لخدمة عدد من الأفراد فقط، وتركت الشعب يشق طريقه ويشتد عوده في مواجهة بعضه البعض، ويأخذ كل واحد منهم ثأره بيده من أخيه الظالم أو المقترف أو حتى صاحب الحق الآخر. لكن أياً من هؤلاء أو أولئك -ندماء السلطان أو خدامه- لم يفلحوا أن يكونوا درعاً يحمي ذويهم من بطش السلطان لأنهم ببساطة من هذا الشعب. ويقف المرء حائراً أمام من ينادم قاتل أسرته أو يكون حامياً له؛ ليأتي الجواب في أبيات أخرى بأن العقيدة التي هي أقوى من الروابط الأسرية والاجتماعية لم تكن كافية لتمنع الناس من عبادة المال، ولم تكن قداسة الحسين وسيوف قامت لنصرته لتمنع شعباً لا يملك من قتل ابن الكرام ليأكل من رفاته. قال لي الشيخُ: إن الحُسينْ ماتَ من أجلِ جرعةِ ماءْ! وتساءلتُ كيف السيوفُ استباحتْ بني الأكرمينْ فأجابَ الذي بصَّرتْه السَّماءْ: إنه الذَّهبُ المتلألئ: في كلِّ عينْ.
نعم إنها لقمة العيش يا "دنقل" التي يلهث خلفها كل واحد منا، حتى وإن كانت مدنسة بالدم وهتك الشرف وبذل الكرامة؛ فإنه يمسحها ليضعها في فم بنيه.
هل رأى أمل دنقل أن الناس قد باعوا أوطانهم وأملاكهم في لحظة خطف فيها أبصارهم بريق الخصخصة والحلم الوردي بمستقبل مشرق وحياة أفضل تحوي سيارة وموبايلا وشقة في المدن الجديدة؛ فهل قيمة الأوراق قد تضاءل أم أنها قيمة حامليه؟ هل رأى دنقل أن أحداً لم ينظر في كيفية تطبيق الخصخصة بل اكتفوا بالوعود الوردية التي نال أصحاب الفساد خيرها وتركوا لنا فتاتها ننعم بها منتشين؟ هل علم أن الخصخصة التي هي عبارة عن بيع ممتلكات الأمة والشعب -الذي تمثله القصيدة في الدين والحسين وبيت النبوة- دارت في لحظة طمع من أهل الفساد وغفلة أو تغافل من أهل المعرفة والملاك الأصليين؛ ليأخذوا عشر أعشار قيمتها أخيرا؛ لتقديم تسهيلات للملاك الجدد مقابل حفنة من الذهب تلقى أمام القائمين على البيع لبخس أثمانها ومسخها، أو حين لم يرضوا بإزعاج أولئك الملاك الجدد بشروط تحفظ للمواطنين حقهم في العيش في أملاك عمّروها ولم ينعموا حتى ببعض نعيمها، حتى إذا ما أرادوا أن يعاودوا الوقوف على أقدامهم دون طلب مساعدة من أحد لم يجدوا ما يتكئون عليه.
هل استطاع المثقفون أمثال أمل دنقل التنبؤ بحالنا؟ هل استطاع أن يبصر أن يد الفساد لا تملك شيئا إلا بضع ورقات من العملة حازتها رشوة عن حياة وكرامة الشعب، أو عنوة من أموال الشعب بمساعدة ناس من الشعب لقتل أهليهم وأبنائهم وأبناء الشعب؟ هل رأى أنهم أصبحوا يملكون أكثر حتى مما تطاله أيديهم سرقة ورشوة وسطواً؟ هل رأى دنقل أن القوة التي تحمي الفساد هي نفسها هؤلاء الفقراء المسلوبون الذين لا يملكون ما يأكلون فيضطرون لأكل عظام ذويهم بعد تصفيتهم جوعا وظلما وقهراً؟ هل رأى أن الشعب لا يستطيع التحرك لمحاربة الفساد بتشويش إعلامي وثقافي وتأويلات زائفة لنصوص مقدسة لا يعرف الشعب كيف يفهمها؛ فسلم عقله وفهمه لآخرين ألقوا قناع الصدق والدين على أوجههم؟ وهل يعلم هؤلاء الآخرون أن الدائرة يوما عليهم عندما لا يكون هناك داع لتبرير أفعال الفساد وتزكيتها.
آاااااااااااااااااااااااه يا عزيزي أمل دنقل. فاسقني يا غُلام.. صباحَ مساء اسقِني يا غُلام.. علَّني بالمُدام.. أتناسى الدّماءْ!! *** هذه الأرض التي ما وعد الله بها من خرجوا من صلبها وانغرسوا في تربها وانطرحوا في حبها مستشهدين فادخلوها بسلام آمنين ادخلوها بسلام آمنين..