تحدّثنا في المقال السابق عن النوع الأول من الجهاد، وهو جهاد الدفع، أو جهاد الاضطرار في حال تعرّض بلد إسلامي للغزو أو الاحتلال، وقلنا: إن حكم الجهاد (القتال) في هذه الحالة هو أنه فرض عين على جميع أهل هذا البلد، وفرض كفاية على دول الجوار الإسلامية. أما إذا لم يقدر أهل هذه البلد على المواجهة لضعف قوتهم، أو حتى لتخاذلهم؛ صار الجهاد فرض عين على دول الجوار؛ لأن كل أرض إسلامية هي ملك للمسلمين جميعاً لا ملك لسكانها وحدهم. جهاد الطلب أما إذا انتقلنا إلى النوع الثاني من الجهاد، وهو جهاد الطلب، ومعناه أن يكون العدو في عقر داره؛ ولكن نحن الذين نطلبه ونتعقبه بهدف توسيع أرض الإسلام، أو تأمينها، أو مبادئته قبل أن يبادئنا هو، أو لتمكين الجماهير في أرضه من أن تستمع إلى دعوة جديدة (الدين الإسلامي)؛ فلا بد من إزاحة هذه الحواجز أمام هذه الشعوب حتى نُبلّغ دعوة الله إلى الناس؛ أو لتحرير الشعوب التي يحكمها الطواغيت (الحكام المستبدون) من الظلم والاضطهاد؛ المهم أن هؤلاء الأعداء مقيمون في أرضهم، ولم يبدأونا بعدوان ظاهر؛ ولكن نحن الذين نتعقبهم ونطلبهم، ولهذا سُمّي هذا النوع من الجهاد بجهاد الطلب مثل الفتوحات الإسلامية. وحكم هذا الجهاد هو فرض كفاية؛ بمعنى إذا قام به بعض المسلمين وقدروا على ذلك، سقط تكليف الجهاد عن الباقين. هل يجب أن نحارب الجميع؟ لكن لا بد هنا من توضيح أمر في غاية الخطورة حتى لا يساء الفهم؛ حيث قد يفهم البعض أن المسلمين لا بد أن يقاتلوا غيرهم سواء أكانوا مسالمين أو محاربين حتى يدخلوا في الإسلام أو يدفعوا الجزية. هنا يقول العلامة القرضاوي في كتابه "فقه الجهاد" إنه لا بد من التفرقة بين من يسالم المسلمين ومن يعاديهم؛ ففي حالة أمن المسلمين من جيرانهم؛ فإن الجهاد في هذه الحالة غير واجب عليهم، ويتحقق فرض الكفاية في هذه الحالة بأن يكون للمسلمين جيش قويّ مسلّح بأحدث الأسلحة، وعلى أعلى مستوى من التدريب، ينشر قواته في كل الحدود البرية والبحرية والجوية للبلد الإسلامي المتاخم لبلاد غير المسلمين، والهدف من ذلك هو ردع الأعداء؛ بحيث لا يفكّر هؤلاء في الهجوم على المسلمين، وهذا أمر تَوَافقت عليه كل دول العالم اليوم؛ فمن مقتضيات سيادة الدول أن تكون لها قوات مسلّحة قادرة على الدفاع عن حدودها واستقلالها من أي هجوم عليها أو اعتداء على حُرُماتها أو الاستيلاء على أي شبر منها. هل يجب غزو الكفار مرة كل عام؟ لكن هل يتعين على المسلمين القيام بجهاد الطلب مرة واحدة على الأقل كما ذكر كثير من الفقهاء حتى يسقط فرض الكفاية على المسلمين ولا يأثم الجميع؟ هنا يقول القرضاوي: إن تحديد هذا الغزو بهذه الصورة -مرة كل سنة- لم يجئ به نص من كتاب ولا سُنّة؛ ولكن ذكره بعض الفقهاء استنباطًا من أن الجزية تجب مرة في العام، وهي بديل الجهاد؛ فكذلك الجهاد يجب أن يكون مرة في العام؛ لكن هذا الكلام ارتبط بالواقع الذي عاشه الفقهاء الأوائل والمتمثل في علاقة التوتر بين الدولة الإسلامية وبين جيرانها الذين يهددونها في كل وقت؛ خاصة الدولة البيزنطية الرومانية في حينها؛ لذا كان على المسلمين أن يقوموا بمناوشتها على الحدود من حين لآخر؛ لتأمين حدودهم وإثبات وجودهم، وهذا ما عرف في العصر الحديث باسم الحرب الوقائية وهي حرب مشروعة. اختلاف الأوضاع قديمًا وحديثًا ومن ثم فلا يجوز الحديث في وقتنا الراهن عن حرب الأعداء ولو لمرة في السنة ما داموا مسالمين للمسلمين، وليسوا في حالة عداء؛ فحالة غير المسلمين معنا تحدد موقفنا منهم، وما دامت دول العالم المعاصر قد توافقت على السلام والامتناع عن الحرب "مثل ميثاق الأممالمتحدة الذي يحظر استخدام القوة في العلاقات الدولية"، وحل المشاكل بالوسائل السلمية، وإتاحة الفرصة لتبليغ الدعوة بالوسائل العصرية السلمية مثل الفضائيات والنت وغيرها؛ لذا فلا ينبغي للمسلمين أن يظهروا وحدهم بأنهم دعاة حرب، في حين يتنادى العالم كله بالسلام، ونحن لدينا من الآيات والأحاديث التي تحثّ على السلام. إذن فجهاد الطلب يمكن أن يتحقق عبر وسائل الاتصال الحديثة وليس عن طريق القتال، وإن كان هذا لا يمنع الدول الإسلامية من أن تأخذ بكل أسباب القوة داخل حدودها تَحَسُّباً لأي هجوم محتمل يأتيها من الخارج؛ فقد قال رب العزة: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
اقرأ أيضاً: مع القرضاوي.. جاهد نفسك قبل مجاهدة عدوك (1) مع القرضاوي.. الجهاد ولا التربية.. ربّي نفسك أولاً (2) مع القرضاوي: رسالة للفنانات المحجبات.. الاعتزال ليس الحل (3) مع القرضاوي: الجهاد بالنفس من أجل أرض فلسطين (4)