التعليم العالي تعلن القوائم المحدثة للمؤسسات التعليمية المعتمدة جامعات ومعاهد    تعليم الفيوم تعلن عن مسابقة لشغل الوظائف القيادية من بين العاملين بها    رئيس الأركان يشهد انطلاق فعاليات المؤتمر العلمى الدولى الخامس للاتصالات    الكهرباء تنجح في إعادة تشغيل محطة محولات جزيرة الذهب بكامل طاقتها (صور)    أسامة ربيع: قناة السويس الطريق المستدام الأمثل والأكثر توفيرًا    روسيا تعلن حالة الطوارئ في الجزر التي ضربها تسونامي بعد الزلزال    لتنديدهم بحصار غزة، اعتقال عشرات الحاخامات اليهود في أمريكا    الأمور تعقدت، تطورات أزمة تجديد أليو ديانج في الأهلي    مصرع 3 فتيات وإصابة 14 آخرين في انقلاب ميني باص بالمنيا    نقابة المهن التمثيلية تنعي لطفي لبيب    - هجوم بالشوم على موظف في قرية أبو صير بالبدرشين    من هم «بنو معروف» المؤمنون بعودة «الحاكم بأمر الله»؟!    أول رواية كتبها نجيب محفوظ وعمره 16 سنة!    استراتيجية الفوضى المعلوماتية.. مخطط إخواني لضرب استقرار مصر واستهداف مؤسسات الدولة    تنسيق الجامعات.. تفاصيل الدراسة ببرنامج الهندسة الإنشائية ب"هندسة حلوان"    حفل جماهيري حاشد بالشرقية لدعم مرشح حزب الجبهة بالشرقية    محمد السادس: مستعدون لحوار صريح ومسؤول مع الجزائر    تحليل جديد: رسوم ترامب الجمركية سترفع نفقات المصانع الأمريكية بنسبة 4.5%    الخارجية الأمريكية: قمنا بتقييم عواقب العقوبات الجديدة ضد روسيا علينا    "الزراعة" تنفيذ 286 ندوة إرشادية والتعامل مع 5300 شكوى للمزارعين    33 لاعبا فى معسكر منتخب 20 سنة استعدادا لكأس العالم    نجاح 37 حكمًا و51 مساعدًا في اختبارات اللياقة البدنية    هل اجتمع الجنايني مع عبد القادر لإقناعه اللعب للزمالك؟    لم نؤلف اللائحة.. ثروت سويلم يرد على انتقاد عضو الزمالك    وزارة التموين تنتهى من صرف مقررات شهر يوليو 2025 للبقالين    ميناء سفاجا ركيزة أساسية في الممر التجاري الإقليمي الجديد    انخفاض تدريجي في الحرارة.. والأرصاد تحذر من شبورة ورياح نشطة    جدول امتحانات الشهادة الإعداية 2025 الدور الثاني في محافظة البحيرة    البترول: السيطرة على حريق سفينة حاويات قرب «جنوب شرق الحمد»    تعدى ال 200 حريق دون تفسير.. خوف ورعب بقرية "برخيل" بسوهاج    عبدالغفار التحول الرقمي ركيزة أساسية لتطوير المنظومة الصحية    وزير الإسكان يُصدر قرارًا بإزالة 89 حالة تعد ومخالفة بناء بمدينة الشروق    ليلى علوي تعيد ذكريات «حب البنات» بصور نادرة من الكواليس    عزاء شقيق المخرج خالد جلال في الحامدية الشاذلية اليوم    وفري في الميزانية، طريقة عمل الآيس كوفي في البيت زي الكافيهات    قافلة طبية توقع الكشف على 1586 مواطنا في "المستعمرة الشرقية" بالدقهلية (صور)    تختلف في البنات عن الصبيان، دراسة تكشف تأثير استخدام الهواتف بسن مبكرة على الصحة النفسية    موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 للقطاعين الحكومي والخاص    حظك اليوم الأربعاء 30 يوليو وتوقعات الأبراج    فلكيًا.. موعد بداية شهر رمضان 1447-2026    وزير الثقافة: جوائز الدولة هذا العام ضمت نخبة عظيمة.. ونقدم برنامجا متكاملا بمهرجان العلمين    متابعة تطورات حركة جماعة الإخوان الإرهابية مع الإعلامية آلاء شتا.. فيديو    الدقيقة بتفرق في إنقاذ حياة .. أعراض السكتة الدماغية    يسمح ب«تقسيط المصروفات».. حكاية معهد السياحة والفنادق بعد قضية تزوير رمضان صبحي    الخارجية الباكستانية تعلن عن مساعدات إنسانية طارئة لقطاع غزة    تنسيق الجامعات 2025 .. تفاصيل برامج كلية التجارة جامعة عين شمس (مصروفات)    «مش كل حريف أسطورة».. تعليق مثير من محمد العدل على تصريحات عمرو الجنايني بسبب شيكابالا    منافسة غنائية مثيرة في استاد الإسكندرية بين ريهام عبد الحكيم ونجوم الموسيقى العربية.. صور    إنجاز غير مسبوق.. إجراء 52 عملية جراحية في يوم واحد بمستشفى نجع حمادي    مصرع عامل اختل توازنه وسقط من أعلى سطح المنزل في شبين القناطر    نبيل الكوكي يقيم مأدبة عشاء للاعبى وأفراد بعثة المصرى بمعسكر تونس    عاجل- ترمب: زوجتي ميلانيا شاهدت الصور المروعة من غزة والوضع هناك قاس ويجب إدخال المساعدات    عيار 21 الآن يسجل رقمًا جديدًا.. سعر الذهب اليوم الأربعاء 30 يوليو بعد الانخفاض بالصاغة    سبب غياب كريم فؤاد عن ودية الأهلي وإنبي وموعد عودته    هل يُحاسب الطفل على الحسنات والسيئات قبل البلوغ؟.. واعظة تجيب    أمين الفتوى: الشبكة جزء من المهر يرد في هذه الحالة    ما الذي يُفِيدُه حديث النبي: (أفضل الأعمال الصلاة على وقتها)؟.. الإفتاء توضح    أمين الفتوى: مخالفات المرور الجسيمة إثم شرعي وليست مجرد تجاوز قانوني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معالم على درب التخييل السرديّ في
نشر في صوت البلد يوم 23 - 06 - 2018

أفضى السرد الروائي منذ تسعينيات القرن العشرين إلى جنس أدبيّ هجين مفعم بأساليب الأجناس الأدبيّة وأدواتها؛ إذ سمح هذا التطور للمتخيل السرديّ أن يشرك الكاتب السيرة الذاتيّة مناصيًّا؛ وأطلق على هذا الشكل من السرد الروائي تخييلًا سرديًّا أو سيريًّا، ولعلّه لا يزال يؤسّس موقعًا لنفسه داخل خريطة الأجناس الأدبية، إذ هو بين منزلتين: الرواية التي يستمد منها التخييل، والسيرة المتصلة بأحداث واقعيّة.
ومن المكن أن تصنّف القصة الأولى من مجموعة السيد نجم التي حملت عنوان المجموعة "غرفة ضيقة بلا جدران" ضمن ال "تخييل سرديّ"؛ إذ عالج الكاتب موضوع معاناة مريض، وما اعترى جسده وروحه من آلام في غرفة ضيّقة، وسرعان ما يفتح السرد ذراعيه للحياة؛ فيتخلى عن جدران الغرفة، ثمّ عن سطحها؛ مزيلًا الأغطية عن صفحات اللاشعور؛ فيكشف سمات هويته المغيبة؛ التي لم تجد احتفالًا مهمًّا بفاعلياتها؛ التي طواها النسيان، وذلك بهدف أن تتحدّد - من جديد - ملامح شخصيّة تتوق لمعرفة موقعها من العالم وعلاقتها مع نفسها، مما اقتضى من المؤلّف أن يرجع نحو بعض منعرجات حياته، ويشير إلى أسباب انتكاساتها.
منصة سيرة خاصّة
وعلى الرغم من انطلاق الكاتب من منصة سيرة خاصّة، فقد استطاع أن يحوّل الحياة إلى سرود مسطورة على الورق، فجرّد الحياة عن واقعيتها وحقيقتها، لتصبح تخييلًا صرفًا، إذن هو إبداع تخييليّ حرّر النصّ من قيود المنطق والشكل والإخبار، واعتمد إطلاق سراح خيال الكاتب، بعد أن أسّس له على وقائع سيرية، فضاؤها عالمٌ واقعيٌّ متحرّر من القوانين الفيزيائية؛ إذ يخلق عوالمه التخييلية، ويشيّد عالمًا غير عالمه الواقعيّ، فيتّجه نحو تأثيث فضاء استهواه أو تمنّاه من دون أن يكون فضاءه الأصلي، ومن هنا يجد القارئ كيف استهلّ الكاتب إهداءه الذي قال فيه: إلى كلّ التجارب الخاصة العامة أو العامة الخاصّة، وكأنّه أراد أن يجنّسها في نوع التخييل السرديّ الذي يرتكز على الجانب السيريّ منذ صفحة الإهداء.
حدد السيد نجم حكاية نصّه التخييليّ السرديّ بثماني لوحات سرديّة، اعتذر منذ عنوان كلٍّ منها من السارد - الذي حمل اسم المؤلّف - المتسيّد ثماني حالات تعايش معها، بدأت بالألم وانتهت بالبشرى، ولعلّه تمكّن من اصطناع خلفيّة واحدة للوحات الثمانية تعلّقت بمستشفى وأطباء عجزوا عن تشخيص المرض؛ فحاولوا إعداد المريض لاستقبال الموت.
ولعل مطابقة شخص الكاتب مع شخصية بطل القصة ومع السارد الذي اصطنعه عن طريق عرض تجربة ذاتيّة؛ هي من وضع تخومًا بين التخييل السرديّ والرواية، فقد استهلّ الكاتب القصّة بدهشته من ريح انحدرت عليه من نشيد الألم، ورمته بعتمة المجهول المشرع، على الرغم من أنّه لا يعرف سوى الكتب القديمة؛ بعيدًا عن بنات الهوى.
إذن لم يبدأ من بداية المرض، ولم يهتمّ بقانون السببية، بل شرع بتكسير الزمن، فأخرج الحكاية من زمنها الخطي التعاقبي، ودعا القارئ بداءة؛ ليشكّل الزمن من خلال وعيه للأحداث والشخوص في القصّة؛ التي أخرجها من التسلسل المنطقيّ.
ثمّ شرع السارد بقصة الألم الذي عاناه بطله، فتداخلت أصوات القصّة بين الماضي والحاضر وتمّمها بالمونولوج الداخلي، الذي قلّل من مساحة السرد، وحافظ على بنية القصة الحكائية متينة، وسيّجها بعنصر التشويق في أثناء تلقيها؛ إذ دعّمه بأحلام الحياة في ثماني لوحات سرديّة متجاورة، وبذلك تمكّن السارد أن يخلق للمريض زاوية أمل وسط ناسه، وأمام شاشة التلفاز، فجعله يحلم بسماء تخصّه وحده، ثمّ باعتياده على حالة لإبعاد التفكير والألم، ثمّ قاده حلمه ليطلب من امرأته طبق بصارة، ولكن من أين، وهو بلا مستقبل؟! أحشاؤه معلّقة بألسنة النّار، جعلته ينتظر الموت، ولكنّه لم يستسلم؛ بل ظلّ يقتنص أحلامه وسط ثرثرات زواره، كان يحاول أن يستعير نار الحرب المقدسة بوجه الموت، محاولًا أن يحدّد موقفًا من الحقائق الهاربة؛ التي بحث عنها الحداثيون، وافتقد إليها ما بعد الحداثيين، ولعلّ الكاتب ممن افتقدها في نصّه التخييلي هذا.
في اللوحة الثانية كبر حلمه، أراد أن يُفتَح له درب خارج الوجود، فأرجتعه الذاكرة إلى معارك 67، ثمّ سأل أمعاءه استجابتها لدعاء الداعين، واختلطت معه وسائل علاجه وأصوات انفجارات الحرب، ومعركة قناة السويس؛ حينما شعر بوخزة في أمعائه، لحظة صدمته رؤية علم النجمة السداسية؛ التي يحضنها خطان أزرقان يمثلان النيل والفرات.
ومن ثمَّ، اعتذر الكاتب من سيد الاحتمالات، لأنّ تشخيص الأطباء مجهولٌ، ففي ظلّ واقع مربكٍ ومحيّرٍ يعيشه مريضه، اصطنع الكاتب سارد عليم بأحوال الشخصيّات العاجزةً عن الفهم والتحليل، ومن ثّمَّ تخلخل الوعيّ لديها واضطرب أمام أبواب الاحتمالات الكثيرة، وهذا ما يفسّر اطّلاع السارد على كلّ حركة أو تفكير قام به المريض، قدّمه حائرًا غير قادرٍ على التعبير عن تطلعاته؛ بل كان مرتبكًا وعاجزًا، ومن ثمّ أظهر الكاتب خلخلة الوعيّ لديها واضطرابها، ولعلّ ذلك يعدّ سمة من سمات الشخصية المعبّرة عن إحدى مستلزمات التخييل السرديّ.
خلخلة الوعيّ
من جديد، استهلّ الكاتب لوحته الرابعة بتأكيد خلخلة الوعيّ، وذلك بمشهد سحابة يمشي عليها المريض الحالم، ثمّ تتلاشى، فتمنى لو تحوّل إلى حبّة لقاح تسبح باحثة على تويج زهرة؛ ليبقى خصبًا، إلى أن أخرج الكاتب مريضه من ضيق الغرفة إلى عوالم متخيلة، ذكريات من حياته الماضيّة، حرب 67 و حرب 73، وحرب العراق الصليبية، وعلاقته مع الأسرة ومع الأصدقاء، مكتب عمله، وبحر الإسكندرية، توقه للطعام والشراب، قراءته في الجريدة، التلفاز،... إنها فضاءات تهمّ المريض، وبنفس الوقت، ليست غريبة عن تجارب القارئ، وكأنّه رمى إلى استدماجه في السرد - بصفته من سمات التخييل السرديّ - عن طريق التنوّع بفاعليات الحياة وأمكنتها، فتحقّق له استدماج القارئ مع إفساح المجالات لإثراء أصوات الرواية وخطاباتها، وإنْ ترك الصوت الرئيس فيها هو صوت المريض، إلّا أنّه امتد من غرفة ضيقة إلى فضاءات خارجية؛ بعدما حطّم جدرانها وفكك سقفها.
ثمّ اعتذر الكاتب من سيّد اللذة؛ إذ استرعى انتباهه حنيّة قلب الممرضة وصوتها الرقيق، على الرغم أنّها كانت توخزه بالإبر، واعتذر بعينيه لزوجته، علاوة على أنّ ألم معدته لم يشغله عن سماع أخبار الفاسدين؛ الذين تسبّبوا بأذى الناس، إضافة إلى أخبار السياسة.
إن إيراد السارد وقائع وأمكنة يتفاعل معها القارئ، تسهم في خلق عنصر التشويق، وإن كان القارئ لم يعش تجربة المرض، لكنّه لا بدّ من زيارته لمرضى يعرفهم، أو معرفته لكل فضاءات القصة وشخوصها وأحداثها، ومن ثمّ يسهل عليه كشف ملامح الحكاية، فيتشوّق لمعرفة مسارات أفعالها الدراميّة، لا سيّما أنّ الكاتب قصد استدماجه بالأحداث حينما فتح سرده التخييلي نحو أماكن مألوفة للقارئ.
حينما كان المريض يسمع أصوات الأنين من الغرفة المجاورة لغرفته، كان يسأل عنه، فتردّ عليه الظلمة ألّا يتدخل، وصار جدار الغرفة الزجاجيّ شاهدة قبر، ثمّ غاظه نوم زوجته بجانبه، فغفا ليجد الغرفة فسيحة ومنسقة ومن دون سقف، إلى أن أوقظ ليأخذ حقن شرجية استعدادًا لمنظار القولون، التي تحولت إلى مزاح مع أصدقائه الصغار، ثم راودته أشباح أمواته، صديق طفولته وشهداء الحرب وشهداء المبيدات وشهداء الحرب على العراق، وعند الفجر سمع من الممرض ما يوحي بهزيمة المرض.
استفاق وقعد على مرتبته، وأحسّ شغفه بجسده، لتزهو خلفيّة اللوحات البيضاء بألوان الحياة، وبطهرانيّة الجسد، وبقدسيته، حينئذ استذكر لحظة اكتشافه سيف الذكورة بمراهقته، ثم عرف سرّ القبلة والرائحة واللمسة واللذة.
وساءل نفسه: هل يعيش لحظة انتظار النهاية؟ تناول النعناع، وكانت البشرى بشفائه؛ حينما شربها ولم يتقيّأ، أما الطبيب فقد كرّر أسئلته؛ ثم لوى شفتيه وخرج صامتًا، وتابعت زوجته وشقيقتاه الرقى، كان ذلك بعد أربعة عشر يومًا، شفيّ وقرأ في الجريدة.
وصل الطبيب الذي أعلن أنه لا يعرف شيئًا عن مرضه سوى أنه نوع من الابتلاء، خففه ممارسة الرقى، احتار الطبيب، واطمأن المريض.
تُرى، ما هي الرسالة التي أراد المؤلّف أن يوصلها؟
لعل انفتاح الدلالة هو المؤدّي إلى القراءة المنتجة، وهذا ما يلمسه القارئ في نصّ السيد نجم التخييل سرديّ، على ما ذُكر آنفًا، وبذلك يكون النصّ تحرّر من سلطة الكاتب، ومنح القارئ سلطة التجريب في عالم النص المنفتح، وفق سمات التخييل السرديّ.
وبذلك استطاع أن يجعل الحياة نفسها سلسلة متواليات سرديًة فوضويّة وواقعًا معيشًا تناغمًا مع مفاهيم ما بعدية تبلورت بعد نظرية الشواش منذ سبعينيات القرن العشرين، وأفضت إلى تجربة التخييل السردي في الفنون السرديّة.
____________________
أدهم مسعود القاق – ناقد سوري
أفضى السرد الروائي منذ تسعينيات القرن العشرين إلى جنس أدبيّ هجين مفعم بأساليب الأجناس الأدبيّة وأدواتها؛ إذ سمح هذا التطور للمتخيل السرديّ أن يشرك الكاتب السيرة الذاتيّة مناصيًّا؛ وأطلق على هذا الشكل من السرد الروائي تخييلًا سرديًّا أو سيريًّا، ولعلّه لا يزال يؤسّس موقعًا لنفسه داخل خريطة الأجناس الأدبية، إذ هو بين منزلتين: الرواية التي يستمد منها التخييل، والسيرة المتصلة بأحداث واقعيّة.
ومن المكن أن تصنّف القصة الأولى من مجموعة السيد نجم التي حملت عنوان المجموعة "غرفة ضيقة بلا جدران" ضمن ال "تخييل سرديّ"؛ إذ عالج الكاتب موضوع معاناة مريض، وما اعترى جسده وروحه من آلام في غرفة ضيّقة، وسرعان ما يفتح السرد ذراعيه للحياة؛ فيتخلى عن جدران الغرفة، ثمّ عن سطحها؛ مزيلًا الأغطية عن صفحات اللاشعور؛ فيكشف سمات هويته المغيبة؛ التي لم تجد احتفالًا مهمًّا بفاعلياتها؛ التي طواها النسيان، وذلك بهدف أن تتحدّد - من جديد - ملامح شخصيّة تتوق لمعرفة موقعها من العالم وعلاقتها مع نفسها، مما اقتضى من المؤلّف أن يرجع نحو بعض منعرجات حياته، ويشير إلى أسباب انتكاساتها.
منصة سيرة خاصّة
وعلى الرغم من انطلاق الكاتب من منصة سيرة خاصّة، فقد استطاع أن يحوّل الحياة إلى سرود مسطورة على الورق، فجرّد الحياة عن واقعيتها وحقيقتها، لتصبح تخييلًا صرفًا، إذن هو إبداع تخييليّ حرّر النصّ من قيود المنطق والشكل والإخبار، واعتمد إطلاق سراح خيال الكاتب، بعد أن أسّس له على وقائع سيرية، فضاؤها عالمٌ واقعيٌّ متحرّر من القوانين الفيزيائية؛ إذ يخلق عوالمه التخييلية، ويشيّد عالمًا غير عالمه الواقعيّ، فيتّجه نحو تأثيث فضاء استهواه أو تمنّاه من دون أن يكون فضاءه الأصلي، ومن هنا يجد القارئ كيف استهلّ الكاتب إهداءه الذي قال فيه: إلى كلّ التجارب الخاصة العامة أو العامة الخاصّة، وكأنّه أراد أن يجنّسها في نوع التخييل السرديّ الذي يرتكز على الجانب السيريّ منذ صفحة الإهداء.
حدد السيد نجم حكاية نصّه التخييليّ السرديّ بثماني لوحات سرديّة، اعتذر منذ عنوان كلٍّ منها من السارد - الذي حمل اسم المؤلّف - المتسيّد ثماني حالات تعايش معها، بدأت بالألم وانتهت بالبشرى، ولعلّه تمكّن من اصطناع خلفيّة واحدة للوحات الثمانية تعلّقت بمستشفى وأطباء عجزوا عن تشخيص المرض؛ فحاولوا إعداد المريض لاستقبال الموت.
ولعل مطابقة شخص الكاتب مع شخصية بطل القصة ومع السارد الذي اصطنعه عن طريق عرض تجربة ذاتيّة؛ هي من وضع تخومًا بين التخييل السرديّ والرواية، فقد استهلّ الكاتب القصّة بدهشته من ريح انحدرت عليه من نشيد الألم، ورمته بعتمة المجهول المشرع، على الرغم من أنّه لا يعرف سوى الكتب القديمة؛ بعيدًا عن بنات الهوى.
إذن لم يبدأ من بداية المرض، ولم يهتمّ بقانون السببية، بل شرع بتكسير الزمن، فأخرج الحكاية من زمنها الخطي التعاقبي، ودعا القارئ بداءة؛ ليشكّل الزمن من خلال وعيه للأحداث والشخوص في القصّة؛ التي أخرجها من التسلسل المنطقيّ.
ثمّ شرع السارد بقصة الألم الذي عاناه بطله، فتداخلت أصوات القصّة بين الماضي والحاضر وتمّمها بالمونولوج الداخلي، الذي قلّل من مساحة السرد، وحافظ على بنية القصة الحكائية متينة، وسيّجها بعنصر التشويق في أثناء تلقيها؛ إذ دعّمه بأحلام الحياة في ثماني لوحات سرديّة متجاورة، وبذلك تمكّن السارد أن يخلق للمريض زاوية أمل وسط ناسه، وأمام شاشة التلفاز، فجعله يحلم بسماء تخصّه وحده، ثمّ باعتياده على حالة لإبعاد التفكير والألم، ثمّ قاده حلمه ليطلب من امرأته طبق بصارة، ولكن من أين، وهو بلا مستقبل؟! أحشاؤه معلّقة بألسنة النّار، جعلته ينتظر الموت، ولكنّه لم يستسلم؛ بل ظلّ يقتنص أحلامه وسط ثرثرات زواره، كان يحاول أن يستعير نار الحرب المقدسة بوجه الموت، محاولًا أن يحدّد موقفًا من الحقائق الهاربة؛ التي بحث عنها الحداثيون، وافتقد إليها ما بعد الحداثيين، ولعلّ الكاتب ممن افتقدها في نصّه التخييلي هذا.
في اللوحة الثانية كبر حلمه، أراد أن يُفتَح له درب خارج الوجود، فأرجتعه الذاكرة إلى معارك 67، ثمّ سأل أمعاءه استجابتها لدعاء الداعين، واختلطت معه وسائل علاجه وأصوات انفجارات الحرب، ومعركة قناة السويس؛ حينما شعر بوخزة في أمعائه، لحظة صدمته رؤية علم النجمة السداسية؛ التي يحضنها خطان أزرقان يمثلان النيل والفرات.
ومن ثمَّ، اعتذر الكاتب من سيد الاحتمالات، لأنّ تشخيص الأطباء مجهولٌ، ففي ظلّ واقع مربكٍ ومحيّرٍ يعيشه مريضه، اصطنع الكاتب سارد عليم بأحوال الشخصيّات العاجزةً عن الفهم والتحليل، ومن ثّمَّ تخلخل الوعيّ لديها واضطرب أمام أبواب الاحتمالات الكثيرة، وهذا ما يفسّر اطّلاع السارد على كلّ حركة أو تفكير قام به المريض، قدّمه حائرًا غير قادرٍ على التعبير عن تطلعاته؛ بل كان مرتبكًا وعاجزًا، ومن ثمّ أظهر الكاتب خلخلة الوعيّ لديها واضطرابها، ولعلّ ذلك يعدّ سمة من سمات الشخصية المعبّرة عن إحدى مستلزمات التخييل السرديّ.
خلخلة الوعيّ
من جديد، استهلّ الكاتب لوحته الرابعة بتأكيد خلخلة الوعيّ، وذلك بمشهد سحابة يمشي عليها المريض الحالم، ثمّ تتلاشى، فتمنى لو تحوّل إلى حبّة لقاح تسبح باحثة على تويج زهرة؛ ليبقى خصبًا، إلى أن أخرج الكاتب مريضه من ضيق الغرفة إلى عوالم متخيلة، ذكريات من حياته الماضيّة، حرب 67 و حرب 73، وحرب العراق الصليبية، وعلاقته مع الأسرة ومع الأصدقاء، مكتب عمله، وبحر الإسكندرية، توقه للطعام والشراب، قراءته في الجريدة، التلفاز،... إنها فضاءات تهمّ المريض، وبنفس الوقت، ليست غريبة عن تجارب القارئ، وكأنّه رمى إلى استدماجه في السرد - بصفته من سمات التخييل السرديّ - عن طريق التنوّع بفاعليات الحياة وأمكنتها، فتحقّق له استدماج القارئ مع إفساح المجالات لإثراء أصوات الرواية وخطاباتها، وإنْ ترك الصوت الرئيس فيها هو صوت المريض، إلّا أنّه امتد من غرفة ضيقة إلى فضاءات خارجية؛ بعدما حطّم جدرانها وفكك سقفها.
ثمّ اعتذر الكاتب من سيّد اللذة؛ إذ استرعى انتباهه حنيّة قلب الممرضة وصوتها الرقيق، على الرغم أنّها كانت توخزه بالإبر، واعتذر بعينيه لزوجته، علاوة على أنّ ألم معدته لم يشغله عن سماع أخبار الفاسدين؛ الذين تسبّبوا بأذى الناس، إضافة إلى أخبار السياسة.
إن إيراد السارد وقائع وأمكنة يتفاعل معها القارئ، تسهم في خلق عنصر التشويق، وإن كان القارئ لم يعش تجربة المرض، لكنّه لا بدّ من زيارته لمرضى يعرفهم، أو معرفته لكل فضاءات القصة وشخوصها وأحداثها، ومن ثمّ يسهل عليه كشف ملامح الحكاية، فيتشوّق لمعرفة مسارات أفعالها الدراميّة، لا سيّما أنّ الكاتب قصد استدماجه بالأحداث حينما فتح سرده التخييلي نحو أماكن مألوفة للقارئ.
حينما كان المريض يسمع أصوات الأنين من الغرفة المجاورة لغرفته، كان يسأل عنه، فتردّ عليه الظلمة ألّا يتدخل، وصار جدار الغرفة الزجاجيّ شاهدة قبر، ثمّ غاظه نوم زوجته بجانبه، فغفا ليجد الغرفة فسيحة ومنسقة ومن دون سقف، إلى أن أوقظ ليأخذ حقن شرجية استعدادًا لمنظار القولون، التي تحولت إلى مزاح مع أصدقائه الصغار، ثم راودته أشباح أمواته، صديق طفولته وشهداء الحرب وشهداء المبيدات وشهداء الحرب على العراق، وعند الفجر سمع من الممرض ما يوحي بهزيمة المرض.
استفاق وقعد على مرتبته، وأحسّ شغفه بجسده، لتزهو خلفيّة اللوحات البيضاء بألوان الحياة، وبطهرانيّة الجسد، وبقدسيته، حينئذ استذكر لحظة اكتشافه سيف الذكورة بمراهقته، ثم عرف سرّ القبلة والرائحة واللمسة واللذة.
وساءل نفسه: هل يعيش لحظة انتظار النهاية؟ تناول النعناع، وكانت البشرى بشفائه؛ حينما شربها ولم يتقيّأ، أما الطبيب فقد كرّر أسئلته؛ ثم لوى شفتيه وخرج صامتًا، وتابعت زوجته وشقيقتاه الرقى، كان ذلك بعد أربعة عشر يومًا، شفيّ وقرأ في الجريدة.
وصل الطبيب الذي أعلن أنه لا يعرف شيئًا عن مرضه سوى أنه نوع من الابتلاء، خففه ممارسة الرقى، احتار الطبيب، واطمأن المريض.
تُرى، ما هي الرسالة التي أراد المؤلّف أن يوصلها؟
لعل انفتاح الدلالة هو المؤدّي إلى القراءة المنتجة، وهذا ما يلمسه القارئ في نصّ السيد نجم التخييل سرديّ، على ما ذُكر آنفًا، وبذلك يكون النصّ تحرّر من سلطة الكاتب، ومنح القارئ سلطة التجريب في عالم النص المنفتح، وفق سمات التخييل السرديّ.
وبذلك استطاع أن يجعل الحياة نفسها سلسلة متواليات سرديًة فوضويّة وواقعًا معيشًا تناغمًا مع مفاهيم ما بعدية تبلورت بعد نظرية الشواش منذ سبعينيات القرن العشرين، وأفضت إلى تجربة التخييل السردي في الفنون السرديّة.
____________________
أدهم مسعود القاق – ناقد سوري


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.