تفعيل المشاركة المجتمعية لتطوير وصيانة المدارس واستكمال التشجير بأسيوط    إنفوجراف| أسعار الذهب اليوم السبت 23 أغسطس    1350 مجمعا استهلاكيا يطرح 15 سلعة بتخفيضات ضمن مبادرة خفض الأسعار    «بحوث الصحراء» ينفذ خزانات لتعظيم الاستفادة من مياه الأمطار في مطروح    برئاسة الإمام الأكبر | «حكماء المسلمين» يدين استهداف قافلة إنسانية بالسودان    «صحح مفاهيمك».. مبادرة دعوية خارج المساجد بمشاركة 15 وزارة    ثلاثة أفلام جديدة فى الطريق.. سلمى أبو ضيف تنتعش سينمائيا    ما أسباب استجابة الدعاء؟.. واعظة بالأزهر تجيب    مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية يحيي ذكرى وفاة العالم الكبير الشيخ مصطفى المراغي    طلقات تحذيرية على الحدود بين الكوريتين ترفع حدة التوتر    موعد مباراة النصر والأهلي والقنوات الناقلة بنهائي كأس السوبر السعودي    اليوم.. اجتماع الجمعية العمومية العادية للإسماعيلي لمنافشة الميزانية والحساب الختامي    استئناف مباريات الجولة الأولى بدوري المحترفين    طلاب الثانوية الأزهرية الدور الثانى يؤدون اليوم امتحان التاريخ والفيزياء    تجديد حبس عاطل وشقيقته بتهمة جلب 3000 قرص مخدر داخل طرد بريدي    السجن المشدد 15 سنة لسباك قتل جاره في الجمالية    حبس سائق بتهمة الاستيلاء على سيارة محملة بحقائب وأموال بالسلام    ضبط لحوم وسلع غذائية فاسدة وتحرير 260 محضرًا في حملات تموينية بأسيوط    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    تحقيق استقصائى يكتبه حافظ الشاعر عن : بين "الحصة" والبطالة.. تخبط وزارة التعليم المصرية في ملف تعيين المعلمين    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : إلى أين!?    "يونيسيف" تطالب إسرائيل بالوفاء بالتزاماتها والسماح بدخول المساعدات بالكميات اللازمة لغزة    جامعة القاهرة تُطلق قافلة تنموية شاملة لمدينة الحوامدية بالجيزة    حملة «100 يوم صحة» تقدّم 59 مليون خدمة طبية مجانية خلال 38 يومًا    أسعار الفراخ اليوم السبت 23-8-2025 فى أسواق محافظة المنوفية    3 وفيات ومصاب في حادث تصادم مروّع على طريق أسيوط الزراعي    توجيه حكومي جديد لبيع السلع بأسعار مخفضة    المكرونة ب210 جنيهات.. أسعار السمك في مطروح اليوم السبت 23-8-2025    استشهاد 19 فلسطينيا إثر قصف إسرائيل خيام النازحين بخان يونس ومخيم المغازي    «الإفتاء» تستطلع هلال شهر ربيع الأول اليوم    حسن الخاتمة.. وفاة معتمر أقصري أثناء أدائه مناسك الحج    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 23-8-2025 في محافظة قنا    الأمم المتحدة: نصف مليون شخص بغزة محاصرون فى مجاعة    تفاصيل وأسباب تفتيش منزل مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق جون بولتون    وزارة الخارجية الروسية تكشف عدد المواطنين الروس المتبقين في غزة    وزارة الصحة تقدم 3 نصائح هامة لشراء الألبان    تنسيق الجامعات 2025| مواعيد فتح موقع التنسيق لطلاب الشهادات المعادلة    ملف يلا كورة.. خطة انتخابات الأهلي.. رسائل الزمالك.. واعتماد لجنة الحكام    نوال الزغبي: ضحيت بالفن من أجل حماية أولادي بعد الطلاق    شريف حافظ: الحب هو المعنى في حد ذاته ولا يقبل التفسير... والنجاح مسؤولية يجب أن أكون مستعدًا لها    عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل.. وهذه أسباب تفضيل البعض للخاصة    تنسيق دبلوم التجارة 2025.. قائمة الكليات والمعاهد المتاحة لطلاب 3 سنوات «رابط وموعد التسجيل»    سهير جودة عن شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب: «انفصال وعودة مزمنة.. متى تعود إلينا؟»    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه بحماس    بعثة منتخب مصر للناشئين تؤدي مناسك العمرة عقب مواجهة السعودية    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    استقالة وزير الخارجية الهولندي بسبب موقف بلاده من إسرائيل    سعر الطماطم والبطاطس والخضار في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    قطع المياه عن بعض المناطق بأكتوبر الجديدة لمدة 6 ساعات    محمود وفا حكما لمباراة الاتحاد والبنك الأهلى والسيد للإسماعيلى والطلائع    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    حدث بالفن| أول تعليق من شيرين عبد الوهاب بعد أنباء عودتها ل حسام حبيب وفنان يرفض مصافحة معجبة ونجوم الفن في سهرة صيفية خاصة    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    صحة المنوفية تواصل حملاتها بسرس الليان لضمان خدمات طبية آمنة وذات جودة    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شعرية العنف في "خان الشّابندر"
نشر في صوت البلد يوم 20 - 05 - 2017

ينهض العمل الروائي على اشتغال السارد، باعتباره الوكيل الرسمي للكاتب الضمني، والقائم على حياكة البساط السردي والحكائي للشخصيات، من خيوط العهن الواقعي والمتخيل، وذلك كي تتمكن هذه الشخصيات بمعية المتلقي من الإبحار في عوالم النص، واكتشاف مجاهله وتخومه ومغامراته.
ولأن متن النص الأدبي يتخلق من الحروف والكلمات والجمل، وكلها معطيات تنتسب بالضرورة للغة، باعتبارها معطى اجتماعيا ديناميكيا، يتفاعل بالتواصل والتداول الاجتماعي والواقعي في آن واحد، فإن المبدع الأدبي ما انفك يستوحي مادته الأولى من الواقع الاجتماعي، ويعيد تصنيعها في مختبر مخياله، ليخرجها إبداعا جماليا سويا، ليتأطر في خانة جنس إبداعي أو فني ما، بحسب مقوماته وآليات اشتغاله الداخلية.
من البديهي القول بأن العمل الروائي شأنه شأن كل نص أدبي أو فني لا يعيد إنتاج الواقع، بقدر ما يبني واقعا متخيلا، ومجتمعا افتراضيا، بشخصيات من ورق ولغة، ولا يقف بالضرورة عند ذلك الحد، من غير ما اشتباك مع الواقع الواقعي، وقراءته، وربما تفسيره وتأويله والاشتباك معه، وفق منظورات موضوعاتية وتقنية وجمالية، ابتغاء اكسابه نوعا من التوازن المفقود فيه، من وجهة نظر كاتبه أو مبدعه، والتي لن تكون ملزمة لقرائه المتعددين، الشيء الذي تتعدد معه وجهات النظر للنص المنتج نفسه، انطلاقا من مختلف القراءات المنتجة لما لا نهاية له من المعاني والمدلولالات.
وفق هذا المنظور تبتغي هذه القراءة في رواية "خان الشّابندر" لمحمد حياوي (الصادرة عن دار الآدب، بيروت 2015) - مقاربة موضوعة العنف، باعتبارها ثيمة ذات هيمنة في النص الروائي، سواء على مستوى السرد والوصف ومحكي الشخصيات ورؤاها.
وبالنظر لمرجع الحكاية فضائيا وزمانيا، حيث يتنزل السارد الممسرح/الصحفي علي موحان، في إطار ترهين سردي، يخبر من خلاله قارئه بغايته من تحمل مقاليد رواية النص، وهي قول الحقيقة الوجودية التالية: "لقد خلقنا في هذا العالم لنشهد سلسلة من المسرات الطويلة والآلام المتناسخة" (ص 7)، وعليه سيكون من مهامه الزج بالمتلقي في "..عالم القصص الحزينة والاحلام المحبطة والامنيات الذابلة" ص 26.
لذلك يتمثل الراوي مهنته بحذق بالإصغاء المتأني لشخصيات النص ونقل كل شيء عنها، يقول مخاطبا ضويَّة: "أنا أريد أن أعرف كل شيء عنك لكن، لو احببت أن تبدئي من هذه النقطة، فلا بأس.." (ص 16)، ومن ثم تنحصر مهمة السارد بالإخبار عن النقلات الزمنية والمكانية ووصف فضاءات الأحداث والحكايات حسب توارد الشخصيات في ثنايا المحكي الروائي، فيما يشبه فيلما وثائقيا، تلعب فيه الكاميرا دورا محايدا إلى حد ما، ويتخذ فيه السارد من كل شخصية دليلا لقراءة وتصوير تمظهرات العنف، التي تسري في جسد مدينة بغداد وتنخر ذاكرتها، وتدثر نهاراتها بالظلمة ودخان الحرائق السابحة في سمائها.
تتوزع أدلة المسار الحكائي والسردي إلى ثلاثة أنواع من الأدلة، والتي يمكن توصيفها على الشكل التالي:
الدليل الجغرافي:
ويمثله كل من محمود وسالم وزينب؛ فمحمود هو من يقود السارد/علي الصحفي إلى بيت أم صبيح، بقصد التعرف على البنات، وسماع حكاياتهن، وهناك سيلتقي بضويَّة وهند، وسينحصر دور محمود في إخراج الراوي من أزقة المدينة القديمة إلى ساحة الميدان ليلا، حيث سيواجه السارد أولى صور العنف، عندما مر "... على نقطة تفتيش.. كان جنودها يشعلون نارا في برميل صغير ويتدفأون..صاح بي أحدهم:
إلى أين؟
كانت لهجته غير ودية.. وعندما اقتربت منه، هتف متحفزا:
قف.. لا تقترب.. ماذا تريد؟
وصوب بندقيته ناحيتي.. كانت العتمة تحول دون التعرف على ملامحه، كما أنه كان ملثما ومستفزا..." (ص 42).
سار الراوي علي على غير هدى بين العطفات المعتمة، الحائمة حولها الأطياف والأشباح، إلى أن تلقفه صديق قديم يدعى سالم محمد حسين، متلبس بالحياة وإن كان قد أعدم في سجن "أبو غريب" منذ خمس وعشرين سنة:
" سالم.. يا صديقي الحبيب.. ألم تمت؟ سمعت أنهم أطلقوا عليك الرصاص؟
أي رصاص هذا؟ ها أنا أمامك كما ترى. دعك من هذا الحديث وأخبرني...
كنت أحكي له وهو يقودني بين الأزقة المظلمة التي خبرها جيدا...
اسمع.. الوضع خطير جدا، يجب أن تبيت هنا الليلة.. في غرفتي فوق السطح..." (ص 44)، وبعد حديث طويل عن أيام الجامعة والأصدقاء ومآل أحوال البلد، سيترك سالم سريره لعلي ويغادر تحت جنح الظلام.
يأتي المقطع الحواري الثاني متجاورا مع سابقه، يحسبه الراوي بلسما لعنف الحاضر، وهروبا من قسوته وصقيعه إلى ماضي الذاكرة، غير أنه لم يكن إلا روحا هائمة لموت معلن، في مقابل موت مؤجل في بندقية الجندي الملثم؛ فصدمة واقع بغداد دفعت بالسارد إلى تخيلات واستيهامات بعيدة عن الواقع المدجج بالعنف الغامض والذي لا يزال مستترا ويحتاج لجواب عن سؤال سالم:
"ما الذي يجري لنا.. لم الزمن طاغ إلى هذا الحد؟" (ص48).
لقد كان السارد على علم بالجواب الذي قدمه لسالم والكامن في "زمن الحروب"، ذاك الزمن الذي يلون كل شيء باللالون، ويقفز بالطفولة خارج أعمارها، فيحرق أحلامها، ويجهض أمنياتها الصغيرة في التعلم واللعب ويَحْمِلُها على الاكتواء بنار السؤال الصعب:
"لا أدري لماذا أبي فقط هو الذي قُتل في الانتفاضة؟" (ص70) .
فزينب بائعة الكعك، التي رافقت السارد لشارع المتنبي، وبسطت له محكيها، باعتبارها معيلة لإخوتها، بعدما اغتصبت طفولتها، لتشكل مع الأطفال اليتامى والمشردين في بيت الممرضة "أم غرايب"، تمظهرا لتمدد العنف في الزمن الماضي والحاضر والمستقبل، ووضع هذه الطفولة في حيز التشرد والعاهات النفسية والفكرية.
الدليل التاريخي:
وتمثله ضويَّة وهند يمضي السارد في حفرياته، من خلال النبش في الذاكرة الشخصية للبنات المقيمات في بيت أم صبيح، ومن بينهن ضويَّة، أصغر البنات وأكثرهن جرأة على الإفصاح بالحقيقة الصادمة:
"... كل ما في القصة أن أبي نام معي عندما كنت في الرابعة عشرة ..." (ص 16) .
فتجربة "ضويَّة" مع العنف، هي مدعاة لعلاقة العنف بالرغبة النفسية والبيولوجية، والتي يمثل الجنس أحد علاماتها البارزة، حيث يقوم الأب باقتراف زنا المحارم، متحديا الأعراف والتقاليد العرفية والدينية، والتي تقف حاجزا أمام تحقيق الرغبات المكبوتة وتكبح جماحها، ولذلك سيمارس سلطته الأبوية عنفا واغتصابا لابنته؛ تحقيقا للممنوع المرغوب، وبالتالي سيغدو جسد ضويَّة ضحية لاغتصابات متعددة، بعد أن فُرِضَ عليها الموت الرمزي، بإدخالها في دائرة الصمت، والإقصاء من الانتساب العائلي، والهروب بعيدا من جحيم الخوف والعنف.
"البنات هنا يشعرن بالخوف، وحذرات جدا جميعهن هاربات من أهاليهن" (ص 15).
وهو ذات المصير الذي لقيته "هند" بعد خروجها، زمن الانتفاضة، من الناصرية إلى بغداد، ومقتل زوجها على يد الحرس الجمهوري قرب مدينة "الكوت"، لتعود ثانية الى الناصرية حطام امرأة، تبحث عن أية طريقة للانتقام:
"عدتُ الى الناصرية، مشلولة التفكير، لأكثر من سنة،... وتَلَبَّسَني هاجس الانتقام منذ ذلك الحين.." (ص 135).
ولئن كانت هند ضحية للعنف المشرعن، على يد الحرس الجمهوري، فقد حولها هذا العنف إلى طاقة انتقامية، أعوزتها الوسيلة كذات مستضعفة، فانكفأت على ذاتها، وصارت تنتقم منها:
"صدقني.. أنا فقط أنتقم من جسدي بالنوم مع هؤلاء الحثالات".
لا شك أن وحش العنف ينشب أظافره في الجسد الأضعف، والجسد الأنثوي بشكل مخصوص، فعلى كاهل النساء يقع كلكل العنف ومآسيه في أزمنة الحروب والنكبات، وما حضور الجسد الأنثوي في رواية "خان الشّابندر" إلا تجل مرعب وصادم للعنف الشرعي ممثلا في السلطة والنظام، والعنف اللاشرعي ممثلا في جماعة "الملا جليل" والميليشيات المناوئة له في حي "الحيدر خانة"، وكل منها يتخذ من الجسد الأنثوي أساسا فضاءً مستباحا لممارسة أبشع أنواع العنف، سواء بدعوى خرق النظام واحترام القانون، أو بدعاوى الطهرانية، وفصل الجسد عن العقل المغيب، ولذلك يصبح هذا الجسد مساحة لتصفية الحسابات بين الميليشيات المتصارعة، حينا، وضحية للانتهاك والاغتصاب والقتل والتشويه والتمثيل، حينا آخر، بدعوى ردّه لجادة الصواب، وتخليص العقل والروح الساكنين فيه من براثن الرذيلة والمحرمات.
الدليل العاطفي والروحي:
ويمثله نفين ومجر
لا تتوقف الحكاية، بمسرودها الذاتي والغيري، عند المستويين التعاقبي/التاريخي والتزامني الجغرافي، بل تستدعي بعدا ثالثا، يستبطن عمقها العاطفي والروحي، ممثلا في الصحفية "نيفين" المتكفلة برعاية الراوي/البطل بعد عودته إلى بغداد، وتقديم المشورة له، وتفهم مغامراته:
"لقد غبت عن بغداد أكثر من خمسة وعشرين عاما.. المدينة تغيرت وملامحها طُمست، والناس غير الناس.. عليك أن تحذر.. الأوضاع هنا ما زالت خطرة..." (ص 88).
وهي الحارسة على ما تبقى من قلاع الحب، بقفص طيور الحب الذي تحتفظ به في شرفة غرفتها، ولوحة "سيدوري" في مرسمها، انها صورة المتشبثين بالوطن بالرغم من توالي النكبات، وسريان الحرائق والانفجارات، وتداعي السقوف والشرفات على جدران الخرائب والبيوت الآيلة للسقوط.
بينما يحمل "مجر عمارة" رمز الدال الروحاني، الباحث عن نور هارب وسط الحرائق، وضياء متوار خلف سدول الليل.
وبالتالي فإن كلا من نيفين ومجر، هما القائمان بتعديل بوصلة الراوي/البطل، كلما تاه في أزقة الحيدر خانة أو في دروب الذاكرة، لقد ظلا يعززان صموده أمام صدمات العنف المتوالية، طيلة المسار السردي للنص الروائي، كما شكلا بالنسبة له محطة استراحة لإعادة التوازن.
تسري في أديم النص الروائي "خان الشّابندر" أسطورة عشتار العائدة من رمادها والمتلبسة في شخصيات سالم وضويَّة وهند وسائق التاكسي:
"الا تعرفين معنى الخوف"
"... لقد خبرته من قبل.. مت وحييت عشرين ألف مرة.. فلا تقلق يا عزيزي" (ص 147و 148).
"لقد خبرنا الموت يا أستاذ.. أنا شخصيا استشهدت في القادسية، ثم تبين أنني فقدت في الشيب، وبعد ذلك أسرت في إيران، وبعد سنين وجدت نفسي في مصحة عقلية" (ص 90) .
فعندما يتمطى العنف في الحياة الاجتماعية، تختلط الحياة بالموت، والموت بالحياة، كذلك تحدثت الشخصيات للسارد، وهي تحكي تجاربها الخاصة مع العنف، خوفا ورعبا وقتلا واغتصابا ونزوحا وهجرة وتمثيلا وتشويها، ومن بينها السارد الذي بدا كثير التخيلات والاستيهامات لأرواح هائمة، تناديه بأصواتها مرّة، ويراها في أجسادها مرة أخرى، الشيء الذي يجعل من الموت عيشا ووجودا، ومن الحياة طيف خيال، لتصبح الأمنيات في درجة الصفر، أو في حدودها الدنيا، عيش ساعة أو يوم آخر.
ينهض العمل الروائي على اشتغال السارد، باعتباره الوكيل الرسمي للكاتب الضمني، والقائم على حياكة البساط السردي والحكائي للشخصيات، من خيوط العهن الواقعي والمتخيل، وذلك كي تتمكن هذه الشخصيات بمعية المتلقي من الإبحار في عوالم النص، واكتشاف مجاهله وتخومه ومغامراته.
ولأن متن النص الأدبي يتخلق من الحروف والكلمات والجمل، وكلها معطيات تنتسب بالضرورة للغة، باعتبارها معطى اجتماعيا ديناميكيا، يتفاعل بالتواصل والتداول الاجتماعي والواقعي في آن واحد، فإن المبدع الأدبي ما انفك يستوحي مادته الأولى من الواقع الاجتماعي، ويعيد تصنيعها في مختبر مخياله، ليخرجها إبداعا جماليا سويا، ليتأطر في خانة جنس إبداعي أو فني ما، بحسب مقوماته وآليات اشتغاله الداخلية.
من البديهي القول بأن العمل الروائي شأنه شأن كل نص أدبي أو فني لا يعيد إنتاج الواقع، بقدر ما يبني واقعا متخيلا، ومجتمعا افتراضيا، بشخصيات من ورق ولغة، ولا يقف بالضرورة عند ذلك الحد، من غير ما اشتباك مع الواقع الواقعي، وقراءته، وربما تفسيره وتأويله والاشتباك معه، وفق منظورات موضوعاتية وتقنية وجمالية، ابتغاء اكسابه نوعا من التوازن المفقود فيه، من وجهة نظر كاتبه أو مبدعه، والتي لن تكون ملزمة لقرائه المتعددين، الشيء الذي تتعدد معه وجهات النظر للنص المنتج نفسه، انطلاقا من مختلف القراءات المنتجة لما لا نهاية له من المعاني والمدلولالات.
وفق هذا المنظور تبتغي هذه القراءة في رواية "خان الشّابندر" لمحمد حياوي (الصادرة عن دار الآدب، بيروت 2015) - مقاربة موضوعة العنف، باعتبارها ثيمة ذات هيمنة في النص الروائي، سواء على مستوى السرد والوصف ومحكي الشخصيات ورؤاها.
وبالنظر لمرجع الحكاية فضائيا وزمانيا، حيث يتنزل السارد الممسرح/الصحفي علي موحان، في إطار ترهين سردي، يخبر من خلاله قارئه بغايته من تحمل مقاليد رواية النص، وهي قول الحقيقة الوجودية التالية: "لقد خلقنا في هذا العالم لنشهد سلسلة من المسرات الطويلة والآلام المتناسخة" (ص 7)، وعليه سيكون من مهامه الزج بالمتلقي في "..عالم القصص الحزينة والاحلام المحبطة والامنيات الذابلة" ص 26.
لذلك يتمثل الراوي مهنته بحذق بالإصغاء المتأني لشخصيات النص ونقل كل شيء عنها، يقول مخاطبا ضويَّة: "أنا أريد أن أعرف كل شيء عنك لكن، لو احببت أن تبدئي من هذه النقطة، فلا بأس.." (ص 16)، ومن ثم تنحصر مهمة السارد بالإخبار عن النقلات الزمنية والمكانية ووصف فضاءات الأحداث والحكايات حسب توارد الشخصيات في ثنايا المحكي الروائي، فيما يشبه فيلما وثائقيا، تلعب فيه الكاميرا دورا محايدا إلى حد ما، ويتخذ فيه السارد من كل شخصية دليلا لقراءة وتصوير تمظهرات العنف، التي تسري في جسد مدينة بغداد وتنخر ذاكرتها، وتدثر نهاراتها بالظلمة ودخان الحرائق السابحة في سمائها.
تتوزع أدلة المسار الحكائي والسردي إلى ثلاثة أنواع من الأدلة، والتي يمكن توصيفها على الشكل التالي:
الدليل الجغرافي:
ويمثله كل من محمود وسالم وزينب؛ فمحمود هو من يقود السارد/علي الصحفي إلى بيت أم صبيح، بقصد التعرف على البنات، وسماع حكاياتهن، وهناك سيلتقي بضويَّة وهند، وسينحصر دور محمود في إخراج الراوي من أزقة المدينة القديمة إلى ساحة الميدان ليلا، حيث سيواجه السارد أولى صور العنف، عندما مر "... على نقطة تفتيش.. كان جنودها يشعلون نارا في برميل صغير ويتدفأون..صاح بي أحدهم:
إلى أين؟
كانت لهجته غير ودية.. وعندما اقتربت منه، هتف متحفزا:
قف.. لا تقترب.. ماذا تريد؟
وصوب بندقيته ناحيتي.. كانت العتمة تحول دون التعرف على ملامحه، كما أنه كان ملثما ومستفزا..." (ص 42).
سار الراوي علي على غير هدى بين العطفات المعتمة، الحائمة حولها الأطياف والأشباح، إلى أن تلقفه صديق قديم يدعى سالم محمد حسين، متلبس بالحياة وإن كان قد أعدم في سجن "أبو غريب" منذ خمس وعشرين سنة:
" سالم.. يا صديقي الحبيب.. ألم تمت؟ سمعت أنهم أطلقوا عليك الرصاص؟
أي رصاص هذا؟ ها أنا أمامك كما ترى. دعك من هذا الحديث وأخبرني...
كنت أحكي له وهو يقودني بين الأزقة المظلمة التي خبرها جيدا...
اسمع.. الوضع خطير جدا، يجب أن تبيت هنا الليلة.. في غرفتي فوق السطح..." (ص 44)، وبعد حديث طويل عن أيام الجامعة والأصدقاء ومآل أحوال البلد، سيترك سالم سريره لعلي ويغادر تحت جنح الظلام.
يأتي المقطع الحواري الثاني متجاورا مع سابقه، يحسبه الراوي بلسما لعنف الحاضر، وهروبا من قسوته وصقيعه إلى ماضي الذاكرة، غير أنه لم يكن إلا روحا هائمة لموت معلن، في مقابل موت مؤجل في بندقية الجندي الملثم؛ فصدمة واقع بغداد دفعت بالسارد إلى تخيلات واستيهامات بعيدة عن الواقع المدجج بالعنف الغامض والذي لا يزال مستترا ويحتاج لجواب عن سؤال سالم:
"ما الذي يجري لنا.. لم الزمن طاغ إلى هذا الحد؟" (ص48).
لقد كان السارد على علم بالجواب الذي قدمه لسالم والكامن في "زمن الحروب"، ذاك الزمن الذي يلون كل شيء باللالون، ويقفز بالطفولة خارج أعمارها، فيحرق أحلامها، ويجهض أمنياتها الصغيرة في التعلم واللعب ويَحْمِلُها على الاكتواء بنار السؤال الصعب:
"لا أدري لماذا أبي فقط هو الذي قُتل في الانتفاضة؟" (ص70) .
فزينب بائعة الكعك، التي رافقت السارد لشارع المتنبي، وبسطت له محكيها، باعتبارها معيلة لإخوتها، بعدما اغتصبت طفولتها، لتشكل مع الأطفال اليتامى والمشردين في بيت الممرضة "أم غرايب"، تمظهرا لتمدد العنف في الزمن الماضي والحاضر والمستقبل، ووضع هذه الطفولة في حيز التشرد والعاهات النفسية والفكرية.
الدليل التاريخي:
وتمثله ضويَّة وهند يمضي السارد في حفرياته، من خلال النبش في الذاكرة الشخصية للبنات المقيمات في بيت أم صبيح، ومن بينهن ضويَّة، أصغر البنات وأكثرهن جرأة على الإفصاح بالحقيقة الصادمة:
"... كل ما في القصة أن أبي نام معي عندما كنت في الرابعة عشرة ..." (ص 16) .
فتجربة "ضويَّة" مع العنف، هي مدعاة لعلاقة العنف بالرغبة النفسية والبيولوجية، والتي يمثل الجنس أحد علاماتها البارزة، حيث يقوم الأب باقتراف زنا المحارم، متحديا الأعراف والتقاليد العرفية والدينية، والتي تقف حاجزا أمام تحقيق الرغبات المكبوتة وتكبح جماحها، ولذلك سيمارس سلطته الأبوية عنفا واغتصابا لابنته؛ تحقيقا للممنوع المرغوب، وبالتالي سيغدو جسد ضويَّة ضحية لاغتصابات متعددة، بعد أن فُرِضَ عليها الموت الرمزي، بإدخالها في دائرة الصمت، والإقصاء من الانتساب العائلي، والهروب بعيدا من جحيم الخوف والعنف.
"البنات هنا يشعرن بالخوف، وحذرات جدا جميعهن هاربات من أهاليهن" (ص 15).
وهو ذات المصير الذي لقيته "هند" بعد خروجها، زمن الانتفاضة، من الناصرية إلى بغداد، ومقتل زوجها على يد الحرس الجمهوري قرب مدينة "الكوت"، لتعود ثانية الى الناصرية حطام امرأة، تبحث عن أية طريقة للانتقام:
"عدتُ الى الناصرية، مشلولة التفكير، لأكثر من سنة،... وتَلَبَّسَني هاجس الانتقام منذ ذلك الحين.." (ص 135).
ولئن كانت هند ضحية للعنف المشرعن، على يد الحرس الجمهوري، فقد حولها هذا العنف إلى طاقة انتقامية، أعوزتها الوسيلة كذات مستضعفة، فانكفأت على ذاتها، وصارت تنتقم منها:
"صدقني.. أنا فقط أنتقم من جسدي بالنوم مع هؤلاء الحثالات".
لا شك أن وحش العنف ينشب أظافره في الجسد الأضعف، والجسد الأنثوي بشكل مخصوص، فعلى كاهل النساء يقع كلكل العنف ومآسيه في أزمنة الحروب والنكبات، وما حضور الجسد الأنثوي في رواية "خان الشّابندر" إلا تجل مرعب وصادم للعنف الشرعي ممثلا في السلطة والنظام، والعنف اللاشرعي ممثلا في جماعة "الملا جليل" والميليشيات المناوئة له في حي "الحيدر خانة"، وكل منها يتخذ من الجسد الأنثوي أساسا فضاءً مستباحا لممارسة أبشع أنواع العنف، سواء بدعوى خرق النظام واحترام القانون، أو بدعاوى الطهرانية، وفصل الجسد عن العقل المغيب، ولذلك يصبح هذا الجسد مساحة لتصفية الحسابات بين الميليشيات المتصارعة، حينا، وضحية للانتهاك والاغتصاب والقتل والتشويه والتمثيل، حينا آخر، بدعوى ردّه لجادة الصواب، وتخليص العقل والروح الساكنين فيه من براثن الرذيلة والمحرمات.
الدليل العاطفي والروحي:
ويمثله نفين ومجر
لا تتوقف الحكاية، بمسرودها الذاتي والغيري، عند المستويين التعاقبي/التاريخي والتزامني الجغرافي، بل تستدعي بعدا ثالثا، يستبطن عمقها العاطفي والروحي، ممثلا في الصحفية "نيفين" المتكفلة برعاية الراوي/البطل بعد عودته إلى بغداد، وتقديم المشورة له، وتفهم مغامراته:
"لقد غبت عن بغداد أكثر من خمسة وعشرين عاما.. المدينة تغيرت وملامحها طُمست، والناس غير الناس.. عليك أن تحذر.. الأوضاع هنا ما زالت خطرة..." (ص 88).
وهي الحارسة على ما تبقى من قلاع الحب، بقفص طيور الحب الذي تحتفظ به في شرفة غرفتها، ولوحة "سيدوري" في مرسمها، انها صورة المتشبثين بالوطن بالرغم من توالي النكبات، وسريان الحرائق والانفجارات، وتداعي السقوف والشرفات على جدران الخرائب والبيوت الآيلة للسقوط.
بينما يحمل "مجر عمارة" رمز الدال الروحاني، الباحث عن نور هارب وسط الحرائق، وضياء متوار خلف سدول الليل.
وبالتالي فإن كلا من نيفين ومجر، هما القائمان بتعديل بوصلة الراوي/البطل، كلما تاه في أزقة الحيدر خانة أو في دروب الذاكرة، لقد ظلا يعززان صموده أمام صدمات العنف المتوالية، طيلة المسار السردي للنص الروائي، كما شكلا بالنسبة له محطة استراحة لإعادة التوازن.
تسري في أديم النص الروائي "خان الشّابندر" أسطورة عشتار العائدة من رمادها والمتلبسة في شخصيات سالم وضويَّة وهند وسائق التاكسي:
"الا تعرفين معنى الخوف"
"... لقد خبرته من قبل.. مت وحييت عشرين ألف مرة.. فلا تقلق يا عزيزي" (ص 147و 148).
"لقد خبرنا الموت يا أستاذ.. أنا شخصيا استشهدت في القادسية، ثم تبين أنني فقدت في الشيب، وبعد ذلك أسرت في إيران، وبعد سنين وجدت نفسي في مصحة عقلية" (ص 90) .
فعندما يتمطى العنف في الحياة الاجتماعية، تختلط الحياة بالموت، والموت بالحياة، كذلك تحدثت الشخصيات للسارد، وهي تحكي تجاربها الخاصة مع العنف، خوفا ورعبا وقتلا واغتصابا ونزوحا وهجرة وتمثيلا وتشويها، ومن بينها السارد الذي بدا كثير التخيلات والاستيهامات لأرواح هائمة، تناديه بأصواتها مرّة، ويراها في أجسادها مرة أخرى، الشيء الذي يجعل من الموت عيشا ووجودا، ومن الحياة طيف خيال، لتصبح الأمنيات في درجة الصفر، أو في حدودها الدنيا، عيش ساعة أو يوم آخر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.