ترامب يتهم بايدن بقيادة "إدارة من الجستابو"    خبير تحكيمي: حزين على مستوى محمود البنا    محمد صلاح: هزيمة الزمالك أمام سموحة لن تؤثر على مباراة نهضة بركان    حالة الطقس اليوم.. تحذيرات من نزول البحر فى شم النسيم وسقوط أمطار    بسعر مش حتصدقه وإمكانيات هتبهرك.. تسريبات حول أحدث هواتف من Oppo    نجل هبة مجدي ومحمد محسن يتعرض لأزمة صحية مفاجئة    موعد مباراة الأهلي ضد الهلال اليوم الإثنين 6-5-2024 في الدوري السعودي والقنوات الناقلة    "لافروف": لا أحد بالغرب جاد في التفاوض لإنهاء الحرب الأوكرانية    سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الإثنين 6 مايو 2024    أحوال جوية غير مستقرة في شمال سيناء وسقوط أمطار خفيفة    تعاون مثمر في مجال المياه الإثنين بين مصر والسودان    حمادة هلال يكشف كواليس أغنية «لقيناك حابس» في المداح: صاحبتها مش موجودة    طالب ثانوي.. ننشر صورة المتوفى في حادث سباق السيارات بالإسماعيلية    أول شهادةٍ تاريخية للنور المقدس تعود للقديس غريغوريوس المنير    «القاهرة الإخبارية»: 20 شهيدا وإصابات إثر قصف إسرائيلي ل11 منزلا برفح الفلسطينية    إلهام الكردوسي تكشف ل«بين السطور» عن أول قصة حب في حياة الدكتور مجدي يعقوب    بسكويت اليانسون.. القرمشة والطعم الشهي    150 جنيهًا متوسط أسعار بيض شم النسيم اليوم الاثنين.. وهذه قيمة الدواجن    محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان    مدحت شلبي يكشف تطورات جديدة في أزمة افشة مع كولر في الأهلي    ما المحذوفات التي أقرتها التعليم لطلاب الثانوية في مادتي التاريخ والجغرافيا؟    برنامج مكثف لقوافل الدعوة المشتركة بين الأزهر والأوقاف والإفتاء في محافظات الجمهورية    أقباط الأقصر يحتفلون بعيد القيامة المجيد على كورنيش النيل (فيديو)    قادة الدول الإسلامية يدعون العالم لوقف الإبادة ضد الفلسطينيين    من بلد واحدة.. أسماء مصابي حادث سيارة عمال اليومية بالصف    "كانت محملة عمال يومية".. انقلاب سيارة ربع نقل بالصف والحصيلة 13 مصاباً    مئات ملايين الدولارات.. واشنطن تزيد ميزانية حماية المعابد اليهودية    تخفيضات على التذاكر وشهادات المعاش بالدولار.. "الهجرة" تعلن مفاجأة سارة للمصريين بالخارج    بعد ارتفاعها.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الإثنين 6 مايو 2024 في المصانع والأسواق    الجمهور يغني أغنية "عمري معاك" مع أنغام خلال حفلها بدبي (صور)    وسيم السيسي: الأدلة العلمية لا تدعم رواية انشقاق البحر الأحمر للنبي موسى    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟.. أمين الفتوى يُجيب -(فيديو)    تزامنا مع شم النسيم.. افتتاح ميدان "سينما ريكس" بالمنشية عقب تطويره    خالد مرتجي: مريم متولي لن تعود للأهلي نهائياً    نقابة أطباء القاهرة: تسجيل 1582 مستشفى خاص ومركز طبي وعيادة بالقاهرة خلال عام    رئيس البنك الأهلي: متمسكون باستمرار طارق مصطفى.. وإيقاف المستحقات لنهاية الموسم    يمن الحماقي ل قصواء الخلالي: مشروع رأس الحكمة قبلة حياة للاقتصاد المصري    الأوقاف: تعليمات بعدم وضع اي صندوق تبرع بالمساجد دون علم الوزارة    أشرف أبو الهول ل«الشاهد»: مصر تكلفت 500 مليون دولار في إعمار غزة عام 2021    عاجل - انفجار ضخم يهز مخيم نور شمس شمال الضفة الغربية.. ماذا يحدث في فلسطين الآن؟    بيج ياسمين: عندى ارتخاء فى صمامات القلب ونفسي أموت وأنا بتمرن    مصطفى عمار: «السرب» عمل فني ضخم يتناول عملية للقوات الجوية    حظك اليوم برج الحوت الاثنين 6-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    بعد عملية نوعية للقسام .. نزيف نتنياهو في "نستاريم" هل يعيد حساباته باجتياح رفح؟    الإفتاء: احترام خصوصيات الناس واجب شرعي وأخلاقي    فرج عامر: سموحة استحق الفوز ضد الزمالك والبنا عيشني حالة توتر طوال المباراة    كشف ملابسات العثور على جثة مجهولة الهوية بمصرف فى القناطر الخيرية    تؤدي إلى الفشل الكلوي وارتفاع ضغط الدم.. الصحة تحذر من تناول الأسماك المملحة    عضو «المصرية للحساسية»: «الملانة» ترفع المناعة وتقلل من السرطانات    تعزيز صحة الأطفال من خلال تناول الفواكه.. فوائد غذائية لنموهم وتطورهم    المدينة الشبابية ببورسعيد تستضيف معسكر منتخب مصر الشابات لكرة اليد مواليد 2004    الإسكان: جذبنا 10 ملايين مواطن للمدن الجديدة لهذه الأسباب.. فيديو    لفتة طيبة.. طلاب هندسة أسوان يطورون مسجد الكلية بدلا من حفل التخرج    وزيرة الهجرة: 1.9 مليار دولار عوائد مبادرة سيارات المصريين بالخارج    إغلاق مناجم ذهب في النيجر بعد نفوق عشرات الحيوانات جراء مخلفات آبار تعدين    أمينة الفتوى: لا مانع شرعيا فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شعرية العنف في "خان الشّابندر"
نشر في صوت البلد يوم 20 - 05 - 2017

ينهض العمل الروائي على اشتغال السارد، باعتباره الوكيل الرسمي للكاتب الضمني، والقائم على حياكة البساط السردي والحكائي للشخصيات، من خيوط العهن الواقعي والمتخيل، وذلك كي تتمكن هذه الشخصيات بمعية المتلقي من الإبحار في عوالم النص، واكتشاف مجاهله وتخومه ومغامراته.
ولأن متن النص الأدبي يتخلق من الحروف والكلمات والجمل، وكلها معطيات تنتسب بالضرورة للغة، باعتبارها معطى اجتماعيا ديناميكيا، يتفاعل بالتواصل والتداول الاجتماعي والواقعي في آن واحد، فإن المبدع الأدبي ما انفك يستوحي مادته الأولى من الواقع الاجتماعي، ويعيد تصنيعها في مختبر مخياله، ليخرجها إبداعا جماليا سويا، ليتأطر في خانة جنس إبداعي أو فني ما، بحسب مقوماته وآليات اشتغاله الداخلية.
من البديهي القول بأن العمل الروائي شأنه شأن كل نص أدبي أو فني لا يعيد إنتاج الواقع، بقدر ما يبني واقعا متخيلا، ومجتمعا افتراضيا، بشخصيات من ورق ولغة، ولا يقف بالضرورة عند ذلك الحد، من غير ما اشتباك مع الواقع الواقعي، وقراءته، وربما تفسيره وتأويله والاشتباك معه، وفق منظورات موضوعاتية وتقنية وجمالية، ابتغاء اكسابه نوعا من التوازن المفقود فيه، من وجهة نظر كاتبه أو مبدعه، والتي لن تكون ملزمة لقرائه المتعددين، الشيء الذي تتعدد معه وجهات النظر للنص المنتج نفسه، انطلاقا من مختلف القراءات المنتجة لما لا نهاية له من المعاني والمدلولالات.
وفق هذا المنظور تبتغي هذه القراءة في رواية "خان الشّابندر" لمحمد حياوي (الصادرة عن دار الآدب، بيروت 2015) - مقاربة موضوعة العنف، باعتبارها ثيمة ذات هيمنة في النص الروائي، سواء على مستوى السرد والوصف ومحكي الشخصيات ورؤاها.
وبالنظر لمرجع الحكاية فضائيا وزمانيا، حيث يتنزل السارد الممسرح/الصحفي علي موحان، في إطار ترهين سردي، يخبر من خلاله قارئه بغايته من تحمل مقاليد رواية النص، وهي قول الحقيقة الوجودية التالية: "لقد خلقنا في هذا العالم لنشهد سلسلة من المسرات الطويلة والآلام المتناسخة" (ص 7)، وعليه سيكون من مهامه الزج بالمتلقي في "..عالم القصص الحزينة والاحلام المحبطة والامنيات الذابلة" ص 26.
لذلك يتمثل الراوي مهنته بحذق بالإصغاء المتأني لشخصيات النص ونقل كل شيء عنها، يقول مخاطبا ضويَّة: "أنا أريد أن أعرف كل شيء عنك لكن، لو احببت أن تبدئي من هذه النقطة، فلا بأس.." (ص 16)، ومن ثم تنحصر مهمة السارد بالإخبار عن النقلات الزمنية والمكانية ووصف فضاءات الأحداث والحكايات حسب توارد الشخصيات في ثنايا المحكي الروائي، فيما يشبه فيلما وثائقيا، تلعب فيه الكاميرا دورا محايدا إلى حد ما، ويتخذ فيه السارد من كل شخصية دليلا لقراءة وتصوير تمظهرات العنف، التي تسري في جسد مدينة بغداد وتنخر ذاكرتها، وتدثر نهاراتها بالظلمة ودخان الحرائق السابحة في سمائها.
تتوزع أدلة المسار الحكائي والسردي إلى ثلاثة أنواع من الأدلة، والتي يمكن توصيفها على الشكل التالي:
الدليل الجغرافي:
ويمثله كل من محمود وسالم وزينب؛ فمحمود هو من يقود السارد/علي الصحفي إلى بيت أم صبيح، بقصد التعرف على البنات، وسماع حكاياتهن، وهناك سيلتقي بضويَّة وهند، وسينحصر دور محمود في إخراج الراوي من أزقة المدينة القديمة إلى ساحة الميدان ليلا، حيث سيواجه السارد أولى صور العنف، عندما مر "... على نقطة تفتيش.. كان جنودها يشعلون نارا في برميل صغير ويتدفأون..صاح بي أحدهم:
إلى أين؟
كانت لهجته غير ودية.. وعندما اقتربت منه، هتف متحفزا:
قف.. لا تقترب.. ماذا تريد؟
وصوب بندقيته ناحيتي.. كانت العتمة تحول دون التعرف على ملامحه، كما أنه كان ملثما ومستفزا..." (ص 42).
سار الراوي علي على غير هدى بين العطفات المعتمة، الحائمة حولها الأطياف والأشباح، إلى أن تلقفه صديق قديم يدعى سالم محمد حسين، متلبس بالحياة وإن كان قد أعدم في سجن "أبو غريب" منذ خمس وعشرين سنة:
" سالم.. يا صديقي الحبيب.. ألم تمت؟ سمعت أنهم أطلقوا عليك الرصاص؟
أي رصاص هذا؟ ها أنا أمامك كما ترى. دعك من هذا الحديث وأخبرني...
كنت أحكي له وهو يقودني بين الأزقة المظلمة التي خبرها جيدا...
اسمع.. الوضع خطير جدا، يجب أن تبيت هنا الليلة.. في غرفتي فوق السطح..." (ص 44)، وبعد حديث طويل عن أيام الجامعة والأصدقاء ومآل أحوال البلد، سيترك سالم سريره لعلي ويغادر تحت جنح الظلام.
يأتي المقطع الحواري الثاني متجاورا مع سابقه، يحسبه الراوي بلسما لعنف الحاضر، وهروبا من قسوته وصقيعه إلى ماضي الذاكرة، غير أنه لم يكن إلا روحا هائمة لموت معلن، في مقابل موت مؤجل في بندقية الجندي الملثم؛ فصدمة واقع بغداد دفعت بالسارد إلى تخيلات واستيهامات بعيدة عن الواقع المدجج بالعنف الغامض والذي لا يزال مستترا ويحتاج لجواب عن سؤال سالم:
"ما الذي يجري لنا.. لم الزمن طاغ إلى هذا الحد؟" (ص48).
لقد كان السارد على علم بالجواب الذي قدمه لسالم والكامن في "زمن الحروب"، ذاك الزمن الذي يلون كل شيء باللالون، ويقفز بالطفولة خارج أعمارها، فيحرق أحلامها، ويجهض أمنياتها الصغيرة في التعلم واللعب ويَحْمِلُها على الاكتواء بنار السؤال الصعب:
"لا أدري لماذا أبي فقط هو الذي قُتل في الانتفاضة؟" (ص70) .
فزينب بائعة الكعك، التي رافقت السارد لشارع المتنبي، وبسطت له محكيها، باعتبارها معيلة لإخوتها، بعدما اغتصبت طفولتها، لتشكل مع الأطفال اليتامى والمشردين في بيت الممرضة "أم غرايب"، تمظهرا لتمدد العنف في الزمن الماضي والحاضر والمستقبل، ووضع هذه الطفولة في حيز التشرد والعاهات النفسية والفكرية.
الدليل التاريخي:
وتمثله ضويَّة وهند يمضي السارد في حفرياته، من خلال النبش في الذاكرة الشخصية للبنات المقيمات في بيت أم صبيح، ومن بينهن ضويَّة، أصغر البنات وأكثرهن جرأة على الإفصاح بالحقيقة الصادمة:
"... كل ما في القصة أن أبي نام معي عندما كنت في الرابعة عشرة ..." (ص 16) .
فتجربة "ضويَّة" مع العنف، هي مدعاة لعلاقة العنف بالرغبة النفسية والبيولوجية، والتي يمثل الجنس أحد علاماتها البارزة، حيث يقوم الأب باقتراف زنا المحارم، متحديا الأعراف والتقاليد العرفية والدينية، والتي تقف حاجزا أمام تحقيق الرغبات المكبوتة وتكبح جماحها، ولذلك سيمارس سلطته الأبوية عنفا واغتصابا لابنته؛ تحقيقا للممنوع المرغوب، وبالتالي سيغدو جسد ضويَّة ضحية لاغتصابات متعددة، بعد أن فُرِضَ عليها الموت الرمزي، بإدخالها في دائرة الصمت، والإقصاء من الانتساب العائلي، والهروب بعيدا من جحيم الخوف والعنف.
"البنات هنا يشعرن بالخوف، وحذرات جدا جميعهن هاربات من أهاليهن" (ص 15).
وهو ذات المصير الذي لقيته "هند" بعد خروجها، زمن الانتفاضة، من الناصرية إلى بغداد، ومقتل زوجها على يد الحرس الجمهوري قرب مدينة "الكوت"، لتعود ثانية الى الناصرية حطام امرأة، تبحث عن أية طريقة للانتقام:
"عدتُ الى الناصرية، مشلولة التفكير، لأكثر من سنة،... وتَلَبَّسَني هاجس الانتقام منذ ذلك الحين.." (ص 135).
ولئن كانت هند ضحية للعنف المشرعن، على يد الحرس الجمهوري، فقد حولها هذا العنف إلى طاقة انتقامية، أعوزتها الوسيلة كذات مستضعفة، فانكفأت على ذاتها، وصارت تنتقم منها:
"صدقني.. أنا فقط أنتقم من جسدي بالنوم مع هؤلاء الحثالات".
لا شك أن وحش العنف ينشب أظافره في الجسد الأضعف، والجسد الأنثوي بشكل مخصوص، فعلى كاهل النساء يقع كلكل العنف ومآسيه في أزمنة الحروب والنكبات، وما حضور الجسد الأنثوي في رواية "خان الشّابندر" إلا تجل مرعب وصادم للعنف الشرعي ممثلا في السلطة والنظام، والعنف اللاشرعي ممثلا في جماعة "الملا جليل" والميليشيات المناوئة له في حي "الحيدر خانة"، وكل منها يتخذ من الجسد الأنثوي أساسا فضاءً مستباحا لممارسة أبشع أنواع العنف، سواء بدعوى خرق النظام واحترام القانون، أو بدعاوى الطهرانية، وفصل الجسد عن العقل المغيب، ولذلك يصبح هذا الجسد مساحة لتصفية الحسابات بين الميليشيات المتصارعة، حينا، وضحية للانتهاك والاغتصاب والقتل والتشويه والتمثيل، حينا آخر، بدعوى ردّه لجادة الصواب، وتخليص العقل والروح الساكنين فيه من براثن الرذيلة والمحرمات.
الدليل العاطفي والروحي:
ويمثله نفين ومجر
لا تتوقف الحكاية، بمسرودها الذاتي والغيري، عند المستويين التعاقبي/التاريخي والتزامني الجغرافي، بل تستدعي بعدا ثالثا، يستبطن عمقها العاطفي والروحي، ممثلا في الصحفية "نيفين" المتكفلة برعاية الراوي/البطل بعد عودته إلى بغداد، وتقديم المشورة له، وتفهم مغامراته:
"لقد غبت عن بغداد أكثر من خمسة وعشرين عاما.. المدينة تغيرت وملامحها طُمست، والناس غير الناس.. عليك أن تحذر.. الأوضاع هنا ما زالت خطرة..." (ص 88).
وهي الحارسة على ما تبقى من قلاع الحب، بقفص طيور الحب الذي تحتفظ به في شرفة غرفتها، ولوحة "سيدوري" في مرسمها، انها صورة المتشبثين بالوطن بالرغم من توالي النكبات، وسريان الحرائق والانفجارات، وتداعي السقوف والشرفات على جدران الخرائب والبيوت الآيلة للسقوط.
بينما يحمل "مجر عمارة" رمز الدال الروحاني، الباحث عن نور هارب وسط الحرائق، وضياء متوار خلف سدول الليل.
وبالتالي فإن كلا من نيفين ومجر، هما القائمان بتعديل بوصلة الراوي/البطل، كلما تاه في أزقة الحيدر خانة أو في دروب الذاكرة، لقد ظلا يعززان صموده أمام صدمات العنف المتوالية، طيلة المسار السردي للنص الروائي، كما شكلا بالنسبة له محطة استراحة لإعادة التوازن.
تسري في أديم النص الروائي "خان الشّابندر" أسطورة عشتار العائدة من رمادها والمتلبسة في شخصيات سالم وضويَّة وهند وسائق التاكسي:
"الا تعرفين معنى الخوف"
"... لقد خبرته من قبل.. مت وحييت عشرين ألف مرة.. فلا تقلق يا عزيزي" (ص 147و 148).
"لقد خبرنا الموت يا أستاذ.. أنا شخصيا استشهدت في القادسية، ثم تبين أنني فقدت في الشيب، وبعد ذلك أسرت في إيران، وبعد سنين وجدت نفسي في مصحة عقلية" (ص 90) .
فعندما يتمطى العنف في الحياة الاجتماعية، تختلط الحياة بالموت، والموت بالحياة، كذلك تحدثت الشخصيات للسارد، وهي تحكي تجاربها الخاصة مع العنف، خوفا ورعبا وقتلا واغتصابا ونزوحا وهجرة وتمثيلا وتشويها، ومن بينها السارد الذي بدا كثير التخيلات والاستيهامات لأرواح هائمة، تناديه بأصواتها مرّة، ويراها في أجسادها مرة أخرى، الشيء الذي يجعل من الموت عيشا ووجودا، ومن الحياة طيف خيال، لتصبح الأمنيات في درجة الصفر، أو في حدودها الدنيا، عيش ساعة أو يوم آخر.
ينهض العمل الروائي على اشتغال السارد، باعتباره الوكيل الرسمي للكاتب الضمني، والقائم على حياكة البساط السردي والحكائي للشخصيات، من خيوط العهن الواقعي والمتخيل، وذلك كي تتمكن هذه الشخصيات بمعية المتلقي من الإبحار في عوالم النص، واكتشاف مجاهله وتخومه ومغامراته.
ولأن متن النص الأدبي يتخلق من الحروف والكلمات والجمل، وكلها معطيات تنتسب بالضرورة للغة، باعتبارها معطى اجتماعيا ديناميكيا، يتفاعل بالتواصل والتداول الاجتماعي والواقعي في آن واحد، فإن المبدع الأدبي ما انفك يستوحي مادته الأولى من الواقع الاجتماعي، ويعيد تصنيعها في مختبر مخياله، ليخرجها إبداعا جماليا سويا، ليتأطر في خانة جنس إبداعي أو فني ما، بحسب مقوماته وآليات اشتغاله الداخلية.
من البديهي القول بأن العمل الروائي شأنه شأن كل نص أدبي أو فني لا يعيد إنتاج الواقع، بقدر ما يبني واقعا متخيلا، ومجتمعا افتراضيا، بشخصيات من ورق ولغة، ولا يقف بالضرورة عند ذلك الحد، من غير ما اشتباك مع الواقع الواقعي، وقراءته، وربما تفسيره وتأويله والاشتباك معه، وفق منظورات موضوعاتية وتقنية وجمالية، ابتغاء اكسابه نوعا من التوازن المفقود فيه، من وجهة نظر كاتبه أو مبدعه، والتي لن تكون ملزمة لقرائه المتعددين، الشيء الذي تتعدد معه وجهات النظر للنص المنتج نفسه، انطلاقا من مختلف القراءات المنتجة لما لا نهاية له من المعاني والمدلولالات.
وفق هذا المنظور تبتغي هذه القراءة في رواية "خان الشّابندر" لمحمد حياوي (الصادرة عن دار الآدب، بيروت 2015) - مقاربة موضوعة العنف، باعتبارها ثيمة ذات هيمنة في النص الروائي، سواء على مستوى السرد والوصف ومحكي الشخصيات ورؤاها.
وبالنظر لمرجع الحكاية فضائيا وزمانيا، حيث يتنزل السارد الممسرح/الصحفي علي موحان، في إطار ترهين سردي، يخبر من خلاله قارئه بغايته من تحمل مقاليد رواية النص، وهي قول الحقيقة الوجودية التالية: "لقد خلقنا في هذا العالم لنشهد سلسلة من المسرات الطويلة والآلام المتناسخة" (ص 7)، وعليه سيكون من مهامه الزج بالمتلقي في "..عالم القصص الحزينة والاحلام المحبطة والامنيات الذابلة" ص 26.
لذلك يتمثل الراوي مهنته بحذق بالإصغاء المتأني لشخصيات النص ونقل كل شيء عنها، يقول مخاطبا ضويَّة: "أنا أريد أن أعرف كل شيء عنك لكن، لو احببت أن تبدئي من هذه النقطة، فلا بأس.." (ص 16)، ومن ثم تنحصر مهمة السارد بالإخبار عن النقلات الزمنية والمكانية ووصف فضاءات الأحداث والحكايات حسب توارد الشخصيات في ثنايا المحكي الروائي، فيما يشبه فيلما وثائقيا، تلعب فيه الكاميرا دورا محايدا إلى حد ما، ويتخذ فيه السارد من كل شخصية دليلا لقراءة وتصوير تمظهرات العنف، التي تسري في جسد مدينة بغداد وتنخر ذاكرتها، وتدثر نهاراتها بالظلمة ودخان الحرائق السابحة في سمائها.
تتوزع أدلة المسار الحكائي والسردي إلى ثلاثة أنواع من الأدلة، والتي يمكن توصيفها على الشكل التالي:
الدليل الجغرافي:
ويمثله كل من محمود وسالم وزينب؛ فمحمود هو من يقود السارد/علي الصحفي إلى بيت أم صبيح، بقصد التعرف على البنات، وسماع حكاياتهن، وهناك سيلتقي بضويَّة وهند، وسينحصر دور محمود في إخراج الراوي من أزقة المدينة القديمة إلى ساحة الميدان ليلا، حيث سيواجه السارد أولى صور العنف، عندما مر "... على نقطة تفتيش.. كان جنودها يشعلون نارا في برميل صغير ويتدفأون..صاح بي أحدهم:
إلى أين؟
كانت لهجته غير ودية.. وعندما اقتربت منه، هتف متحفزا:
قف.. لا تقترب.. ماذا تريد؟
وصوب بندقيته ناحيتي.. كانت العتمة تحول دون التعرف على ملامحه، كما أنه كان ملثما ومستفزا..." (ص 42).
سار الراوي علي على غير هدى بين العطفات المعتمة، الحائمة حولها الأطياف والأشباح، إلى أن تلقفه صديق قديم يدعى سالم محمد حسين، متلبس بالحياة وإن كان قد أعدم في سجن "أبو غريب" منذ خمس وعشرين سنة:
" سالم.. يا صديقي الحبيب.. ألم تمت؟ سمعت أنهم أطلقوا عليك الرصاص؟
أي رصاص هذا؟ ها أنا أمامك كما ترى. دعك من هذا الحديث وأخبرني...
كنت أحكي له وهو يقودني بين الأزقة المظلمة التي خبرها جيدا...
اسمع.. الوضع خطير جدا، يجب أن تبيت هنا الليلة.. في غرفتي فوق السطح..." (ص 44)، وبعد حديث طويل عن أيام الجامعة والأصدقاء ومآل أحوال البلد، سيترك سالم سريره لعلي ويغادر تحت جنح الظلام.
يأتي المقطع الحواري الثاني متجاورا مع سابقه، يحسبه الراوي بلسما لعنف الحاضر، وهروبا من قسوته وصقيعه إلى ماضي الذاكرة، غير أنه لم يكن إلا روحا هائمة لموت معلن، في مقابل موت مؤجل في بندقية الجندي الملثم؛ فصدمة واقع بغداد دفعت بالسارد إلى تخيلات واستيهامات بعيدة عن الواقع المدجج بالعنف الغامض والذي لا يزال مستترا ويحتاج لجواب عن سؤال سالم:
"ما الذي يجري لنا.. لم الزمن طاغ إلى هذا الحد؟" (ص48).
لقد كان السارد على علم بالجواب الذي قدمه لسالم والكامن في "زمن الحروب"، ذاك الزمن الذي يلون كل شيء باللالون، ويقفز بالطفولة خارج أعمارها، فيحرق أحلامها، ويجهض أمنياتها الصغيرة في التعلم واللعب ويَحْمِلُها على الاكتواء بنار السؤال الصعب:
"لا أدري لماذا أبي فقط هو الذي قُتل في الانتفاضة؟" (ص70) .
فزينب بائعة الكعك، التي رافقت السارد لشارع المتنبي، وبسطت له محكيها، باعتبارها معيلة لإخوتها، بعدما اغتصبت طفولتها، لتشكل مع الأطفال اليتامى والمشردين في بيت الممرضة "أم غرايب"، تمظهرا لتمدد العنف في الزمن الماضي والحاضر والمستقبل، ووضع هذه الطفولة في حيز التشرد والعاهات النفسية والفكرية.
الدليل التاريخي:
وتمثله ضويَّة وهند يمضي السارد في حفرياته، من خلال النبش في الذاكرة الشخصية للبنات المقيمات في بيت أم صبيح، ومن بينهن ضويَّة، أصغر البنات وأكثرهن جرأة على الإفصاح بالحقيقة الصادمة:
"... كل ما في القصة أن أبي نام معي عندما كنت في الرابعة عشرة ..." (ص 16) .
فتجربة "ضويَّة" مع العنف، هي مدعاة لعلاقة العنف بالرغبة النفسية والبيولوجية، والتي يمثل الجنس أحد علاماتها البارزة، حيث يقوم الأب باقتراف زنا المحارم، متحديا الأعراف والتقاليد العرفية والدينية، والتي تقف حاجزا أمام تحقيق الرغبات المكبوتة وتكبح جماحها، ولذلك سيمارس سلطته الأبوية عنفا واغتصابا لابنته؛ تحقيقا للممنوع المرغوب، وبالتالي سيغدو جسد ضويَّة ضحية لاغتصابات متعددة، بعد أن فُرِضَ عليها الموت الرمزي، بإدخالها في دائرة الصمت، والإقصاء من الانتساب العائلي، والهروب بعيدا من جحيم الخوف والعنف.
"البنات هنا يشعرن بالخوف، وحذرات جدا جميعهن هاربات من أهاليهن" (ص 15).
وهو ذات المصير الذي لقيته "هند" بعد خروجها، زمن الانتفاضة، من الناصرية إلى بغداد، ومقتل زوجها على يد الحرس الجمهوري قرب مدينة "الكوت"، لتعود ثانية الى الناصرية حطام امرأة، تبحث عن أية طريقة للانتقام:
"عدتُ الى الناصرية، مشلولة التفكير، لأكثر من سنة،... وتَلَبَّسَني هاجس الانتقام منذ ذلك الحين.." (ص 135).
ولئن كانت هند ضحية للعنف المشرعن، على يد الحرس الجمهوري، فقد حولها هذا العنف إلى طاقة انتقامية، أعوزتها الوسيلة كذات مستضعفة، فانكفأت على ذاتها، وصارت تنتقم منها:
"صدقني.. أنا فقط أنتقم من جسدي بالنوم مع هؤلاء الحثالات".
لا شك أن وحش العنف ينشب أظافره في الجسد الأضعف، والجسد الأنثوي بشكل مخصوص، فعلى كاهل النساء يقع كلكل العنف ومآسيه في أزمنة الحروب والنكبات، وما حضور الجسد الأنثوي في رواية "خان الشّابندر" إلا تجل مرعب وصادم للعنف الشرعي ممثلا في السلطة والنظام، والعنف اللاشرعي ممثلا في جماعة "الملا جليل" والميليشيات المناوئة له في حي "الحيدر خانة"، وكل منها يتخذ من الجسد الأنثوي أساسا فضاءً مستباحا لممارسة أبشع أنواع العنف، سواء بدعوى خرق النظام واحترام القانون، أو بدعاوى الطهرانية، وفصل الجسد عن العقل المغيب، ولذلك يصبح هذا الجسد مساحة لتصفية الحسابات بين الميليشيات المتصارعة، حينا، وضحية للانتهاك والاغتصاب والقتل والتشويه والتمثيل، حينا آخر، بدعوى ردّه لجادة الصواب، وتخليص العقل والروح الساكنين فيه من براثن الرذيلة والمحرمات.
الدليل العاطفي والروحي:
ويمثله نفين ومجر
لا تتوقف الحكاية، بمسرودها الذاتي والغيري، عند المستويين التعاقبي/التاريخي والتزامني الجغرافي، بل تستدعي بعدا ثالثا، يستبطن عمقها العاطفي والروحي، ممثلا في الصحفية "نيفين" المتكفلة برعاية الراوي/البطل بعد عودته إلى بغداد، وتقديم المشورة له، وتفهم مغامراته:
"لقد غبت عن بغداد أكثر من خمسة وعشرين عاما.. المدينة تغيرت وملامحها طُمست، والناس غير الناس.. عليك أن تحذر.. الأوضاع هنا ما زالت خطرة..." (ص 88).
وهي الحارسة على ما تبقى من قلاع الحب، بقفص طيور الحب الذي تحتفظ به في شرفة غرفتها، ولوحة "سيدوري" في مرسمها، انها صورة المتشبثين بالوطن بالرغم من توالي النكبات، وسريان الحرائق والانفجارات، وتداعي السقوف والشرفات على جدران الخرائب والبيوت الآيلة للسقوط.
بينما يحمل "مجر عمارة" رمز الدال الروحاني، الباحث عن نور هارب وسط الحرائق، وضياء متوار خلف سدول الليل.
وبالتالي فإن كلا من نيفين ومجر، هما القائمان بتعديل بوصلة الراوي/البطل، كلما تاه في أزقة الحيدر خانة أو في دروب الذاكرة، لقد ظلا يعززان صموده أمام صدمات العنف المتوالية، طيلة المسار السردي للنص الروائي، كما شكلا بالنسبة له محطة استراحة لإعادة التوازن.
تسري في أديم النص الروائي "خان الشّابندر" أسطورة عشتار العائدة من رمادها والمتلبسة في شخصيات سالم وضويَّة وهند وسائق التاكسي:
"الا تعرفين معنى الخوف"
"... لقد خبرته من قبل.. مت وحييت عشرين ألف مرة.. فلا تقلق يا عزيزي" (ص 147و 148).
"لقد خبرنا الموت يا أستاذ.. أنا شخصيا استشهدت في القادسية، ثم تبين أنني فقدت في الشيب، وبعد ذلك أسرت في إيران، وبعد سنين وجدت نفسي في مصحة عقلية" (ص 90) .
فعندما يتمطى العنف في الحياة الاجتماعية، تختلط الحياة بالموت، والموت بالحياة، كذلك تحدثت الشخصيات للسارد، وهي تحكي تجاربها الخاصة مع العنف، خوفا ورعبا وقتلا واغتصابا ونزوحا وهجرة وتمثيلا وتشويها، ومن بينها السارد الذي بدا كثير التخيلات والاستيهامات لأرواح هائمة، تناديه بأصواتها مرّة، ويراها في أجسادها مرة أخرى، الشيء الذي يجعل من الموت عيشا ووجودا، ومن الحياة طيف خيال، لتصبح الأمنيات في درجة الصفر، أو في حدودها الدنيا، عيش ساعة أو يوم آخر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.