لم يطرح أحد زحف الريف على المدينة المصرية بمثل ما فعل ذلك المخرج فطين عبدالوهاب في فيلمه «العتبة الخضرا» (1959). يزحف الريف على المدن المصرية الكبرى منذ قرون. لكن الزحف تركز على القاهرة، منذ حوّلتها جمهورية «الضباط الأحرار»، في مسيرتها التوحيدية (والتبسيطية) الخانقة لكل تنوع، مركزاً وحيداً لحياة المصريين، على حساب كل مركز حضري آخر، وخصوصاً مدينة الإسكندرية. يأخذ إدوارد سعيد، الذي تعلّم في كلية فيكتوريا في الإسكندرية، على المؤرخ اليهودي البريطاني السكندري المولد والصبا إيريك هوبزبوم، أنه حين أشار إلى سكان الإسكندرية، في زمنه، ذكر الأوروبيين واليهود ثم أضاف: «وكان هناك عرب أيضاً». لكن من المؤكد أن العرب ظلوا على الهوامش الواسعة لذلك المركز الحضري الكبير حتى بدأوا زحفهم عليه، مقبلين من أعماق الريف، بعد 1952. وإذا كانت الإسكندرية ومدن مثل بورسعيد والإسماعيلية، ظلت تحتفظ بقدر من طابعها الكوزموبوليتي حتى 1956 فقد استسلمت القاهرة مبكراً. والترييف مرتبط - في التاريخ المصري المعاصر وفي هذا الفيلم - بسهولة الانزلاق إلى ما تمكن تسميته «أحلام اليقظة الجمعية». يدور الصراع في فيلم «العتبة الخضرا» بين ريفي متوسط الحال (إسماعيل ياسين) تسانده سيدة أعمال قاهرية متوسطة الحال (زينات صدقي)، كممثليْن للبرجوازية المتوسطة التي بقيت مهيمنة على النشاط الاقتصادي غير الحكومي حتى 1971، وبين أفّاق حضري (أحمد مظهر) نراه، أول ما نراه رئيساً لشركة «الشمس والهواء» (!). وقبل أن نرى هذا الأفّاق وهو يلاعب واحداً من الضحايا المستهدفين، يدخل بنا الفيلم مصرَفاً نقابل فيه موظفاً صغيراً، تحرك أطماعه محتالةٌ فاتنة تعمل مع الأفّاق الأكبر، ليحدد لنا الفيلم مصدر الشر في مصر في تلك الحقبة بأنه اللعب بأحلام البسطاء، بالوعد بنجاحات سهلة وبغنائم بعيدة عن متناولهم، لكن يُمَنَّوْن ببلوغها إن ضحوا بما في أيديهم، في سبيل ما هو بعيد عنهم. الضحية صعيدي وإذا كان موظف البنك الصغير في حاجة إلى امرأة جذابة ولرشوة صغيرة ليسقط في الفخ، فالضحية الأخطر، الصعيدي الذي يدخل القاهرة وفي جيبه ألوف يريد استثمارها، يمضي بإرادته إلى الفخ. وقبل أن يمضي الأفّاق إلى حيث يفتك بالضحية الأولى، موظف البنك، ويبدأ لعبته مع ضحيته الثانية، الصعيدي الباحث عن الثروة في القاهرة، نجده يقف أمام أرفف تعلوها لافتة تقول «يا رب» وعليها مجموعة من المطبوعات والصور، أبرزها صورة الرئيس جمال عبدالناصر، زعيم الأمة ومحرك آمالها وأحلامها، وقائد النظام الذي يسيء الأفّاق استخدام آلياته ليحقق أغراضه. يوهم الأفّاق ضحيته بأنه باع له ميدان العتبة الخضراء، مركز الحركة التجارية الأشد كثافة ليومنا هذا، وحيث كانت تقوم دار الأوبرا، ومسرح الأزبكية وحديقتها الضخمة، وفندق الكونتننتال، مقر غالبية أعضاء البرلمان، طوال الموسم البرلماني، ومقر قيادة شرطة الإطفاء التي يقصدها الصعيدي المخدوع متصوراً أنه يملكها ويملك المؤسسات المجاورة لها: منذ متى؟ منذ الثالث والعشرين من تموز 1952 يوم قامت حركة الضباط ؟ منذ الثالث عشر من حزيران (يونيو) 1956 يوم خرج آخر جندي بريطاني من البلاد؟ يوم إعلان الجمهورية؟ يوم اندحار العدوان الثلاثي؟ لا ذكر لهذه التواريخ ولا لغيرها، كل ما في الأمر أن أفّاقاً ما أوهمَ الصعيدي البسيط بأنه يملك قلب القاهرة. ويطالب الصعيدي أحد قادة الشرطة بأن يطلعه على ما لديه من أوراق ومستندات ليكون بوسعه أن يحدد حصته من إيرادات الشرطة. ويسأله الضابط: بأي صفة تطالب بما تطالب به؟ ويرد الرجل: بصفتي أنا المالك وأنت المستأجر. وسرعان ما يدرك الضابط حقيقة ما جرى لهذا الساذج. وتفعل آليات القانون فعلها، لضبط الأفّاق ووقف سلوكياته المنحرفة، كما يحدث في مختلف أفلام فطين عبدالوهاب. لكن آليات القانون توقف المخالفات الجزئية التي تقع داخل البنية الاجتماعية السياسية، على أي حال كانت، أما اختلالات هذه البنية فتبقى بعيدة من تناول هذه الآليات ناطحات سحاب وفي أحد المشاهد، يقف المخدوع ومعه صديقته، بعد أن وقّعا مع الأفّاق عقد شراء ميدان العتبة الخضراء، يطالعان ميدان العتبة، فتقول له الصديقة: لا لزوم لمسرح الأزبكية وحديقتها. سوف نزيل هذا كله ونقيم مكانه ناطحات سحاب. وتكاد تكون هذه العبارة نبوءة سوداء. فالكتل الخرسانية تتوالد في كل بقعة خضراء في مصر، منذ تلك الحقبة وإلى اليوم. والغالبية العظمى من ملّاك البنايات الضخمة ريفيون زحفوا إلى المدينة، وفرضوا عليها قيمهم محققين بذلك نبوءة أخرى تتمثل بعبارة منسوبة إلى الرئيس جمال عبدالناصر، يزعم الزاعمون أنه قال فيها: «مجتمعنا لا تمثله الزمالك (الحي الكوزموبوليتي الأرقى) بل تمثله أبوتشت (قرية في مصر العليا)». لم يطرح أحد زحف الريف على المدينة المصرية بمثل ما فعل ذلك المخرج فطين عبدالوهاب في فيلمه «العتبة الخضرا» (1959). يزحف الريف على المدن المصرية الكبرى منذ قرون. لكن الزحف تركز على القاهرة، منذ حوّلتها جمهورية «الضباط الأحرار»، في مسيرتها التوحيدية (والتبسيطية) الخانقة لكل تنوع، مركزاً وحيداً لحياة المصريين، على حساب كل مركز حضري آخر، وخصوصاً مدينة الإسكندرية. يأخذ إدوارد سعيد، الذي تعلّم في كلية فيكتوريا في الإسكندرية، على المؤرخ اليهودي البريطاني السكندري المولد والصبا إيريك هوبزبوم، أنه حين أشار إلى سكان الإسكندرية، في زمنه، ذكر الأوروبيين واليهود ثم أضاف: «وكان هناك عرب أيضاً». لكن من المؤكد أن العرب ظلوا على الهوامش الواسعة لذلك المركز الحضري الكبير حتى بدأوا زحفهم عليه، مقبلين من أعماق الريف، بعد 1952. وإذا كانت الإسكندرية ومدن مثل بورسعيد والإسماعيلية، ظلت تحتفظ بقدر من طابعها الكوزموبوليتي حتى 1956 فقد استسلمت القاهرة مبكراً. والترييف مرتبط - في التاريخ المصري المعاصر وفي هذا الفيلم - بسهولة الانزلاق إلى ما تمكن تسميته «أحلام اليقظة الجمعية». يدور الصراع في فيلم «العتبة الخضرا» بين ريفي متوسط الحال (إسماعيل ياسين) تسانده سيدة أعمال قاهرية متوسطة الحال (زينات صدقي)، كممثليْن للبرجوازية المتوسطة التي بقيت مهيمنة على النشاط الاقتصادي غير الحكومي حتى 1971، وبين أفّاق حضري (أحمد مظهر) نراه، أول ما نراه رئيساً لشركة «الشمس والهواء» (!). وقبل أن نرى هذا الأفّاق وهو يلاعب واحداً من الضحايا المستهدفين، يدخل بنا الفيلم مصرَفاً نقابل فيه موظفاً صغيراً، تحرك أطماعه محتالةٌ فاتنة تعمل مع الأفّاق الأكبر، ليحدد لنا الفيلم مصدر الشر في مصر في تلك الحقبة بأنه اللعب بأحلام البسطاء، بالوعد بنجاحات سهلة وبغنائم بعيدة عن متناولهم، لكن يُمَنَّوْن ببلوغها إن ضحوا بما في أيديهم، في سبيل ما هو بعيد عنهم. الضحية صعيدي وإذا كان موظف البنك الصغير في حاجة إلى امرأة جذابة ولرشوة صغيرة ليسقط في الفخ، فالضحية الأخطر، الصعيدي الذي يدخل القاهرة وفي جيبه ألوف يريد استثمارها، يمضي بإرادته إلى الفخ. وقبل أن يمضي الأفّاق إلى حيث يفتك بالضحية الأولى، موظف البنك، ويبدأ لعبته مع ضحيته الثانية، الصعيدي الباحث عن الثروة في القاهرة، نجده يقف أمام أرفف تعلوها لافتة تقول «يا رب» وعليها مجموعة من المطبوعات والصور، أبرزها صورة الرئيس جمال عبدالناصر، زعيم الأمة ومحرك آمالها وأحلامها، وقائد النظام الذي يسيء الأفّاق استخدام آلياته ليحقق أغراضه. يوهم الأفّاق ضحيته بأنه باع له ميدان العتبة الخضراء، مركز الحركة التجارية الأشد كثافة ليومنا هذا، وحيث كانت تقوم دار الأوبرا، ومسرح الأزبكية وحديقتها الضخمة، وفندق الكونتننتال، مقر غالبية أعضاء البرلمان، طوال الموسم البرلماني، ومقر قيادة شرطة الإطفاء التي يقصدها الصعيدي المخدوع متصوراً أنه يملكها ويملك المؤسسات المجاورة لها: منذ متى؟ منذ الثالث والعشرين من تموز 1952 يوم قامت حركة الضباط ؟ منذ الثالث عشر من حزيران (يونيو) 1956 يوم خرج آخر جندي بريطاني من البلاد؟ يوم إعلان الجمهورية؟ يوم اندحار العدوان الثلاثي؟ لا ذكر لهذه التواريخ ولا لغيرها، كل ما في الأمر أن أفّاقاً ما أوهمَ الصعيدي البسيط بأنه يملك قلب القاهرة. ويطالب الصعيدي أحد قادة الشرطة بأن يطلعه على ما لديه من أوراق ومستندات ليكون بوسعه أن يحدد حصته من إيرادات الشرطة. ويسأله الضابط: بأي صفة تطالب بما تطالب به؟ ويرد الرجل: بصفتي أنا المالك وأنت المستأجر. وسرعان ما يدرك الضابط حقيقة ما جرى لهذا الساذج. وتفعل آليات القانون فعلها، لضبط الأفّاق ووقف سلوكياته المنحرفة، كما يحدث في مختلف أفلام فطين عبدالوهاب. لكن آليات القانون توقف المخالفات الجزئية التي تقع داخل البنية الاجتماعية السياسية، على أي حال كانت، أما اختلالات هذه البنية فتبقى بعيدة من تناول هذه الآليات ناطحات سحاب وفي أحد المشاهد، يقف المخدوع ومعه صديقته، بعد أن وقّعا مع الأفّاق عقد شراء ميدان العتبة الخضراء، يطالعان ميدان العتبة، فتقول له الصديقة: لا لزوم لمسرح الأزبكية وحديقتها. سوف نزيل هذا كله ونقيم مكانه ناطحات سحاب. وتكاد تكون هذه العبارة نبوءة سوداء. فالكتل الخرسانية تتوالد في كل بقعة خضراء في مصر، منذ تلك الحقبة وإلى اليوم. والغالبية العظمى من ملّاك البنايات الضخمة ريفيون زحفوا إلى المدينة، وفرضوا عليها قيمهم محققين بذلك نبوءة أخرى تتمثل بعبارة منسوبة إلى الرئيس جمال عبدالناصر، يزعم الزاعمون أنه قال فيها: «مجتمعنا لا تمثله الزمالك (الحي الكوزموبوليتي الأرقى) بل تمثله أبوتشت (قرية في مصر العليا)».