وزير الإسكان يلتقي رئيس الوطنية للمقاولات لمتابعة عدد من المشروعات المشتركة    ترامب وستارمر: مراكز مساعدات مفتوحة لغزة    أربعة حرائق كبيرة لا تزال مشتعلة في تركيا    رنيم الجداوي: كنا بحاجة للفوز على أنجولا.. ونفذنا خطة المدرب ببراعة    الداخلية تكشف غموض سرقة عدادات المياه بمدينة نصر| فيديو    طريقة عمل التورتة بمكونات بسيطة في البيت    توجيهات رئاسية بمواصلة التنسيق مع الجهات المعنية لتعزيز قدرات الأئمة وتأهيل الكوادر    توجيهات بترشيد استهلاك الكهرباء والمياه داخل المنشآت التابعة ل الأوقاف في شمال سيناء    رئيس نقل النواب: كلمة السيسي رسالة قوية للمجتمع الدولي وتحذير من استمرار الكارثة في غزة    موسكو تبدأ رحلات مباشرة إلى كوريا الشمالية وسط تراجع الخيارات أمام السياح الروس    «الأعلى للإعلام» يُلزم 3 مواقع بسداد غرامات مالية بسبب مخالفة «الضوابط والمعايير والأكواد»    مران خفيف للاعبي المصري غير المشاركين أمام الترجي.. وتأهيل واستشفاء للمجموعة الأساسية    عمار محمد يتوج بذهبية الكونغ فو فى دورة الألعاب الأفريقية للمدارس بالجزائر    السيسي يوجه بتعزيز قدرات الأئمة وتأهيل كوادر متميزة قادرة على مواجهة التحديات    اندلاع حريق فى أحد المطاعم بمنطقة المنتزه شرق الإسكندرية    خريطة معامل تنسيق المرحلة الأولى الإلكتروني بالجامعات 2025    كمال حسنين: كلمة الرئيس السيسى كانت "كشف حقائق" ومصر أكبر داعم لفلسطين    لأول مرة في تاريخها.. الشبكة الكهربائية الموحدة تسجل أعلى حمل في مصر بقدرة 39،400 ميجاوات    ضعف المياه بشرق وغرب بسوهاج غدا لأعمال الاحلال والتجديد بالمحطة السطحية    الغرف التجارية: تطوير قطاع العزل والنسيج خطوة نحو استعادة مكانة مصر الرائدة    بدء تنفيذ عمليات إسقاط جوي للمساعدات على مناطق في جنوب وشمال قطاع غزة    بعد تخطيها 2 مليون مشاهدة.. شمس الكويتية تكشف كواليس أغنيتها الجديدة "طز"    ضغوط على بريطانيا للاعتراف بفلسطين.. صحيفة: سيكون له ثقل خاص بسبب وعد بلفور    التحقيق في وفاة فتاة خلال عملية جراحية داخل مستشفى خاص    مهرجان الإسكندرية السينمائي يكرم فردوس عبد الحميد بدورته ال 41    لمواجهة الكثافة الطلابية.. فصل تعليمي مبتكر لرياض الأطفال بالمنوفية (صور)    السيسي: قطاع غزة يحتاج من 600 إلى 700 شاحنة مساعدات في الإيام العادية    لعلاج مشاكل الحموضة وصحة الأمعاء.. اتبع هذه النصائح    أوقاف شمال سيناء تشارك في ندوة توعوية بعنوان: "معًا بالوعي نحميها"    ديمقراطية العصابة..انتخابات مجلس شيوخ السيسي المقاعد موزعة قبل التصويت وأحزاب المعارضة تشارك فى التمثيلية    البربون ب320 جنيهًا والقاروص ب450.. أسعار الأسماك والمأكولات البحرية اليوم في مطروح    ينطلق غدا.. تفاصيل الملتقى 22 لشباب المحافظات الحدودية ضمن مشروع "أهل مصر"    وزير الأوقاف: وثِّقوا علاقتكم بأهل الصدق فى المعاملة مع الله    حملات الدائري الإقليمي تضبط 18 سائقا متعاطيا للمخدرات و1000 مخالفة مرورية    الفنان محمد رياض يودع السودانيين فى محطة مصر قبل عودتهم للسودان    الداخلية تضبط سائق سيارة نقل لاتهامه بتعريض حياة المواطنين للخطر    وزير الصحة: مصر الأولى عالميا في الحصول على التصنيف الذهبي بالقضاء على فيروس سي    على خلفية وقف راغب علامة.. حفظ شكوى "المهن الموسيقية" ضد 4 إعلاميين    الشرطة التايلاندية: 4 قتلى في إطلاق نار عشوائي بالعاصمة بانكوك    السّم في العسل.. أمين الفتوى يحذر من "تطبيقات المواعدة" ولو بهدف الحصول على زواج    حكم استمرار الورثة في دفع ثمن شقة بالتقسيط بعد وفاة صاحبها.. المفتي يوضح    كريم رمزي: فيريرا استقر على هذا الثلاثي في تشكيل الزمالك بالموسم الجديد    محافظ المنيا: إزالة 744 حالة تعدٍ على الأراضي الزراعية وأملاك الدولة    الإسكان تُعلن تفاصيل مشروعات محافظة بورسعيد    بأحدث الإصدارات وبأسعار مخفضة.. قصور الثقافة تشارك في معرض الإسكندرية العاشر للكتاب    «الصحة» تحذر من الإجهاد الحراري وضربات الشمس وتوجه نصائح وقائية    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    أمين الفتوى: الصلاة بالبنطلون أو "الفانلة الداخلية" صحيحة بشرط ستر العورة    هل ستفشل صفقة بيع كوكا لاعب الأهلي لنادي قاسم باشا التركي بسبب 400 ألف دولار ؟ اعرف التفاصيل    متحدثة الهلال الأحمر الفلسطيني: 133 ضحية للمجاعة فى غزة بينهم 87 طفلًا    رئيس جامعة القاهرة يشهد تخريج الدفعة 97 من الطلاب الوافدين بكلية طب الأسنان    كل عبوة مساعدات مجهزة لتلبية احتياجات الأسرة في غزة لمدة 10 أيام    شوبير يدافع عن طلب بيراميدز بتعديل موعد مباراته أمام وادي دجلة في الدوري    «تغير المناخ» بالزراعة يزف بشرى سارة بشأن موعد انكسار القبة الحرارية    بالأسماء.. 5 مصابين في انقلاب سيارة سرفيس بالبحيرة    هدى المفتي تحسم الجدل وترد على أنباء ارتباطها ب أحمد مالك    الكرتي يترك معسكر بيراميدز ويعود للمغرب    ثروت سويلم: ضوابط صارمة لتجنب الهتافات المسيئة أو كسر الكراسي في الإستادات (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



" اخرج من هنا" فيلم يتناول العنصرية برؤية جديدة
نشر في صوت البلد يوم 10 - 03 - 2018

يقدم الممثل الأميركي جوردان بيل على الإخراج للمرة الأولى فيأتينا بفيلم “اخرج من هنا” وهو عمل متقن مثير، ليس من الممكن تصنيفه بسهولة ضمن النوع الكوميدي، رغم ما فيه من كوميديا، فميزته الأساسية تكمن في كونه يتصدى لمعالجة موضوع جاد، هو موضوع العنصرية ضد السود في المجتمع الأميركي، ولكن من خلال أسلوب جديد يبتعد عن الدراما الاجتماعية الساخنة التقليدية، إنه مثلا بعيد كل البعد عن فيلم “حذر من آت للعشاء” (1967) لستانلي كرامر، رغم أنه يبدأ بداية مشابهة.
كان التحدي الحقيقي في صنع فيلم "اخرج من هنا Get Out"، يكمن في تحقيق التوازن بين الصنعة المتقدّمة والإتقان الحرفي، من دون أن يفقد الفيلم أصالته، وبين تحقيق قدر كبير من المتعة أو التسلية، والقدرة على جذب الجمهور لمتابعة الحدث الذي يتطوّر ويتبدّل ويتم التلاعب به من قبل صانع الفيلم جوردان بيل، وهو نفسه كاتب السيناريو.
بيل يبدأ فيلمه بمشهد يوحي بطابع الغموض المثير الذي يكتسبه الفيلم، قبل أن نصل للمشاهد النهائية التي ستقلب البناء بالكامل لتجعلنا أمام وليمة دسمة مليئة بالدماء، بحيث لم تعد هناك حدود قائمة بين الواقع والخيال، فتصبح مثل هذه النهاية شبيهة، ولو من بعيد، بنهاية فيلم “جانغو طليقا” (2012) لتارانتينو.
بداية مدهشة
ليلا.. في طريق خال تصطف على جانبيه الأشجار، في حي من الواضح أنه من أحياء السكان البيض الأثرياء، يسير شاب أسود، من الواضح أنه يحاول العثور على عنوان ما.. يتوقف، يتطلّع حوله، من ورائه يلمح سيارة تتابعه عن قرب في الظلام، يلتف ويعود من حيث أتى، لكن أحدهم يفاجئه ويختطفه ويدفعه دفعا داخل السيارة التي تختفي، ويبدأ الفيلم بشخصية أخرى مغايرة تماما.
إننا أمام كريس وهو شاب أسود مصوّر فوتوغرافي مرتبط بعلاقة عاطفية مع فتاة بيضاء هي روز منذ نحو خمسة أشهر، وقد حان الوقت الآن لكي تصحبه في سيارتها إلى منزل والديها في بقعة ريفية بعيدة معزولة تماما، تريد أن تقدّمه إلى أسرتها.
وفي الطريق يقع حادث يسبب الرعب لكليهما، فالسيارة تصطدم فجأة على ما يبدو، بوعل كان يعبر الطريق، ثم يختفي بين الأدغال، النتيجة كسر المرآة الجانبية وأحد مصابيح السيارة الأمامية.
يحضر رجل الشرطة الفظ، يطلب الاطلاع على هوية كريس رغم تأكيدات روز بأنه لم يكن يقود السيارة، وأن لا شأن له بما حدث.. لكن الشرطي الذي يعكس المزاج العنصري السائد في تلك المنطقة، يصر على إهانة كريس، وربما يشك فيه أيضا.
ويذكرنا هذا المشهد بالمشهد الأخير في فيلم “الحادث” (1966) للمخرج لاري بيرس، وهو مشهد ليس من السهل أن يفارق الذاكرة، فبعد أن تنتهي محنة احتجاز ركاب عربة أحد قطارات الأنفاق في نيويورك بواسطة شابين من البيض العابثين (الهيبيز)، يتوقف القطار، يصعد الشرطي، وعلى الفور يعتقل الراكب الأسود الموجود بين الركاب، رغم أنه مثلهم جميعا، ضحية!
كريس يشعر بالقلق، خاصة بعد أن تقول له روز إنها لم تخبر والديها بأنه أسود، ولكنها تحاول التقليل من أهمية هذا الأمر، فأسرتها -كما تؤكد له- من البيض الليبراليين، وعندما سيقابل هو والدها (جرّاح المخ والأعصاب) سيكون أول ما يقوله له الرجل دون أي إشارة إلى لون كريس، إنه انتخب أوباما مرتين، ولم يكن يمانع أن ينتخبه لفترة ثالثة.
لكن الأب جرّاح الأعصاب، والأم (التي تعمل في مجال الطب النفسي باستخدام التنويم الإيحائي) يبدوان أكثر من رائعين، حتى بعد أن ينضم إلى مائدة العشاء شقيق روز المشاغب الذي يحاول استفزاز كريس.
تدمير السود
المنزل المعزول يخفي شيئا ذا طبيعة خاصة غامضة لا نعرفها، والد روز يتوقّف أمام صورة لوالده معلّقة على الحائط، ويقول إنه كان يشارك في سباق الجري في أولمبياد برلين عام 1936 جنبا إلى جنب مع العداء الأميركي الأسود الشهير جيسي أوينز الذي فاز بالميدالية الذهبية في تلك الدورة الأوليمبية ممّا أغضب هتلر العنصري.
أما أكثر ما يلفت نظر كريس، ذلك الغريب المتوجّس الذي يحاول استبعاد مخاوفه بتشجيع من روز، هما الخادمان الموجودان بالمنزل وكلاهما من السود الأميركيين: وولتروجورجينا، الاثنان يبتسمان في نعومة وود، ولكنهما لا يبدوان طبيعيين على الإطلاق.
جورجينا مثلا تبدو كما لو كانت تراقب كريس في دهشة أو تتطلّع إلى صورتها منعكسة على زجاج النافذة، أما وولتر فهو يمارس رياضة الجري في منتصف الليل ويندفع كما لو كان مبرمجا لا يملك التحكّم في نفسه ويكاد أن يصطدم بكريس الذي خرج ليدخن سيجارة.
والدة روز، ميسي، تلتقط كريس بعد أن يعود من التدخين، تمارس عليه التنويم الإيحائي رغما عنه بدعوى أنها تريد مساعدته على الإقلاع عن التدخين، وهو ما تنجح فيه بالفعل حسب ما يقوله كريس في اليوم التالي لصديقه رود شرطي المواصلات في مكالمة هاتفية بينهما.
لكن رود لا يشعر بالارتياح لوجود صديقه وسط هذه البيئة الغريبة، فهو يتوجّس ممّا يرويه له كريس، ويحذّره من احتمال وقوعه في شراك عصابة لاستعباد السود أو استخدامهم كأدوات جنسية، وربما يكون وجود الممثل ميلتون هوري في دور رود، هو ما يساعد في التخفيف من وطأة الحبكة من وقت إلى آخر، بأدائه الكوميدي في شخصيته ذات الملامح الكاريكاتورية.
ومن خلال جلسة التنويم الإيحائي نعرف شيئا عن ماضي كريس وكيف أنه يطارده شعور بالذنب من احتمال أن يكون مسؤولا في طفولته، عن وفاة أمه، فقد صدمتها سيارة وهي في طريق العودة إلى المنزل فسقطت وظلت لساعات تنزف إلى أن توفيت.
هنا يستخدم المخرج أسلوبا في التصوير والمونتاج يمزج بين الأحلام والواقع والهواجس الذاتية، كما ينتقل بين الماضي والحاضر، ليجعل كريس يواجه نفسه مشدودا إلى كرسيه عاجزا عن الحركة، ثم يبدو كما لو كان يسقط في هوّة سحيقة، والمشهد على هذا النحو يعتبر تمهيدا بصريا ودراميا مقبولا وجيدا لما سيكتشفه كريس في ما بعد ممّا يحدث في هذا المنزل الغريب، ثم المأزق الذي يقع فيه.
مؤامرة جماعية
في اليوم التالي تحضر نخبة من علية القوم، بسياراتهم الفارهة، جميعهم من البيض الأثرياء باستثناء رجل ياباني وآخر أسود، يتعرّف كريس على الشاب الذي رأيناه يختطف في بداية الفيلم، وقد جاء بصحبة امرأة بيضاء تزوجها وهي تكبره بنحو ثلاثين عاما.
والواضح أن خبر اختفاء هذا الرجل، لوغان كنغ، كان قد ذاع ووصل إلى أسماع كريس وصديقه رود، وعندما يخبر كريس رود بهذا الاكتشاف يحذّره ويطلب منه مغادرة المكان على الفور.
لكن “الصحبة” البيضاء بقيادة والد روز، تعدّ لأمر آخر سيكون مفاجأة الفيلم: سوف يكتشف كريس أولا أن روز ضالعة في هذه المؤامرة الجماعية الشيطانية التي تذكرنا بعض الشيء بأجواء فيلم “طفل رزماري” لبولانسكي، لكن هذه المؤامرة قديمة ومستمرّة وشملت الكثير من السود، وهي تتلخّص في تدمير عقول الأميركيين الأفارقة بطريقة جهنمية وتسخيرهم وتحويلهم إلى مجرد أدوات تتحرك كالروبوت، فاقدة العقل تماما، تستجيب لسادتها.
جوردان بيل يفوز بجائزة أحسن سيناريو مباشر عن فيلمه "اخرج من هنا" في الأوسكار التسعين الذي أعلنت جوائزه الأحد، في حين لم يتمكن من نيل جائزة الإخراج في أول تجربة إخراج له
ماذا سيكون مصير كريس وكيف سينجو؟ وهل سيتمكن من الخروج من تلك الدائرة الجهنمية بعد أن تحيط به قوى الشر جميعها التي ترمز للطبقة الوسطى البيضاء في أميركا التي تتظاهر بالليبرالية وقبول الآخر المختلف في اللون، في حين أنها تضمر عكس ما تظهر؟
هذا ما يتعيّن على المشاهد أن يتحقّق منه بنفسه، لكن يكفي الآن القول إن المخرج جوردان بيل نجح في نقل الموضوع من سياق إلى آخر، والتلاعب بالحبكة طوال الوقت، واللعب على الهواجس الداخلية الدفينة الكامنة داخل عقل المتفرج، إنه يستخدم فكرة التقدّم العلمي في مجال قراءة العقل والتحكّم فيه، وأساليب علم النفس الحديث بما في ذلك التنويم الإيحائي، وجراحات المخ التي يتوقع أن تصل إلى شيء مثل نقل القلوب، فيصبح لدينا أيضا نقل العقول أو المخ من شخص إلى آخر، ونقل بعض الحواس المهمة معها مثل حاسة الإبصار..هنا ينجح جوردان بيل في خلق أجواء الإثارة، والبارانويا، والخوف من المجهول الكامن في ثنايا النفس البشريةوالذي يمثل باستمرار نقطة ضعف يمكن أن تؤدي إلى دماره، إن لم يستيقظ ويتأهب ويصبح أكثر قدرة على مواجهتها والتغلب عليها.وهو يبني فيلمه تدريجيا ويصعد به نحو ذروة الرعب في الثلث الأخير، لاعبا بفكرة العقل الباطن وما يدخره، وفكرة الحصار الخانق الذي يقبض على الشخصية الرئيسية ويدفعها للعنف أو للبحث عن وسيلة للنجاة، وضرورة أن يستمد كريس القوة من داخل نفسه أول .. إنها أجواء ربما كانت تذكرنا -على نحو ما- بأجواء فيلم ستانلي كوبريك “عينان مغمضتان على اتساعهما” Eyes Wide Shut، ولكن ليس على صعيد فرويدي، بل يبدو هنا المغزى الاجتماعي أكثر قوة وحضورا، فأميركا يجب أن تواجه نفسها خاصة بعد أن أصبحت تعيش عصر دونالد ترامب!
يقدم الممثل الأميركي جوردان بيل على الإخراج للمرة الأولى فيأتينا بفيلم “اخرج من هنا” وهو عمل متقن مثير، ليس من الممكن تصنيفه بسهولة ضمن النوع الكوميدي، رغم ما فيه من كوميديا، فميزته الأساسية تكمن في كونه يتصدى لمعالجة موضوع جاد، هو موضوع العنصرية ضد السود في المجتمع الأميركي، ولكن من خلال أسلوب جديد يبتعد عن الدراما الاجتماعية الساخنة التقليدية، إنه مثلا بعيد كل البعد عن فيلم “حذر من آت للعشاء” (1967) لستانلي كرامر، رغم أنه يبدأ بداية مشابهة.
كان التحدي الحقيقي في صنع فيلم "اخرج من هنا Get Out"، يكمن في تحقيق التوازن بين الصنعة المتقدّمة والإتقان الحرفي، من دون أن يفقد الفيلم أصالته، وبين تحقيق قدر كبير من المتعة أو التسلية، والقدرة على جذب الجمهور لمتابعة الحدث الذي يتطوّر ويتبدّل ويتم التلاعب به من قبل صانع الفيلم جوردان بيل، وهو نفسه كاتب السيناريو.
بيل يبدأ فيلمه بمشهد يوحي بطابع الغموض المثير الذي يكتسبه الفيلم، قبل أن نصل للمشاهد النهائية التي ستقلب البناء بالكامل لتجعلنا أمام وليمة دسمة مليئة بالدماء، بحيث لم تعد هناك حدود قائمة بين الواقع والخيال، فتصبح مثل هذه النهاية شبيهة، ولو من بعيد، بنهاية فيلم “جانغو طليقا” (2012) لتارانتينو.
بداية مدهشة
ليلا.. في طريق خال تصطف على جانبيه الأشجار، في حي من الواضح أنه من أحياء السكان البيض الأثرياء، يسير شاب أسود، من الواضح أنه يحاول العثور على عنوان ما.. يتوقف، يتطلّع حوله، من ورائه يلمح سيارة تتابعه عن قرب في الظلام، يلتف ويعود من حيث أتى، لكن أحدهم يفاجئه ويختطفه ويدفعه دفعا داخل السيارة التي تختفي، ويبدأ الفيلم بشخصية أخرى مغايرة تماما.
إننا أمام كريس وهو شاب أسود مصوّر فوتوغرافي مرتبط بعلاقة عاطفية مع فتاة بيضاء هي روز منذ نحو خمسة أشهر، وقد حان الوقت الآن لكي تصحبه في سيارتها إلى منزل والديها في بقعة ريفية بعيدة معزولة تماما، تريد أن تقدّمه إلى أسرتها.
وفي الطريق يقع حادث يسبب الرعب لكليهما، فالسيارة تصطدم فجأة على ما يبدو، بوعل كان يعبر الطريق، ثم يختفي بين الأدغال، النتيجة كسر المرآة الجانبية وأحد مصابيح السيارة الأمامية.
يحضر رجل الشرطة الفظ، يطلب الاطلاع على هوية كريس رغم تأكيدات روز بأنه لم يكن يقود السيارة، وأن لا شأن له بما حدث.. لكن الشرطي الذي يعكس المزاج العنصري السائد في تلك المنطقة، يصر على إهانة كريس، وربما يشك فيه أيضا.
ويذكرنا هذا المشهد بالمشهد الأخير في فيلم “الحادث” (1966) للمخرج لاري بيرس، وهو مشهد ليس من السهل أن يفارق الذاكرة، فبعد أن تنتهي محنة احتجاز ركاب عربة أحد قطارات الأنفاق في نيويورك بواسطة شابين من البيض العابثين (الهيبيز)، يتوقف القطار، يصعد الشرطي، وعلى الفور يعتقل الراكب الأسود الموجود بين الركاب، رغم أنه مثلهم جميعا، ضحية!
كريس يشعر بالقلق، خاصة بعد أن تقول له روز إنها لم تخبر والديها بأنه أسود، ولكنها تحاول التقليل من أهمية هذا الأمر، فأسرتها -كما تؤكد له- من البيض الليبراليين، وعندما سيقابل هو والدها (جرّاح المخ والأعصاب) سيكون أول ما يقوله له الرجل دون أي إشارة إلى لون كريس، إنه انتخب أوباما مرتين، ولم يكن يمانع أن ينتخبه لفترة ثالثة.
لكن الأب جرّاح الأعصاب، والأم (التي تعمل في مجال الطب النفسي باستخدام التنويم الإيحائي) يبدوان أكثر من رائعين، حتى بعد أن ينضم إلى مائدة العشاء شقيق روز المشاغب الذي يحاول استفزاز كريس.
تدمير السود
المنزل المعزول يخفي شيئا ذا طبيعة خاصة غامضة لا نعرفها، والد روز يتوقّف أمام صورة لوالده معلّقة على الحائط، ويقول إنه كان يشارك في سباق الجري في أولمبياد برلين عام 1936 جنبا إلى جنب مع العداء الأميركي الأسود الشهير جيسي أوينز الذي فاز بالميدالية الذهبية في تلك الدورة الأوليمبية ممّا أغضب هتلر العنصري.
أما أكثر ما يلفت نظر كريس، ذلك الغريب المتوجّس الذي يحاول استبعاد مخاوفه بتشجيع من روز، هما الخادمان الموجودان بالمنزل وكلاهما من السود الأميركيين: وولتروجورجينا، الاثنان يبتسمان في نعومة وود، ولكنهما لا يبدوان طبيعيين على الإطلاق.
جورجينا مثلا تبدو كما لو كانت تراقب كريس في دهشة أو تتطلّع إلى صورتها منعكسة على زجاج النافذة، أما وولتر فهو يمارس رياضة الجري في منتصف الليل ويندفع كما لو كان مبرمجا لا يملك التحكّم في نفسه ويكاد أن يصطدم بكريس الذي خرج ليدخن سيجارة.
والدة روز، ميسي، تلتقط كريس بعد أن يعود من التدخين، تمارس عليه التنويم الإيحائي رغما عنه بدعوى أنها تريد مساعدته على الإقلاع عن التدخين، وهو ما تنجح فيه بالفعل حسب ما يقوله كريس في اليوم التالي لصديقه رود شرطي المواصلات في مكالمة هاتفية بينهما.
لكن رود لا يشعر بالارتياح لوجود صديقه وسط هذه البيئة الغريبة، فهو يتوجّس ممّا يرويه له كريس، ويحذّره من احتمال وقوعه في شراك عصابة لاستعباد السود أو استخدامهم كأدوات جنسية، وربما يكون وجود الممثل ميلتون هوري في دور رود، هو ما يساعد في التخفيف من وطأة الحبكة من وقت إلى آخر، بأدائه الكوميدي في شخصيته ذات الملامح الكاريكاتورية.
ومن خلال جلسة التنويم الإيحائي نعرف شيئا عن ماضي كريس وكيف أنه يطارده شعور بالذنب من احتمال أن يكون مسؤولا في طفولته، عن وفاة أمه، فقد صدمتها سيارة وهي في طريق العودة إلى المنزل فسقطت وظلت لساعات تنزف إلى أن توفيت.
هنا يستخدم المخرج أسلوبا في التصوير والمونتاج يمزج بين الأحلام والواقع والهواجس الذاتية، كما ينتقل بين الماضي والحاضر، ليجعل كريس يواجه نفسه مشدودا إلى كرسيه عاجزا عن الحركة، ثم يبدو كما لو كان يسقط في هوّة سحيقة، والمشهد على هذا النحو يعتبر تمهيدا بصريا ودراميا مقبولا وجيدا لما سيكتشفه كريس في ما بعد ممّا يحدث في هذا المنزل الغريب، ثم المأزق الذي يقع فيه.
مؤامرة جماعية
في اليوم التالي تحضر نخبة من علية القوم، بسياراتهم الفارهة، جميعهم من البيض الأثرياء باستثناء رجل ياباني وآخر أسود، يتعرّف كريس على الشاب الذي رأيناه يختطف في بداية الفيلم، وقد جاء بصحبة امرأة بيضاء تزوجها وهي تكبره بنحو ثلاثين عاما.
والواضح أن خبر اختفاء هذا الرجل، لوغان كنغ، كان قد ذاع ووصل إلى أسماع كريس وصديقه رود، وعندما يخبر كريس رود بهذا الاكتشاف يحذّره ويطلب منه مغادرة المكان على الفور.
لكن “الصحبة” البيضاء بقيادة والد روز، تعدّ لأمر آخر سيكون مفاجأة الفيلم: سوف يكتشف كريس أولا أن روز ضالعة في هذه المؤامرة الجماعية الشيطانية التي تذكرنا بعض الشيء بأجواء فيلم “طفل رزماري” لبولانسكي، لكن هذه المؤامرة قديمة ومستمرّة وشملت الكثير من السود، وهي تتلخّص في تدمير عقول الأميركيين الأفارقة بطريقة جهنمية وتسخيرهم وتحويلهم إلى مجرد أدوات تتحرك كالروبوت، فاقدة العقل تماما، تستجيب لسادتها.
جوردان بيل يفوز بجائزة أحسن سيناريو مباشر عن فيلمه "اخرج من هنا" في الأوسكار التسعين الذي أعلنت جوائزه الأحد، في حين لم يتمكن من نيل جائزة الإخراج في أول تجربة إخراج له
ماذا سيكون مصير كريس وكيف سينجو؟ وهل سيتمكن من الخروج من تلك الدائرة الجهنمية بعد أن تحيط به قوى الشر جميعها التي ترمز للطبقة الوسطى البيضاء في أميركا التي تتظاهر بالليبرالية وقبول الآخر المختلف في اللون، في حين أنها تضمر عكس ما تظهر؟
هذا ما يتعيّن على المشاهد أن يتحقّق منه بنفسه، لكن يكفي الآن القول إن المخرج جوردان بيل نجح في نقل الموضوع من سياق إلى آخر، والتلاعب بالحبكة طوال الوقت، واللعب على الهواجس الداخلية الدفينة الكامنة داخل عقل المتفرج، إنه يستخدم فكرة التقدّم العلمي في مجال قراءة العقل والتحكّم فيه، وأساليب علم النفس الحديث بما في ذلك التنويم الإيحائي، وجراحات المخ التي يتوقع أن تصل إلى شيء مثل نقل القلوب، فيصبح لدينا أيضا نقل العقول أو المخ من شخص إلى آخر، ونقل بعض الحواس المهمة معها مثل حاسة الإبصار..هنا ينجح جوردان بيل في خلق أجواء الإثارة، والبارانويا، والخوف من المجهول الكامن في ثنايا النفس البشريةوالذي يمثل باستمرار نقطة ضعف يمكن أن تؤدي إلى دماره، إن لم يستيقظ ويتأهب ويصبح أكثر قدرة على مواجهتها والتغلب عليها.وهو يبني فيلمه تدريجيا ويصعد به نحو ذروة الرعب في الثلث الأخير، لاعبا بفكرة العقل الباطن وما يدخره، وفكرة الحصار الخانق الذي يقبض على الشخصية الرئيسية ويدفعها للعنف أو للبحث عن وسيلة للنجاة، وضرورة أن يستمد كريس القوة من داخل نفسه أول .. إنها أجواء ربما كانت تذكرنا -على نحو ما- بأجواء فيلم ستانلي كوبريك “عينان مغمضتان على اتساعهما” Eyes Wide Shut، ولكن ليس على صعيد فرويدي، بل يبدو هنا المغزى الاجتماعي أكثر قوة وحضورا، فأميركا يجب أن تواجه نفسها خاصة بعد أن أصبحت تعيش عصر دونالد ترامب!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.