محافظ القاهرة: نصر 6 أكتوبر سيظل علامة مضيئة في تاريخ الوطن    منال عوض: مصر تولي اهتمامًا متزايدًا للاقتصاد الأزرق وتعزيز التعاون الإقليمي لحماية البحار    9 آلاف طن.. انطلاق قافلة زاد العزة إلى قطاع غزة    أسطورة ليفربول يهاجم صلاح بعنف: "لم يعد يتحمل المسؤولية.. وكأنه نسي كيف يلعب"    سيراميكا كليوباترا: لم نمنع القندوسي من الانتقال للزمالك.. واللاعب خارج حساباتنا    السكة الحديد تعلن عن طرق جديدة لحجز التذاكر ووسائل دفع متنوعة للتيسير على الركاب    الأرصاد: طقس حار نهارًا مائل للبرودة ليلًا وتحذير من شبورة كثيفة صباحًا    القاتل الصغير أمام العدالة.. والDNA كلمة الحسم في أبشع جريمة تشهدها الإسماعيلية    ليلى فاروق تنعى والدة طليقها أمير عيد    ليلى علوي تسرق الأضواء بكلماتها المؤثرة عن يسرا في الجونة    هشام جمال يكشف تفاصيل لأول مرة عن زواجه من ليلى زاهر    جامعة الفيوم تقدم العرض المسرحي"ليه لا " لمناهضة العنف ضد المرأة    خلال اجتماع اليوم .. رئيس الوزراء يتابع جهود تعظيم الاستفادة سياحيًا من مسار العائلة المقدسة    هيئة الدواء تحذر من "المرض الصامت": هشاشة العظام تهددك دون أعراض واضحة    لا تهاجموا صلاح.. انظروا ماذا يفعل مدرب ليفربول    طلب عاجل من توروب في الاهلي    حزن وبكاء خلال تشييع جثمان مدرب حراس المرمى بنادى الرباط ببورسعيد.. صور    الذكاء الاصطناعي أم الضمير.. من يحكم العالم؟    مركزان ثقافيان وجامعة.. اتفاق مصري - كوري على تعزيز التعاون في التعليم العالي    قرار وزارى بإعادة تنظيم التقويم التربوى لمرحلة الشهادة الإعدادية    تشغيل 6 أتوبيسات جديدة غرب الإسكندرية لتيسير حركة المرور    ياسر الزابيري بطل كأس العالم للشباب مرشح للانتقال إلى أتلتيكو مدريد    ليست الأولى.. تسلسل زمني ل محاولة اغتيال ترامب (لماذا تتكرر؟)    بعد تهنئة إسرائيل له.. من هو الرئيس البوليفي الجديد رودريغو باز؟    الأمين العام الجديد للشيوخ يجتمع بالعاملين لبحث أليات العمل    بروفة ريهام عبد الحكيم على أنغام الموجي استعدادًا لمهرجان الموسيقى العربية    "بين ثنايا الحقيقة" على مسرح السامر ضمن ملتقى شباب المخرجين    محافظ البحيرة ورئيس جامعة دمنهور يستقبلان طلاب الجامعة الأهلية    مدبولي: الحكومة تعمل على مواصلة تكثيف الجهود لتعزيز قدرات الدولة في مجال زيادة الاستثمارات في مراكز البيانات    «العمل»: التفتيش على 1730 منشأة بالمحافظات خلال 19 يومًا    وزير الخارجية: نقدر جهود الدكتور مجدي يعقوب في تسخير العلم والخبرة لخدمة الفئات الأكثر احتياجا داخل مصر وخارجها    مجلس إدارة راية لخدمات مراكز الاتصالات يرفض عرض استحواذ راية القابضة لتدني قيمته    اغلاق مزلقان التوفيقية في سمالوط بالمنيا لمدة يومين للصيانة    احمي نفسك بهذه الخطوات.. لماذا يقع برج السرطان ضحية للتلاعب؟    طارق العشري: زعلت على نفسي بعد رحيلي من فاركو    وزير الصحة يترأس الاجتماع الدوري للجنة التنسيقية لمنظومة التأمين الصحي الشامل    لعظام أقوى.. تعرف على أهم الأطعمة والمشروبات التي تقيك من هشاشة العظام    وزير الصحة يطلق جائزة مصر للتميز الحكومي للقطاع الصحي    «نقابة العاملين»: المجلس القومي للأجور مطالب بمراجعة الحد الأدنى كل 6 أشهر    المنظمات الأهلية الفلسطينية: الوضع كارثي والاحتلال يعرقل إدخال المساعدات لغزة    اتصالان هاتفيان لوزير الخارجية مع وزيري خارجية فرنسا والدنمارك    طالب يطعن زميله باله حادة فى أسيوط والمباحث تلقى القبض عليه    علي هامش مهرجان الجونة .. إلهام شاهين تحتفل بمرور 50 عامًا على مشوار يسرا الفني .. صور    تأجيل محاكمة 3 متهمين بالتنظيم الثلاثي المسلح لسماع أقوال شاهد الإثبات الأول    باكستان: الهدف الأساسى من اتفاق وقف إطلاق النار مع أفغانستان القضاء على الإرهاب    موانئ البحر الأحمر: تصدير 49 الف طن فوسفات عبر ميناء سفاجا    الرئيس السيسي يوجه بمواصلة جهود تحسين أحوال الأئمة والخطباء والدعاة    سعر الأرز الأبيض والشعير للمستهلك اليوم الإثنين 20اكتوبر 2025 فى المنيا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 20-10-2025 في محافظة الأقصر    روح الفريق بين الانهيار والانتصار    ضبط 3 أشخاص بالمنيا تخصصوا في النصب على أصحاب البطاقات الائتمانية    تقارير: اتحاد جدة ينهي تجديد عقد نجم الفريق    التنظيم والإدارة يعلن عن مسابقة لشغل 330 وظيفة مهندس بوزارة الموارد المائية    دار الإفتاء توضح حكم تصفح الهاتف أثناء خطبة الجمعة    نحافة مقلقة أم رشاقة زائدة؟.. الجدل يشتعل حول إطلالات هدى المفتي وتارا عماد في مهرجان الجونة    صححوا مفاهيم أبنائكم عن أن حب الوطن فرض    د. أمل قنديل تكتب: السلوكيات والوعي الثقافي    سهام فودة تكتب: اللعب بالنار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجليات الهوية في «رسائل زمن العاصفة» للمغربي عبدالنور مزين
نشر في صوت البلد يوم 20 - 02 - 2018

ترتبط الهوية، أي هوية، بصوت صاحبها، ولذلك فإن الهوية في الرواية قرينة المتكلمين في هذه الرواية. وإن كان المتكلم الأساس في الرواية، أي رواية، هو الرواي أو السارد، وفي هذا ما يعمق إشكال الهوية في الرواية، لأن البحث عن الذات أو تأكيدها أو الحلم بتحقيقها بهذا الشكل أو ذاك، هو مطلب جمالي مثلما هو مطلب فكري. ويرى عالم الاجتماع الفرنسي دوركهايم أن الهوية الاجتماعية (المرادفة للانتماء إلى مجتمع معين) هي ما يرثه الإنسان بدون رغبته ويشكل سلوكه بدون أن يدرك.
إن مسعى الرواية المغربية الجديدة الصادرة منذ مطلع بدايات الألفية الثالثة، تعمل في معظمها على استجلاء هوية الإنسان المغربي، في خضم الصراع الذي يخوضه لتحقيق ذاته في الحياة الاجتماعية والثقافية التي يحياها منصهرا بعلاماتها البارزة الحادة حدة الحياة المعاصرة كلها. وتعمل هذه الرواية، بجهد دؤوب على إظهار حقيقة هذه الحياة، في اتصالها الوثيق بحقبة الحياة المعاصرة، من حيث تدهور القيم فيها أو اندحار الإنسان وتوهانه وضياعه، وبحثه العصيب المرير عن نقطة الارتكاز أو الانطلاق من جديد، بعدما أضاع البوصلة في بحر الحياة الهائج الصاخب المضطرب. وهذا ينطبق على رواية «رسائل زمن العاصفة» للأديب المغربي عبدالنور مزين، الرواية التي ورد اسمها ضمن اللائحة الطويلة لجائزة البوكر العربية (2016).
إنها رواية شفافة، وهذا مكمن الصعوبة في الإمساك بهوية شخوصها، ذلك أن الهوية، فيها، فهل هوية الشخص مرتهنة بانتمائه العرقي القومي أم بأفعاله ونشاطه الاجتماعي والثقافي؟ وهل هذا الانتماء كاف لإظهار الهوية والوقوف على حقيقتها، أم أن الهوية (الشخصية)، نابعة في الرواية من الهوية الفنية؟ وبمعنى آخر: ألا تكمن جمالية الهوية في الرواية، في هوية الشخصية وبفنية الخطاب الروائي في تحديد هذه الهوية؟
التعبير والدلالة
الرواية فن. والشخوص في الرواية مهما كانوا أقرب إلى الواقع، في التعبير والدلالة والموقف، يظلون شخوصا روائية، تقارب الواقع بالتمثيل الفني الذي يرقى بهذا الواقع إلى ذرى الجمال الفني. إن جمالية الهوية، بهذا المعنى، هي حقيقة بأن تظهرنا على واقع الحياة التي تروي عنها الرواية، بما يجعل هذه الحياة ملموسة. فكيف عملت رواية «رسائل زمن العاصفة» فنيا على تمثيل الهوية وعلى إظهارها؟
إن قارئ رواية الأديب عبدالنور مزين «رسائل زمن العاصفة» يجدها تبني عالمها الروائي على مقولة فلسفية مستمدة من الفلسفات المعاصرة، وهذه المقولة، يمكن إيجازها في كلمات هي: «أن تعيش يعني أن تمنح معنى لحياتك. إن عملية بناء هذا المعنى ربما تعتبر المركز الحقيقي لحياة الإنسان». وهي المقولة التي تشكل حقيقة الشخوص في رواية «رسائل زمن العاصفة»، وليست هذه الحقيقة غير هويتها.
إن هوية الشخوص في هذه الرواية مرتبطة أساسا، برغبتها اللاعجة في تحقيق مجتمع جديد، مجتمع العدالة الاجتماعية، بيد أن هذه الرغبة تتبدد تبدد الحقائق في العواصف، إننا نعثر في رواية «رسائل زمن العاصفة» على خبرة بالواقع المغربي، في نهاية القرن العشرين وتحديدا في الثمانينيات وما يليها إلى نهاية القرن إلا أن هذه الخبرة لا تنسينا أن هذه الرواية، كما هو الأمر في الفن كله، تقوم جمالية الهوية فيها على« طريقة عمل» الرواية، أو بالتعبير الشائع، على كيفية اشتغالها الفني، فنحن إذا نقرأ الرواية، نقف على الهوية فيها، بتجلياها الفكرية والفنية. وهي هوية أزمة، أو بتعبير أدق تقوم على (أزمة الهوية) التي تسم العالم الروائي ل«رسائل زمن العاصفة»، لأن الإقصاء والملاحقة والتعذيب والسجن… هي السمات الأساس التي ينبني عليها هذا العالم: أزمة هوية تسم بميسمها الحاد حياة الشخوص الروائية وفضاءات ممارستهم الحياةَ، فما بين التطلع إلى عالم جديد مجتمع جديد، وما بين الرزوح تحت أعباء المجتمع القائم (القديم) تظل حركة الشخوص مقيدة حتى في تحررها أو تسكعها أو جولانها من مدينة إلى مدينة ومن بلد إلى بلد.
إن ما يميز أزمة الهوية هاته التي نتحدث عنها، أنها أزمة الروابط الاجتماعية الآيلة إلى التفكك، بفعل انهمار قيم جديدةعلى الحياة الاجتماعية: تتبدى أساسا في العلاقات العاطفية (بين البطل اللامسمى والبطلة غادة الغرناط)، وهي قيم مرتبطة أيضا بالأزمات الوجودية الذاتية. إن الفرد في هذه الرواية يتمزق كأنه قطع هشيم الزجاج، إنه ينهار، ومع ذلك فهو يقاوم، يقف على رجليه عنيدا مشرئبا إلى أفق آخر غير الأفق الذي يوجد فيه، إنه ينظر إلى أفقه المنشود، لا أفقه الحياتي الجاري المعتاد المعهود.
إن الرواية سرد، وباعتبارها هذا فهي وسيلة تمثيل لتجارب شخصية للمؤلف أو لشخوصه الروائية، خاصة تلك التي تجرؤ على إحراجه، بأن تنحت لشخصها هوية خاصة، هوية مفارقة لشخص الكاتب. جاء بطل رواية «رسائل زمن العاصفة» بلا اسم، والاسم أول علامة من علامات الهوية الشخصية، هذا الغياب للاسم دال، فالبطل يعاني أزمة هوية، ناتجة عن رؤاه الفكرية وعقائده الاجتماعية المخالفة والمفارقة للرؤى السائدة في المجتمع، وللعقائد الراسخة في هذا المجتمع، لم يؤمن البطل بشيء غير الإيمان بالحب الذي يؤسس لحياة جديدة، في مجتمع تكبله القيود.
هاجس المعرفة
نلمس في رواية «رسائل زمن العاصفة» دفعا متواصلا صوب الماضي، استعادة مسكونة بهاجس المعرفة، حكي متناثر يبحث عن شاطئ الأمان، في أمكنة معادية أو تكاد أن تكون معادية، تسلم البطل إلى الضياع والتشرد. تشرد بلغ أوجه في الديار الإسبانية. ما من مكان إلا ويثير ذكرى. وكل ذكرى تدفع إلى أخرى، في شريط من الحوادث العصيبة الأليمة. لا يستكين البطل ولا يستريح. وكلما أوغل في الحياة، طاردته هموم الحياة وأكدارها وعتماتها، ولا يأتي الضوء إلا من الحنين إلى الماضي الشفاف، ماضي الحياة المنقضية، وكأن الزمن الهادر الهائج الصاخب ليس إلا زمن الركود والجمود والهمود. لكن البطل لا يرتاح، إنه يكافح، يسعى بدأب وصبر كبيرين إلى الظفر بما ضاع، إلى استعادة الحب الجريح، إلى تأسيس حياة جديدة، كأن البطل مسكون بيوتوبيا يهفو إليها ويسعى إلى بلوغها، بيد أنها لم توجد بعد. لعله لكل هذا ينبغي أن نقول عن رواية «رسائل زمن العاصفة»، إنها رواية الهوية التراجيدية، إذ الحاضر غير مرغوب فيه، والمستقبل حلم يتبدد ويتناثر، والماضي وحده، هو ما ينطوي على الضوء الشفاف.
تراجيديا البحث عن الذات، بعد الانكفاء عن أحلام التغيير، أحلام التأسيس لمجتمع جديد. هي لذلك رواية الزمن الصعب: الزمن الهلامي، الذي لا تتكشف قسماته ولا سماته، الزمن الضبابي الذي يخفي أكثر مما يظهر، الزمن الذي تتخفى فيه حقائق الحياة وقيمها الكبرى ومنها قيمة الحب وهي قيمة ثيمة مركزية في هذه الرواية، ولقد جاءت متضمنة في أغطية من الستر والإخفاء، لأن الحب ليس ممارسة فقط كما تومئ إلى ذلك المشاهد الأولى من الرواية، بل الحب كتابة وقد تمت صياغتها في رسالة أو رسائل من الحبيبة الضائعة إلى الحبيب المتشرد، ولقد عانى كل واحد من الحبيبين، في البحث عن الآخر بدون جدوى.
رؤية جمالية
جماليا، يمكن اعتبار تقنية الترسل المعتمدة في هذه الرواية، باعتبارها التقنية المفتاح لفهم ما تقوله الرواية، أو ما تفكر فيه، وهي تقنية فنية طالما اعتمدت في الرواية الترسلية. إن هذه التقنية الفنية هي التي تسعف في فهم مدارات الهوية في الرواية كلها، وكأن الرواية ذاتها رسالة مشفرة على القارئ أن يستكنهها، ليلمس حقيقة الحياة التي يحياها في هذا المجتمع المغربي، الذي يصعب فيه البوح بكل الحقائق أو الجهر بها، فلا يبقى إلا اتباع طريق الإيماء أو الإيحاء أو الرمز، أيما شئت من هذه، فكلها تثوي في أعطاف الرواية، وحال الانتهاء منها يظفر القارئ، بالمعنى المنفلت أو بالضوء الهارب، ضوء الحياة، بكل احتداماتها، التي تحكي عنها رواية «رسائل زمن العاصفة». فهذه الرواية، مثلما تقدم الهوية السردية بتسمية بول ريكور في الحبكة القائمة على الترسل، والتي تمت إحاطتها بهالة شفيفة من التورية والإخفاء والاختباء، تحقيقا للذروة الفنية كما يحلو لجبرا إبراهيم جبرا أن يسميها في كتاب «الحرية أو الطوفان» لا تني تقدم الهوية الفردية أو الهوية الجماعية بالمعنى المتعارف عليه عند علماء الاجتماع.
تعمل تقنية الترسل على إظهار هوية الشخوص، في تآلفهم كما في اختلافهم. وهي التي تحقق لهذه الرواية هويتها السردية كما يعرّفها ريكور، فحبكة الرواية بما فيها من تشويق وتدقيق إنما تدور في مدارات الرسائل وبنوع من جدلية الخفاء والتجلي، فهي تظهر لتختفي، ثم تختفي لتظهر، وإن كان السرد الروائي يعتمدها اعتمادا رئيسا في الخطاب، كما في تشكيل الرؤية إلى العالم. هذه الهوية السردية القائمة على الترسل تساعد بشكل قوي على بناء هوية الشخوص، الذين ترتسم ملامحهم، لتدل في مجملها على الضياع، وكأن الرواية، في كل ما تزخر به من رؤى، إنما تتحدث عن الجيل الخائب الجيل الذي اكتوى بحياة رمادية طوال سنوات الرصاص.
....
ترتبط الهوية، أي هوية، بصوت صاحبها، ولذلك فإن الهوية في الرواية قرينة المتكلمين في هذه الرواية. وإن كان المتكلم الأساس في الرواية، أي رواية، هو الرواي أو السارد، وفي هذا ما يعمق إشكال الهوية في الرواية، لأن البحث عن الذات أو تأكيدها أو الحلم بتحقيقها بهذا الشكل أو ذاك، هو مطلب جمالي مثلما هو مطلب فكري. ويرى عالم الاجتماع الفرنسي دوركهايم أن الهوية الاجتماعية (المرادفة للانتماء إلى مجتمع معين) هي ما يرثه الإنسان بدون رغبته ويشكل سلوكه بدون أن يدرك.
إن مسعى الرواية المغربية الجديدة الصادرة منذ مطلع بدايات الألفية الثالثة، تعمل في معظمها على استجلاء هوية الإنسان المغربي، في خضم الصراع الذي يخوضه لتحقيق ذاته في الحياة الاجتماعية والثقافية التي يحياها منصهرا بعلاماتها البارزة الحادة حدة الحياة المعاصرة كلها. وتعمل هذه الرواية، بجهد دؤوب على إظهار حقيقة هذه الحياة، في اتصالها الوثيق بحقبة الحياة المعاصرة، من حيث تدهور القيم فيها أو اندحار الإنسان وتوهانه وضياعه، وبحثه العصيب المرير عن نقطة الارتكاز أو الانطلاق من جديد، بعدما أضاع البوصلة في بحر الحياة الهائج الصاخب المضطرب. وهذا ينطبق على رواية «رسائل زمن العاصفة» للأديب المغربي عبدالنور مزين، الرواية التي ورد اسمها ضمن اللائحة الطويلة لجائزة البوكر العربية (2016).
إنها رواية شفافة، وهذا مكمن الصعوبة في الإمساك بهوية شخوصها، ذلك أن الهوية، فيها، فهل هوية الشخص مرتهنة بانتمائه العرقي القومي أم بأفعاله ونشاطه الاجتماعي والثقافي؟ وهل هذا الانتماء كاف لإظهار الهوية والوقوف على حقيقتها، أم أن الهوية (الشخصية)، نابعة في الرواية من الهوية الفنية؟ وبمعنى آخر: ألا تكمن جمالية الهوية في الرواية، في هوية الشخصية وبفنية الخطاب الروائي في تحديد هذه الهوية؟
التعبير والدلالة
الرواية فن. والشخوص في الرواية مهما كانوا أقرب إلى الواقع، في التعبير والدلالة والموقف، يظلون شخوصا روائية، تقارب الواقع بالتمثيل الفني الذي يرقى بهذا الواقع إلى ذرى الجمال الفني. إن جمالية الهوية، بهذا المعنى، هي حقيقة بأن تظهرنا على واقع الحياة التي تروي عنها الرواية، بما يجعل هذه الحياة ملموسة. فكيف عملت رواية «رسائل زمن العاصفة» فنيا على تمثيل الهوية وعلى إظهارها؟
إن قارئ رواية الأديب عبدالنور مزين «رسائل زمن العاصفة» يجدها تبني عالمها الروائي على مقولة فلسفية مستمدة من الفلسفات المعاصرة، وهذه المقولة، يمكن إيجازها في كلمات هي: «أن تعيش يعني أن تمنح معنى لحياتك. إن عملية بناء هذا المعنى ربما تعتبر المركز الحقيقي لحياة الإنسان». وهي المقولة التي تشكل حقيقة الشخوص في رواية «رسائل زمن العاصفة»، وليست هذه الحقيقة غير هويتها.
إن هوية الشخوص في هذه الرواية مرتبطة أساسا، برغبتها اللاعجة في تحقيق مجتمع جديد، مجتمع العدالة الاجتماعية، بيد أن هذه الرغبة تتبدد تبدد الحقائق في العواصف، إننا نعثر في رواية «رسائل زمن العاصفة» على خبرة بالواقع المغربي، في نهاية القرن العشرين وتحديدا في الثمانينيات وما يليها إلى نهاية القرن إلا أن هذه الخبرة لا تنسينا أن هذه الرواية، كما هو الأمر في الفن كله، تقوم جمالية الهوية فيها على« طريقة عمل» الرواية، أو بالتعبير الشائع، على كيفية اشتغالها الفني، فنحن إذا نقرأ الرواية، نقف على الهوية فيها، بتجلياها الفكرية والفنية. وهي هوية أزمة، أو بتعبير أدق تقوم على (أزمة الهوية) التي تسم العالم الروائي ل«رسائل زمن العاصفة»، لأن الإقصاء والملاحقة والتعذيب والسجن… هي السمات الأساس التي ينبني عليها هذا العالم: أزمة هوية تسم بميسمها الحاد حياة الشخوص الروائية وفضاءات ممارستهم الحياةَ، فما بين التطلع إلى عالم جديد مجتمع جديد، وما بين الرزوح تحت أعباء المجتمع القائم (القديم) تظل حركة الشخوص مقيدة حتى في تحررها أو تسكعها أو جولانها من مدينة إلى مدينة ومن بلد إلى بلد.
إن ما يميز أزمة الهوية هاته التي نتحدث عنها، أنها أزمة الروابط الاجتماعية الآيلة إلى التفكك، بفعل انهمار قيم جديدةعلى الحياة الاجتماعية: تتبدى أساسا في العلاقات العاطفية (بين البطل اللامسمى والبطلة غادة الغرناط)، وهي قيم مرتبطة أيضا بالأزمات الوجودية الذاتية. إن الفرد في هذه الرواية يتمزق كأنه قطع هشيم الزجاج، إنه ينهار، ومع ذلك فهو يقاوم، يقف على رجليه عنيدا مشرئبا إلى أفق آخر غير الأفق الذي يوجد فيه، إنه ينظر إلى أفقه المنشود، لا أفقه الحياتي الجاري المعتاد المعهود.
إن الرواية سرد، وباعتبارها هذا فهي وسيلة تمثيل لتجارب شخصية للمؤلف أو لشخوصه الروائية، خاصة تلك التي تجرؤ على إحراجه، بأن تنحت لشخصها هوية خاصة، هوية مفارقة لشخص الكاتب. جاء بطل رواية «رسائل زمن العاصفة» بلا اسم، والاسم أول علامة من علامات الهوية الشخصية، هذا الغياب للاسم دال، فالبطل يعاني أزمة هوية، ناتجة عن رؤاه الفكرية وعقائده الاجتماعية المخالفة والمفارقة للرؤى السائدة في المجتمع، وللعقائد الراسخة في هذا المجتمع، لم يؤمن البطل بشيء غير الإيمان بالحب الذي يؤسس لحياة جديدة، في مجتمع تكبله القيود.
هاجس المعرفة
نلمس في رواية «رسائل زمن العاصفة» دفعا متواصلا صوب الماضي، استعادة مسكونة بهاجس المعرفة، حكي متناثر يبحث عن شاطئ الأمان، في أمكنة معادية أو تكاد أن تكون معادية، تسلم البطل إلى الضياع والتشرد. تشرد بلغ أوجه في الديار الإسبانية. ما من مكان إلا ويثير ذكرى. وكل ذكرى تدفع إلى أخرى، في شريط من الحوادث العصيبة الأليمة. لا يستكين البطل ولا يستريح. وكلما أوغل في الحياة، طاردته هموم الحياة وأكدارها وعتماتها، ولا يأتي الضوء إلا من الحنين إلى الماضي الشفاف، ماضي الحياة المنقضية، وكأن الزمن الهادر الهائج الصاخب ليس إلا زمن الركود والجمود والهمود. لكن البطل لا يرتاح، إنه يكافح، يسعى بدأب وصبر كبيرين إلى الظفر بما ضاع، إلى استعادة الحب الجريح، إلى تأسيس حياة جديدة، كأن البطل مسكون بيوتوبيا يهفو إليها ويسعى إلى بلوغها، بيد أنها لم توجد بعد. لعله لكل هذا ينبغي أن نقول عن رواية «رسائل زمن العاصفة»، إنها رواية الهوية التراجيدية، إذ الحاضر غير مرغوب فيه، والمستقبل حلم يتبدد ويتناثر، والماضي وحده، هو ما ينطوي على الضوء الشفاف.
تراجيديا البحث عن الذات، بعد الانكفاء عن أحلام التغيير، أحلام التأسيس لمجتمع جديد. هي لذلك رواية الزمن الصعب: الزمن الهلامي، الذي لا تتكشف قسماته ولا سماته، الزمن الضبابي الذي يخفي أكثر مما يظهر، الزمن الذي تتخفى فيه حقائق الحياة وقيمها الكبرى ومنها قيمة الحب وهي قيمة ثيمة مركزية في هذه الرواية، ولقد جاءت متضمنة في أغطية من الستر والإخفاء، لأن الحب ليس ممارسة فقط كما تومئ إلى ذلك المشاهد الأولى من الرواية، بل الحب كتابة وقد تمت صياغتها في رسالة أو رسائل من الحبيبة الضائعة إلى الحبيب المتشرد، ولقد عانى كل واحد من الحبيبين، في البحث عن الآخر بدون جدوى.
رؤية جمالية
جماليا، يمكن اعتبار تقنية الترسل المعتمدة في هذه الرواية، باعتبارها التقنية المفتاح لفهم ما تقوله الرواية، أو ما تفكر فيه، وهي تقنية فنية طالما اعتمدت في الرواية الترسلية. إن هذه التقنية الفنية هي التي تسعف في فهم مدارات الهوية في الرواية كلها، وكأن الرواية ذاتها رسالة مشفرة على القارئ أن يستكنهها، ليلمس حقيقة الحياة التي يحياها في هذا المجتمع المغربي، الذي يصعب فيه البوح بكل الحقائق أو الجهر بها، فلا يبقى إلا اتباع طريق الإيماء أو الإيحاء أو الرمز، أيما شئت من هذه، فكلها تثوي في أعطاف الرواية، وحال الانتهاء منها يظفر القارئ، بالمعنى المنفلت أو بالضوء الهارب، ضوء الحياة، بكل احتداماتها، التي تحكي عنها رواية «رسائل زمن العاصفة». فهذه الرواية، مثلما تقدم الهوية السردية بتسمية بول ريكور في الحبكة القائمة على الترسل، والتي تمت إحاطتها بهالة شفيفة من التورية والإخفاء والاختباء، تحقيقا للذروة الفنية كما يحلو لجبرا إبراهيم جبرا أن يسميها في كتاب «الحرية أو الطوفان» لا تني تقدم الهوية الفردية أو الهوية الجماعية بالمعنى المتعارف عليه عند علماء الاجتماع.
تعمل تقنية الترسل على إظهار هوية الشخوص، في تآلفهم كما في اختلافهم. وهي التي تحقق لهذه الرواية هويتها السردية كما يعرّفها ريكور، فحبكة الرواية بما فيها من تشويق وتدقيق إنما تدور في مدارات الرسائل وبنوع من جدلية الخفاء والتجلي، فهي تظهر لتختفي، ثم تختفي لتظهر، وإن كان السرد الروائي يعتمدها اعتمادا رئيسا في الخطاب، كما في تشكيل الرؤية إلى العالم. هذه الهوية السردية القائمة على الترسل تساعد بشكل قوي على بناء هوية الشخوص، الذين ترتسم ملامحهم، لتدل في مجملها على الضياع، وكأن الرواية، في كل ما تزخر به من رؤى، إنما تتحدث عن الجيل الخائب الجيل الذي اكتوى بحياة رمادية طوال سنوات الرصاص.
....


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.