عون: السعودية ساهمت في إنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان    مئات الآلاف يواصلون تظاهراتهم في إسرائيل للمطالبة بوقف العدوان على غزة    الأغذية العالمي: نصف مليون فلسطيني في غزة على شفا المجاعة    النيابة تستعجل تحريات مقتل سيدة على يد زوجها أمام طفليها التوأم في الإسكندرية    إساءات للذات الإلهية.. جامعة الأزهر فرع أسيوط ترد على شكوى أستاذة عن توقف راتبها    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الاثنين 18 أغسطس    أرتفاع الحديد.. أسعار مواد البناء اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025    إيران: احتمال اندلاع مواجهة جديدة مع إسرائيل قائم.. ونستعد لكل السيناريوهات    ممثل واشنطن لدى الناتو: حلف شمال الأطلسي لن يشارك في الضمانات الأمنية لأوكرانيا    ترامب يهاجم «وسائل الإعلام الكاذبة» بشأن اختيار مكان انعقاد قمته مع بوتين    "أي حكم يغلط يتحاسب".. خبير تحكيمي يعلق على طرد محمد هاني بمباراة الأهلي وفاركو    سعر الذهب في مصر اليوم الاثنين 18-8-2025 مع بداية التعاملات    حار رطب على أغلب الأنحاء.. الأرصاد تكشف حالة الطقس اليوم الإثنين 18 أغسطس    «زمانك دلوقتي».. شذى تطرح أولى أغاني ألبومها الجديد    ياسين التهامي يوجه الدعوة لتأمل معاني الحب الإلهي في مهرجان القلعة    تامر عبدالمنعم: «سينما الشعب» تتيح الفن للجميع وتدعم مواجهة التطرف    وصفة مغذية وسهلة التحضير، طريقة عمل كبد الفراخ    أحمد إبراهيم يوضح موقفه من أزمة مها أحمد.. ماذا قال؟    أسفار الحج 13.. من أضاء المسجد النبوى "مصرى"    مطاردة الواحات المميتة.. الداخلية والإعلام يضعان الجناة في قبضة العدالة    قد يكون مؤشر على مشكلة صحية.. أبرز أسباب تورم القدمين    أمير هشام: غضب في الزمالك بعد التعادل أمام المقاولون    لو التكييف شغال مش بيبرد.. اعرف السبب والحل ودرجة الحرارة المثالية بدل وضع Fan    "لا يصلح"... رضا عبدالعال يوجه انتقادات قوية ليانيك فيريرا    أتلتيكو مدريد يسقط أمام إسبانيول بثنائية في الدوري الإسباني    رئيس "حماية المستهلك": وفرة السلع في الأسواق الضامن لتنظيم الأسعار تلقائيًا    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 18 أغسطس 2025 في القاهرة والمحافظات    أوسيم تضيء بذكراه، الكنيسة تحيي ذكرى نياحة القديس مويسيس الأسقف الزاهد    وزارة التربية والتعليم تصدر 24 توجيهًا قبل بدء العام الدراسي الجديد.. تشديدات بشأن الحضور والضرب في المدراس    مصرع سيدة في حادث سير على الطريق الدولي بالشيخ زويد    موعد فتح باب التقديم لوظائف وزارة الإسكان 2025    بدء اختبارات كشف الهيئة لطلاب مدارس التمريض بالإسكندرية    بحضور وزير قطاع الأعمال.. تخرج دفعة جديدة ب «الدراسات العليا في الإدارة»    البنك المصري الخليجي يتصدر المتعاملين الرئيسيين بالبورصة خلال جلسة بداية الأسبوع    هاجر الشرنوبي تدعو ل أنغام: «ربنا يعفي عنها»    حدث بالفن | عزاء تيمور تيمور وفنان ينجو من الغرق وتطورات خطيرة في حالة أنغام الصحية    الأونروا: ما يحدث في قطاع غزة أكبر أزمة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    أبرز تصريحات رئيس الوزراء خلال لقائه نظيره الفلسطيني الدكتور محمد مصطفى    إضافة المواليد على بطاقة التموين 2025.. الخطوات والشروط والأوراق المطلوبة (تفاصيل)    حضريها في المنزل بمكونات اقتصادية، الوافل حلوى لذيذة تباع بأسعار عالية    متحدث الصحة يفجر مفاجأة بشأن خطف الأطفال وسرقة الأعضاء البشرية (فيديو)    متحدث الصحة يكشف حقيقة الادعاءات بخطف الأطفال لسرقة أعضائهم    وزير الثقافة ومحافظ الإسماعيلية يفتتحان الملتقى القومي الثالث للسمسمية    طارق مجدي حكما للإسماعيلي والاتحاد وبسيوني للمصري وبيراميدز    أشرف صبحي يجتمع باللجنة الأولمبية لبحث الاستعدادات لأولمبياد لوس أنجلوس    السكة الحديد: تشغيل القطار الخامس لتيسير العودة الطوعية للأشقاء السودانيين    اليوم.. أولى جلسات محاكمة المتهمين في واقعة مطاردة طريق الواحات    ننشر أقوال السائق في واقعة مطاردة فتيات طريق الواحات    انطلاق دورة تدريبية لمديري المدارس بالإسماعيلية    رضا عبد العال: فيريرا لا يصلح للزمالك.. وعلامة استفهام حول استبعاد شيكو بانزا    مواجهة مع شخص متعالي.. حظ برج القوس اليوم 18 أغسطس    بداية متواضعة.. ماذا قدم مصطفى محمد في مباراة نانت ضد باريس سان جيرمان؟    تنسيق الثانوية العامة 2025 المرحلة الثالثة.. كليات التربية ب أنواعها المتاحة علمي علوم ورياضة وأدبي    هل يجوز ارتداء الملابس على الموضة؟.. أمين الفتوى يوضح    قبل بدء الفصل التشريعى الثانى لمجلس الشيوخ، تعرف علي مميزات حصانة النواب    فيديو.. خالد الجندي: عدم الالتزام بقواعد المرور حرام شرعا    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجليات الهوية في «رسائل زمن العاصفة» للمغربي عبدالنور مزين
نشر في صوت البلد يوم 20 - 02 - 2018

ترتبط الهوية، أي هوية، بصوت صاحبها، ولذلك فإن الهوية في الرواية قرينة المتكلمين في هذه الرواية. وإن كان المتكلم الأساس في الرواية، أي رواية، هو الرواي أو السارد، وفي هذا ما يعمق إشكال الهوية في الرواية، لأن البحث عن الذات أو تأكيدها أو الحلم بتحقيقها بهذا الشكل أو ذاك، هو مطلب جمالي مثلما هو مطلب فكري. ويرى عالم الاجتماع الفرنسي دوركهايم أن الهوية الاجتماعية (المرادفة للانتماء إلى مجتمع معين) هي ما يرثه الإنسان بدون رغبته ويشكل سلوكه بدون أن يدرك.
إن مسعى الرواية المغربية الجديدة الصادرة منذ مطلع بدايات الألفية الثالثة، تعمل في معظمها على استجلاء هوية الإنسان المغربي، في خضم الصراع الذي يخوضه لتحقيق ذاته في الحياة الاجتماعية والثقافية التي يحياها منصهرا بعلاماتها البارزة الحادة حدة الحياة المعاصرة كلها. وتعمل هذه الرواية، بجهد دؤوب على إظهار حقيقة هذه الحياة، في اتصالها الوثيق بحقبة الحياة المعاصرة، من حيث تدهور القيم فيها أو اندحار الإنسان وتوهانه وضياعه، وبحثه العصيب المرير عن نقطة الارتكاز أو الانطلاق من جديد، بعدما أضاع البوصلة في بحر الحياة الهائج الصاخب المضطرب. وهذا ينطبق على رواية «رسائل زمن العاصفة» للأديب المغربي عبدالنور مزين، الرواية التي ورد اسمها ضمن اللائحة الطويلة لجائزة البوكر العربية (2016).
إنها رواية شفافة، وهذا مكمن الصعوبة في الإمساك بهوية شخوصها، ذلك أن الهوية، فيها، فهل هوية الشخص مرتهنة بانتمائه العرقي القومي أم بأفعاله ونشاطه الاجتماعي والثقافي؟ وهل هذا الانتماء كاف لإظهار الهوية والوقوف على حقيقتها، أم أن الهوية (الشخصية)، نابعة في الرواية من الهوية الفنية؟ وبمعنى آخر: ألا تكمن جمالية الهوية في الرواية، في هوية الشخصية وبفنية الخطاب الروائي في تحديد هذه الهوية؟
التعبير والدلالة
الرواية فن. والشخوص في الرواية مهما كانوا أقرب إلى الواقع، في التعبير والدلالة والموقف، يظلون شخوصا روائية، تقارب الواقع بالتمثيل الفني الذي يرقى بهذا الواقع إلى ذرى الجمال الفني. إن جمالية الهوية، بهذا المعنى، هي حقيقة بأن تظهرنا على واقع الحياة التي تروي عنها الرواية، بما يجعل هذه الحياة ملموسة. فكيف عملت رواية «رسائل زمن العاصفة» فنيا على تمثيل الهوية وعلى إظهارها؟
إن قارئ رواية الأديب عبدالنور مزين «رسائل زمن العاصفة» يجدها تبني عالمها الروائي على مقولة فلسفية مستمدة من الفلسفات المعاصرة، وهذه المقولة، يمكن إيجازها في كلمات هي: «أن تعيش يعني أن تمنح معنى لحياتك. إن عملية بناء هذا المعنى ربما تعتبر المركز الحقيقي لحياة الإنسان». وهي المقولة التي تشكل حقيقة الشخوص في رواية «رسائل زمن العاصفة»، وليست هذه الحقيقة غير هويتها.
إن هوية الشخوص في هذه الرواية مرتبطة أساسا، برغبتها اللاعجة في تحقيق مجتمع جديد، مجتمع العدالة الاجتماعية، بيد أن هذه الرغبة تتبدد تبدد الحقائق في العواصف، إننا نعثر في رواية «رسائل زمن العاصفة» على خبرة بالواقع المغربي، في نهاية القرن العشرين وتحديدا في الثمانينيات وما يليها إلى نهاية القرن إلا أن هذه الخبرة لا تنسينا أن هذه الرواية، كما هو الأمر في الفن كله، تقوم جمالية الهوية فيها على« طريقة عمل» الرواية، أو بالتعبير الشائع، على كيفية اشتغالها الفني، فنحن إذا نقرأ الرواية، نقف على الهوية فيها، بتجلياها الفكرية والفنية. وهي هوية أزمة، أو بتعبير أدق تقوم على (أزمة الهوية) التي تسم العالم الروائي ل«رسائل زمن العاصفة»، لأن الإقصاء والملاحقة والتعذيب والسجن… هي السمات الأساس التي ينبني عليها هذا العالم: أزمة هوية تسم بميسمها الحاد حياة الشخوص الروائية وفضاءات ممارستهم الحياةَ، فما بين التطلع إلى عالم جديد مجتمع جديد، وما بين الرزوح تحت أعباء المجتمع القائم (القديم) تظل حركة الشخوص مقيدة حتى في تحررها أو تسكعها أو جولانها من مدينة إلى مدينة ومن بلد إلى بلد.
إن ما يميز أزمة الهوية هاته التي نتحدث عنها، أنها أزمة الروابط الاجتماعية الآيلة إلى التفكك، بفعل انهمار قيم جديدةعلى الحياة الاجتماعية: تتبدى أساسا في العلاقات العاطفية (بين البطل اللامسمى والبطلة غادة الغرناط)، وهي قيم مرتبطة أيضا بالأزمات الوجودية الذاتية. إن الفرد في هذه الرواية يتمزق كأنه قطع هشيم الزجاج، إنه ينهار، ومع ذلك فهو يقاوم، يقف على رجليه عنيدا مشرئبا إلى أفق آخر غير الأفق الذي يوجد فيه، إنه ينظر إلى أفقه المنشود، لا أفقه الحياتي الجاري المعتاد المعهود.
إن الرواية سرد، وباعتبارها هذا فهي وسيلة تمثيل لتجارب شخصية للمؤلف أو لشخوصه الروائية، خاصة تلك التي تجرؤ على إحراجه، بأن تنحت لشخصها هوية خاصة، هوية مفارقة لشخص الكاتب. جاء بطل رواية «رسائل زمن العاصفة» بلا اسم، والاسم أول علامة من علامات الهوية الشخصية، هذا الغياب للاسم دال، فالبطل يعاني أزمة هوية، ناتجة عن رؤاه الفكرية وعقائده الاجتماعية المخالفة والمفارقة للرؤى السائدة في المجتمع، وللعقائد الراسخة في هذا المجتمع، لم يؤمن البطل بشيء غير الإيمان بالحب الذي يؤسس لحياة جديدة، في مجتمع تكبله القيود.
هاجس المعرفة
نلمس في رواية «رسائل زمن العاصفة» دفعا متواصلا صوب الماضي، استعادة مسكونة بهاجس المعرفة، حكي متناثر يبحث عن شاطئ الأمان، في أمكنة معادية أو تكاد أن تكون معادية، تسلم البطل إلى الضياع والتشرد. تشرد بلغ أوجه في الديار الإسبانية. ما من مكان إلا ويثير ذكرى. وكل ذكرى تدفع إلى أخرى، في شريط من الحوادث العصيبة الأليمة. لا يستكين البطل ولا يستريح. وكلما أوغل في الحياة، طاردته هموم الحياة وأكدارها وعتماتها، ولا يأتي الضوء إلا من الحنين إلى الماضي الشفاف، ماضي الحياة المنقضية، وكأن الزمن الهادر الهائج الصاخب ليس إلا زمن الركود والجمود والهمود. لكن البطل لا يرتاح، إنه يكافح، يسعى بدأب وصبر كبيرين إلى الظفر بما ضاع، إلى استعادة الحب الجريح، إلى تأسيس حياة جديدة، كأن البطل مسكون بيوتوبيا يهفو إليها ويسعى إلى بلوغها، بيد أنها لم توجد بعد. لعله لكل هذا ينبغي أن نقول عن رواية «رسائل زمن العاصفة»، إنها رواية الهوية التراجيدية، إذ الحاضر غير مرغوب فيه، والمستقبل حلم يتبدد ويتناثر، والماضي وحده، هو ما ينطوي على الضوء الشفاف.
تراجيديا البحث عن الذات، بعد الانكفاء عن أحلام التغيير، أحلام التأسيس لمجتمع جديد. هي لذلك رواية الزمن الصعب: الزمن الهلامي، الذي لا تتكشف قسماته ولا سماته، الزمن الضبابي الذي يخفي أكثر مما يظهر، الزمن الذي تتخفى فيه حقائق الحياة وقيمها الكبرى ومنها قيمة الحب وهي قيمة ثيمة مركزية في هذه الرواية، ولقد جاءت متضمنة في أغطية من الستر والإخفاء، لأن الحب ليس ممارسة فقط كما تومئ إلى ذلك المشاهد الأولى من الرواية، بل الحب كتابة وقد تمت صياغتها في رسالة أو رسائل من الحبيبة الضائعة إلى الحبيب المتشرد، ولقد عانى كل واحد من الحبيبين، في البحث عن الآخر بدون جدوى.
رؤية جمالية
جماليا، يمكن اعتبار تقنية الترسل المعتمدة في هذه الرواية، باعتبارها التقنية المفتاح لفهم ما تقوله الرواية، أو ما تفكر فيه، وهي تقنية فنية طالما اعتمدت في الرواية الترسلية. إن هذه التقنية الفنية هي التي تسعف في فهم مدارات الهوية في الرواية كلها، وكأن الرواية ذاتها رسالة مشفرة على القارئ أن يستكنهها، ليلمس حقيقة الحياة التي يحياها في هذا المجتمع المغربي، الذي يصعب فيه البوح بكل الحقائق أو الجهر بها، فلا يبقى إلا اتباع طريق الإيماء أو الإيحاء أو الرمز، أيما شئت من هذه، فكلها تثوي في أعطاف الرواية، وحال الانتهاء منها يظفر القارئ، بالمعنى المنفلت أو بالضوء الهارب، ضوء الحياة، بكل احتداماتها، التي تحكي عنها رواية «رسائل زمن العاصفة». فهذه الرواية، مثلما تقدم الهوية السردية بتسمية بول ريكور في الحبكة القائمة على الترسل، والتي تمت إحاطتها بهالة شفيفة من التورية والإخفاء والاختباء، تحقيقا للذروة الفنية كما يحلو لجبرا إبراهيم جبرا أن يسميها في كتاب «الحرية أو الطوفان» لا تني تقدم الهوية الفردية أو الهوية الجماعية بالمعنى المتعارف عليه عند علماء الاجتماع.
تعمل تقنية الترسل على إظهار هوية الشخوص، في تآلفهم كما في اختلافهم. وهي التي تحقق لهذه الرواية هويتها السردية كما يعرّفها ريكور، فحبكة الرواية بما فيها من تشويق وتدقيق إنما تدور في مدارات الرسائل وبنوع من جدلية الخفاء والتجلي، فهي تظهر لتختفي، ثم تختفي لتظهر، وإن كان السرد الروائي يعتمدها اعتمادا رئيسا في الخطاب، كما في تشكيل الرؤية إلى العالم. هذه الهوية السردية القائمة على الترسل تساعد بشكل قوي على بناء هوية الشخوص، الذين ترتسم ملامحهم، لتدل في مجملها على الضياع، وكأن الرواية، في كل ما تزخر به من رؤى، إنما تتحدث عن الجيل الخائب الجيل الذي اكتوى بحياة رمادية طوال سنوات الرصاص.
....
ترتبط الهوية، أي هوية، بصوت صاحبها، ولذلك فإن الهوية في الرواية قرينة المتكلمين في هذه الرواية. وإن كان المتكلم الأساس في الرواية، أي رواية، هو الرواي أو السارد، وفي هذا ما يعمق إشكال الهوية في الرواية، لأن البحث عن الذات أو تأكيدها أو الحلم بتحقيقها بهذا الشكل أو ذاك، هو مطلب جمالي مثلما هو مطلب فكري. ويرى عالم الاجتماع الفرنسي دوركهايم أن الهوية الاجتماعية (المرادفة للانتماء إلى مجتمع معين) هي ما يرثه الإنسان بدون رغبته ويشكل سلوكه بدون أن يدرك.
إن مسعى الرواية المغربية الجديدة الصادرة منذ مطلع بدايات الألفية الثالثة، تعمل في معظمها على استجلاء هوية الإنسان المغربي، في خضم الصراع الذي يخوضه لتحقيق ذاته في الحياة الاجتماعية والثقافية التي يحياها منصهرا بعلاماتها البارزة الحادة حدة الحياة المعاصرة كلها. وتعمل هذه الرواية، بجهد دؤوب على إظهار حقيقة هذه الحياة، في اتصالها الوثيق بحقبة الحياة المعاصرة، من حيث تدهور القيم فيها أو اندحار الإنسان وتوهانه وضياعه، وبحثه العصيب المرير عن نقطة الارتكاز أو الانطلاق من جديد، بعدما أضاع البوصلة في بحر الحياة الهائج الصاخب المضطرب. وهذا ينطبق على رواية «رسائل زمن العاصفة» للأديب المغربي عبدالنور مزين، الرواية التي ورد اسمها ضمن اللائحة الطويلة لجائزة البوكر العربية (2016).
إنها رواية شفافة، وهذا مكمن الصعوبة في الإمساك بهوية شخوصها، ذلك أن الهوية، فيها، فهل هوية الشخص مرتهنة بانتمائه العرقي القومي أم بأفعاله ونشاطه الاجتماعي والثقافي؟ وهل هذا الانتماء كاف لإظهار الهوية والوقوف على حقيقتها، أم أن الهوية (الشخصية)، نابعة في الرواية من الهوية الفنية؟ وبمعنى آخر: ألا تكمن جمالية الهوية في الرواية، في هوية الشخصية وبفنية الخطاب الروائي في تحديد هذه الهوية؟
التعبير والدلالة
الرواية فن. والشخوص في الرواية مهما كانوا أقرب إلى الواقع، في التعبير والدلالة والموقف، يظلون شخوصا روائية، تقارب الواقع بالتمثيل الفني الذي يرقى بهذا الواقع إلى ذرى الجمال الفني. إن جمالية الهوية، بهذا المعنى، هي حقيقة بأن تظهرنا على واقع الحياة التي تروي عنها الرواية، بما يجعل هذه الحياة ملموسة. فكيف عملت رواية «رسائل زمن العاصفة» فنيا على تمثيل الهوية وعلى إظهارها؟
إن قارئ رواية الأديب عبدالنور مزين «رسائل زمن العاصفة» يجدها تبني عالمها الروائي على مقولة فلسفية مستمدة من الفلسفات المعاصرة، وهذه المقولة، يمكن إيجازها في كلمات هي: «أن تعيش يعني أن تمنح معنى لحياتك. إن عملية بناء هذا المعنى ربما تعتبر المركز الحقيقي لحياة الإنسان». وهي المقولة التي تشكل حقيقة الشخوص في رواية «رسائل زمن العاصفة»، وليست هذه الحقيقة غير هويتها.
إن هوية الشخوص في هذه الرواية مرتبطة أساسا، برغبتها اللاعجة في تحقيق مجتمع جديد، مجتمع العدالة الاجتماعية، بيد أن هذه الرغبة تتبدد تبدد الحقائق في العواصف، إننا نعثر في رواية «رسائل زمن العاصفة» على خبرة بالواقع المغربي، في نهاية القرن العشرين وتحديدا في الثمانينيات وما يليها إلى نهاية القرن إلا أن هذه الخبرة لا تنسينا أن هذه الرواية، كما هو الأمر في الفن كله، تقوم جمالية الهوية فيها على« طريقة عمل» الرواية، أو بالتعبير الشائع، على كيفية اشتغالها الفني، فنحن إذا نقرأ الرواية، نقف على الهوية فيها، بتجلياها الفكرية والفنية. وهي هوية أزمة، أو بتعبير أدق تقوم على (أزمة الهوية) التي تسم العالم الروائي ل«رسائل زمن العاصفة»، لأن الإقصاء والملاحقة والتعذيب والسجن… هي السمات الأساس التي ينبني عليها هذا العالم: أزمة هوية تسم بميسمها الحاد حياة الشخوص الروائية وفضاءات ممارستهم الحياةَ، فما بين التطلع إلى عالم جديد مجتمع جديد، وما بين الرزوح تحت أعباء المجتمع القائم (القديم) تظل حركة الشخوص مقيدة حتى في تحررها أو تسكعها أو جولانها من مدينة إلى مدينة ومن بلد إلى بلد.
إن ما يميز أزمة الهوية هاته التي نتحدث عنها، أنها أزمة الروابط الاجتماعية الآيلة إلى التفكك، بفعل انهمار قيم جديدةعلى الحياة الاجتماعية: تتبدى أساسا في العلاقات العاطفية (بين البطل اللامسمى والبطلة غادة الغرناط)، وهي قيم مرتبطة أيضا بالأزمات الوجودية الذاتية. إن الفرد في هذه الرواية يتمزق كأنه قطع هشيم الزجاج، إنه ينهار، ومع ذلك فهو يقاوم، يقف على رجليه عنيدا مشرئبا إلى أفق آخر غير الأفق الذي يوجد فيه، إنه ينظر إلى أفقه المنشود، لا أفقه الحياتي الجاري المعتاد المعهود.
إن الرواية سرد، وباعتبارها هذا فهي وسيلة تمثيل لتجارب شخصية للمؤلف أو لشخوصه الروائية، خاصة تلك التي تجرؤ على إحراجه، بأن تنحت لشخصها هوية خاصة، هوية مفارقة لشخص الكاتب. جاء بطل رواية «رسائل زمن العاصفة» بلا اسم، والاسم أول علامة من علامات الهوية الشخصية، هذا الغياب للاسم دال، فالبطل يعاني أزمة هوية، ناتجة عن رؤاه الفكرية وعقائده الاجتماعية المخالفة والمفارقة للرؤى السائدة في المجتمع، وللعقائد الراسخة في هذا المجتمع، لم يؤمن البطل بشيء غير الإيمان بالحب الذي يؤسس لحياة جديدة، في مجتمع تكبله القيود.
هاجس المعرفة
نلمس في رواية «رسائل زمن العاصفة» دفعا متواصلا صوب الماضي، استعادة مسكونة بهاجس المعرفة، حكي متناثر يبحث عن شاطئ الأمان، في أمكنة معادية أو تكاد أن تكون معادية، تسلم البطل إلى الضياع والتشرد. تشرد بلغ أوجه في الديار الإسبانية. ما من مكان إلا ويثير ذكرى. وكل ذكرى تدفع إلى أخرى، في شريط من الحوادث العصيبة الأليمة. لا يستكين البطل ولا يستريح. وكلما أوغل في الحياة، طاردته هموم الحياة وأكدارها وعتماتها، ولا يأتي الضوء إلا من الحنين إلى الماضي الشفاف، ماضي الحياة المنقضية، وكأن الزمن الهادر الهائج الصاخب ليس إلا زمن الركود والجمود والهمود. لكن البطل لا يرتاح، إنه يكافح، يسعى بدأب وصبر كبيرين إلى الظفر بما ضاع، إلى استعادة الحب الجريح، إلى تأسيس حياة جديدة، كأن البطل مسكون بيوتوبيا يهفو إليها ويسعى إلى بلوغها، بيد أنها لم توجد بعد. لعله لكل هذا ينبغي أن نقول عن رواية «رسائل زمن العاصفة»، إنها رواية الهوية التراجيدية، إذ الحاضر غير مرغوب فيه، والمستقبل حلم يتبدد ويتناثر، والماضي وحده، هو ما ينطوي على الضوء الشفاف.
تراجيديا البحث عن الذات، بعد الانكفاء عن أحلام التغيير، أحلام التأسيس لمجتمع جديد. هي لذلك رواية الزمن الصعب: الزمن الهلامي، الذي لا تتكشف قسماته ولا سماته، الزمن الضبابي الذي يخفي أكثر مما يظهر، الزمن الذي تتخفى فيه حقائق الحياة وقيمها الكبرى ومنها قيمة الحب وهي قيمة ثيمة مركزية في هذه الرواية، ولقد جاءت متضمنة في أغطية من الستر والإخفاء، لأن الحب ليس ممارسة فقط كما تومئ إلى ذلك المشاهد الأولى من الرواية، بل الحب كتابة وقد تمت صياغتها في رسالة أو رسائل من الحبيبة الضائعة إلى الحبيب المتشرد، ولقد عانى كل واحد من الحبيبين، في البحث عن الآخر بدون جدوى.
رؤية جمالية
جماليا، يمكن اعتبار تقنية الترسل المعتمدة في هذه الرواية، باعتبارها التقنية المفتاح لفهم ما تقوله الرواية، أو ما تفكر فيه، وهي تقنية فنية طالما اعتمدت في الرواية الترسلية. إن هذه التقنية الفنية هي التي تسعف في فهم مدارات الهوية في الرواية كلها، وكأن الرواية ذاتها رسالة مشفرة على القارئ أن يستكنهها، ليلمس حقيقة الحياة التي يحياها في هذا المجتمع المغربي، الذي يصعب فيه البوح بكل الحقائق أو الجهر بها، فلا يبقى إلا اتباع طريق الإيماء أو الإيحاء أو الرمز، أيما شئت من هذه، فكلها تثوي في أعطاف الرواية، وحال الانتهاء منها يظفر القارئ، بالمعنى المنفلت أو بالضوء الهارب، ضوء الحياة، بكل احتداماتها، التي تحكي عنها رواية «رسائل زمن العاصفة». فهذه الرواية، مثلما تقدم الهوية السردية بتسمية بول ريكور في الحبكة القائمة على الترسل، والتي تمت إحاطتها بهالة شفيفة من التورية والإخفاء والاختباء، تحقيقا للذروة الفنية كما يحلو لجبرا إبراهيم جبرا أن يسميها في كتاب «الحرية أو الطوفان» لا تني تقدم الهوية الفردية أو الهوية الجماعية بالمعنى المتعارف عليه عند علماء الاجتماع.
تعمل تقنية الترسل على إظهار هوية الشخوص، في تآلفهم كما في اختلافهم. وهي التي تحقق لهذه الرواية هويتها السردية كما يعرّفها ريكور، فحبكة الرواية بما فيها من تشويق وتدقيق إنما تدور في مدارات الرسائل وبنوع من جدلية الخفاء والتجلي، فهي تظهر لتختفي، ثم تختفي لتظهر، وإن كان السرد الروائي يعتمدها اعتمادا رئيسا في الخطاب، كما في تشكيل الرؤية إلى العالم. هذه الهوية السردية القائمة على الترسل تساعد بشكل قوي على بناء هوية الشخوص، الذين ترتسم ملامحهم، لتدل في مجملها على الضياع، وكأن الرواية، في كل ما تزخر به من رؤى، إنما تتحدث عن الجيل الخائب الجيل الذي اكتوى بحياة رمادية طوال سنوات الرصاص.
....


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.