أسعار مواد البناء مساء اليوم الجمعة 23 مايو 2025    مصر والسعودية والأردن يناقشوا دعم إحلال السلام في المنطقة وتنفيذ حل الدولتين    بسبب توتنهام.. مدرب كريستال بالاس يكشف حقيقة رحيله نهاية الموسم    استقبال حافل لفيلم "الحياة بعد سهام" في عرضه الأول بمهرجان كان    اليونيسيف: الأزمة الإنسانية فى غزة تعصف بالطفولة وتتطلب تدخلاً عاجلاً    تعرف على آخر تطورات سعر الدولار نهاية تعاملات اليوم الجمعة 23 مايو    المندوه يكشف حقيقة رحيل الرمادي قبل نهاية عقده    موجة شديدة الحرارة تضرب البلاد.. تعرف على حالة الطقس المتوقعة غدا    تسيير قافلة دعوية مشتركة بين الأزهر والأوقاف والإفتاء بشمال سيناء    ما حكم الكلام فى الهاتف المحمول أثناء الطواف؟.. شوقى علام يجيب    الترجي التونسي يحصد برونزية بطولة أبطال الكؤوس الأفريقية لكرة اليد    محافظ البحيرة: إزالة 16 حالة تعدي على أملاك الدولة بالموجة ال 26    «المشاط» تلتقي رئيس المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة لبحث سبل تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين الجانبين    من مصر إلى إفريقيا.. بعثات تجارية تفتح آفاق التعاون الاقتصادي    كم تبلغ قيمة جوائز كأس العرب 2025؟    انطلاق امتحانات العام الجامعي 2024–2025 بجامعة قناة السويس    ضبط كيان صناعي مخالف بالباجور وتحريز 11 طن أسمدة ومخصبات زراعية مغشوشة    تراجع أسهم وول ستريت والأسواق الأوروبية وأبل عقب أحدث تهديدات ترامب بفرض رسوم جمركية    يختتم دورته ال 78 غدا.. 15فيلمًا تشكل موجة جديدة للسينما على شاشة مهرجان كان    عاجل|بوتين: مستقبل صناعة السلاح الروسية واعد.. واهتمام عالمي متزايد بتجربتنا العسكرية    مستشفى الحوض المرصود يطلق يوما علميآ بمشاركة 200 طبيب.. و5 عيادات تجميلية جديدة    حزب الإصلاح والنهضة: نؤيد استقرار النظام النيابي وندعو لتعزيز العدالة في الانتخابات المقبلة    بين الفرص والمخاطر| هل الدعم النفسي بالذكاء الاصطناعي آمن؟    القاهرة 36 درجة.. الأرصاد تحذر من موجة شديدة الحرارة تضرب البلاد غدًا    رئيس "التنظيم والإدارة" يبحث مع "القومي للطفولة" تعزيز التعاون    مدير جمعية الإغاثة الطبية في غزة: لا عودة للمستشفيات دون ضمانات أممية    بث مباشر نهائي كأس مصر سيدات - الأهلي (1)-(0) دجلة.. جووول أشرقت تسجل الأول    هل يحرم على المُضحّي قصّ شعره وأظافره في العشر الأوائل؟.. أمين الفتوى يوضح    أمين اتحاد دول حوض النيل يدعو للاستثمار في أفريقيا |خاص    إيفاد قافلتين طبيتين لمرضى الغسيل الكلوي في جيبوتي    تقديم الخدمة الطبية ل 1460 مواطنًا وتحويل 3 حالات للمستشفيات بدمياط    الزمالك يعلن جاهزيته للرد على المحكمة الرياضية بعدم تطبيق اللوائح فى أزمة مباراة القمة    ندوة توعوية موسعة لهيئة التأمين الصحي الشامل مع القطاع الطبي الخاص بأسوان    جوارديولا: مواجهة فولهام معقدة.. وهدفنا حسم التأهل الأوروبى    أحمد غزي يروج لشخصيته في مسلسل مملكة الحرير    "طلعت من التورتة".. 25 صورة من حفل عيد ميلاد اسماء جلال    قصور الثقافة تعرض مسرحية تك تك بوم على مسرح الأنفوشي    ضبط مدير مسئول عن شركة إنتاج فنى "بدون ترخيص" بالجيزة    ننشر مواصفات امتحان العلوم للصف السادس الابتدائي الترم الثاني    خطيب المسجد النبوى يوجه رسالة مؤثرة لحجاج بيت الله    ضمن رؤية مصر 2030.. تفاصيل مشاركة جامعة العريش بالندوة التثقيفية المجمعة لجامعات أقليم القناة وسيناء (صور)    بدون خبرة.. "الكهرباء" تُعلن عن تعيينات جديدة -(تفاصيل)    البريد المصري يحذر المواطنين من حملات احتيال إلكترونية جديدة    "نجوم الساحل" يتذيل شباك التذاكر    محافظ الجيزة: الانتهاء من إعداد المخططات الاستراتيجية العامة ل11 مدينة و160 قرية    وزير الزراعة يعلن توريد 3.2 مليون طن من القمح المحلي    زلزال بقوة 5.7 درجة يدمر 140 منزلا فى جزيرة سومطرة الإندونيسية    الدوري الإيطالي.. كونتي يقترب من تحقيق إنجاز تاريخي مع نابولي    غلق كلي لطريق الواحات بسبب أعمال كوبري زويل.. وتحويلات مرورية لمدة يومين    رمضان يدفع الملايين.. تسوية قضائية بين الفنان وMBC    الهلال يفاوض أوسيمين    ترامب وهارفارد.. كواليس مواجهة محتدمة تهدد مستقبل الطلاب الدوليين    ضبط 379 قضية مخدرات وتنفيذ 88 ألف حكم قضائى فى 24 ساعة    يدخل دخول رحمة.. عضو ب«الأزهر للفتوى»: يُستحب للإنسان البدء بالبسملة في كل أمر    مصادر عسكرية يمينة: مقتل وإصابة العشرات فى انفجارات في صنعاء وسط تكتّم الحوثيين    دينا فؤاد تبكي على الهواء.. ما السبب؟ (فيديو)    أدعية مستحبة في صيام العشر الأوائل من ذي الحجة    خدمات عالمية.. أغلى مدارس انترناشيونال في مصر 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجليات الهوية في «رسائل زمن العاصفة» للمغربي عبدالنور مزين
نشر في صوت البلد يوم 20 - 02 - 2018

ترتبط الهوية، أي هوية، بصوت صاحبها، ولذلك فإن الهوية في الرواية قرينة المتكلمين في هذه الرواية. وإن كان المتكلم الأساس في الرواية، أي رواية، هو الرواي أو السارد، وفي هذا ما يعمق إشكال الهوية في الرواية، لأن البحث عن الذات أو تأكيدها أو الحلم بتحقيقها بهذا الشكل أو ذاك، هو مطلب جمالي مثلما هو مطلب فكري. ويرى عالم الاجتماع الفرنسي دوركهايم أن الهوية الاجتماعية (المرادفة للانتماء إلى مجتمع معين) هي ما يرثه الإنسان بدون رغبته ويشكل سلوكه بدون أن يدرك.
إن مسعى الرواية المغربية الجديدة الصادرة منذ مطلع بدايات الألفية الثالثة، تعمل في معظمها على استجلاء هوية الإنسان المغربي، في خضم الصراع الذي يخوضه لتحقيق ذاته في الحياة الاجتماعية والثقافية التي يحياها منصهرا بعلاماتها البارزة الحادة حدة الحياة المعاصرة كلها. وتعمل هذه الرواية، بجهد دؤوب على إظهار حقيقة هذه الحياة، في اتصالها الوثيق بحقبة الحياة المعاصرة، من حيث تدهور القيم فيها أو اندحار الإنسان وتوهانه وضياعه، وبحثه العصيب المرير عن نقطة الارتكاز أو الانطلاق من جديد، بعدما أضاع البوصلة في بحر الحياة الهائج الصاخب المضطرب. وهذا ينطبق على رواية «رسائل زمن العاصفة» للأديب المغربي عبدالنور مزين، الرواية التي ورد اسمها ضمن اللائحة الطويلة لجائزة البوكر العربية (2016).
إنها رواية شفافة، وهذا مكمن الصعوبة في الإمساك بهوية شخوصها، ذلك أن الهوية، فيها، فهل هوية الشخص مرتهنة بانتمائه العرقي القومي أم بأفعاله ونشاطه الاجتماعي والثقافي؟ وهل هذا الانتماء كاف لإظهار الهوية والوقوف على حقيقتها، أم أن الهوية (الشخصية)، نابعة في الرواية من الهوية الفنية؟ وبمعنى آخر: ألا تكمن جمالية الهوية في الرواية، في هوية الشخصية وبفنية الخطاب الروائي في تحديد هذه الهوية؟
التعبير والدلالة
الرواية فن. والشخوص في الرواية مهما كانوا أقرب إلى الواقع، في التعبير والدلالة والموقف، يظلون شخوصا روائية، تقارب الواقع بالتمثيل الفني الذي يرقى بهذا الواقع إلى ذرى الجمال الفني. إن جمالية الهوية، بهذا المعنى، هي حقيقة بأن تظهرنا على واقع الحياة التي تروي عنها الرواية، بما يجعل هذه الحياة ملموسة. فكيف عملت رواية «رسائل زمن العاصفة» فنيا على تمثيل الهوية وعلى إظهارها؟
إن قارئ رواية الأديب عبدالنور مزين «رسائل زمن العاصفة» يجدها تبني عالمها الروائي على مقولة فلسفية مستمدة من الفلسفات المعاصرة، وهذه المقولة، يمكن إيجازها في كلمات هي: «أن تعيش يعني أن تمنح معنى لحياتك. إن عملية بناء هذا المعنى ربما تعتبر المركز الحقيقي لحياة الإنسان». وهي المقولة التي تشكل حقيقة الشخوص في رواية «رسائل زمن العاصفة»، وليست هذه الحقيقة غير هويتها.
إن هوية الشخوص في هذه الرواية مرتبطة أساسا، برغبتها اللاعجة في تحقيق مجتمع جديد، مجتمع العدالة الاجتماعية، بيد أن هذه الرغبة تتبدد تبدد الحقائق في العواصف، إننا نعثر في رواية «رسائل زمن العاصفة» على خبرة بالواقع المغربي، في نهاية القرن العشرين وتحديدا في الثمانينيات وما يليها إلى نهاية القرن إلا أن هذه الخبرة لا تنسينا أن هذه الرواية، كما هو الأمر في الفن كله، تقوم جمالية الهوية فيها على« طريقة عمل» الرواية، أو بالتعبير الشائع، على كيفية اشتغالها الفني، فنحن إذا نقرأ الرواية، نقف على الهوية فيها، بتجلياها الفكرية والفنية. وهي هوية أزمة، أو بتعبير أدق تقوم على (أزمة الهوية) التي تسم العالم الروائي ل«رسائل زمن العاصفة»، لأن الإقصاء والملاحقة والتعذيب والسجن… هي السمات الأساس التي ينبني عليها هذا العالم: أزمة هوية تسم بميسمها الحاد حياة الشخوص الروائية وفضاءات ممارستهم الحياةَ، فما بين التطلع إلى عالم جديد مجتمع جديد، وما بين الرزوح تحت أعباء المجتمع القائم (القديم) تظل حركة الشخوص مقيدة حتى في تحررها أو تسكعها أو جولانها من مدينة إلى مدينة ومن بلد إلى بلد.
إن ما يميز أزمة الهوية هاته التي نتحدث عنها، أنها أزمة الروابط الاجتماعية الآيلة إلى التفكك، بفعل انهمار قيم جديدةعلى الحياة الاجتماعية: تتبدى أساسا في العلاقات العاطفية (بين البطل اللامسمى والبطلة غادة الغرناط)، وهي قيم مرتبطة أيضا بالأزمات الوجودية الذاتية. إن الفرد في هذه الرواية يتمزق كأنه قطع هشيم الزجاج، إنه ينهار، ومع ذلك فهو يقاوم، يقف على رجليه عنيدا مشرئبا إلى أفق آخر غير الأفق الذي يوجد فيه، إنه ينظر إلى أفقه المنشود، لا أفقه الحياتي الجاري المعتاد المعهود.
إن الرواية سرد، وباعتبارها هذا فهي وسيلة تمثيل لتجارب شخصية للمؤلف أو لشخوصه الروائية، خاصة تلك التي تجرؤ على إحراجه، بأن تنحت لشخصها هوية خاصة، هوية مفارقة لشخص الكاتب. جاء بطل رواية «رسائل زمن العاصفة» بلا اسم، والاسم أول علامة من علامات الهوية الشخصية، هذا الغياب للاسم دال، فالبطل يعاني أزمة هوية، ناتجة عن رؤاه الفكرية وعقائده الاجتماعية المخالفة والمفارقة للرؤى السائدة في المجتمع، وللعقائد الراسخة في هذا المجتمع، لم يؤمن البطل بشيء غير الإيمان بالحب الذي يؤسس لحياة جديدة، في مجتمع تكبله القيود.
هاجس المعرفة
نلمس في رواية «رسائل زمن العاصفة» دفعا متواصلا صوب الماضي، استعادة مسكونة بهاجس المعرفة، حكي متناثر يبحث عن شاطئ الأمان، في أمكنة معادية أو تكاد أن تكون معادية، تسلم البطل إلى الضياع والتشرد. تشرد بلغ أوجه في الديار الإسبانية. ما من مكان إلا ويثير ذكرى. وكل ذكرى تدفع إلى أخرى، في شريط من الحوادث العصيبة الأليمة. لا يستكين البطل ولا يستريح. وكلما أوغل في الحياة، طاردته هموم الحياة وأكدارها وعتماتها، ولا يأتي الضوء إلا من الحنين إلى الماضي الشفاف، ماضي الحياة المنقضية، وكأن الزمن الهادر الهائج الصاخب ليس إلا زمن الركود والجمود والهمود. لكن البطل لا يرتاح، إنه يكافح، يسعى بدأب وصبر كبيرين إلى الظفر بما ضاع، إلى استعادة الحب الجريح، إلى تأسيس حياة جديدة، كأن البطل مسكون بيوتوبيا يهفو إليها ويسعى إلى بلوغها، بيد أنها لم توجد بعد. لعله لكل هذا ينبغي أن نقول عن رواية «رسائل زمن العاصفة»، إنها رواية الهوية التراجيدية، إذ الحاضر غير مرغوب فيه، والمستقبل حلم يتبدد ويتناثر، والماضي وحده، هو ما ينطوي على الضوء الشفاف.
تراجيديا البحث عن الذات، بعد الانكفاء عن أحلام التغيير، أحلام التأسيس لمجتمع جديد. هي لذلك رواية الزمن الصعب: الزمن الهلامي، الذي لا تتكشف قسماته ولا سماته، الزمن الضبابي الذي يخفي أكثر مما يظهر، الزمن الذي تتخفى فيه حقائق الحياة وقيمها الكبرى ومنها قيمة الحب وهي قيمة ثيمة مركزية في هذه الرواية، ولقد جاءت متضمنة في أغطية من الستر والإخفاء، لأن الحب ليس ممارسة فقط كما تومئ إلى ذلك المشاهد الأولى من الرواية، بل الحب كتابة وقد تمت صياغتها في رسالة أو رسائل من الحبيبة الضائعة إلى الحبيب المتشرد، ولقد عانى كل واحد من الحبيبين، في البحث عن الآخر بدون جدوى.
رؤية جمالية
جماليا، يمكن اعتبار تقنية الترسل المعتمدة في هذه الرواية، باعتبارها التقنية المفتاح لفهم ما تقوله الرواية، أو ما تفكر فيه، وهي تقنية فنية طالما اعتمدت في الرواية الترسلية. إن هذه التقنية الفنية هي التي تسعف في فهم مدارات الهوية في الرواية كلها، وكأن الرواية ذاتها رسالة مشفرة على القارئ أن يستكنهها، ليلمس حقيقة الحياة التي يحياها في هذا المجتمع المغربي، الذي يصعب فيه البوح بكل الحقائق أو الجهر بها، فلا يبقى إلا اتباع طريق الإيماء أو الإيحاء أو الرمز، أيما شئت من هذه، فكلها تثوي في أعطاف الرواية، وحال الانتهاء منها يظفر القارئ، بالمعنى المنفلت أو بالضوء الهارب، ضوء الحياة، بكل احتداماتها، التي تحكي عنها رواية «رسائل زمن العاصفة». فهذه الرواية، مثلما تقدم الهوية السردية بتسمية بول ريكور في الحبكة القائمة على الترسل، والتي تمت إحاطتها بهالة شفيفة من التورية والإخفاء والاختباء، تحقيقا للذروة الفنية كما يحلو لجبرا إبراهيم جبرا أن يسميها في كتاب «الحرية أو الطوفان» لا تني تقدم الهوية الفردية أو الهوية الجماعية بالمعنى المتعارف عليه عند علماء الاجتماع.
تعمل تقنية الترسل على إظهار هوية الشخوص، في تآلفهم كما في اختلافهم. وهي التي تحقق لهذه الرواية هويتها السردية كما يعرّفها ريكور، فحبكة الرواية بما فيها من تشويق وتدقيق إنما تدور في مدارات الرسائل وبنوع من جدلية الخفاء والتجلي، فهي تظهر لتختفي، ثم تختفي لتظهر، وإن كان السرد الروائي يعتمدها اعتمادا رئيسا في الخطاب، كما في تشكيل الرؤية إلى العالم. هذه الهوية السردية القائمة على الترسل تساعد بشكل قوي على بناء هوية الشخوص، الذين ترتسم ملامحهم، لتدل في مجملها على الضياع، وكأن الرواية، في كل ما تزخر به من رؤى، إنما تتحدث عن الجيل الخائب الجيل الذي اكتوى بحياة رمادية طوال سنوات الرصاص.
....
ترتبط الهوية، أي هوية، بصوت صاحبها، ولذلك فإن الهوية في الرواية قرينة المتكلمين في هذه الرواية. وإن كان المتكلم الأساس في الرواية، أي رواية، هو الرواي أو السارد، وفي هذا ما يعمق إشكال الهوية في الرواية، لأن البحث عن الذات أو تأكيدها أو الحلم بتحقيقها بهذا الشكل أو ذاك، هو مطلب جمالي مثلما هو مطلب فكري. ويرى عالم الاجتماع الفرنسي دوركهايم أن الهوية الاجتماعية (المرادفة للانتماء إلى مجتمع معين) هي ما يرثه الإنسان بدون رغبته ويشكل سلوكه بدون أن يدرك.
إن مسعى الرواية المغربية الجديدة الصادرة منذ مطلع بدايات الألفية الثالثة، تعمل في معظمها على استجلاء هوية الإنسان المغربي، في خضم الصراع الذي يخوضه لتحقيق ذاته في الحياة الاجتماعية والثقافية التي يحياها منصهرا بعلاماتها البارزة الحادة حدة الحياة المعاصرة كلها. وتعمل هذه الرواية، بجهد دؤوب على إظهار حقيقة هذه الحياة، في اتصالها الوثيق بحقبة الحياة المعاصرة، من حيث تدهور القيم فيها أو اندحار الإنسان وتوهانه وضياعه، وبحثه العصيب المرير عن نقطة الارتكاز أو الانطلاق من جديد، بعدما أضاع البوصلة في بحر الحياة الهائج الصاخب المضطرب. وهذا ينطبق على رواية «رسائل زمن العاصفة» للأديب المغربي عبدالنور مزين، الرواية التي ورد اسمها ضمن اللائحة الطويلة لجائزة البوكر العربية (2016).
إنها رواية شفافة، وهذا مكمن الصعوبة في الإمساك بهوية شخوصها، ذلك أن الهوية، فيها، فهل هوية الشخص مرتهنة بانتمائه العرقي القومي أم بأفعاله ونشاطه الاجتماعي والثقافي؟ وهل هذا الانتماء كاف لإظهار الهوية والوقوف على حقيقتها، أم أن الهوية (الشخصية)، نابعة في الرواية من الهوية الفنية؟ وبمعنى آخر: ألا تكمن جمالية الهوية في الرواية، في هوية الشخصية وبفنية الخطاب الروائي في تحديد هذه الهوية؟
التعبير والدلالة
الرواية فن. والشخوص في الرواية مهما كانوا أقرب إلى الواقع، في التعبير والدلالة والموقف، يظلون شخوصا روائية، تقارب الواقع بالتمثيل الفني الذي يرقى بهذا الواقع إلى ذرى الجمال الفني. إن جمالية الهوية، بهذا المعنى، هي حقيقة بأن تظهرنا على واقع الحياة التي تروي عنها الرواية، بما يجعل هذه الحياة ملموسة. فكيف عملت رواية «رسائل زمن العاصفة» فنيا على تمثيل الهوية وعلى إظهارها؟
إن قارئ رواية الأديب عبدالنور مزين «رسائل زمن العاصفة» يجدها تبني عالمها الروائي على مقولة فلسفية مستمدة من الفلسفات المعاصرة، وهذه المقولة، يمكن إيجازها في كلمات هي: «أن تعيش يعني أن تمنح معنى لحياتك. إن عملية بناء هذا المعنى ربما تعتبر المركز الحقيقي لحياة الإنسان». وهي المقولة التي تشكل حقيقة الشخوص في رواية «رسائل زمن العاصفة»، وليست هذه الحقيقة غير هويتها.
إن هوية الشخوص في هذه الرواية مرتبطة أساسا، برغبتها اللاعجة في تحقيق مجتمع جديد، مجتمع العدالة الاجتماعية، بيد أن هذه الرغبة تتبدد تبدد الحقائق في العواصف، إننا نعثر في رواية «رسائل زمن العاصفة» على خبرة بالواقع المغربي، في نهاية القرن العشرين وتحديدا في الثمانينيات وما يليها إلى نهاية القرن إلا أن هذه الخبرة لا تنسينا أن هذه الرواية، كما هو الأمر في الفن كله، تقوم جمالية الهوية فيها على« طريقة عمل» الرواية، أو بالتعبير الشائع، على كيفية اشتغالها الفني، فنحن إذا نقرأ الرواية، نقف على الهوية فيها، بتجلياها الفكرية والفنية. وهي هوية أزمة، أو بتعبير أدق تقوم على (أزمة الهوية) التي تسم العالم الروائي ل«رسائل زمن العاصفة»، لأن الإقصاء والملاحقة والتعذيب والسجن… هي السمات الأساس التي ينبني عليها هذا العالم: أزمة هوية تسم بميسمها الحاد حياة الشخوص الروائية وفضاءات ممارستهم الحياةَ، فما بين التطلع إلى عالم جديد مجتمع جديد، وما بين الرزوح تحت أعباء المجتمع القائم (القديم) تظل حركة الشخوص مقيدة حتى في تحررها أو تسكعها أو جولانها من مدينة إلى مدينة ومن بلد إلى بلد.
إن ما يميز أزمة الهوية هاته التي نتحدث عنها، أنها أزمة الروابط الاجتماعية الآيلة إلى التفكك، بفعل انهمار قيم جديدةعلى الحياة الاجتماعية: تتبدى أساسا في العلاقات العاطفية (بين البطل اللامسمى والبطلة غادة الغرناط)، وهي قيم مرتبطة أيضا بالأزمات الوجودية الذاتية. إن الفرد في هذه الرواية يتمزق كأنه قطع هشيم الزجاج، إنه ينهار، ومع ذلك فهو يقاوم، يقف على رجليه عنيدا مشرئبا إلى أفق آخر غير الأفق الذي يوجد فيه، إنه ينظر إلى أفقه المنشود، لا أفقه الحياتي الجاري المعتاد المعهود.
إن الرواية سرد، وباعتبارها هذا فهي وسيلة تمثيل لتجارب شخصية للمؤلف أو لشخوصه الروائية، خاصة تلك التي تجرؤ على إحراجه، بأن تنحت لشخصها هوية خاصة، هوية مفارقة لشخص الكاتب. جاء بطل رواية «رسائل زمن العاصفة» بلا اسم، والاسم أول علامة من علامات الهوية الشخصية، هذا الغياب للاسم دال، فالبطل يعاني أزمة هوية، ناتجة عن رؤاه الفكرية وعقائده الاجتماعية المخالفة والمفارقة للرؤى السائدة في المجتمع، وللعقائد الراسخة في هذا المجتمع، لم يؤمن البطل بشيء غير الإيمان بالحب الذي يؤسس لحياة جديدة، في مجتمع تكبله القيود.
هاجس المعرفة
نلمس في رواية «رسائل زمن العاصفة» دفعا متواصلا صوب الماضي، استعادة مسكونة بهاجس المعرفة، حكي متناثر يبحث عن شاطئ الأمان، في أمكنة معادية أو تكاد أن تكون معادية، تسلم البطل إلى الضياع والتشرد. تشرد بلغ أوجه في الديار الإسبانية. ما من مكان إلا ويثير ذكرى. وكل ذكرى تدفع إلى أخرى، في شريط من الحوادث العصيبة الأليمة. لا يستكين البطل ولا يستريح. وكلما أوغل في الحياة، طاردته هموم الحياة وأكدارها وعتماتها، ولا يأتي الضوء إلا من الحنين إلى الماضي الشفاف، ماضي الحياة المنقضية، وكأن الزمن الهادر الهائج الصاخب ليس إلا زمن الركود والجمود والهمود. لكن البطل لا يرتاح، إنه يكافح، يسعى بدأب وصبر كبيرين إلى الظفر بما ضاع، إلى استعادة الحب الجريح، إلى تأسيس حياة جديدة، كأن البطل مسكون بيوتوبيا يهفو إليها ويسعى إلى بلوغها، بيد أنها لم توجد بعد. لعله لكل هذا ينبغي أن نقول عن رواية «رسائل زمن العاصفة»، إنها رواية الهوية التراجيدية، إذ الحاضر غير مرغوب فيه، والمستقبل حلم يتبدد ويتناثر، والماضي وحده، هو ما ينطوي على الضوء الشفاف.
تراجيديا البحث عن الذات، بعد الانكفاء عن أحلام التغيير، أحلام التأسيس لمجتمع جديد. هي لذلك رواية الزمن الصعب: الزمن الهلامي، الذي لا تتكشف قسماته ولا سماته، الزمن الضبابي الذي يخفي أكثر مما يظهر، الزمن الذي تتخفى فيه حقائق الحياة وقيمها الكبرى ومنها قيمة الحب وهي قيمة ثيمة مركزية في هذه الرواية، ولقد جاءت متضمنة في أغطية من الستر والإخفاء، لأن الحب ليس ممارسة فقط كما تومئ إلى ذلك المشاهد الأولى من الرواية، بل الحب كتابة وقد تمت صياغتها في رسالة أو رسائل من الحبيبة الضائعة إلى الحبيب المتشرد، ولقد عانى كل واحد من الحبيبين، في البحث عن الآخر بدون جدوى.
رؤية جمالية
جماليا، يمكن اعتبار تقنية الترسل المعتمدة في هذه الرواية، باعتبارها التقنية المفتاح لفهم ما تقوله الرواية، أو ما تفكر فيه، وهي تقنية فنية طالما اعتمدت في الرواية الترسلية. إن هذه التقنية الفنية هي التي تسعف في فهم مدارات الهوية في الرواية كلها، وكأن الرواية ذاتها رسالة مشفرة على القارئ أن يستكنهها، ليلمس حقيقة الحياة التي يحياها في هذا المجتمع المغربي، الذي يصعب فيه البوح بكل الحقائق أو الجهر بها، فلا يبقى إلا اتباع طريق الإيماء أو الإيحاء أو الرمز، أيما شئت من هذه، فكلها تثوي في أعطاف الرواية، وحال الانتهاء منها يظفر القارئ، بالمعنى المنفلت أو بالضوء الهارب، ضوء الحياة، بكل احتداماتها، التي تحكي عنها رواية «رسائل زمن العاصفة». فهذه الرواية، مثلما تقدم الهوية السردية بتسمية بول ريكور في الحبكة القائمة على الترسل، والتي تمت إحاطتها بهالة شفيفة من التورية والإخفاء والاختباء، تحقيقا للذروة الفنية كما يحلو لجبرا إبراهيم جبرا أن يسميها في كتاب «الحرية أو الطوفان» لا تني تقدم الهوية الفردية أو الهوية الجماعية بالمعنى المتعارف عليه عند علماء الاجتماع.
تعمل تقنية الترسل على إظهار هوية الشخوص، في تآلفهم كما في اختلافهم. وهي التي تحقق لهذه الرواية هويتها السردية كما يعرّفها ريكور، فحبكة الرواية بما فيها من تشويق وتدقيق إنما تدور في مدارات الرسائل وبنوع من جدلية الخفاء والتجلي، فهي تظهر لتختفي، ثم تختفي لتظهر، وإن كان السرد الروائي يعتمدها اعتمادا رئيسا في الخطاب، كما في تشكيل الرؤية إلى العالم. هذه الهوية السردية القائمة على الترسل تساعد بشكل قوي على بناء هوية الشخوص، الذين ترتسم ملامحهم، لتدل في مجملها على الضياع، وكأن الرواية، في كل ما تزخر به من رؤى، إنما تتحدث عن الجيل الخائب الجيل الذي اكتوى بحياة رمادية طوال سنوات الرصاص.
....


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.