وظائف هيئة المحطات النووية.. فرص عمل بالتعيين أو التعاقد    سعر الدولار أمام الجنيه في البنوك صباح اليوم السبت    أسعار اللحوم البلدي والكندوز اليوم السبت 23-8-2025 في الأسواق ومحال الجزارة بقنا    سعر السبيكة الذهب (جميع الأوزان) وعيار 21 الآن ببداية تعاملات السبت 23 أغسطس 2025    أسعار طبق البيض اليوم السبت 23-8-2025 في قنا    الجمبري الچامبو ب880 جنيه.. قائمة أسعار الأسماك بسوق العبور اليوم السبت    23 شهيدًا جراء عدوان الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ فجر اليوم    إعلام إسرائيلي: 3 انفجارات ضخمة تهز وسط إسرائيل ومصابون نتيجة التدافع للملاجئ    موعد مباراة ريال مايوركا ضد سيلتا فيجو اليوم في الدوري الإسباني والقنوات الناقلة    حالة الطقس اليوم السبت 23-8-2025 في محافظة قنا    تجديد حبس 13 فتاة بتهمة ممارسة الأعمال المنافية للآداب في النزهة    إصابة 3 أشخاص في حادث سير بوسط سيناء    ريم بسيوني تتحدث عن عبد السلام بن مشيش في ندوة ببيت السناري    نوال الزغبي: "المرأة ركن المجتمع الأساسي بالحياة"    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 23-8-2025 في محافظة قنا    تنسيق الجامعات 2025| مواعيد فتح موقع التنسيق لطلاب الشهادات المعادلة    مهاجر التيك توك «الأفغاني» يقدم نصائح لقتل الزوجات وتجنب العقوبة    ثوانٍ فارقة أنقذت شابًا من دهس القطار.. وعامل مزلقان السادات يروي التفاصيل    هل يحق لمكتسبي الجنسية المصرية مباشرة الحقوق السياسية؟ القانون يجيب    60 دقيقة تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. السبت 23 أغسطس 2025    45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. السبت 23 أغسطس 2025    قطع المياه 6 ساعات ببعض مناطق الجيزة لتحويل خط رئيسي    سيف الإسلام القذافي يعلن دعمه لتشكيل حكومة جديدة في ليبيا    ضبط 50 محلًا بدون ترخيص وتنفيذ 40 حكمًا قضائيًا بحملة أمنية بالفيوم    لمحبي الآكلات الجديدة.. حضري «الفاصوليا البيضاء» على الطريقة التونسية (الخطوات والمكونات)    إنقاذ حياة مريض بعمل شق حنجري بمستشفى الجامعي بالمنوفية    جامعة أسوان تهنئ البروفيسور مجدي يعقوب لتكريمه من جمعية القلب الأمريكية    كأس السوبر السعودي.. هونج كونج ترغب في استضافة النسخة المقبلة    الأمم المتحدة تعلن المجاعة رسميًا.. ماذا يحدث في غزة؟    شريف حافظ: الحب هو المعنى في حد ذاته ولا يقبل التفسير... والنجاح مسؤولية يجب أن أكون مستعدًا لها    أهداف إنشاء صندوق دعم العمالة غير المنتظمة بقانون العمل الجديد    فيفي عبده تعلن وفاة الراقصة المعتزلة سهير مجدي    عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل.. وهذه أسباب تفضيل البعض للخاصة    تنسيق دبلوم التجارة 2025.. قائمة الكليات والمعاهد المتاحة لطلاب 3 سنوات «رابط وموعد التسجيل»    «ميستحقوش يلعبوا في الزمالك».. إكرامي يفتح النار على ألفينا وشيكو بانزا    سهير جودة عن شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب: «انفصال وعودة مزمنة.. متى تعود إلينا؟»    «الأستانلس أم التيفال»: هل نوع حلة الطبخ يغير طعم أكلك؟    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه بحماس    بطريقة درامية، دوناروما يودع جماهير باريس سان جيرمان (فيديو وصور)    أطعمة تسبب الصداع النصفي لدى النساء ونصائح للسيطرة عليه    التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    طارق فهمي: الإعلان الأممي عن تفشي المجاعة في غزة يعكس حجم الكارثة الإنسانية    بوتين: واثق أن خبرة ترامب ستسهم في استعادة العلاقات الثنائية بين بلدينا    حدث بالفن| أول تعليق من شيرين عبد الوهاب بعد أنباء عودتها ل حسام حبيب وفنان يرفض مصافحة معجبة ونجوم الفن في سهرة صيفية خاصة    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    تشيلسي يقسو على وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي (فيديو)    رياضة ½ الليل| إيقاف تدريبات الزمالك.. كشف منشطات بالدوري.. تعديلات بالمباريات.. وتألق الفراعنة بالإمارات    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    مراسل من دير البلح: المنطقة باتت مستباحة بالكامل تحت نيران الاحتلال    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شخصيات كفى الزعبي تواجه الأفق المسدود
نشر في صوت البلد يوم 16 - 01 - 2018

لا تبدو رواية «شمس بيضاء باردة» (دار الآداب، 2018) للكاتبة الأردنية كفَى الزعبي، نشازاً بالنسبة إلى السياق الذي يعيش فيه الفضاء العربي منذ ثلاثة عقودٍ على الأقل. ذلك أن الرؤية المُمعنة في السواد التي يحملها ويعبر عنها بطلُ الرواية تبدو متلائمة مع ما تعيشه غالبية الناس في المجتمعات المحرومة من الذهب الأسود، وبخاصّةٍ فئات الشباب. وعلى رغم الاختلاف الكبير بين الشعر والرواية، هناك ما يذكرنا، على مستوى الدلالة، بقصيدة نزار قباني « مُسافرون»(1985) التي تقول في مطلعها: «مسافرون نحن في سفينة الأحزان/ قائدنا مُرتزق/ وشيخنا قرصان/ مواطنون دونما وطن...».
إلا أن «شمس بيضاء باردة» ليست مجرد رؤية سوداوية صادرة عن بطل إشكالي أخفق في مواجهة العالم فاعتصم بالتشاؤم وندْب الحظ؛ بل هي نسيج يحكي تفاصيل الأحداث ويستحضر مسار حياة المعلم الشابّ «راعي» انطلاقاً من حياته مع أسرته البدوية، ووصولاً إلى تجربته في عمّان حيث أصبح معلماً يسعى للاستقلال عن سلطة الأب البطريركية، ليعيش وفْق الحياة المتحررة التي انجذب إليها. يصلنا السرد على لسان راعي، موزعاً على «النهار الأول» و «الليلة الأولى»، وصولاً إلى نهارٍ وليلة يندّانِ عن الإحصاء. وتكون البداية من مرحلة تقترب من نهاية النصّ، ثم يرتدّ السرد مسترجعاً ما فات، مُراوحاً بين ما عاشه البطل في الريف مع أسرته، وما عاشه في عمان داخل غرفة من دون نوافذ، متنقلاً بين المدرسة والحانة. ومنذ البدء، تتجلى صفة البطل الإشكالي لدى راعي، لأن حزام «الرواية العائلية» (وفق فرويْد) يلفّ جسده وعواطفه، وهو حريص على أن يتحرر منه، بخاصة من خلال خلافه وصراعه الدائميْن مع الأب الحريص على فرض وصايته المتمثلة في قيم دينية زائفة ونمطٍ من العيش غارق في التقليد والخنوع. فضلاً عن ذلك، هو مُغرم بشراء الكتب وقراءتها مُتوهّماً أنها ستوفّر له أجوبة شافية على الأسئلة المتصلة بالأوضاع المادية وأسئلة الكينونة والوجود... من ثمّ، تحتلّ الكتب مكانة أساسية في مسار راعي المأخوذ في شَرك العائلة والمجتمع والمؤسسات: «كيف أنجو من حربٍ شرَع زملائي المدرسون في شنها ضدي منذ الأسبوع الأول لِدوامي، لأنني لستُ مثلهم: لا أصلّي معهم، فلا أقدّم للتلاميذ المثال والقدوة الحسنة، ولا أمارس هداية هؤلاء الطلاب إلى الصراط المستقيم، ولا أتلو عليهم قصص عذاب الآخرة لعلهم يصلحون. كيف أتكيف مع هذا الواقع؟ كيف أتكيّف مع أبي؟ كيف أنسى عائشة؟ كيف أتكيّف مع هذه المدينة التي تحيا على قارعة الصحراء، تقرأ وتعيد في كل يوم، قراءة الرمال خشيةَ أن تنسى ما خطتْه هذه الرمال في الأمس (ص 189). على هذا النحو، تقصّ علينا نهارات وليالي «شمس بيضاء باردة» صراع راعي اليومي على ثلاث واجهات: مع العائلة، وبخاصةٍ مع الأب، في المدرسة مع المدير والزملاء، ومع هواجس الجنس والحب والجنون، بخاصة من خلال مغامرته المجانية مع عائشة البلهاء، وتعلقه الرومانسي بزوجة صديقه أحمد الذي انتحر بعد أن فشل في حماية زوجته من سطوة والدته... لكن راعي، في هذا الصراع الذي يخوضه ضدّ قُوى أكبر منه، يتسلح ببعض ما جناه من قراءاته، وليس مصادفة أن تكون استشهاداته تُحيلُ على «ملحمة جلجامش» و «أسطورة سيزيف» لألبير كامو، وتاريخ الجنون لفوكو.
لماذا الشمس لا تضيء؟
تتوالى الأحداث والمشاهد في «شمس بيضاء باردة» انطلاقاً من مركز تلتقي عنده الخيوط، وهو «راعي» المعلم الشابّ، الفاشل، المحارَب من لَدُنِ الجميع، في بيت الأسرة بالريف، وفي المدرسة التي يعارض فلسفتها العتيقة، وفي المجتمع الذي لا يقبل سوى الذين يخضعون للنموذج الموروث: طاعة الوالديْن، أداء الفروض الدينية والزواج من ابنة حلال تعاونه على إنتاج ذرية صالحة... إلا أن راعي هو على النقيض من هذا النموذج المُكرّس، لأن رحلته الدراسية زرعتْ فيه لوثة التمرد والتساؤل عن الحاضر والمستقبل، عن العلاقة بالدين والنظام الاجتماعي والسياسي، وعن إمكانات السعادة في غابةٍ تشبه تلك التي ذهب إليها جلجامش مع صديقه أنكيدو كي ينتصرا معا على حارسها...محشورا في زاوية الرفض والتمرد، لم يجدْ راعي سوى الكتب والحانة وصديقه أحمد ملجأ ًيحتمي به من نيران الكراهية التي تطارده. لكن الكتب نفسها قلما تنجح في أن تمدّ له يدَ العون، فيتسلل الشك إلى ثقته في المعرفة: «... لكن ما جدوى أسئلة المعرفة وأسئلة الفلسفة وأسئلة الفكر والسياسة وغيرها؟ ما جدوى أسئلة العقل ما دامت سعادة المرء الغريزية تزداد طرْدياً كُلما ازداد جهله؟ (...) كيف يغدو الإنسان في نهاية المطاف سعيداً ومتصالحاً مع وجوده؟» (ص160).
إلا أن هذا البطل الإشكالي الباحث عن قيَمٍ مُغايرة لما هو سائد وخانق، نجده يتمادى في البحث والتساؤل دون أن يُقدِم على «فعل» يترجم نواياه المتمردة؛ وهو مدرك لهذا العجز الذي شدّ وثاقه إلى التشظي واللافعل ويعبر عنه على هذا النحو: «حاولتُ النهوض، غير أن قواي جميعَها كانت هجرتني. كنتُ جثة مفتوحة العيْنين، ترى وتسمع، وربما تفهم أيضاً، لكنها جثة. هذا ما إلتُ إليه. تطفو في ذهني أشباحُ أفكار عن مدرسة وطلاب يجب أن أدرّسهم، ومديرٍ يستشيط غضباً بسبب غيابي المتكرر عن الدوام، ومبالغ مخصومة من راتبي، وديون متراكمة، وجيبٍ ليس فيه قرش، وشهرٍ لا يزال بعيدا عن آخره. تشدّني أشباح هذه الأفكار إلى النهوض، وجسدي يرفض الاستجابة» (ص297).
وسط حلكة اليأس والعبث التي كان راعي يعيش فيها، لاحت أشعة شمس دافئة تناديه إلى معانقة الحياة، وذلك بعد أن انتحر صديقه أحمد وترك زوجته الجميلة مع ولديها في ظروف صعبة. التقاها راعي في مكتبة كانت تتردد عليها لتحضير شهادة تعينها على تحسين وضعيتها. لكنه لم يستطع أن يتخلص من تساؤلاته الميتافيزيقة ومن البحث عن المسؤول عن انتحار صديقه. بل إن راعي، على رغم تعلقه بزوجة صديقه التي فتحت له ذراعيْها، ظلّ يلاحقها بأسئلة عن انتحار أحمد، لا تخلو من اتهامٍ مُبطن لها: «مضت أيام وأنا أحدق في الفراغ برُعب، ولا أرى سوى طيف أحمد؛ لكنني في نهاية المطاف نهضتُ وذهبت إليها: - ما كان يجب أن تتركيه. لو لم تفعلي لما كان انتحر. حدّقتْ فيّ طويلاً بصمت ثم قالت: - لهذا تغيب؟ لا تستطيع إلا أنْ تُحملني مسؤولية انتحاره؟ (...) أظن أنني أنا الضحية وليس هو. لطالما فكرتُ في أنه انتحر انتقاما مني وليس من السماء. انتحر وتركني أتعذبُ طويلاً. (...) أنتَ قاسٍ جداً. لقد هربتُ من ضيْم أمه فانتحر وتركني وحيدة مع طفليْن. هرب. أما أنا فلم أهرب. بقيتُ مع الطفليْن. رفضتُ كل العروض بالزواج لأنهم كانوا يشترطون أن أتخلى عن الطفليْن. رفضتُها لأنني لا أريد أن يخسراني بعد ما هرَبَ هو من مسؤوليته». (ص 282).
لحظة المواجهة هذه بين راعي وزوجة صديقه المنتحر، أزالت القناع عن وجه البطل الذي كان ينتحل الأعذار لكي لا يواجه الواقع ويخرج من اجترار الأسئلة المجردة إلى الإقدام على أفعال تثبت إرادته في تغيير الحياة. بينما زوجة أحمد المنتحر برهنت على مسؤوليتها بالملموس، متخطية كل ما يحول بينها وبين ضوء الشمس الدافئة. كأنما الكاتبة كفى الزعبي تريد أن تكسّر حدة النموذج السوداوي المتجسّد في راعي المشدود إلى الرفض السلبي والتشاؤم الغاضب، فجعلت من امرأة، زوجة المنتحر، نموذجاً متحدياً للجبن والتقهقر، إذ قررت أن تتحرر من الخوف والحزن: «... ثم انتبهتُ إلى أن الأمر سيّان، أكنتُ مُعذبة وأبكي في انتظاره، أم ساخرة وأضحك، فذلك لن يغيّر شيئاً، لا من الحقيقة ولا من واقعي. واكتشفت أنني أتعذب في سبيل الهباء، فعُدتُ أضحك وعدتُ أغني، لأن الموت سيأتي من دون أن يعنيَه أو يعني الحياة، كيف أعيشها». (ص259).
استطاعت «شمس بيضاء باردة» أن تبدع سرداً متدفقاً، جاذباً، يستوحي الواقع الكالح في الأردن وفي فضاءات عربية شبيهة، ضمن رؤية جدلية بين التشاؤم وتفاؤل الإرادة، بين الانهزام والانتصار للحياة. وفي ذلك انتصار للكتابة التي تُصغي إلى ما يصطرع في أحشاء الفرد وفي أعماق المجتمع، داخل سيرورة يطبعها الطغيان وسطوة المال، وجبروت التقاليد البالية.
لا تبدو رواية «شمس بيضاء باردة» (دار الآداب، 2018) للكاتبة الأردنية كفَى الزعبي، نشازاً بالنسبة إلى السياق الذي يعيش فيه الفضاء العربي منذ ثلاثة عقودٍ على الأقل. ذلك أن الرؤية المُمعنة في السواد التي يحملها ويعبر عنها بطلُ الرواية تبدو متلائمة مع ما تعيشه غالبية الناس في المجتمعات المحرومة من الذهب الأسود، وبخاصّةٍ فئات الشباب. وعلى رغم الاختلاف الكبير بين الشعر والرواية، هناك ما يذكرنا، على مستوى الدلالة، بقصيدة نزار قباني « مُسافرون»(1985) التي تقول في مطلعها: «مسافرون نحن في سفينة الأحزان/ قائدنا مُرتزق/ وشيخنا قرصان/ مواطنون دونما وطن...».
إلا أن «شمس بيضاء باردة» ليست مجرد رؤية سوداوية صادرة عن بطل إشكالي أخفق في مواجهة العالم فاعتصم بالتشاؤم وندْب الحظ؛ بل هي نسيج يحكي تفاصيل الأحداث ويستحضر مسار حياة المعلم الشابّ «راعي» انطلاقاً من حياته مع أسرته البدوية، ووصولاً إلى تجربته في عمّان حيث أصبح معلماً يسعى للاستقلال عن سلطة الأب البطريركية، ليعيش وفْق الحياة المتحررة التي انجذب إليها. يصلنا السرد على لسان راعي، موزعاً على «النهار الأول» و «الليلة الأولى»، وصولاً إلى نهارٍ وليلة يندّانِ عن الإحصاء. وتكون البداية من مرحلة تقترب من نهاية النصّ، ثم يرتدّ السرد مسترجعاً ما فات، مُراوحاً بين ما عاشه البطل في الريف مع أسرته، وما عاشه في عمان داخل غرفة من دون نوافذ، متنقلاً بين المدرسة والحانة. ومنذ البدء، تتجلى صفة البطل الإشكالي لدى راعي، لأن حزام «الرواية العائلية» (وفق فرويْد) يلفّ جسده وعواطفه، وهو حريص على أن يتحرر منه، بخاصة من خلال خلافه وصراعه الدائميْن مع الأب الحريص على فرض وصايته المتمثلة في قيم دينية زائفة ونمطٍ من العيش غارق في التقليد والخنوع. فضلاً عن ذلك، هو مُغرم بشراء الكتب وقراءتها مُتوهّماً أنها ستوفّر له أجوبة شافية على الأسئلة المتصلة بالأوضاع المادية وأسئلة الكينونة والوجود... من ثمّ، تحتلّ الكتب مكانة أساسية في مسار راعي المأخوذ في شَرك العائلة والمجتمع والمؤسسات: «كيف أنجو من حربٍ شرَع زملائي المدرسون في شنها ضدي منذ الأسبوع الأول لِدوامي، لأنني لستُ مثلهم: لا أصلّي معهم، فلا أقدّم للتلاميذ المثال والقدوة الحسنة، ولا أمارس هداية هؤلاء الطلاب إلى الصراط المستقيم، ولا أتلو عليهم قصص عذاب الآخرة لعلهم يصلحون. كيف أتكيف مع هذا الواقع؟ كيف أتكيّف مع أبي؟ كيف أنسى عائشة؟ كيف أتكيّف مع هذه المدينة التي تحيا على قارعة الصحراء، تقرأ وتعيد في كل يوم، قراءة الرمال خشيةَ أن تنسى ما خطتْه هذه الرمال في الأمس (ص 189). على هذا النحو، تقصّ علينا نهارات وليالي «شمس بيضاء باردة» صراع راعي اليومي على ثلاث واجهات: مع العائلة، وبخاصةٍ مع الأب، في المدرسة مع المدير والزملاء، ومع هواجس الجنس والحب والجنون، بخاصة من خلال مغامرته المجانية مع عائشة البلهاء، وتعلقه الرومانسي بزوجة صديقه أحمد الذي انتحر بعد أن فشل في حماية زوجته من سطوة والدته... لكن راعي، في هذا الصراع الذي يخوضه ضدّ قُوى أكبر منه، يتسلح ببعض ما جناه من قراءاته، وليس مصادفة أن تكون استشهاداته تُحيلُ على «ملحمة جلجامش» و «أسطورة سيزيف» لألبير كامو، وتاريخ الجنون لفوكو.
لماذا الشمس لا تضيء؟
تتوالى الأحداث والمشاهد في «شمس بيضاء باردة» انطلاقاً من مركز تلتقي عنده الخيوط، وهو «راعي» المعلم الشابّ، الفاشل، المحارَب من لَدُنِ الجميع، في بيت الأسرة بالريف، وفي المدرسة التي يعارض فلسفتها العتيقة، وفي المجتمع الذي لا يقبل سوى الذين يخضعون للنموذج الموروث: طاعة الوالديْن، أداء الفروض الدينية والزواج من ابنة حلال تعاونه على إنتاج ذرية صالحة... إلا أن راعي هو على النقيض من هذا النموذج المُكرّس، لأن رحلته الدراسية زرعتْ فيه لوثة التمرد والتساؤل عن الحاضر والمستقبل، عن العلاقة بالدين والنظام الاجتماعي والسياسي، وعن إمكانات السعادة في غابةٍ تشبه تلك التي ذهب إليها جلجامش مع صديقه أنكيدو كي ينتصرا معا على حارسها...محشورا في زاوية الرفض والتمرد، لم يجدْ راعي سوى الكتب والحانة وصديقه أحمد ملجأ ًيحتمي به من نيران الكراهية التي تطارده. لكن الكتب نفسها قلما تنجح في أن تمدّ له يدَ العون، فيتسلل الشك إلى ثقته في المعرفة: «... لكن ما جدوى أسئلة المعرفة وأسئلة الفلسفة وأسئلة الفكر والسياسة وغيرها؟ ما جدوى أسئلة العقل ما دامت سعادة المرء الغريزية تزداد طرْدياً كُلما ازداد جهله؟ (...) كيف يغدو الإنسان في نهاية المطاف سعيداً ومتصالحاً مع وجوده؟» (ص160).
إلا أن هذا البطل الإشكالي الباحث عن قيَمٍ مُغايرة لما هو سائد وخانق، نجده يتمادى في البحث والتساؤل دون أن يُقدِم على «فعل» يترجم نواياه المتمردة؛ وهو مدرك لهذا العجز الذي شدّ وثاقه إلى التشظي واللافعل ويعبر عنه على هذا النحو: «حاولتُ النهوض، غير أن قواي جميعَها كانت هجرتني. كنتُ جثة مفتوحة العيْنين، ترى وتسمع، وربما تفهم أيضاً، لكنها جثة. هذا ما إلتُ إليه. تطفو في ذهني أشباحُ أفكار عن مدرسة وطلاب يجب أن أدرّسهم، ومديرٍ يستشيط غضباً بسبب غيابي المتكرر عن الدوام، ومبالغ مخصومة من راتبي، وديون متراكمة، وجيبٍ ليس فيه قرش، وشهرٍ لا يزال بعيدا عن آخره. تشدّني أشباح هذه الأفكار إلى النهوض، وجسدي يرفض الاستجابة» (ص297).
وسط حلكة اليأس والعبث التي كان راعي يعيش فيها، لاحت أشعة شمس دافئة تناديه إلى معانقة الحياة، وذلك بعد أن انتحر صديقه أحمد وترك زوجته الجميلة مع ولديها في ظروف صعبة. التقاها راعي في مكتبة كانت تتردد عليها لتحضير شهادة تعينها على تحسين وضعيتها. لكنه لم يستطع أن يتخلص من تساؤلاته الميتافيزيقة ومن البحث عن المسؤول عن انتحار صديقه. بل إن راعي، على رغم تعلقه بزوجة صديقه التي فتحت له ذراعيْها، ظلّ يلاحقها بأسئلة عن انتحار أحمد، لا تخلو من اتهامٍ مُبطن لها: «مضت أيام وأنا أحدق في الفراغ برُعب، ولا أرى سوى طيف أحمد؛ لكنني في نهاية المطاف نهضتُ وذهبت إليها: - ما كان يجب أن تتركيه. لو لم تفعلي لما كان انتحر. حدّقتْ فيّ طويلاً بصمت ثم قالت: - لهذا تغيب؟ لا تستطيع إلا أنْ تُحملني مسؤولية انتحاره؟ (...) أظن أنني أنا الضحية وليس هو. لطالما فكرتُ في أنه انتحر انتقاما مني وليس من السماء. انتحر وتركني أتعذبُ طويلاً. (...) أنتَ قاسٍ جداً. لقد هربتُ من ضيْم أمه فانتحر وتركني وحيدة مع طفليْن. هرب. أما أنا فلم أهرب. بقيتُ مع الطفليْن. رفضتُ كل العروض بالزواج لأنهم كانوا يشترطون أن أتخلى عن الطفليْن. رفضتُها لأنني لا أريد أن يخسراني بعد ما هرَبَ هو من مسؤوليته». (ص 282).
لحظة المواجهة هذه بين راعي وزوجة صديقه المنتحر، أزالت القناع عن وجه البطل الذي كان ينتحل الأعذار لكي لا يواجه الواقع ويخرج من اجترار الأسئلة المجردة إلى الإقدام على أفعال تثبت إرادته في تغيير الحياة. بينما زوجة أحمد المنتحر برهنت على مسؤوليتها بالملموس، متخطية كل ما يحول بينها وبين ضوء الشمس الدافئة. كأنما الكاتبة كفى الزعبي تريد أن تكسّر حدة النموذج السوداوي المتجسّد في راعي المشدود إلى الرفض السلبي والتشاؤم الغاضب، فجعلت من امرأة، زوجة المنتحر، نموذجاً متحدياً للجبن والتقهقر، إذ قررت أن تتحرر من الخوف والحزن: «... ثم انتبهتُ إلى أن الأمر سيّان، أكنتُ مُعذبة وأبكي في انتظاره، أم ساخرة وأضحك، فذلك لن يغيّر شيئاً، لا من الحقيقة ولا من واقعي. واكتشفت أنني أتعذب في سبيل الهباء، فعُدتُ أضحك وعدتُ أغني، لأن الموت سيأتي من دون أن يعنيَه أو يعني الحياة، كيف أعيشها». (ص259).
استطاعت «شمس بيضاء باردة» أن تبدع سرداً متدفقاً، جاذباً، يستوحي الواقع الكالح في الأردن وفي فضاءات عربية شبيهة، ضمن رؤية جدلية بين التشاؤم وتفاؤل الإرادة، بين الانهزام والانتصار للحياة. وفي ذلك انتصار للكتابة التي تُصغي إلى ما يصطرع في أحشاء الفرد وفي أعماق المجتمع، داخل سيرورة يطبعها الطغيان وسطوة المال، وجبروت التقاليد البالية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.