قدمت الدراما التلفزيونية المصرية عبر كبار كتابها أمثال محفوظ عبدالرحمن وصالح مرسي ويسري الجندي، وكان في مقدمتهم أسامة أنور عكاشة، نصوصا مميزة، وإذا كانت بعض الأعمال الدرامية التلفزيونية نجحت في أن تحصل على الاعتراف النقدي بأدبيتها، فإنها مازالت تتعثر أمام أبواب الجامعات، فعدم الاعتراف الأكاديمي بأدبيتها حال دون دراستها في أقسام الأدب المقارن، إذ لم تفلح الكاتبة والباحثة مي تلمساني في إقرار رسالتها للدكتوراه بجامعة القاهرة عن الحارة في السينما، فلم يسمح لها بالاشتغال على نصوص سينمائية مما اضطرها لإنجاز بحثها في كندا. نفس الشيء تكرر مع الباحث أحمد عمار حينما أراد لرسالته أن تدرس أدب الدراما التلفزيونية، فغير وجهته ليدرس “الإيقاع ودلالاته في شعر صلاح عبدالصبور”، لكن الدراما ظلت تغريه حتى استجاب لها وعكف على دراستها بشكل أكاديمي رصين وقدمها في كتاب من 416 صفحة بعنوان ”عصفور النار.. دراسة أدب الدراما التلفزيونية”، الصادر مؤخرا عن دار دلتا للنشر، ليكون أول كتاب باللغة العربية يتناول بالتحليل نصا دراميا تلفزيونيا، هو مسلسل “عصفور النار” من تأليف أسامة أنور عكاشة وإخراج محمد فاضل، وعرض لأول مرة عام 1987. يرى الباحث أحمد عمار أن نص المسلسل ارتقى ليصبح أدبا رفيعا، يمكن أن يخضع لقواعد النقد والتحليل الأدبي. لكن كان لا بد له من وقفة قصيرة يؤجل فيها تحليله للعمل الذي اختاره، ليرصد أهم ما يميز الدراما التلفزيونية، في فصل أسماه ”مهاد نظري”، فالدراما التلفزيونية تختلف عن مثيلاتها ليس في المسرح فحسب، بل أيضا في السينما والإذاعة والوسائط الشعبية الأخرى كالسامر والحكواتي، وهي اختلافات فرضتها وسيلة تقديم العمل وهي الشاشة الصغيرة، وذلك لا ينفي بالطبع وجود سمات مشتركة كثيرة أهمها أن كل هذه الأنواع تقوم على مبدأ القص أو تقديم حكاية، لكن دراما التلفزيون نشأت أساسا لجذب المشاهد ولملء ساعات البث، وهذا حررها من الارتباط بزمن معين تتطلبه مدة عرض الفيلم والمسرحية، فأتاح للكاتب أن يحشد عمله بشخصيات عديدة وتفاصيل كثيرة. أيضا يرى عمار أن التشويق كان عنصرا لازما لجذب المشاهد وإثارة فضوله يوميا، وينبغي أن يؤكد الكاتب على التباين بين الشخصيات وألا تكون مسوخا أو دمى تنطق بلسان المؤلف بل تنطق بلسانها هي، وعلى المؤلف أن يعبر عن رؤيته من خلال العمل ككل وليس عبر استنطاقه للشخصيات، وينبغي للحوار أن يكون معبرا عن الشخصية، كاشفا عنها، ومفيدا للحدث وللصراع، كذلك لا بد أن يكون لكل شخصية هدف تسعى إليه، وأن يكون طريق الهدف محفوفا بالمخاطر لتحقيق الصراع بين الشخصيات المتناقضة وأن يتجدد الصراع في كل حلقة لضمان التشويق. يوضح الباحث أن النص الدرامي يجب أن تتطور فيه الشخصية خلال مسيرتها وأن يقوم التطور على المعرفة، كذلك طول أو قصر المشاهد لا يعدان شيئا ذا قيمة في حد ذاتهما وإنما ضرورتهما ترتبط بإيقاع العمل وبهدف المشهد الذي يجب أن يدفع القصة دوما إلى الأمام، والمهم ألا ينسى المؤلف في زحمة الأحداث شخصية من شخصياته. بعد تقديمه النظري، يبدأ المؤلف الجزء التحليلي لمسلسل “عصفور النار” بسؤالين يظن أنه سيواجه بهما، أولهما لماذا أسامة أنور عكاشة؟ ويجيب بأن اسمه ارتبط لدى المشاهد بالدراما التلفزيونية. كما أن عكاشة أول من وصفها بالأدب واستخدم مصطلح ”رواية تلفزيونية” مما يؤكد وعيه بالإشكالية التي يثيرها المصطلح، والتي كانت مشروعه الأدبي، لذلك لا بد من تناول أعماله من منظور الأدب للوقوف على مدى نجاحه في تأصيل هذا النوع الأدبي. أما السؤال الثاني فهو سبب اختيار الباحث لمسلسل ”عصفور النار” ويرد بأنه يمثل فترة نضج أسامة أنور عكاشة، كما أنه وحيد الجزء، وعدد حلقاته الخمس عشرة يناسب الدراسة، كما أن مضمون العمل ينتصر لقضيتي العدل والحرية فقضيته لم تكن مرتبطة بزمان أو مكان محددين، فقد انطلق من أعماق القرية المصرية بكل تفاصيلها ليقدم قيمة أخلاقية إنسانية. ويؤكد عمار أن المسلسل الدرامي ليس مجرد نوع أدبي، بل هو نوع فني يعتمد على عناصر فنية كثيرة من بينها نص المسلسل، لكن قضيته هنا تطلبت الاقتصار على النص المكتوب (وهو غير مطبوع)، لذا اعتمد على المشاهدة فقط للوقوف على بنية النص والتوصل إلى السمات والثيمات والتقنيات التي اعتمد عليها مؤلف المسلسل في بناء عمله، وهو في تناوله المتتابع عبر فصول الكتاب لحلقات المسلسل لم يفصل بين الشكل والمضمون بل رصد كلا من السمات الموضوعية والخصائص التقنية، فأسامة أنور عكاشة في جل أعماله يحاول الانتصار لقيم إنسانية عامة في نهاية الصراع بين عدد من القيم المتضادة مثل العدل / الظلم، الوفاء/ الخيانة، ولا يتناولها بشكل مجرد بل ينطلق من مجتمعه وواقعه المعيش، لذا يختار شخصيات من لحم ودم تشبه المتلقي نفسه أو يكاد يعرفها في حياته. ورغم محلية مجتمع المسلسل إلا أنه يتماس مع العالم كله من خلال القضايا التي يتبناها، وعكاشة أيضا يفيد من تقنيات الحكي سواء المعروفة في الأجناس الأدبية الأخرى أو تلك الموجودة في التراث الشعبي، كذلك يستخدم المونولوج والفلاش باك وتقنيات تيار الوعي، ويراوح في سرده الدرامي بين المشاهد الطويلة والمشاهد القصيرة، وتشكل المفارقة عنصرا رئيسا في دراما عكاشة، كذلك الحضور اللافت للجملة الشعرية التي تحمل الصورة والمجاز والإيقاع معا، والتي تميز مسلسلاته باعتبارها أدبا دراميا بامتياز. قدمت الدراما التلفزيونية المصرية عبر كبار كتابها أمثال محفوظ عبدالرحمن وصالح مرسي ويسري الجندي، وكان في مقدمتهم أسامة أنور عكاشة، نصوصا مميزة، وإذا كانت بعض الأعمال الدرامية التلفزيونية نجحت في أن تحصل على الاعتراف النقدي بأدبيتها، فإنها مازالت تتعثر أمام أبواب الجامعات، فعدم الاعتراف الأكاديمي بأدبيتها حال دون دراستها في أقسام الأدب المقارن، إذ لم تفلح الكاتبة والباحثة مي تلمساني في إقرار رسالتها للدكتوراه بجامعة القاهرة عن الحارة في السينما، فلم يسمح لها بالاشتغال على نصوص سينمائية مما اضطرها لإنجاز بحثها في كندا. نفس الشيء تكرر مع الباحث أحمد عمار حينما أراد لرسالته أن تدرس أدب الدراما التلفزيونية، فغير وجهته ليدرس “الإيقاع ودلالاته في شعر صلاح عبدالصبور”، لكن الدراما ظلت تغريه حتى استجاب لها وعكف على دراستها بشكل أكاديمي رصين وقدمها في كتاب من 416 صفحة بعنوان ”عصفور النار.. دراسة أدب الدراما التلفزيونية”، الصادر مؤخرا عن دار دلتا للنشر، ليكون أول كتاب باللغة العربية يتناول بالتحليل نصا دراميا تلفزيونيا، هو مسلسل “عصفور النار” من تأليف أسامة أنور عكاشة وإخراج محمد فاضل، وعرض لأول مرة عام 1987. يرى الباحث أحمد عمار أن نص المسلسل ارتقى ليصبح أدبا رفيعا، يمكن أن يخضع لقواعد النقد والتحليل الأدبي. لكن كان لا بد له من وقفة قصيرة يؤجل فيها تحليله للعمل الذي اختاره، ليرصد أهم ما يميز الدراما التلفزيونية، في فصل أسماه ”مهاد نظري”، فالدراما التلفزيونية تختلف عن مثيلاتها ليس في المسرح فحسب، بل أيضا في السينما والإذاعة والوسائط الشعبية الأخرى كالسامر والحكواتي، وهي اختلافات فرضتها وسيلة تقديم العمل وهي الشاشة الصغيرة، وذلك لا ينفي بالطبع وجود سمات مشتركة كثيرة أهمها أن كل هذه الأنواع تقوم على مبدأ القص أو تقديم حكاية، لكن دراما التلفزيون نشأت أساسا لجذب المشاهد ولملء ساعات البث، وهذا حررها من الارتباط بزمن معين تتطلبه مدة عرض الفيلم والمسرحية، فأتاح للكاتب أن يحشد عمله بشخصيات عديدة وتفاصيل كثيرة. أيضا يرى عمار أن التشويق كان عنصرا لازما لجذب المشاهد وإثارة فضوله يوميا، وينبغي أن يؤكد الكاتب على التباين بين الشخصيات وألا تكون مسوخا أو دمى تنطق بلسان المؤلف بل تنطق بلسانها هي، وعلى المؤلف أن يعبر عن رؤيته من خلال العمل ككل وليس عبر استنطاقه للشخصيات، وينبغي للحوار أن يكون معبرا عن الشخصية، كاشفا عنها، ومفيدا للحدث وللصراع، كذلك لا بد أن يكون لكل شخصية هدف تسعى إليه، وأن يكون طريق الهدف محفوفا بالمخاطر لتحقيق الصراع بين الشخصيات المتناقضة وأن يتجدد الصراع في كل حلقة لضمان التشويق. يوضح الباحث أن النص الدرامي يجب أن تتطور فيه الشخصية خلال مسيرتها وأن يقوم التطور على المعرفة، كذلك طول أو قصر المشاهد لا يعدان شيئا ذا قيمة في حد ذاتهما وإنما ضرورتهما ترتبط بإيقاع العمل وبهدف المشهد الذي يجب أن يدفع القصة دوما إلى الأمام، والمهم ألا ينسى المؤلف في زحمة الأحداث شخصية من شخصياته. بعد تقديمه النظري، يبدأ المؤلف الجزء التحليلي لمسلسل “عصفور النار” بسؤالين يظن أنه سيواجه بهما، أولهما لماذا أسامة أنور عكاشة؟ ويجيب بأن اسمه ارتبط لدى المشاهد بالدراما التلفزيونية. كما أن عكاشة أول من وصفها بالأدب واستخدم مصطلح ”رواية تلفزيونية” مما يؤكد وعيه بالإشكالية التي يثيرها المصطلح، والتي كانت مشروعه الأدبي، لذلك لا بد من تناول أعماله من منظور الأدب للوقوف على مدى نجاحه في تأصيل هذا النوع الأدبي. أما السؤال الثاني فهو سبب اختيار الباحث لمسلسل ”عصفور النار” ويرد بأنه يمثل فترة نضج أسامة أنور عكاشة، كما أنه وحيد الجزء، وعدد حلقاته الخمس عشرة يناسب الدراسة، كما أن مضمون العمل ينتصر لقضيتي العدل والحرية فقضيته لم تكن مرتبطة بزمان أو مكان محددين، فقد انطلق من أعماق القرية المصرية بكل تفاصيلها ليقدم قيمة أخلاقية إنسانية. ويؤكد عمار أن المسلسل الدرامي ليس مجرد نوع أدبي، بل هو نوع فني يعتمد على عناصر فنية كثيرة من بينها نص المسلسل، لكن قضيته هنا تطلبت الاقتصار على النص المكتوب (وهو غير مطبوع)، لذا اعتمد على المشاهدة فقط للوقوف على بنية النص والتوصل إلى السمات والثيمات والتقنيات التي اعتمد عليها مؤلف المسلسل في بناء عمله، وهو في تناوله المتتابع عبر فصول الكتاب لحلقات المسلسل لم يفصل بين الشكل والمضمون بل رصد كلا من السمات الموضوعية والخصائص التقنية، فأسامة أنور عكاشة في جل أعماله يحاول الانتصار لقيم إنسانية عامة في نهاية الصراع بين عدد من القيم المتضادة مثل العدل / الظلم، الوفاء/ الخيانة، ولا يتناولها بشكل مجرد بل ينطلق من مجتمعه وواقعه المعيش، لذا يختار شخصيات من لحم ودم تشبه المتلقي نفسه أو يكاد يعرفها في حياته. ورغم محلية مجتمع المسلسل إلا أنه يتماس مع العالم كله من خلال القضايا التي يتبناها، وعكاشة أيضا يفيد من تقنيات الحكي سواء المعروفة في الأجناس الأدبية الأخرى أو تلك الموجودة في التراث الشعبي، كذلك يستخدم المونولوج والفلاش باك وتقنيات تيار الوعي، ويراوح في سرده الدرامي بين المشاهد الطويلة والمشاهد القصيرة، وتشكل المفارقة عنصرا رئيسا في دراما عكاشة، كذلك الحضور اللافت للجملة الشعرية التي تحمل الصورة والمجاز والإيقاع معا، والتي تميز مسلسلاته باعتبارها أدبا دراميا بامتياز.