شعبة الدواجن تتوقع ارتفاع الأسعار بسبب تخارج صغار المنتجين    إدانة عربية واسلامية لمصادقة الكنيست الإسرائيلي على ضم الضفة والأغوار في فلسطين    وزير الخارجية يتوجه إلى السنغال في المحطة الخامسة والأخيرة من جولته في غرب إفريقيا    تقرير: بايرن يقدم عرضه الجديد ل ليفربول من أجل لويس دياز    خبر في الجول - الزمالك ينتظر قرار فيريرا لضم مدافع حسنية أغادير    إبراهيم عادل: أبو تريكة قدوتي.. وهدفي في باراجواي اللحظة الأسعد بمسيرتي    وولفرهامبتون يضم أرياس من فلومينينسي    جامعة الإسكندرية تبحث التعاون مع التأمين الصحي الشامل لتقديم خدمات طبية متكاملة    مصر تستهجن الدعاية المغرضة لتشويه دورها الداعم لقضية فلسطين    إعلام فلسطيني: 89 شهيدًا و453 مصابا بنيران جيش الاحتلال خلال 24 ساعة    "الشعب الجمهوري" يشيد بجهود مصر في دعم غزة وإدخال المساعدات الإنسانية    رسميا.. الأهلي يعير كباكا إلى زد لمدة موسم واحد    قرار رادع .. لسكة الحديد تنهى خدمة مشرف قطار بسبب تأخير الركاب نصف ساعة بمحطة تلا    غسلوا 75 مليون جنيه من تجارة المخدرات.. الداخلية تضبط 3 متهمين    ضبط سائق يقوم بحركات استعراضية خطرة خلال حفل زفاف بالإسكندرية    تحرير 93 مخالفة تموينية بالمنيا    البنك المركزى الأوروبى يبقى معدلات الفائدة دون تغيير    الصحة تشارك في المؤتمر الدولي السابع عشر لمناظير المخ والعمود الفقري    ماكرون وزوجته يرفعان دعوى تشهير ضد المؤثرة الأمريكية كانديس أوينز    الداخلية تضبط طرفي مشاجرة بالأسلحة البيضاء بين سائقي توك توك في العمرانية    بسبب السرعة الزائدة.. مصرع عامل ديلفري إثر انقلاب دراجته النارية بالتجمع الخامس    اليوم.. عروض لفرق الشرقية والموسيقى العربية بالعلمين ضمن صيف بلدنا    إيهاب توفيق والموسيقى العربية في افتتاح صيف الأوبرا 2025 باستاد الإسكندرية    إقبال جماهيري على فعاليات "المواطنة" بالمنيا.. "الثقافة" تُضيء القرى برسائل الوعي والانتماء    طور سيناء تطلق سوق اليوم الواحد بتخفيضات تصل 25% لتخفيف العبء عن المواطنين    المشاط تدعو الشركات السويسرية للاستفادة من آلية ضمانات الاستثمار الأوروبية لزيادة استثماراتها في مصر    الشباب والرياضة تتلقى الاستقالة المسببة من نائب رئيس وأمين صندوق اتحاد تنس الطاولة    «جمال الدين» يستعرض إمكانات «اقتصادية قناة السويس» أمام مجتمع الأعمال بمقاطعة تشجيانغ    لطلاب الثانوية العامة والأزهرية.. شروط قبول بالأكاديمية العسكرية المصرية (إنفوجراف)    المجلس الأعلى للإعلام يوافق على 21 ترخيصًا جديدًا لمواقع إلكترونية    عمرو الورداني: نحن لا نسابق أحدًا في الحياة ونسير في طريق الله    بدء التشغيل الكلي لمجمع المواقف الجديد في بني سويف    قبل 150 يومًا من انطلاق "كان 2025".. الفراعنة ملوك الأرقام القياسية    بقيمة 227 مليون جنيه.. «صحة المنوفية» تكشف حصاد العلاج على نفقة الدولة خلال 6 أشهر    سيدة على مشارف ال80 عاما تغادر محطة الأمية في قطار التضامن «لا أمية مع تكافل»    نتيجة الثانوية الأزهرية بمحافظة كفر الشيخ.. رابط مباشر    انفجار لغم يشعل صراعا بين كمبوديا وتايلاند.. اشتباكات حدودية وغارات جوية    وزير الري يتابع جاهزية المنظومة المائية خلال موسم أقصى الاحتياجات    بنسخ خارجية لمختلف المواد.. ضبط مكتبة بدون ترخيص في الظاهر    تحليل رقمي.. كيف زاد عدد متابعي وسام أبو علي مليونا رغم حملة إلغاء متابعته؟    جامعة قناة السويس تُعلن نتائج الفصل الدراسي الثاني وتُقرّ دعمًا للطلاب    «خدمة المجتمع» بجامعة القاهرة يناقش التكامل بين الدور الأكاديمى والمجتمعى والبيئي    شهدت التحول من الوثنية إلى المسيحية.. الكشف عن بقايا المدينة السكنية الرئيسية بالخارجة    3 أفلام ل محمد حفظي ضمن الاختيارات الرسمية للدورة ال 82 لمهرجان فينيسيا (تفاصيل)    نقابة المهن السينمائية تشيد بمسلسل "فات الميعاد"    معسكر كشفي ناجح لطلاب "الإسماعيلية الأهلية" بجامعة قناة السويس    عمرو الورداني: النجاح ليس ورقة نتيجة بل رحلة ممتدة نحو الفلاح الحقيقي    لو لقيت حاجة اقعدها وقت قد ايه لحين التصرف لنفسي فيها؟.. أمين الفتوى يجيب    علي جمعة يوضح معنى قوله تعالى {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ}    رئيس الوزراء يتابع جهود منظومة الشكاوى الحكومية خلال النصف الأول من 2025    "مدبولي" يؤكد أهمية بناء الوعي في تشييد حائط صد ضد نمو الشائعات    "الجبهة الوطنية" يعقد أول لقاء جماهيري بالإسماعيلية لدعم مرشحته داليا سعد في انتخابات الشيوخ    713 ألف خدمة طبية قدمتها مبادرة «100 يوم صحة» خلال أسبوعها الأول في القليوبية    تفاصيل عملية دهس قرب بيت ليد.. تسعة مصابين واستنفار إسرائيلي واسع    الإسكندرية تحتفل بتاريخها.. في "يوم وداع الملك"    «كتالوج»... الأبوة والأمومة    مدنية الأحكام وتفاعلها مجتمعيًّا وسياسيًّا    أعراض برد الصيف وأسبابه ومخاطره وطرق الوقاية منه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب الكتب الضائعة ... بحثاً عن آثار غامضة
نشر في صوت البلد يوم 30 - 12 - 2017

ثمة كتب نحدس بأنها سترضي فضولنا الأدبي ما إن يقع نظرنا على عنوانها، ولا تخيّب حدسنا حين ننطلق في قراءتها، بل تجعلنا نتمنّى لو أنها لا تنتهي. هذا ما ينتظرنا في «كتاب الكتب الضائعة» الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية، بعد أشهر قليلة على صدوره في روما. يدعونا صاحبه، الكاتب الإيطالي جورجيو فان ستراتن، إلى سفرٍ مثير نتقفّى خلاله آثار ثمانية كتب ضائعة. كتب أسطورية بالغموض الذي يلفّ قصّة كلٍّ منها ومضمونه، وحقيقية بقوة مَن جهدوا في البحث عنها، وإن لم يملك أيّ منهم دليلاً أو خريطة ترشدنا إليها.
وتجدر الإشارة بدايةً إلى أن الأمر لا يتعلّق بكتب منسية توارت تدريجاً من ذاكرة مَن قرأها، وبالتالي من تاريخ الأدب. فهذه الكتب يمكن أن نعثر عليها على أحد الرفوف المغبّرة لمكتبة، وأن تحظى بناشر فضولي يرغب في إعادة طبعها. كما لا يتعلّق الأمر بكتبٍ لم تُكتَب لأسباب معيّنة وبقيت منتظَرة على شكل فكرة أو استيهام أو حلم، بل بكتبٍ حقيقية كتبها أصحابها، وإن لم يتمكّنوا أحياناً من إنهائها؛ كُتُب رآها بعضهم، أو حتى قرأها، لكنها توارت لاحقاً أو تم إتلافها.
الأسباب التي أدّت إلى ضياع هذه الكتب متنوّعة، منها وقوعها ضحية عدم رضا أصحابها عنها، لسعيهم خلف كمالٍ يتعذّر غالباً بلوغه. ولكن في حال اقتنعنا برأي هؤلاء الكّتاب ببعض أعمالهم، وبالتالي بقرارهم إتلافها، لاعتقادنا أن قراءتنا لها كانت ستمنحنا الانطباع السلبي نفسه، كيف ننسى تلك النصوص التي أفلتت من إرادة أصحابها المدمِّرة وتبيّن لاحقاً أنها تحف أدبية نادرة، مثل بعض نصوص كافكا؟ وأحياناً، تقف الظروف التاريخية وراء هذا الضياع، كالحرب العالمية الثانية التي لم تترك أهوالها فسحةً في أوروبا من دون أن تطاولها، ما حال دون تمكّن بعض الكتّاب من حفظ مخطوطاتهم في مكانٍ آمن. وأحياناً أخرى، تكون رقابة الأقرباء السبب، لأن الكتاب قد بدا فضائحياً وخطيراً لمَن كان من المفترض أن يحفظه بعد وفاة صاحبه.
ويحدث أن يؤدّي نسيانٌ أو شرودٌ إلى سرقة أو حريق يتلف سنوات طويلة من العمل ويجبر الكاتب على البدء مجدداً من الصفر في مشروعه الكتابي، في حال تمتّع بالعزم للقيام بذلك. يحدث أيضاً أن يقرر ورثة الكاتب إتلاف أحد كتبه لحماية أنفسهم أو أشخاص آخرين يمكن التعرّف إليهم داخله.
في القصص الثماني التي يسردها فان ستراتن في كتابه، نجد أمثلة على كل هذه الحالات التي أدّت في كل مرّة إلى ضياع كتاب مهم. وحين تنكشف لنا أسماء الكتّاب المعنيين بهذه القصص، تتجلى أمامنا قيمة بحثه وحجم ما فقده الأدب وعشّاقه إثر ضياع هذه الأعمال التي كان بإمكانها أن تنير جانباً مخفياً من شخصية أو عمل أصحابها. أعمال تعود إلى والتر بنيامين ولورد بايرون وسيلفيا بلاث وأرنست هامنغوي وبرونو شولز ونيكولا غوغول ورومانو بيلينشي ومالكوم لوّري. ولا يكتفي فان ستراتن بكشف ظروف ضياعها، بل يجعلنا نغوص ونتخيّل مضمونها بفضل اكتشافات مثيرة وغير متوقّعة حولها، ترافقها قراءة ثاقبة لمسارات أصحابها، المعتمة في معظمها، لتسلّط شبح الانتحار أو عفريت الإدمان أو العُصاب عليها.
الكتاب الأول الذي يفتح هذه المغامرة المشوّقة هو رواية «الجادّة» للكاتب الإيطالي بيلينشي الذي رفض نشرها وهو حيّ نظراً إلى إحتمال أن تجرح بعض تفاصيل قصّتها زوجته الأولى. عملٌ يتّفق جميع الذين قرأوه، وفان ستراتن واحد منهم، بأنه من أفضل ما كتبه بيلينشي. ومع ذلك، أقدمت أرملته على إتلاف مخطوطه الوحيد لاعتقادها أنها بذلك تحترم إرادة زوجها. فعلٌ لا يُغتفَر في نظر فان ستراتن الذي يرى أن على ورثة أي كاتب الاحتفاظ بنصوصه غير المنشورة في مكانٍ آمن وترك مسألة تقرير مصيرها للأجيال اللاحقة. وهذا ما لم تفعله أرملة بيلينشي، مثلها مثل أخت الشاعر الإنكليزي لورد بايرون وبعض أصدقائه الذين أقدموا، إثر اجتماعهم في مكاتب الناشر جون موراي عام 1824، على حرق مذكّرات هذا العملاق، على رغم معارضة صديقه الشاعر توماس مور، مبرّرين فعلتهم بانكشاف ميول بايرون المثلية في هذا المخطوط.
ولكن أي تبرير يمكن أن يتقدّم به زوج سيلفيا بلاث، الشاعر الإنكليزي تد هيوز، الذي يعتقد فان ستراتن بأنه وراء إتلاف أو إخفاء مخطوط رواية «كشف مزدوج» التي لم تفرغ زوجته من كتابتها بسبب انتحارها؟ رواية نعرف اليوم من معطيات عدة متقاطعة أن بلاث روت فيها الفترة الأخيرة من حياتها، وبالتالي ألمها النابع من خيانات زوجها المتكررة لها، وأيضاً من مرض الاكتئاب الذي كان يتربصّ بها. معطيات لا ننعم بمثلها مع الأسف لفكّ لغز المخطوط الذي كان الفيلسوف الألماني والتر بنيامين ينقله في حقيبته السوداء حين عبر الحدود الفرنسية- الإسبانية هرباً من النازيين عام 1940، قبل أن ينتحر بدوره وتتوارى حقيبته وكل محتوياتها. لكنّ فان ستراتن يقترح فرضيات عدة: «لعل الأمر يتعلق بتدوينات كانت ستساعده على متابعة عمله على كتاب «معابر»، أو بنسخة معدّلة من بحثه حول الشاعر بودلير، أو بكتابٍ آخر نجهل كل شيء عنه»، قبل أن يتساءل: «هل من الممنوع أن نأمل بأن يعثر أحدٌ ما على هذه الأوراق، من طريق الصدفة أو البحث الفطِن، ويسمح لنا بقراءتها أخيراً؟».
الجواب عن هذا السؤال هو نعم، في هذه الحالة، وإن كان الأمل ضعيفاً جداً، مثل أمل العثور يوماً على رواية «المسيح» للكاتب البولوني الكبير برونو شولز التي ضاع مخطوطها الوحيد بعد مقتله عام 1942، أو على الحقيبة التي أضاعتها زوجة همنغواي الأولى في قطار عام 1922، وتتضمن كل قصصه الأولى، ما عدا قصّتين كان الكاتب الأميركي قد أرسل نسخة منهما إلى مجلة أدبية.
لكنّ هذا الأمل ينعدم كلياً حين يتعلّق الأمر بالرواية الضخمة الذي وضعها الكاتب الروسي غوغول تكملةً لرواية «النفوس الميتة»، قبل أن يرمي بمخطوطها في النار عام 1852، عشرة أيامٍ قبل وفاته، لعدم رضاه عنها؛ أو بالنسخة الأولى والضخمة (1000 صفحة) من رواية «الإبحار نحو البحر الأبيض» التي كرّس الكاتب البريطاني مالكوم لوّري تسع سنوات من حياته لكتابتها، قبل أن تلتهمها النيران إثر حريقٍ شبّ في كوخٍ كان يملكه في مستعمرة كولومبيا البريطانية.
يبقى أن نشير إلى أن افتتاننا بهذه الكتب الضائعة يعود حتماً إلى استحالة الإمساك بها وقراءتها، وبالتالي إلى الفراغ الذي خلّفته خلفها ويغذّي فينا فكرة أن هذه الكتب هي ربما تلك النصوص الحاسمة، الكاملة، التي لا تُعوَّض. وهذا ما يدفعنا إلى محاولة تخيّل شكلها ومضمونها، وبالتالي إلى إعادة ابتكارها. وبقيامنا بذلك، تحيا هذه الكتب مجدداً فينا، فيصبح بإمكاننا أن نقول، تماماً مثل مارسيل بروست وزمنه الضائع، إننا عثرنا عليها.
ثمة كتب نحدس بأنها سترضي فضولنا الأدبي ما إن يقع نظرنا على عنوانها، ولا تخيّب حدسنا حين ننطلق في قراءتها، بل تجعلنا نتمنّى لو أنها لا تنتهي. هذا ما ينتظرنا في «كتاب الكتب الضائعة» الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية، بعد أشهر قليلة على صدوره في روما. يدعونا صاحبه، الكاتب الإيطالي جورجيو فان ستراتن، إلى سفرٍ مثير نتقفّى خلاله آثار ثمانية كتب ضائعة. كتب أسطورية بالغموض الذي يلفّ قصّة كلٍّ منها ومضمونه، وحقيقية بقوة مَن جهدوا في البحث عنها، وإن لم يملك أيّ منهم دليلاً أو خريطة ترشدنا إليها.
وتجدر الإشارة بدايةً إلى أن الأمر لا يتعلّق بكتب منسية توارت تدريجاً من ذاكرة مَن قرأها، وبالتالي من تاريخ الأدب. فهذه الكتب يمكن أن نعثر عليها على أحد الرفوف المغبّرة لمكتبة، وأن تحظى بناشر فضولي يرغب في إعادة طبعها. كما لا يتعلّق الأمر بكتبٍ لم تُكتَب لأسباب معيّنة وبقيت منتظَرة على شكل فكرة أو استيهام أو حلم، بل بكتبٍ حقيقية كتبها أصحابها، وإن لم يتمكّنوا أحياناً من إنهائها؛ كُتُب رآها بعضهم، أو حتى قرأها، لكنها توارت لاحقاً أو تم إتلافها.
الأسباب التي أدّت إلى ضياع هذه الكتب متنوّعة، منها وقوعها ضحية عدم رضا أصحابها عنها، لسعيهم خلف كمالٍ يتعذّر غالباً بلوغه. ولكن في حال اقتنعنا برأي هؤلاء الكّتاب ببعض أعمالهم، وبالتالي بقرارهم إتلافها، لاعتقادنا أن قراءتنا لها كانت ستمنحنا الانطباع السلبي نفسه، كيف ننسى تلك النصوص التي أفلتت من إرادة أصحابها المدمِّرة وتبيّن لاحقاً أنها تحف أدبية نادرة، مثل بعض نصوص كافكا؟ وأحياناً، تقف الظروف التاريخية وراء هذا الضياع، كالحرب العالمية الثانية التي لم تترك أهوالها فسحةً في أوروبا من دون أن تطاولها، ما حال دون تمكّن بعض الكتّاب من حفظ مخطوطاتهم في مكانٍ آمن. وأحياناً أخرى، تكون رقابة الأقرباء السبب، لأن الكتاب قد بدا فضائحياً وخطيراً لمَن كان من المفترض أن يحفظه بعد وفاة صاحبه.
ويحدث أن يؤدّي نسيانٌ أو شرودٌ إلى سرقة أو حريق يتلف سنوات طويلة من العمل ويجبر الكاتب على البدء مجدداً من الصفر في مشروعه الكتابي، في حال تمتّع بالعزم للقيام بذلك. يحدث أيضاً أن يقرر ورثة الكاتب إتلاف أحد كتبه لحماية أنفسهم أو أشخاص آخرين يمكن التعرّف إليهم داخله.
في القصص الثماني التي يسردها فان ستراتن في كتابه، نجد أمثلة على كل هذه الحالات التي أدّت في كل مرّة إلى ضياع كتاب مهم. وحين تنكشف لنا أسماء الكتّاب المعنيين بهذه القصص، تتجلى أمامنا قيمة بحثه وحجم ما فقده الأدب وعشّاقه إثر ضياع هذه الأعمال التي كان بإمكانها أن تنير جانباً مخفياً من شخصية أو عمل أصحابها. أعمال تعود إلى والتر بنيامين ولورد بايرون وسيلفيا بلاث وأرنست هامنغوي وبرونو شولز ونيكولا غوغول ورومانو بيلينشي ومالكوم لوّري. ولا يكتفي فان ستراتن بكشف ظروف ضياعها، بل يجعلنا نغوص ونتخيّل مضمونها بفضل اكتشافات مثيرة وغير متوقّعة حولها، ترافقها قراءة ثاقبة لمسارات أصحابها، المعتمة في معظمها، لتسلّط شبح الانتحار أو عفريت الإدمان أو العُصاب عليها.
الكتاب الأول الذي يفتح هذه المغامرة المشوّقة هو رواية «الجادّة» للكاتب الإيطالي بيلينشي الذي رفض نشرها وهو حيّ نظراً إلى إحتمال أن تجرح بعض تفاصيل قصّتها زوجته الأولى. عملٌ يتّفق جميع الذين قرأوه، وفان ستراتن واحد منهم، بأنه من أفضل ما كتبه بيلينشي. ومع ذلك، أقدمت أرملته على إتلاف مخطوطه الوحيد لاعتقادها أنها بذلك تحترم إرادة زوجها. فعلٌ لا يُغتفَر في نظر فان ستراتن الذي يرى أن على ورثة أي كاتب الاحتفاظ بنصوصه غير المنشورة في مكانٍ آمن وترك مسألة تقرير مصيرها للأجيال اللاحقة. وهذا ما لم تفعله أرملة بيلينشي، مثلها مثل أخت الشاعر الإنكليزي لورد بايرون وبعض أصدقائه الذين أقدموا، إثر اجتماعهم في مكاتب الناشر جون موراي عام 1824، على حرق مذكّرات هذا العملاق، على رغم معارضة صديقه الشاعر توماس مور، مبرّرين فعلتهم بانكشاف ميول بايرون المثلية في هذا المخطوط.
ولكن أي تبرير يمكن أن يتقدّم به زوج سيلفيا بلاث، الشاعر الإنكليزي تد هيوز، الذي يعتقد فان ستراتن بأنه وراء إتلاف أو إخفاء مخطوط رواية «كشف مزدوج» التي لم تفرغ زوجته من كتابتها بسبب انتحارها؟ رواية نعرف اليوم من معطيات عدة متقاطعة أن بلاث روت فيها الفترة الأخيرة من حياتها، وبالتالي ألمها النابع من خيانات زوجها المتكررة لها، وأيضاً من مرض الاكتئاب الذي كان يتربصّ بها. معطيات لا ننعم بمثلها مع الأسف لفكّ لغز المخطوط الذي كان الفيلسوف الألماني والتر بنيامين ينقله في حقيبته السوداء حين عبر الحدود الفرنسية- الإسبانية هرباً من النازيين عام 1940، قبل أن ينتحر بدوره وتتوارى حقيبته وكل محتوياتها. لكنّ فان ستراتن يقترح فرضيات عدة: «لعل الأمر يتعلق بتدوينات كانت ستساعده على متابعة عمله على كتاب «معابر»، أو بنسخة معدّلة من بحثه حول الشاعر بودلير، أو بكتابٍ آخر نجهل كل شيء عنه»، قبل أن يتساءل: «هل من الممنوع أن نأمل بأن يعثر أحدٌ ما على هذه الأوراق، من طريق الصدفة أو البحث الفطِن، ويسمح لنا بقراءتها أخيراً؟».
الجواب عن هذا السؤال هو نعم، في هذه الحالة، وإن كان الأمل ضعيفاً جداً، مثل أمل العثور يوماً على رواية «المسيح» للكاتب البولوني الكبير برونو شولز التي ضاع مخطوطها الوحيد بعد مقتله عام 1942، أو على الحقيبة التي أضاعتها زوجة همنغواي الأولى في قطار عام 1922، وتتضمن كل قصصه الأولى، ما عدا قصّتين كان الكاتب الأميركي قد أرسل نسخة منهما إلى مجلة أدبية.
لكنّ هذا الأمل ينعدم كلياً حين يتعلّق الأمر بالرواية الضخمة الذي وضعها الكاتب الروسي غوغول تكملةً لرواية «النفوس الميتة»، قبل أن يرمي بمخطوطها في النار عام 1852، عشرة أيامٍ قبل وفاته، لعدم رضاه عنها؛ أو بالنسخة الأولى والضخمة (1000 صفحة) من رواية «الإبحار نحو البحر الأبيض» التي كرّس الكاتب البريطاني مالكوم لوّري تسع سنوات من حياته لكتابتها، قبل أن تلتهمها النيران إثر حريقٍ شبّ في كوخٍ كان يملكه في مستعمرة كولومبيا البريطانية.
يبقى أن نشير إلى أن افتتاننا بهذه الكتب الضائعة يعود حتماً إلى استحالة الإمساك بها وقراءتها، وبالتالي إلى الفراغ الذي خلّفته خلفها ويغذّي فينا فكرة أن هذه الكتب هي ربما تلك النصوص الحاسمة، الكاملة، التي لا تُعوَّض. وهذا ما يدفعنا إلى محاولة تخيّل شكلها ومضمونها، وبالتالي إلى إعادة ابتكارها. وبقيامنا بذلك، تحيا هذه الكتب مجدداً فينا، فيصبح بإمكاننا أن نقول، تماماً مثل مارسيل بروست وزمنه الضائع، إننا عثرنا عليها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.