موعد إعلان نتيجة تنسيق المرحلة الأولي 2025 لطلاب الثانوية العامة (رابط وقواعد القبول الجغرافي)    موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 للقطاعين الحكومي والخاص    سعر سبيكه الذهب اليوم الأربعاء 30-7-2025 وال 50 جرامًا تتخطى ربع مليون جنيه    موعد مرتبات شهر أغسطس وسبتمبر.. جدول زيادة الحد الأدني لأجور المعلمين بعد زيادة يوليو    بعد هبوطه في 7 بنوك.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري الأربعاء 30-7-2025    "البترول" تتلقى إخطارًا باندلاع حريق في غرفة ماكينات مركب الحاويات PUMBA    «ساري المفعول».. أول تعليق من ترامب على موجات تسونامي اليوم    إعلام كندي: الحكومة تدرس الاعتراف بدولة فلسطين    ترامب: لن نسمح لحماس بالاستيلاء على المساعدات الغذائية المخصصة لغزة    ملك المغرب: الشعب الجزائري شقيق.. وتربطنا به علاقة إنسانية وتاريخية    «يو جيه»: الصين قوة اقتصادية عظمى لكن أنانية ومترددة إلى حد كبير    القنوات الناقلة مباشر لمباراة النصر وتولوز اليوم.. والموعد والمعلق    جدول مباريات بيراميدز في الدوري المصري الممتاز الموسم الجديد 2025-2026    «مألفناش اللائحة».. رد ناري من رابطة الأندية على تصريحات عضو مجلس الزمالك    توقعات الأبراج وحظك اليوم الأربعاء 30 يوليو 2025.. انفراجة مالية قوية تنتظر هذا البرج    السيد أمين شلبي يقدم «كبسولة فكرية» في الأدب والسياسة    ليلى علوي تسترجع ذكريات «حب البنات» بصور من الكواليس: «كل الحب»    فلكيًا.. موعد بداية شهر رمضان 1447-2026    لا تتبع الوزارة.. البترول: السيطرة على حريق سفينة حاويات قرب منصة جنوب شرق الحمد    وزير الثقافة: جوائز الدولة هذا العام ضمت نخبة عظيمة.. ونقدم برنامجا متكاملا بمهرجان العلمين    4 أرغفة ب دينار.. تسعيرة الخبز الجديدة تغضب أصحاب المخابز في ليبيا    محافظة الوادي الجديد تدفع بوحدة توليد جديدة لدعم كهرباء الفرافرة وتخفيف الأحمال    تنسيق الثانوية 2025.. ماذا تعرف عن دراسة "الأوتوترونكس" بجامعة حلوان التكنولوجية؟    تنسيق الجامعات 2025| كل ما تريد معرفته عن بكالوريوس إدارة وتشغيل الفنادق "ماريوت"    إبراهيم ربيع: «مرتزقة الإخوان» يفبركون الفيديوهات لنشر الفوضى    وفاة طالب أثناء أداء امتحانات الدور الثاني بكلية التجارة بجامعة الفيوم    القانون يحدد شروط لوضع الإعلانات.. تعرف عليها    متابعة تطورات حركة جماعة الإخوان الإرهابية مع الإعلامية آلاء شتا.. فيديو    الإعلامى حسام الغمرى: جماعة الإخوان تحاول تشويه موقف مصر الشريف تجاه فلسطين.. فيديو    مدير أمن سوهاج يتفقد الشوارع الرئيسية لمتابعة الحالة الأمنية والمرورية    الدقيقة بتفرق في إنقاذ حياة .. أعراض السكتة الدماغية    إخماد حريق في محول كهرباء في «أبو النمرس» بالجيزة    منافسة غنائية مثيرة في استاد الإسكندرية بين ريهام عبد الحكيم ونجوم الموسيقى العربية.. صور    تنسيق الجامعات 2025 .. تفاصيل برامج كلية التجارة جامعة عين شمس (مصروفات)    يسمح ب«تقسيط المصروفات».. حكاية معهد السياحة والفنادق بعد قضية تزوير رمضان صبحي    إنجاز غير مسبوق.. إجراء 52 عملية جراحية في يوم واحد بمستشفى نجع حمادي    مطران دشنا يترأس صلوات رفع بخور عشية بكنيسة الشهيد العظيم أبو سيفين (صور)    الجنايني يتحدث عن مفاوضات عبد القادر.. وعرض نيوم "الكوبري" وصدمة الجفالي    مصرع عامل اختل توازنه وسقط من أعلى سطح المنزل في شبين القناطر    رئيس مدينة الحسنة يعقد اجتماعا تنسيقيا تمهيدا للاستعداد لانتخابات الشيوخ 2025    أحمد فؤاد سليم: عشت مواجهة الخطر في الاستنزاف وأكتوبر.. وفخور بتجربتي ب "المستقبل المشرق"    وزير الخارجية يتوجه إلى واشنطن في زيارة ثنائية    ناشط فلسطيني: دور مصر مشرف وإسرائيل تتحمل انتشار المجاعة في غزة.. فيديو    أسامة نبيه يضم 33 لاعبا فى معسكر منتخب الشباب تحت 20 سنة    ترامب: الهند ستواجه تعريفة جمركية تتراوح بين 20% و25% على الأرجح    جدول امتحانات الثانوية العامة دور ثاني 2025 (اعرف التفاصيل)    «الجو هيقلب» .. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم : أمطار وانخفاض «مفاجئ»    عاصم الجزار: لا مكان للمال السياسي في اختيار مرشحينا    الجنايني عن شروط عبدالله السعيد للتجديد مع الزمالك: "سيب اللي يفتي يفتي"    سبب غياب كريم فؤاد عن ودية الأهلي وإنبي وموعد عودته    عمرو الجناينى: تفاجأت باعتزال شيكابالا.. ولم أتفاوض مع أحمد عبد القادر    معلقة داخل الشقة.. جثة لمسن مشنوق تثير الذعر بين الجيران ببورسعيد    بدأت بصداع وتحولت إلى شلل كامل.. سكتة دماغية تصيب رجلًا ب«متلازمة الحبس»    طريقة عمل سلطة الطحينة للمشاوي، وصفة سريعة ولذيذة في دقائق    هل يُحاسب الطفل على الحسنات والسيئات قبل البلوغ؟.. واعظة تجيب    أمين الفتوى: الشبكة جزء من المهر يرد في هذه الحالة    ما الذي يُفِيدُه حديث النبي: (أفضل الأعمال الصلاة على وقتها)؟.. الإفتاء توضح    أمين الفتوى: مخالفات المرور الجسيمة إثم شرعي وليست مجرد تجاوز قانوني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب الكتب الضائعة ... بحثاً عن آثار غامضة
نشر في صوت البلد يوم 30 - 12 - 2017

ثمة كتب نحدس بأنها سترضي فضولنا الأدبي ما إن يقع نظرنا على عنوانها، ولا تخيّب حدسنا حين ننطلق في قراءتها، بل تجعلنا نتمنّى لو أنها لا تنتهي. هذا ما ينتظرنا في «كتاب الكتب الضائعة» الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية، بعد أشهر قليلة على صدوره في روما. يدعونا صاحبه، الكاتب الإيطالي جورجيو فان ستراتن، إلى سفرٍ مثير نتقفّى خلاله آثار ثمانية كتب ضائعة. كتب أسطورية بالغموض الذي يلفّ قصّة كلٍّ منها ومضمونه، وحقيقية بقوة مَن جهدوا في البحث عنها، وإن لم يملك أيّ منهم دليلاً أو خريطة ترشدنا إليها.
وتجدر الإشارة بدايةً إلى أن الأمر لا يتعلّق بكتب منسية توارت تدريجاً من ذاكرة مَن قرأها، وبالتالي من تاريخ الأدب. فهذه الكتب يمكن أن نعثر عليها على أحد الرفوف المغبّرة لمكتبة، وأن تحظى بناشر فضولي يرغب في إعادة طبعها. كما لا يتعلّق الأمر بكتبٍ لم تُكتَب لأسباب معيّنة وبقيت منتظَرة على شكل فكرة أو استيهام أو حلم، بل بكتبٍ حقيقية كتبها أصحابها، وإن لم يتمكّنوا أحياناً من إنهائها؛ كُتُب رآها بعضهم، أو حتى قرأها، لكنها توارت لاحقاً أو تم إتلافها.
الأسباب التي أدّت إلى ضياع هذه الكتب متنوّعة، منها وقوعها ضحية عدم رضا أصحابها عنها، لسعيهم خلف كمالٍ يتعذّر غالباً بلوغه. ولكن في حال اقتنعنا برأي هؤلاء الكّتاب ببعض أعمالهم، وبالتالي بقرارهم إتلافها، لاعتقادنا أن قراءتنا لها كانت ستمنحنا الانطباع السلبي نفسه، كيف ننسى تلك النصوص التي أفلتت من إرادة أصحابها المدمِّرة وتبيّن لاحقاً أنها تحف أدبية نادرة، مثل بعض نصوص كافكا؟ وأحياناً، تقف الظروف التاريخية وراء هذا الضياع، كالحرب العالمية الثانية التي لم تترك أهوالها فسحةً في أوروبا من دون أن تطاولها، ما حال دون تمكّن بعض الكتّاب من حفظ مخطوطاتهم في مكانٍ آمن. وأحياناً أخرى، تكون رقابة الأقرباء السبب، لأن الكتاب قد بدا فضائحياً وخطيراً لمَن كان من المفترض أن يحفظه بعد وفاة صاحبه.
ويحدث أن يؤدّي نسيانٌ أو شرودٌ إلى سرقة أو حريق يتلف سنوات طويلة من العمل ويجبر الكاتب على البدء مجدداً من الصفر في مشروعه الكتابي، في حال تمتّع بالعزم للقيام بذلك. يحدث أيضاً أن يقرر ورثة الكاتب إتلاف أحد كتبه لحماية أنفسهم أو أشخاص آخرين يمكن التعرّف إليهم داخله.
في القصص الثماني التي يسردها فان ستراتن في كتابه، نجد أمثلة على كل هذه الحالات التي أدّت في كل مرّة إلى ضياع كتاب مهم. وحين تنكشف لنا أسماء الكتّاب المعنيين بهذه القصص، تتجلى أمامنا قيمة بحثه وحجم ما فقده الأدب وعشّاقه إثر ضياع هذه الأعمال التي كان بإمكانها أن تنير جانباً مخفياً من شخصية أو عمل أصحابها. أعمال تعود إلى والتر بنيامين ولورد بايرون وسيلفيا بلاث وأرنست هامنغوي وبرونو شولز ونيكولا غوغول ورومانو بيلينشي ومالكوم لوّري. ولا يكتفي فان ستراتن بكشف ظروف ضياعها، بل يجعلنا نغوص ونتخيّل مضمونها بفضل اكتشافات مثيرة وغير متوقّعة حولها، ترافقها قراءة ثاقبة لمسارات أصحابها، المعتمة في معظمها، لتسلّط شبح الانتحار أو عفريت الإدمان أو العُصاب عليها.
الكتاب الأول الذي يفتح هذه المغامرة المشوّقة هو رواية «الجادّة» للكاتب الإيطالي بيلينشي الذي رفض نشرها وهو حيّ نظراً إلى إحتمال أن تجرح بعض تفاصيل قصّتها زوجته الأولى. عملٌ يتّفق جميع الذين قرأوه، وفان ستراتن واحد منهم، بأنه من أفضل ما كتبه بيلينشي. ومع ذلك، أقدمت أرملته على إتلاف مخطوطه الوحيد لاعتقادها أنها بذلك تحترم إرادة زوجها. فعلٌ لا يُغتفَر في نظر فان ستراتن الذي يرى أن على ورثة أي كاتب الاحتفاظ بنصوصه غير المنشورة في مكانٍ آمن وترك مسألة تقرير مصيرها للأجيال اللاحقة. وهذا ما لم تفعله أرملة بيلينشي، مثلها مثل أخت الشاعر الإنكليزي لورد بايرون وبعض أصدقائه الذين أقدموا، إثر اجتماعهم في مكاتب الناشر جون موراي عام 1824، على حرق مذكّرات هذا العملاق، على رغم معارضة صديقه الشاعر توماس مور، مبرّرين فعلتهم بانكشاف ميول بايرون المثلية في هذا المخطوط.
ولكن أي تبرير يمكن أن يتقدّم به زوج سيلفيا بلاث، الشاعر الإنكليزي تد هيوز، الذي يعتقد فان ستراتن بأنه وراء إتلاف أو إخفاء مخطوط رواية «كشف مزدوج» التي لم تفرغ زوجته من كتابتها بسبب انتحارها؟ رواية نعرف اليوم من معطيات عدة متقاطعة أن بلاث روت فيها الفترة الأخيرة من حياتها، وبالتالي ألمها النابع من خيانات زوجها المتكررة لها، وأيضاً من مرض الاكتئاب الذي كان يتربصّ بها. معطيات لا ننعم بمثلها مع الأسف لفكّ لغز المخطوط الذي كان الفيلسوف الألماني والتر بنيامين ينقله في حقيبته السوداء حين عبر الحدود الفرنسية- الإسبانية هرباً من النازيين عام 1940، قبل أن ينتحر بدوره وتتوارى حقيبته وكل محتوياتها. لكنّ فان ستراتن يقترح فرضيات عدة: «لعل الأمر يتعلق بتدوينات كانت ستساعده على متابعة عمله على كتاب «معابر»، أو بنسخة معدّلة من بحثه حول الشاعر بودلير، أو بكتابٍ آخر نجهل كل شيء عنه»، قبل أن يتساءل: «هل من الممنوع أن نأمل بأن يعثر أحدٌ ما على هذه الأوراق، من طريق الصدفة أو البحث الفطِن، ويسمح لنا بقراءتها أخيراً؟».
الجواب عن هذا السؤال هو نعم، في هذه الحالة، وإن كان الأمل ضعيفاً جداً، مثل أمل العثور يوماً على رواية «المسيح» للكاتب البولوني الكبير برونو شولز التي ضاع مخطوطها الوحيد بعد مقتله عام 1942، أو على الحقيبة التي أضاعتها زوجة همنغواي الأولى في قطار عام 1922، وتتضمن كل قصصه الأولى، ما عدا قصّتين كان الكاتب الأميركي قد أرسل نسخة منهما إلى مجلة أدبية.
لكنّ هذا الأمل ينعدم كلياً حين يتعلّق الأمر بالرواية الضخمة الذي وضعها الكاتب الروسي غوغول تكملةً لرواية «النفوس الميتة»، قبل أن يرمي بمخطوطها في النار عام 1852، عشرة أيامٍ قبل وفاته، لعدم رضاه عنها؛ أو بالنسخة الأولى والضخمة (1000 صفحة) من رواية «الإبحار نحو البحر الأبيض» التي كرّس الكاتب البريطاني مالكوم لوّري تسع سنوات من حياته لكتابتها، قبل أن تلتهمها النيران إثر حريقٍ شبّ في كوخٍ كان يملكه في مستعمرة كولومبيا البريطانية.
يبقى أن نشير إلى أن افتتاننا بهذه الكتب الضائعة يعود حتماً إلى استحالة الإمساك بها وقراءتها، وبالتالي إلى الفراغ الذي خلّفته خلفها ويغذّي فينا فكرة أن هذه الكتب هي ربما تلك النصوص الحاسمة، الكاملة، التي لا تُعوَّض. وهذا ما يدفعنا إلى محاولة تخيّل شكلها ومضمونها، وبالتالي إلى إعادة ابتكارها. وبقيامنا بذلك، تحيا هذه الكتب مجدداً فينا، فيصبح بإمكاننا أن نقول، تماماً مثل مارسيل بروست وزمنه الضائع، إننا عثرنا عليها.
ثمة كتب نحدس بأنها سترضي فضولنا الأدبي ما إن يقع نظرنا على عنوانها، ولا تخيّب حدسنا حين ننطلق في قراءتها، بل تجعلنا نتمنّى لو أنها لا تنتهي. هذا ما ينتظرنا في «كتاب الكتب الضائعة» الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية، بعد أشهر قليلة على صدوره في روما. يدعونا صاحبه، الكاتب الإيطالي جورجيو فان ستراتن، إلى سفرٍ مثير نتقفّى خلاله آثار ثمانية كتب ضائعة. كتب أسطورية بالغموض الذي يلفّ قصّة كلٍّ منها ومضمونه، وحقيقية بقوة مَن جهدوا في البحث عنها، وإن لم يملك أيّ منهم دليلاً أو خريطة ترشدنا إليها.
وتجدر الإشارة بدايةً إلى أن الأمر لا يتعلّق بكتب منسية توارت تدريجاً من ذاكرة مَن قرأها، وبالتالي من تاريخ الأدب. فهذه الكتب يمكن أن نعثر عليها على أحد الرفوف المغبّرة لمكتبة، وأن تحظى بناشر فضولي يرغب في إعادة طبعها. كما لا يتعلّق الأمر بكتبٍ لم تُكتَب لأسباب معيّنة وبقيت منتظَرة على شكل فكرة أو استيهام أو حلم، بل بكتبٍ حقيقية كتبها أصحابها، وإن لم يتمكّنوا أحياناً من إنهائها؛ كُتُب رآها بعضهم، أو حتى قرأها، لكنها توارت لاحقاً أو تم إتلافها.
الأسباب التي أدّت إلى ضياع هذه الكتب متنوّعة، منها وقوعها ضحية عدم رضا أصحابها عنها، لسعيهم خلف كمالٍ يتعذّر غالباً بلوغه. ولكن في حال اقتنعنا برأي هؤلاء الكّتاب ببعض أعمالهم، وبالتالي بقرارهم إتلافها، لاعتقادنا أن قراءتنا لها كانت ستمنحنا الانطباع السلبي نفسه، كيف ننسى تلك النصوص التي أفلتت من إرادة أصحابها المدمِّرة وتبيّن لاحقاً أنها تحف أدبية نادرة، مثل بعض نصوص كافكا؟ وأحياناً، تقف الظروف التاريخية وراء هذا الضياع، كالحرب العالمية الثانية التي لم تترك أهوالها فسحةً في أوروبا من دون أن تطاولها، ما حال دون تمكّن بعض الكتّاب من حفظ مخطوطاتهم في مكانٍ آمن. وأحياناً أخرى، تكون رقابة الأقرباء السبب، لأن الكتاب قد بدا فضائحياً وخطيراً لمَن كان من المفترض أن يحفظه بعد وفاة صاحبه.
ويحدث أن يؤدّي نسيانٌ أو شرودٌ إلى سرقة أو حريق يتلف سنوات طويلة من العمل ويجبر الكاتب على البدء مجدداً من الصفر في مشروعه الكتابي، في حال تمتّع بالعزم للقيام بذلك. يحدث أيضاً أن يقرر ورثة الكاتب إتلاف أحد كتبه لحماية أنفسهم أو أشخاص آخرين يمكن التعرّف إليهم داخله.
في القصص الثماني التي يسردها فان ستراتن في كتابه، نجد أمثلة على كل هذه الحالات التي أدّت في كل مرّة إلى ضياع كتاب مهم. وحين تنكشف لنا أسماء الكتّاب المعنيين بهذه القصص، تتجلى أمامنا قيمة بحثه وحجم ما فقده الأدب وعشّاقه إثر ضياع هذه الأعمال التي كان بإمكانها أن تنير جانباً مخفياً من شخصية أو عمل أصحابها. أعمال تعود إلى والتر بنيامين ولورد بايرون وسيلفيا بلاث وأرنست هامنغوي وبرونو شولز ونيكولا غوغول ورومانو بيلينشي ومالكوم لوّري. ولا يكتفي فان ستراتن بكشف ظروف ضياعها، بل يجعلنا نغوص ونتخيّل مضمونها بفضل اكتشافات مثيرة وغير متوقّعة حولها، ترافقها قراءة ثاقبة لمسارات أصحابها، المعتمة في معظمها، لتسلّط شبح الانتحار أو عفريت الإدمان أو العُصاب عليها.
الكتاب الأول الذي يفتح هذه المغامرة المشوّقة هو رواية «الجادّة» للكاتب الإيطالي بيلينشي الذي رفض نشرها وهو حيّ نظراً إلى إحتمال أن تجرح بعض تفاصيل قصّتها زوجته الأولى. عملٌ يتّفق جميع الذين قرأوه، وفان ستراتن واحد منهم، بأنه من أفضل ما كتبه بيلينشي. ومع ذلك، أقدمت أرملته على إتلاف مخطوطه الوحيد لاعتقادها أنها بذلك تحترم إرادة زوجها. فعلٌ لا يُغتفَر في نظر فان ستراتن الذي يرى أن على ورثة أي كاتب الاحتفاظ بنصوصه غير المنشورة في مكانٍ آمن وترك مسألة تقرير مصيرها للأجيال اللاحقة. وهذا ما لم تفعله أرملة بيلينشي، مثلها مثل أخت الشاعر الإنكليزي لورد بايرون وبعض أصدقائه الذين أقدموا، إثر اجتماعهم في مكاتب الناشر جون موراي عام 1824، على حرق مذكّرات هذا العملاق، على رغم معارضة صديقه الشاعر توماس مور، مبرّرين فعلتهم بانكشاف ميول بايرون المثلية في هذا المخطوط.
ولكن أي تبرير يمكن أن يتقدّم به زوج سيلفيا بلاث، الشاعر الإنكليزي تد هيوز، الذي يعتقد فان ستراتن بأنه وراء إتلاف أو إخفاء مخطوط رواية «كشف مزدوج» التي لم تفرغ زوجته من كتابتها بسبب انتحارها؟ رواية نعرف اليوم من معطيات عدة متقاطعة أن بلاث روت فيها الفترة الأخيرة من حياتها، وبالتالي ألمها النابع من خيانات زوجها المتكررة لها، وأيضاً من مرض الاكتئاب الذي كان يتربصّ بها. معطيات لا ننعم بمثلها مع الأسف لفكّ لغز المخطوط الذي كان الفيلسوف الألماني والتر بنيامين ينقله في حقيبته السوداء حين عبر الحدود الفرنسية- الإسبانية هرباً من النازيين عام 1940، قبل أن ينتحر بدوره وتتوارى حقيبته وكل محتوياتها. لكنّ فان ستراتن يقترح فرضيات عدة: «لعل الأمر يتعلق بتدوينات كانت ستساعده على متابعة عمله على كتاب «معابر»، أو بنسخة معدّلة من بحثه حول الشاعر بودلير، أو بكتابٍ آخر نجهل كل شيء عنه»، قبل أن يتساءل: «هل من الممنوع أن نأمل بأن يعثر أحدٌ ما على هذه الأوراق، من طريق الصدفة أو البحث الفطِن، ويسمح لنا بقراءتها أخيراً؟».
الجواب عن هذا السؤال هو نعم، في هذه الحالة، وإن كان الأمل ضعيفاً جداً، مثل أمل العثور يوماً على رواية «المسيح» للكاتب البولوني الكبير برونو شولز التي ضاع مخطوطها الوحيد بعد مقتله عام 1942، أو على الحقيبة التي أضاعتها زوجة همنغواي الأولى في قطار عام 1922، وتتضمن كل قصصه الأولى، ما عدا قصّتين كان الكاتب الأميركي قد أرسل نسخة منهما إلى مجلة أدبية.
لكنّ هذا الأمل ينعدم كلياً حين يتعلّق الأمر بالرواية الضخمة الذي وضعها الكاتب الروسي غوغول تكملةً لرواية «النفوس الميتة»، قبل أن يرمي بمخطوطها في النار عام 1852، عشرة أيامٍ قبل وفاته، لعدم رضاه عنها؛ أو بالنسخة الأولى والضخمة (1000 صفحة) من رواية «الإبحار نحو البحر الأبيض» التي كرّس الكاتب البريطاني مالكوم لوّري تسع سنوات من حياته لكتابتها، قبل أن تلتهمها النيران إثر حريقٍ شبّ في كوخٍ كان يملكه في مستعمرة كولومبيا البريطانية.
يبقى أن نشير إلى أن افتتاننا بهذه الكتب الضائعة يعود حتماً إلى استحالة الإمساك بها وقراءتها، وبالتالي إلى الفراغ الذي خلّفته خلفها ويغذّي فينا فكرة أن هذه الكتب هي ربما تلك النصوص الحاسمة، الكاملة، التي لا تُعوَّض. وهذا ما يدفعنا إلى محاولة تخيّل شكلها ومضمونها، وبالتالي إلى إعادة ابتكارها. وبقيامنا بذلك، تحيا هذه الكتب مجدداً فينا، فيصبح بإمكاننا أن نقول، تماماً مثل مارسيل بروست وزمنه الضائع، إننا عثرنا عليها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.