رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    رسميا بعد الهبوط الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 23 أغسطس 2025    تشيلسي يكتسح وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي الممتاز    محمد الشناوي خارج مباراة الأهلي وغزل المحلة.. هاني رمزي يكشف السبب    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    ابنة سيد مكاوي عن شيرين عبدالوهاب: فقدت تعاطفي بسبب عدم مسؤوليتها    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    مراسل من دير البلح: المنطقة باتت مستباحة بالكامل تحت نيران الاحتلال    وزير الدفاع الإيراني: صواريخ جديدة برؤوس حربية متطورة لم تُستخدم في حرب ال12 يومًا    استقالة وزير الخارجية الهولندي بسبب موقف بلاده من إسرائيل    تشيلسي يدمر وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي.. فيديو    الحوثيون يعلنون تنفيذ 3 عمليات ضد أهداف في تل أبيب    تنسيق الشهادات المعادلة 2025، قواعد قبول طلاب الثانوية السعودية بالجامعات المصرية    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    أمم إفريقيا للمحليين - المليوي يقود المغرب إلى نصف النهائي.. ومدغشقر تقصي كينيا    فالنسيا من قمم المجد إلى هاوية النسيان.. حين تقودك الإدارة إلى اللعنة    تقرير: ليس فينيسيوس فقط.. أنشيلوتي يستبعد رودريجو من قائمة البرازيل    محمود وفا حكما لمباراة الاتحاد والبنك الأهلى والسيد للإسماعيلى والطلائع    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    سليم غنيم يحافظ على الصدارة للعام الثاني في سباقات الحمام الزاجل الدولية    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    في لحظات.. شقة تتحول إلى ساحة من اللهب والدخان    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    قطع المياه عن بعض المناطق بأكتوبر الجديدة لمدة 6 ساعات    خطة عاجلة لتحديث مرافق المنطقة الصناعية بأبو رواش وتطوير بنيتها التحتية    تحت عنوان كامل العدد، مدحت صالح يفتتح حفله على مسرح المحكي ب "زي ما هي حبها"    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    خيرى حسن ينضم إلى برنامج صباح الخير يا مصر بفقرة أسبوعية على شاشة ماسبيرو    ميرهان حسين جريئة وليلى علوي بإطلالة شبابية.. لقطات نجوم الفن في 24 ساعة    حدث بالفن| أول تعليق من شيرين عبد الوهاب بعد أنباء عودتها ل حسام حبيب وفنان يرفض مصافحة معجبة ونجوم الفن في سهرة صيفية خاصة    المنوفية تقدم أكثر من 2.6 مليون خدمة طبية ضمن حملة 100 يوم صحة    صحة المنوفية تواصل حملاتها بسرس الليان لضمان خدمات طبية آمنة وذات جودة    كتر ضحك وقلل قهوة.. طرق للتخلص من زيادة هرمون التوتر «الكورتيزول»    نجاح عملية جراحية دقيقة لاستئصال ورم ليفي بمستشفى القصاصين فى الإسماعيلية    مقتل عنصر من الأمن السورى فى هجوم انتحارى نفذه "داعش" بدير الزور    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. الدفاع الروسية: سيطرنا على 9 بلدات فى أوكرانيا خلال أسبوع .. وزيرة خارجية سلوفينيا: المجاعة مرحلة جديدة من الجحيم فى غزة.. إسرائيل عطلت 60 محطة تحلية مياه فى غزة    نتيجة تنسيق رياض الأطفال والصف الأول الابتدائي الأزهر الشريف 2025 خلال ساعات.. «رابط مباشر»    أخبار × 24 ساعة.. موعد انطلاق العام الدراسى الجديد بالمدارس الدولية والرسمية    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    ظهور مفاجئ ل «منخفض الهند».. تحذير بشأن حالة الطقس اليوم: القاهرة تُسجل 40 مئوية    القضاء على بؤرة إجرامية خطرة بأشمون خلال تبادل النار مع قوات الشرطة    ضبط 1954 مخالفة ورفع كفاءة طريق «أم جعفر – الحلافي» ورصف شارع الجيش بكفر الشيخ    الزمالك يواصل استعداداته لمواجهة فاركو بتدريبات استشفائية وفنية    محمد طاهر: الكرة من أفضل أدوات التسويق ورعاية للزمالك لدعم الأندية الشعبية    منها الإقلاع عن التدخين.. 10 نصائح للحفاظ على صحة عينيك مع تقدمك فى العمر (تعرف عليها)    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    رئيس جهاز القرى السياحية يلتقي البابا تواضروس الثاني بالعلمين (صور)    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    مصلحة الضرائب تنفي وجود خلاف بين الحكومة وشركات البترول حول ضريبة القيمة المضافة    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب الكتب الضائعة ... بحثاً عن آثار غامضة
نشر في صوت البلد يوم 30 - 12 - 2017

ثمة كتب نحدس بأنها سترضي فضولنا الأدبي ما إن يقع نظرنا على عنوانها، ولا تخيّب حدسنا حين ننطلق في قراءتها، بل تجعلنا نتمنّى لو أنها لا تنتهي. هذا ما ينتظرنا في «كتاب الكتب الضائعة» الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية، بعد أشهر قليلة على صدوره في روما. يدعونا صاحبه، الكاتب الإيطالي جورجيو فان ستراتن، إلى سفرٍ مثير نتقفّى خلاله آثار ثمانية كتب ضائعة. كتب أسطورية بالغموض الذي يلفّ قصّة كلٍّ منها ومضمونه، وحقيقية بقوة مَن جهدوا في البحث عنها، وإن لم يملك أيّ منهم دليلاً أو خريطة ترشدنا إليها.
وتجدر الإشارة بدايةً إلى أن الأمر لا يتعلّق بكتب منسية توارت تدريجاً من ذاكرة مَن قرأها، وبالتالي من تاريخ الأدب. فهذه الكتب يمكن أن نعثر عليها على أحد الرفوف المغبّرة لمكتبة، وأن تحظى بناشر فضولي يرغب في إعادة طبعها. كما لا يتعلّق الأمر بكتبٍ لم تُكتَب لأسباب معيّنة وبقيت منتظَرة على شكل فكرة أو استيهام أو حلم، بل بكتبٍ حقيقية كتبها أصحابها، وإن لم يتمكّنوا أحياناً من إنهائها؛ كُتُب رآها بعضهم، أو حتى قرأها، لكنها توارت لاحقاً أو تم إتلافها.
الأسباب التي أدّت إلى ضياع هذه الكتب متنوّعة، منها وقوعها ضحية عدم رضا أصحابها عنها، لسعيهم خلف كمالٍ يتعذّر غالباً بلوغه. ولكن في حال اقتنعنا برأي هؤلاء الكّتاب ببعض أعمالهم، وبالتالي بقرارهم إتلافها، لاعتقادنا أن قراءتنا لها كانت ستمنحنا الانطباع السلبي نفسه، كيف ننسى تلك النصوص التي أفلتت من إرادة أصحابها المدمِّرة وتبيّن لاحقاً أنها تحف أدبية نادرة، مثل بعض نصوص كافكا؟ وأحياناً، تقف الظروف التاريخية وراء هذا الضياع، كالحرب العالمية الثانية التي لم تترك أهوالها فسحةً في أوروبا من دون أن تطاولها، ما حال دون تمكّن بعض الكتّاب من حفظ مخطوطاتهم في مكانٍ آمن. وأحياناً أخرى، تكون رقابة الأقرباء السبب، لأن الكتاب قد بدا فضائحياً وخطيراً لمَن كان من المفترض أن يحفظه بعد وفاة صاحبه.
ويحدث أن يؤدّي نسيانٌ أو شرودٌ إلى سرقة أو حريق يتلف سنوات طويلة من العمل ويجبر الكاتب على البدء مجدداً من الصفر في مشروعه الكتابي، في حال تمتّع بالعزم للقيام بذلك. يحدث أيضاً أن يقرر ورثة الكاتب إتلاف أحد كتبه لحماية أنفسهم أو أشخاص آخرين يمكن التعرّف إليهم داخله.
في القصص الثماني التي يسردها فان ستراتن في كتابه، نجد أمثلة على كل هذه الحالات التي أدّت في كل مرّة إلى ضياع كتاب مهم. وحين تنكشف لنا أسماء الكتّاب المعنيين بهذه القصص، تتجلى أمامنا قيمة بحثه وحجم ما فقده الأدب وعشّاقه إثر ضياع هذه الأعمال التي كان بإمكانها أن تنير جانباً مخفياً من شخصية أو عمل أصحابها. أعمال تعود إلى والتر بنيامين ولورد بايرون وسيلفيا بلاث وأرنست هامنغوي وبرونو شولز ونيكولا غوغول ورومانو بيلينشي ومالكوم لوّري. ولا يكتفي فان ستراتن بكشف ظروف ضياعها، بل يجعلنا نغوص ونتخيّل مضمونها بفضل اكتشافات مثيرة وغير متوقّعة حولها، ترافقها قراءة ثاقبة لمسارات أصحابها، المعتمة في معظمها، لتسلّط شبح الانتحار أو عفريت الإدمان أو العُصاب عليها.
الكتاب الأول الذي يفتح هذه المغامرة المشوّقة هو رواية «الجادّة» للكاتب الإيطالي بيلينشي الذي رفض نشرها وهو حيّ نظراً إلى إحتمال أن تجرح بعض تفاصيل قصّتها زوجته الأولى. عملٌ يتّفق جميع الذين قرأوه، وفان ستراتن واحد منهم، بأنه من أفضل ما كتبه بيلينشي. ومع ذلك، أقدمت أرملته على إتلاف مخطوطه الوحيد لاعتقادها أنها بذلك تحترم إرادة زوجها. فعلٌ لا يُغتفَر في نظر فان ستراتن الذي يرى أن على ورثة أي كاتب الاحتفاظ بنصوصه غير المنشورة في مكانٍ آمن وترك مسألة تقرير مصيرها للأجيال اللاحقة. وهذا ما لم تفعله أرملة بيلينشي، مثلها مثل أخت الشاعر الإنكليزي لورد بايرون وبعض أصدقائه الذين أقدموا، إثر اجتماعهم في مكاتب الناشر جون موراي عام 1824، على حرق مذكّرات هذا العملاق، على رغم معارضة صديقه الشاعر توماس مور، مبرّرين فعلتهم بانكشاف ميول بايرون المثلية في هذا المخطوط.
ولكن أي تبرير يمكن أن يتقدّم به زوج سيلفيا بلاث، الشاعر الإنكليزي تد هيوز، الذي يعتقد فان ستراتن بأنه وراء إتلاف أو إخفاء مخطوط رواية «كشف مزدوج» التي لم تفرغ زوجته من كتابتها بسبب انتحارها؟ رواية نعرف اليوم من معطيات عدة متقاطعة أن بلاث روت فيها الفترة الأخيرة من حياتها، وبالتالي ألمها النابع من خيانات زوجها المتكررة لها، وأيضاً من مرض الاكتئاب الذي كان يتربصّ بها. معطيات لا ننعم بمثلها مع الأسف لفكّ لغز المخطوط الذي كان الفيلسوف الألماني والتر بنيامين ينقله في حقيبته السوداء حين عبر الحدود الفرنسية- الإسبانية هرباً من النازيين عام 1940، قبل أن ينتحر بدوره وتتوارى حقيبته وكل محتوياتها. لكنّ فان ستراتن يقترح فرضيات عدة: «لعل الأمر يتعلق بتدوينات كانت ستساعده على متابعة عمله على كتاب «معابر»، أو بنسخة معدّلة من بحثه حول الشاعر بودلير، أو بكتابٍ آخر نجهل كل شيء عنه»، قبل أن يتساءل: «هل من الممنوع أن نأمل بأن يعثر أحدٌ ما على هذه الأوراق، من طريق الصدفة أو البحث الفطِن، ويسمح لنا بقراءتها أخيراً؟».
الجواب عن هذا السؤال هو نعم، في هذه الحالة، وإن كان الأمل ضعيفاً جداً، مثل أمل العثور يوماً على رواية «المسيح» للكاتب البولوني الكبير برونو شولز التي ضاع مخطوطها الوحيد بعد مقتله عام 1942، أو على الحقيبة التي أضاعتها زوجة همنغواي الأولى في قطار عام 1922، وتتضمن كل قصصه الأولى، ما عدا قصّتين كان الكاتب الأميركي قد أرسل نسخة منهما إلى مجلة أدبية.
لكنّ هذا الأمل ينعدم كلياً حين يتعلّق الأمر بالرواية الضخمة الذي وضعها الكاتب الروسي غوغول تكملةً لرواية «النفوس الميتة»، قبل أن يرمي بمخطوطها في النار عام 1852، عشرة أيامٍ قبل وفاته، لعدم رضاه عنها؛ أو بالنسخة الأولى والضخمة (1000 صفحة) من رواية «الإبحار نحو البحر الأبيض» التي كرّس الكاتب البريطاني مالكوم لوّري تسع سنوات من حياته لكتابتها، قبل أن تلتهمها النيران إثر حريقٍ شبّ في كوخٍ كان يملكه في مستعمرة كولومبيا البريطانية.
يبقى أن نشير إلى أن افتتاننا بهذه الكتب الضائعة يعود حتماً إلى استحالة الإمساك بها وقراءتها، وبالتالي إلى الفراغ الذي خلّفته خلفها ويغذّي فينا فكرة أن هذه الكتب هي ربما تلك النصوص الحاسمة، الكاملة، التي لا تُعوَّض. وهذا ما يدفعنا إلى محاولة تخيّل شكلها ومضمونها، وبالتالي إلى إعادة ابتكارها. وبقيامنا بذلك، تحيا هذه الكتب مجدداً فينا، فيصبح بإمكاننا أن نقول، تماماً مثل مارسيل بروست وزمنه الضائع، إننا عثرنا عليها.
ثمة كتب نحدس بأنها سترضي فضولنا الأدبي ما إن يقع نظرنا على عنوانها، ولا تخيّب حدسنا حين ننطلق في قراءتها، بل تجعلنا نتمنّى لو أنها لا تنتهي. هذا ما ينتظرنا في «كتاب الكتب الضائعة» الذي صدرت ترجمته الفرنسية حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية، بعد أشهر قليلة على صدوره في روما. يدعونا صاحبه، الكاتب الإيطالي جورجيو فان ستراتن، إلى سفرٍ مثير نتقفّى خلاله آثار ثمانية كتب ضائعة. كتب أسطورية بالغموض الذي يلفّ قصّة كلٍّ منها ومضمونه، وحقيقية بقوة مَن جهدوا في البحث عنها، وإن لم يملك أيّ منهم دليلاً أو خريطة ترشدنا إليها.
وتجدر الإشارة بدايةً إلى أن الأمر لا يتعلّق بكتب منسية توارت تدريجاً من ذاكرة مَن قرأها، وبالتالي من تاريخ الأدب. فهذه الكتب يمكن أن نعثر عليها على أحد الرفوف المغبّرة لمكتبة، وأن تحظى بناشر فضولي يرغب في إعادة طبعها. كما لا يتعلّق الأمر بكتبٍ لم تُكتَب لأسباب معيّنة وبقيت منتظَرة على شكل فكرة أو استيهام أو حلم، بل بكتبٍ حقيقية كتبها أصحابها، وإن لم يتمكّنوا أحياناً من إنهائها؛ كُتُب رآها بعضهم، أو حتى قرأها، لكنها توارت لاحقاً أو تم إتلافها.
الأسباب التي أدّت إلى ضياع هذه الكتب متنوّعة، منها وقوعها ضحية عدم رضا أصحابها عنها، لسعيهم خلف كمالٍ يتعذّر غالباً بلوغه. ولكن في حال اقتنعنا برأي هؤلاء الكّتاب ببعض أعمالهم، وبالتالي بقرارهم إتلافها، لاعتقادنا أن قراءتنا لها كانت ستمنحنا الانطباع السلبي نفسه، كيف ننسى تلك النصوص التي أفلتت من إرادة أصحابها المدمِّرة وتبيّن لاحقاً أنها تحف أدبية نادرة، مثل بعض نصوص كافكا؟ وأحياناً، تقف الظروف التاريخية وراء هذا الضياع، كالحرب العالمية الثانية التي لم تترك أهوالها فسحةً في أوروبا من دون أن تطاولها، ما حال دون تمكّن بعض الكتّاب من حفظ مخطوطاتهم في مكانٍ آمن. وأحياناً أخرى، تكون رقابة الأقرباء السبب، لأن الكتاب قد بدا فضائحياً وخطيراً لمَن كان من المفترض أن يحفظه بعد وفاة صاحبه.
ويحدث أن يؤدّي نسيانٌ أو شرودٌ إلى سرقة أو حريق يتلف سنوات طويلة من العمل ويجبر الكاتب على البدء مجدداً من الصفر في مشروعه الكتابي، في حال تمتّع بالعزم للقيام بذلك. يحدث أيضاً أن يقرر ورثة الكاتب إتلاف أحد كتبه لحماية أنفسهم أو أشخاص آخرين يمكن التعرّف إليهم داخله.
في القصص الثماني التي يسردها فان ستراتن في كتابه، نجد أمثلة على كل هذه الحالات التي أدّت في كل مرّة إلى ضياع كتاب مهم. وحين تنكشف لنا أسماء الكتّاب المعنيين بهذه القصص، تتجلى أمامنا قيمة بحثه وحجم ما فقده الأدب وعشّاقه إثر ضياع هذه الأعمال التي كان بإمكانها أن تنير جانباً مخفياً من شخصية أو عمل أصحابها. أعمال تعود إلى والتر بنيامين ولورد بايرون وسيلفيا بلاث وأرنست هامنغوي وبرونو شولز ونيكولا غوغول ورومانو بيلينشي ومالكوم لوّري. ولا يكتفي فان ستراتن بكشف ظروف ضياعها، بل يجعلنا نغوص ونتخيّل مضمونها بفضل اكتشافات مثيرة وغير متوقّعة حولها، ترافقها قراءة ثاقبة لمسارات أصحابها، المعتمة في معظمها، لتسلّط شبح الانتحار أو عفريت الإدمان أو العُصاب عليها.
الكتاب الأول الذي يفتح هذه المغامرة المشوّقة هو رواية «الجادّة» للكاتب الإيطالي بيلينشي الذي رفض نشرها وهو حيّ نظراً إلى إحتمال أن تجرح بعض تفاصيل قصّتها زوجته الأولى. عملٌ يتّفق جميع الذين قرأوه، وفان ستراتن واحد منهم، بأنه من أفضل ما كتبه بيلينشي. ومع ذلك، أقدمت أرملته على إتلاف مخطوطه الوحيد لاعتقادها أنها بذلك تحترم إرادة زوجها. فعلٌ لا يُغتفَر في نظر فان ستراتن الذي يرى أن على ورثة أي كاتب الاحتفاظ بنصوصه غير المنشورة في مكانٍ آمن وترك مسألة تقرير مصيرها للأجيال اللاحقة. وهذا ما لم تفعله أرملة بيلينشي، مثلها مثل أخت الشاعر الإنكليزي لورد بايرون وبعض أصدقائه الذين أقدموا، إثر اجتماعهم في مكاتب الناشر جون موراي عام 1824، على حرق مذكّرات هذا العملاق، على رغم معارضة صديقه الشاعر توماس مور، مبرّرين فعلتهم بانكشاف ميول بايرون المثلية في هذا المخطوط.
ولكن أي تبرير يمكن أن يتقدّم به زوج سيلفيا بلاث، الشاعر الإنكليزي تد هيوز، الذي يعتقد فان ستراتن بأنه وراء إتلاف أو إخفاء مخطوط رواية «كشف مزدوج» التي لم تفرغ زوجته من كتابتها بسبب انتحارها؟ رواية نعرف اليوم من معطيات عدة متقاطعة أن بلاث روت فيها الفترة الأخيرة من حياتها، وبالتالي ألمها النابع من خيانات زوجها المتكررة لها، وأيضاً من مرض الاكتئاب الذي كان يتربصّ بها. معطيات لا ننعم بمثلها مع الأسف لفكّ لغز المخطوط الذي كان الفيلسوف الألماني والتر بنيامين ينقله في حقيبته السوداء حين عبر الحدود الفرنسية- الإسبانية هرباً من النازيين عام 1940، قبل أن ينتحر بدوره وتتوارى حقيبته وكل محتوياتها. لكنّ فان ستراتن يقترح فرضيات عدة: «لعل الأمر يتعلق بتدوينات كانت ستساعده على متابعة عمله على كتاب «معابر»، أو بنسخة معدّلة من بحثه حول الشاعر بودلير، أو بكتابٍ آخر نجهل كل شيء عنه»، قبل أن يتساءل: «هل من الممنوع أن نأمل بأن يعثر أحدٌ ما على هذه الأوراق، من طريق الصدفة أو البحث الفطِن، ويسمح لنا بقراءتها أخيراً؟».
الجواب عن هذا السؤال هو نعم، في هذه الحالة، وإن كان الأمل ضعيفاً جداً، مثل أمل العثور يوماً على رواية «المسيح» للكاتب البولوني الكبير برونو شولز التي ضاع مخطوطها الوحيد بعد مقتله عام 1942، أو على الحقيبة التي أضاعتها زوجة همنغواي الأولى في قطار عام 1922، وتتضمن كل قصصه الأولى، ما عدا قصّتين كان الكاتب الأميركي قد أرسل نسخة منهما إلى مجلة أدبية.
لكنّ هذا الأمل ينعدم كلياً حين يتعلّق الأمر بالرواية الضخمة الذي وضعها الكاتب الروسي غوغول تكملةً لرواية «النفوس الميتة»، قبل أن يرمي بمخطوطها في النار عام 1852، عشرة أيامٍ قبل وفاته، لعدم رضاه عنها؛ أو بالنسخة الأولى والضخمة (1000 صفحة) من رواية «الإبحار نحو البحر الأبيض» التي كرّس الكاتب البريطاني مالكوم لوّري تسع سنوات من حياته لكتابتها، قبل أن تلتهمها النيران إثر حريقٍ شبّ في كوخٍ كان يملكه في مستعمرة كولومبيا البريطانية.
يبقى أن نشير إلى أن افتتاننا بهذه الكتب الضائعة يعود حتماً إلى استحالة الإمساك بها وقراءتها، وبالتالي إلى الفراغ الذي خلّفته خلفها ويغذّي فينا فكرة أن هذه الكتب هي ربما تلك النصوص الحاسمة، الكاملة، التي لا تُعوَّض. وهذا ما يدفعنا إلى محاولة تخيّل شكلها ومضمونها، وبالتالي إلى إعادة ابتكارها. وبقيامنا بذلك، تحيا هذه الكتب مجدداً فينا، فيصبح بإمكاننا أن نقول، تماماً مثل مارسيل بروست وزمنه الضائع، إننا عثرنا عليها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.