"عندما نفقدُ قدرتنا على كتابة الشعر يعني ذلك أنَّ الحياة أوشكت على الإنتهاء" هذا ماقاله الشاعر الروسي جوزيف برودسكي لمحاوره سولومون فولكوف. لا يمكنُ لشاعر قد حُكِم عليه بالنفي والسجن خارج بلاده لأنَّه أراد أن يُحمِلَ الشعر نفحات أحلامه وهمومه الذاتية رؤية مبرر آخر غير الشعر لإستمرار الحياة، يوجدُ كثير من الأدباء والفلاسفة الذين أثاروا بأفكارهم خوف وقلق السلطة فالبتالي الأمر قد كلفهم ضروباً من المعاناة والمشاكل غير أن ما اتهم به برودسكي قد يكونُ مختلفاً عن كل مرَّ به غيرُه من تجارب قاسية مع الأنظمة التوتاليتارية. حين نقول ذلك لا نتجاهلُ ما رافق قضية برودسكي من مُماحكات أيدولوجية ومناكفات سياسية كما أنَّ الحديث عن موقف برودسكي ورفضه لمشروع تدجين الشعر وأدلجته لا يعني تأييد طرف بعينه بقدر ما هو محاولة لتبيانِ أبدية النزاع بين إرادتين الأولى تُمثلها السلطة تُعاقبُ مَنْ يخرجُ من حظيرتها وما فتئت توصمه بشتى النعوت المُبتذلة بينما الثانية تُحطِمُ خرائط جاهزة ولا تقتنعُ بإملاءات تعكسُ رغبةً لتلوين كل أصوات بلون واحد. شبح ستالين من الواضح بأنَّ برودسكي هو من فئة المُبدعين الذين لا يستسيغون اجترار التعريفات المتداولة لذلك فإن إتهامه بالمروق وتعبئة الجماهير ضده أمرُ متوقع، فقد سبقه إلى هذا المصير الشاعر والروائي بوريس باسترناك عقب إصدار روايته الشهيرة "الدكتور جيفاكو" إذ ما أن أعلن عن فوزه بجائزة نوبل حتى أُرغمَ على رفضها والقول بأنَّ الغرب استغل روايته وأساء استخدامها وفهمها، كما أن جادانوف قد شن حملة ضد الشاعرة آنا أخماتوفا ناعتاً إياها بتوصيفات بذيئة، وغداة موت ستالين قد ساد الإعتقادُ بأنَّ عهد الرقابة المُتشددة قد ولت وستبدأ مرحلة جديدة بعيدة عن مظاهر التحزب والإلتزامات الآيدولوجية لكن ما يُذكرُ في الكتاب الموسوم ب "محاكمة برودسكي" مع ما يتبعهُ من عنوان توضيحي (محاكمة شهادات، وثائق، نقد) الصادر مؤخراً من "دار سطور بغداد" شارك في تأليفه عدد من الكُتاب ومن أبرزهم هو إيفيم إيتكند الذي ولد في لينينغراد 1918 وكان عضواً في إتحاد الكُتاب وأستاذ الأدب، يبينُ حجم الخيبة وتلاشي الأمل بالعهد الجديد الذي لم ينحسر فيه الشبح الستاليني. وذلك ما يؤكدهُ رفض خروشوف لرواية "يوم في حياة إيفاندينسيو فيتش" وقصيدة يوفتشنكو "ورثة ستالين" بحجة مخالفة العملين للسلطة، لكنْ تتالت المحاولاتُ وكثرت المبادرات لنشر أعمال ومؤلفات غير مطبوعة بطابع حزبي وتداعت الشعاراتية ولم يَعُدْ الأدبُ والشعر مُكملاً لأهداف سياسية. في هذا المُناخ نشأَ وترعرع جوزيف برودسكي، توافرت العوامل التي غذت نزعاته المُغامرة والمُتمردة، في الخامسة عشرة عبرَّ عن رفضه للنظام القائم ورموزه عندما غادر مقعد الدراسة مُعلناً عدم تحمله لرؤية الرؤوساء في غرفة الصف وما كانت رؤؤس إلا صور قادة الحزب التي تزينُ جدران الصف. كما أدرك مبكراً بأن العمل مع الجمعيات الأدبية مُضيعاً للوقت ولا يجني من ورائه شيأً ونبه الشباب بأن الإنضواء في تلك الجمعيات من شأنه تَعْطِيل مواهبهم وهدر طاقاتهم، لعلَّ طرد والد برودسكي من البحرية ومن ثُم فشل محاولات الإبن للإلتحاق بالسلك نفسه على الرغم من نجاحه وتفوقه في الإختبارات وإستبعاده من المدرسة البحرية لأنَّه من أُصول يهودية ألقى بظلاله على رؤية برودسكي وأصبح أكثر إنطوائياً. عمل لمدةٍ في مصنع لصناعة المدافع وإنصرف فيما بعد إلى صناعة المكائن الزراعية وذلك يعني تمثله لمفهوم البروليتاريا لكن سرعان ما يتحول إلى الشعر الذي كان بالنسبة إليه يعني الأبدية وأخذ بترجمة الشعر من الإنكليزية والهنغارية وإن بدا هذا الموضوع أمراً عادياً وممارسة لرغبة شخصية بيدَ أن للسطات السوفيتية رأياً آخر. المُحاكمة تَحَمَّلَ برودسكي مسؤولية مُغامرته بأنَّ يكون شاعراً غير مُنتمٍ إلى أي رابطة أو جماعة مُعينة حيثُ يُزج به إلى السجن ويحاكمونه على ما ينشروه من القصائد ويوصفُ بالمُتطفل المُثابر وأنَّ شعره يَبُث سموما مشؤومة، يعودُ الفضل في تدوين حيثيات هذه المُحاكمة الساخرة والتراجيدية في آن واحد إلى الصحافية الجريئة فريدا فيغدوروفا، إذ مثلَّ جوزيف برودسكي سنة 1964 أمام الشهود والقاضي مجيباً على الأسئلة الموجهة إليه رافضاً مضمون المقال نشر ضده في صحيفة (لينينغراد المساء) بعنوان (المتطفل الإجتماعي في هامش الأدب) وعندما سُئلَ عن الفوائد التي قدمها للوطن يردُ برودسكي بأنَّه كتب القصائد مُعرباً عن ثقته بأن ألفه سيفيدُ الأجيال القادمة ثُم يستوضحونه عن السبب وراء عدم مزاولته لعمل آخر بجانب كتابة القصائد شأنَّ غيره فكان جوابه بأنَّ الناس لا يتشابهون، أكثر من ذلك يطلبونه بتحديد مساهمته في المسيرة التقدمية نحو الشيوعية يؤكدُ جوزيف برودسكي بأن الشيوعية لا تُبنى من خلال استخدام الجرارات والآلات المكانيكية فقط بل العمل الفكري له دور لا يُستهان به للوصول إلى الشيوعية. وفيما يتعلقُ بالسؤال عن مستقبله المهني فما كان من رده إلا أن قال لمُحلف "أن تعتبر عملي مهنة بين المهن كتابة القصائد بالنسبة لي مهنة" ثمة من بين الشهود من أقرَّ بأن ترجمات برودسكي محترفة بل يتمتعُ بموهبة نادرة لكن معظمَ الشهود جاءت شهاداتهم ضد هذا الشاعر الشاب مُتهمين إياه بالعبثية والخلاعية والسوداوية وبَمُعاداة الإتحاد السوفيتي. يذكرُ إيفيم إيتكند ما أورده ميخائيل كمولوف حول إستنفار الجماهير وإطلاق العنان لشعارات متأججة لغضب الجماهير ضد المُعارضين، الملفت في هذه القضية هو ما يشير إليه مؤلف الكتاب أن ما وقع بالنسبة لباسترناك قد تكرر في مُحاكمة برودسكي فالشهود لم يعرفونه وماكانوا مُطلعين على كتاباته، كما تم تلفيق التقارير المخادعة وأنتسبت إليه قصائدُ هجائية ضد النظام، إلى أن حكم عليه بالسجن والأشغال الشاقة. ومن المصادفات الغريبة أن محاكمة برودسكي أقيمت من مكان على مقربة من المكان الذي أعدم فيه بوشكين، إذاً نفي المتهم بالطفُيلية إلى كونوشا وبعدما يطلقُ سراحه يغادر بلده متوجهاً إلى أميركا لكي ما يتبقي له من العمر وعندما يتوفى أبواه لا تسمحُ السلطات السوفيتية بعودته إلى الوطن. يُذكر أن جوزيف برودسكي ولد في 1940 ب (لينينغراد) ويفوزُ بجائزة نوبل سنة 1987. وصف أعضاء الأكاديمية السويدية شعر برودسكي بأنَّه يتميزُ بكثافة إستثنائية في الحياة والروح والنفس من خلال أفق ثقافي واسع. ومما يقوله صاحب قصيدة "التائهون" في خطاب نوبل "من الأفضل أن أكون معدوماً بين البشر في أمة ديموقراطية على أن أكون شهيداً أو مفكرا في بلد مستبد". وفي ذلك ما ينمُ عن شدة مقته لمصادرة حرية الإنسان وإرادته، قبل موته يوصي برودسكي بدفنه بمدينة البندقية الإيطالية. يشار إلى أن هذا الكتاب يشمل على المقالات والوثائق والحوار مع الشاعر، كما يُقدمُ معلومات وافية عن حالة الأدب في الحقبة الشيوعية. "عندما نفقدُ قدرتنا على كتابة الشعر يعني ذلك أنَّ الحياة أوشكت على الإنتهاء" هذا ماقاله الشاعر الروسي جوزيف برودسكي لمحاوره سولومون فولكوف. لا يمكنُ لشاعر قد حُكِم عليه بالنفي والسجن خارج بلاده لأنَّه أراد أن يُحمِلَ الشعر نفحات أحلامه وهمومه الذاتية رؤية مبرر آخر غير الشعر لإستمرار الحياة، يوجدُ كثير من الأدباء والفلاسفة الذين أثاروا بأفكارهم خوف وقلق السلطة فالبتالي الأمر قد كلفهم ضروباً من المعاناة والمشاكل غير أن ما اتهم به برودسكي قد يكونُ مختلفاً عن كل مرَّ به غيرُه من تجارب قاسية مع الأنظمة التوتاليتارية. حين نقول ذلك لا نتجاهلُ ما رافق قضية برودسكي من مُماحكات أيدولوجية ومناكفات سياسية كما أنَّ الحديث عن موقف برودسكي ورفضه لمشروع تدجين الشعر وأدلجته لا يعني تأييد طرف بعينه بقدر ما هو محاولة لتبيانِ أبدية النزاع بين إرادتين الأولى تُمثلها السلطة تُعاقبُ مَنْ يخرجُ من حظيرتها وما فتئت توصمه بشتى النعوت المُبتذلة بينما الثانية تُحطِمُ خرائط جاهزة ولا تقتنعُ بإملاءات تعكسُ رغبةً لتلوين كل أصوات بلون واحد. شبح ستالين من الواضح بأنَّ برودسكي هو من فئة المُبدعين الذين لا يستسيغون اجترار التعريفات المتداولة لذلك فإن إتهامه بالمروق وتعبئة الجماهير ضده أمرُ متوقع، فقد سبقه إلى هذا المصير الشاعر والروائي بوريس باسترناك عقب إصدار روايته الشهيرة "الدكتور جيفاكو" إذ ما أن أعلن عن فوزه بجائزة نوبل حتى أُرغمَ على رفضها والقول بأنَّ الغرب استغل روايته وأساء استخدامها وفهمها، كما أن جادانوف قد شن حملة ضد الشاعرة آنا أخماتوفا ناعتاً إياها بتوصيفات بذيئة، وغداة موت ستالين قد ساد الإعتقادُ بأنَّ عهد الرقابة المُتشددة قد ولت وستبدأ مرحلة جديدة بعيدة عن مظاهر التحزب والإلتزامات الآيدولوجية لكن ما يُذكرُ في الكتاب الموسوم ب "محاكمة برودسكي" مع ما يتبعهُ من عنوان توضيحي (محاكمة شهادات، وثائق، نقد) الصادر مؤخراً من "دار سطور بغداد" شارك في تأليفه عدد من الكُتاب ومن أبرزهم هو إيفيم إيتكند الذي ولد في لينينغراد 1918 وكان عضواً في إتحاد الكُتاب وأستاذ الأدب، يبينُ حجم الخيبة وتلاشي الأمل بالعهد الجديد الذي لم ينحسر فيه الشبح الستاليني. وذلك ما يؤكدهُ رفض خروشوف لرواية "يوم في حياة إيفاندينسيو فيتش" وقصيدة يوفتشنكو "ورثة ستالين" بحجة مخالفة العملين للسلطة، لكنْ تتالت المحاولاتُ وكثرت المبادرات لنشر أعمال ومؤلفات غير مطبوعة بطابع حزبي وتداعت الشعاراتية ولم يَعُدْ الأدبُ والشعر مُكملاً لأهداف سياسية. في هذا المُناخ نشأَ وترعرع جوزيف برودسكي، توافرت العوامل التي غذت نزعاته المُغامرة والمُتمردة، في الخامسة عشرة عبرَّ عن رفضه للنظام القائم ورموزه عندما غادر مقعد الدراسة مُعلناً عدم تحمله لرؤية الرؤوساء في غرفة الصف وما كانت رؤؤس إلا صور قادة الحزب التي تزينُ جدران الصف. كما أدرك مبكراً بأن العمل مع الجمعيات الأدبية مُضيعاً للوقت ولا يجني من ورائه شيأً ونبه الشباب بأن الإنضواء في تلك الجمعيات من شأنه تَعْطِيل مواهبهم وهدر طاقاتهم، لعلَّ طرد والد برودسكي من البحرية ومن ثُم فشل محاولات الإبن للإلتحاق بالسلك نفسه على الرغم من نجاحه وتفوقه في الإختبارات وإستبعاده من المدرسة البحرية لأنَّه من أُصول يهودية ألقى بظلاله على رؤية برودسكي وأصبح أكثر إنطوائياً. عمل لمدةٍ في مصنع لصناعة المدافع وإنصرف فيما بعد إلى صناعة المكائن الزراعية وذلك يعني تمثله لمفهوم البروليتاريا لكن سرعان ما يتحول إلى الشعر الذي كان بالنسبة إليه يعني الأبدية وأخذ بترجمة الشعر من الإنكليزية والهنغارية وإن بدا هذا الموضوع أمراً عادياً وممارسة لرغبة شخصية بيدَ أن للسطات السوفيتية رأياً آخر. المُحاكمة تَحَمَّلَ برودسكي مسؤولية مُغامرته بأنَّ يكون شاعراً غير مُنتمٍ إلى أي رابطة أو جماعة مُعينة حيثُ يُزج به إلى السجن ويحاكمونه على ما ينشروه من القصائد ويوصفُ بالمُتطفل المُثابر وأنَّ شعره يَبُث سموما مشؤومة، يعودُ الفضل في تدوين حيثيات هذه المُحاكمة الساخرة والتراجيدية في آن واحد إلى الصحافية الجريئة فريدا فيغدوروفا، إذ مثلَّ جوزيف برودسكي سنة 1964 أمام الشهود والقاضي مجيباً على الأسئلة الموجهة إليه رافضاً مضمون المقال نشر ضده في صحيفة (لينينغراد المساء) بعنوان (المتطفل الإجتماعي في هامش الأدب) وعندما سُئلَ عن الفوائد التي قدمها للوطن يردُ برودسكي بأنَّه كتب القصائد مُعرباً عن ثقته بأن ألفه سيفيدُ الأجيال القادمة ثُم يستوضحونه عن السبب وراء عدم مزاولته لعمل آخر بجانب كتابة القصائد شأنَّ غيره فكان جوابه بأنَّ الناس لا يتشابهون، أكثر من ذلك يطلبونه بتحديد مساهمته في المسيرة التقدمية نحو الشيوعية يؤكدُ جوزيف برودسكي بأن الشيوعية لا تُبنى من خلال استخدام الجرارات والآلات المكانيكية فقط بل العمل الفكري له دور لا يُستهان به للوصول إلى الشيوعية. وفيما يتعلقُ بالسؤال عن مستقبله المهني فما كان من رده إلا أن قال لمُحلف "أن تعتبر عملي مهنة بين المهن كتابة القصائد بالنسبة لي مهنة" ثمة من بين الشهود من أقرَّ بأن ترجمات برودسكي محترفة بل يتمتعُ بموهبة نادرة لكن معظمَ الشهود جاءت شهاداتهم ضد هذا الشاعر الشاب مُتهمين إياه بالعبثية والخلاعية والسوداوية وبَمُعاداة الإتحاد السوفيتي. يذكرُ إيفيم إيتكند ما أورده ميخائيل كمولوف حول إستنفار الجماهير وإطلاق العنان لشعارات متأججة لغضب الجماهير ضد المُعارضين، الملفت في هذه القضية هو ما يشير إليه مؤلف الكتاب أن ما وقع بالنسبة لباسترناك قد تكرر في مُحاكمة برودسكي فالشهود لم يعرفونه وماكانوا مُطلعين على كتاباته، كما تم تلفيق التقارير المخادعة وأنتسبت إليه قصائدُ هجائية ضد النظام، إلى أن حكم عليه بالسجن والأشغال الشاقة. ومن المصادفات الغريبة أن محاكمة برودسكي أقيمت من مكان على مقربة من المكان الذي أعدم فيه بوشكين، إذاً نفي المتهم بالطفُيلية إلى كونوشا وبعدما يطلقُ سراحه يغادر بلده متوجهاً إلى أميركا لكي ما يتبقي له من العمر وعندما يتوفى أبواه لا تسمحُ السلطات السوفيتية بعودته إلى الوطن. يُذكر أن جوزيف برودسكي ولد في 1940 ب (لينينغراد) ويفوزُ بجائزة نوبل سنة 1987. وصف أعضاء الأكاديمية السويدية شعر برودسكي بأنَّه يتميزُ بكثافة إستثنائية في الحياة والروح والنفس من خلال أفق ثقافي واسع. ومما يقوله صاحب قصيدة "التائهون" في خطاب نوبل "من الأفضل أن أكون معدوماً بين البشر في أمة ديموقراطية على أن أكون شهيداً أو مفكرا في بلد مستبد". وفي ذلك ما ينمُ عن شدة مقته لمصادرة حرية الإنسان وإرادته، قبل موته يوصي برودسكي بدفنه بمدينة البندقية الإيطالية. يشار إلى أن هذا الكتاب يشمل على المقالات والوثائق والحوار مع الشاعر، كما يُقدمُ معلومات وافية عن حالة الأدب في الحقبة الشيوعية.