القاهرة الإخبارية: تصاعد أعمدة الدخان من قلب وزارة الدفاع الاسرائيلية في تل أبيب    خوسيه ريبيرو.. قادرون على إيقاف خطورة ميسي وأعددنا أنفسنا جيدا لهذه المباراة    تشكيل الأهلي المتوقع لمواجهة إنتر ميامي في كأس العالم للأندية    معاذ: جماهير الزمالك كلمة السر في التتويج ب كأس مصر    الآن.. موعد نتيجة الدبلومات الفنية 2025 برقم الجلوس وخطوات الاستعلام الرسمي    اعرف رد محافظ الإسكندرية على جزار يبيع كيلو اللحمة ب700 جنيه.. فيديو وصور    رئيس جامعة سوهاج في ضيافة شيخ الأزهر بساحة آل الطيب    القناة 13: إصابة 5 إسرائيليين جراء الهجوم الصاروخي الإيراني الأخير    الجبهة الداخلية الإسرائيلية: تفعيل صفارات الإنذار في إيلات    مندوب أميركا أمام الأمم المتحدة: نسعى لحل دبلوماسي يمنع إيران من امتلاك سلاح نووي    فرنسا تحذر مواطنيها من السفر إلى الشرق الأوسط    إيران: الهجمات الصاروخية على إسرائيل تضمنت للمرة الأولى إطلاقات من غواصة    استهداف مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية فى تل أبيب.. فيديو    إنفانتينو: بطولة كأس العالم للأندية ستكون لحظة تاريخية فى كرة القدم    الدبيكي: إعتماد إتفاقية «المخاطر البيولوجية» إنتصار تاريخي لحماية العمال    هل تتأثر قناة السويس بالصراع الإسرائيلي الإيراني؟.. الحكومة ترد    حدث منتصف الليل| خطة الحكومة لتأمين الغاز والكهرباء.. وهبوط 5 رحلات اضطراريا بمطار شرم الشيخ    كأس العالم للأندية، ملعب هارد روك جاهز لمباراة الأهلي وإنتر ميامي (صور)    ريبيرو يوجه رسالة حاسمة بشأن مراقبة ميسي.. ويشعل حماس لاعبي الأهلي «فيديو»    كوكا: من الصعب إيقاف ميسي.. ولن ألعب في مصر لغير الأهلي    ميسي يتوعد: كأس العالم للأندية فرصة لصناعة التاريخ مع إنتر ميامي    مؤتمر أخبار اليوم العقاري.. «رواد القطاع العقاري يضعون خارطة طريق لمستقبل الصناعة»    الجنح تسدل الستار في قضية انفجار خط الغاز.. اليوم    صفارات الإنذار تدوي في عدة مناطق إسرائيلية بعد اختراق طائرات مسيرة لأجواء تل أبيب    مصرع فتاة سقطت من الطابق السادس بسوهاج    "زهقت منه".. حكاية عاطل أشعل النيران في شقة والده بالطالبية    قبل وفاته مع «حذيفة».. «محمود» يروي لحظات الرعب والانفجار ب خط غاز طريق الواحات: «عينيا اسودّت والعربية ولّعت»    ضبط عاطل وراء إشعال النار بشقة والده في الطالبية    «النقابات الفنية» تشيد بجهود المصرية في بغداد في دعم إلهام شاهين    مراسل برنامج الحكاية: فوجئنا بوجود أجانب على كارتة الاسماعيلية    اليوم، نظر دعوى وقف تنفيذ قرار إغلاق بيوت وقصور الثقافة    تامر عاشور يظهر بعكاز فى حفل الكويت.. صور    كاتب سياسي: رد إيران يشمل مئات الصواريخ الباليستية لم تشهد تل أبيب مثيل لها    ما حكم أداء النافلة بين الصلاتين عند جمع التقديم؟    «الإفتاء» توضح كيفية الطهارة عند وقوع نجاسة ولم يُعرَف موضعها؟    7 خطوات أساسية من المنزل لخفض ضغط الدم المرتفع    احذرها.. 4 أطعمة تدمر نومك في الليل    «تضامن الدقهلية» تطلق قافلة عمار الخير لتقديم العلاج بالمجان    أطباء بالمنيا يسطرون ملحمة إنسانية داخل غرفة العمليات وينقذون مريضة ووليدها    «الأهلي في حتة عاشرة».. محمد الغزاوي يرد على المنتقدين    حركات متصاعدة في بيت المال.. حظ برج القوس اليوم 14 يونيو    محمد صبري: شيكابالا من أساطير الزمالك وله الحرية في تحديد موعد اعتزاله    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 14 يونيو 2025    سعر الذهب اليوم السبت 14 يونيو محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الارتفاع الكبير (تفاصيل)    تراجع سعر طن الحديد الاستثمارى وعز وارتفاع الأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 14 يونيو 2025    مصرع عاملين وإصابة 12 آخرين في انقلاب ميكروباص بالعياط    بعد نصف قرن على رحيلها.. صوت أم كلثوم يفتتح تتر مسلسل «فات الميعاد»    طوارئ نووية محتملة.. السعودية توضح: لا مواد مشعة في مياه المملكة    إجازة رأس السنة الهجرية للموظفين والمدارس في مصر رسميًا (الموعد والتفاصيل)    نائب رئيس جامعة القاهرة يتفقد امتحانات الفرقة الأولى بطب قصر العيني (صور)    رسالة ماجستير فى كينيا تناقش مفهوم الخطايا عند المسلمين والمسيحيين.. بعض الخطايا لا نتغاضى عن الاعتراف بها.. ويحب على الجميع مواجهتها    علامات إذا ظهرت على طفلك يجب الانتباه لها    خطيب المسجد النبوي: الرحمة صفة تختص بالله يرحم بها البر والفاجر والمؤمن والكافر    مطار شرم الشيخ يستقبل رحلات محوّلة من الأردن بعد إغلاق مجالات جوية مجاورة    خطباء المساجد بشمال سيناء يدعون للوقوف صفا واحدا خلف القيادة السياسية    بعثة حج الجمعيات الأهلية تنظم زيارات الروضة الشريفة    قفزة في الاستثمارات العامة بالمنوفية ب2.8 مليار جنيه في موازنة 2024/2025    الدولار الأمريكي يرتفع متأثرا بالضربة الإسرائيلية على إيران    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السياسة والعمارة .. في مقر الحكم في مصر
نشر في صوت البلد يوم 26 - 11 - 2017

يبين كتاب "مقر الحكم في مصر .. السياسة والعمارة" للدكتور خالد عزب – والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب - أن عمارة مقر الحكم تعد مؤشرًا على التغيرات التي تحدث في طبيعة الحكم في مصر، وتعكس طبيعة المجتمع والمتغيرات الحادثة فيه، فلا شك أن مصر في عصر إسماعيل تغيرت، كنتيجة طبيعية للتعليم الذي اندمج فيه من اقتنع من المصريين بأهميته، بل تدافع إليه بعضُهم لإحساسهم بأنه يحدث حراكا اجتماعيا لهم. هذا كان من مؤشراته صعود استخدام اللغة العربية على حساب اللغة التركية كلغةٍ للتعليم ثم كلغةٍ رسميةٍ للدولة، أضف إلى ذلك ظهور الصحافة بقوة كمؤثر في تشكيل الوعي والرأي العام، والمدقق بقوة في صحافة عصر إسماعيل سيجد انتقاداتٍ تُوجه له، وضد الوجود الأجنبي المستنزف لثروات مصر والمصريين، خاصةً من بعض الأفاقين الأجانب الذين جاءوا للحصول على امتيازات دون أن يقدموا شيئًا.
إنَّ ما حرصت عليه أسرةُ محمد علي هو إيجاد هرمية محددة للمدارس من الأولية إلى العليا، هذه البنية كانت ضروريةً لتخريج نوعية جديدة من موظفي الدولة يلبون متطلباتها، لكن في نفس الوقت يتم زرع الولاء عبر النظام والتربية في هذه البنية لأسرة محمد علي. هذا يذكرنا بما قام به ولاةُ مصر الإسلامية حين فتحوا جامع عمرو بن العاص ليكون جامعةً علمية، والفاطميون الأزهرَ ليكون جامعةً علمية، والأيوبيون والمماليك المدارس لتكون أداةً لتحالفهم مع رجال الدين مع إدماج بعض خريجي هذه المدارس في السلطة لتلبية احتياجاتها من الموظفين، فكان منهم من تولى ديوان الإنشاء ومنهم من تولى الوزارة، واستمر هذا في العصر العثماني، إلا أن عصر محمد علي كان مختلفًا لتطور الدولة وحاجتها إلى موظفين لتلبية هذا التطور.
تطور العمارة
كان تطور أشكال العمارة في مصر من عصر الولاة إلى عصر محمد علي نمطيًّا، لم يخرج عن أطره المحددة، إلا أنه شهد مع أول محاولة للاستقلال عن سلطة الخلافة العباسية شخصية تحاول أن تبلور عمارة مصرية، وإن تأثرت بالعراق في القطائع التي لم يبق منها سوى جامع أحمد بن طولون كأعظم وأقدم أثر شبه متكامل في مصر، إلا أننا نرى بوضوح مع الدولة الفاطمية شخصية معمارية لمصر تتشكل، لكن لم يظهر بمصر طراز معماري فريد متميز إلا في العصر المملوكي، حتى صرنا نراه في المآذن والمساجد والمدارس والقصور، وبلغ ذروتَه في منشأة السلطان حسن بميدان القلعة، وفي مدرسة السلطان قايتباي بصحراء المماليك، وفي العصر العثماني كانت هناك عمارة تعبر عن سلطة الوافد (مسجد سليمان بالقلعة ومسجد الملكة صفية) وهي مساجد صممت في إستنبول، غير أن مصرَ ظلت محتفظةً بالروح المملوكية في عمارتها، وإن دخلت نصوص تركية على كتابات هذه العمائر، هذا يعبر عن أن الوجود العثماني في مصر لم يكن قويًا قابضًا على كل شيء، لقد استطاع المصريون إيجاد مساحة ما بعيدًا عن سلطة إستنبول، أتاحت لهم درجةً من درجات الروح المصرية.
أما في عصر أسرة محمد علي، فقد بات الوضع مختلفًا، إذ أن تأثر المصريين بالعمارة العثمانية أصبح أقوى، نتيجةً لاستقدام محمد علي لمهندسين من الأناضول أو شرق أوروبا، يظهر هذا بوضوح في قصر الجوهرة وقصر شبرا ومسجده، بينما في عصر خلفائه، وضح أن المهندسين المصريين والأوروبيين الذين عملوا في مصر كانوا أكثر تأثيرًا إلى حد أن وجه العاصمة بات وكأنه أوروبي، حتى إن إلياس الأيوبي يذكر "أن صنعة عمل المشربيات والتفنن فيها أخذا يزولان شيئًا فشيئًا، وتحل محلهما الصنعة على الطراز الغربي، حتى أصبح ثمن العينة فقط من الصنعة القديمة أغلى مما كان ثمن الشباك كله في عهد علي بك الكبير ومحمد بك أبي الذهب، وكذلك بات شأن التذويق التنميق في داخل المنازل والقصور، فإن الذوق والصنعة زالا منهما، وحل الذوق والصنعة الغربية".
لكن كانت أسرة محمد علي مدركةً أن التراث العربي الإسلامي المعماري يربط هذه الأسرةَ بالوطن الذي يحكموه، لذا نرى قصورهم تزينها الكتابات العربية، وخاصةً في قاعة العرش التي اكتسبت طابعًا عربيًّا صرفًا، كذلك فإنَّ الطبقة الوسطى المرتبطة بأسرة محمد علي على الرغم من تشييدها فيلات على الطراز الغربي في حي الحلمية الجديدة، ففي السلاملك الملحق بهذه الفيلات استخدمت حواجز من الخشب الخرط أو رواشن، هذا المزج سرعان ما اختفى إلا نادرًا كما في حي جاردن سيتي أوائل القرن العشرين، ليقوم جدل معماري مصري بين إعادة إنتاج العمارة الإسلامية في صورة معاصرة في عدد من البنايات كنقابة الأطباء وجمعية المهندسين ووزارة الأوقاف وبناية دار الكتب المصرية، وبين الحداثة المعمارية في مبنى وزارة الاتصالات، أو استدعاء التأثر بالعمارة اليونانية الرومانية الممتزجة بالحداثة في دار القضاء العالي أو جامعة القاهرة.
العمارة هنا ليست مباني، بل تعبير عن صراع هوية وصراع فكري في المجتمع المصري، وفي النهاية لم يستطع المعماريون المصريون إبراز تمايز معماري مصري عن الآخر أيًا كان، هذا ما يؤكد إشكالية الهوية المعمارية في مصر، ولعل هذا يفسر الراحة النفسية بصورة أو بأخرى لدى المصريين تجاه قصر الاتحادية كمقر رئاسي منذ عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، فسور القصر المغلف بالكتابات العربية وطرز الواجهات المستوحى من شموخ العمارة المملوكية، وهيبة القصر المعمارية المعبرة عن عظمة وقوة الدولة، جعلته يرسخ في ذهن المصريين كقصر رئاسي لمصر.
أنماط وتقاليد اجتماعية
إذن العمارة تعكس تغيرا في الأنماط والتقاليد الاجتماعية، فالمصريون كانت غرف منازلهم متعددة الوظائف، فهي أماكن للاستقبال والطعام والنوم، لكن مع عصر أسرة محمد علي، خاصة منذ عصر إسماعيل، بدأت تغيرات تطرأ على المجتمع، انعكست على الأثاث وتصميمات المنزل، فقد أدخل إسماعيل عادات معيشية غربية، حملت الكثير منهم، على أن يستبدلوا ما كانوا عليه – كأجدادهم – من طرق الجلوس وأكل ونوم واستقبال الضيوف، بطرق جلوس الغربيين وأكلهم ونومهم واستقبالهم لضيوفهم، عملًا بالقول الشائع "الناس على دين ملوكهم".
هذا أدى إلى أن تصبح لكل غرفة وظيفة واحدة، وظهرت تبعًا لذلك أنماط جديدة من صناعة الأثاث. لكن هذا أدى أيضًا إلى بدء اختفاء وتضاؤل وظيفة بعض الأبنية، فمع دخول خطوط المياه القاهرةَ في عصر إسماعيل تضاءلت تدريجيًّا بنايات الأسبلة وأهميتها، هذا يقودنا لعامل التكنولوجيا والمبتكرات الحديثة التي لها تأثير ليس على العمارة فقط، بل على السلوك العام للمجتمع، فالعربات التي تجرها الخيول انتشرت في مصر، لكن ظهور الترام والسيارات أدى إلى توسع القاهرة شرقًا، حتى باتت صحراء شرق القاهرة ذات قيمة كبيرة جذبت سراة مصر، من هنا نستطيع أن نفسر تشييد السلطان حسين قصرًا له في مصر الجديدة. هنا يتحرر المصريون نتيجة سهولة وسرعة الحركة بالسيارة مع بدايات القرن العشرين من فكرة العيش إلى جوار السلطة بحكم الوظيفة أو الارتباط العضوي، ليذهبوا إلى مصر الجديدة ثم مدينة نصر، ويتحركوا عبر شوارع المدينة، حتى صار السكن في أطراف المدينة للأثرياء وليس للفقراء (القاهرة الجديدة مثلًا).
ومع التحول للنمط المعاصر لتركيبة السلطة وتقليص قبضة الحاكم الذي كان يظن أن هناك رعية تابعة له، إلى شعب يأتي بالحاكم، والذي يبدأ تدريجيًّا في التنازل عبر عقود عن السلطة المطلقة، نرى أن أدوات الرقابة بدءًا من مجلس شورى النواب تولد لدينا من عصر إسماعيل بناية البرلمان، التي أخذت بُعدًا آخر بعد ثورة 1919 مع الملكية شبه الدستورية في مصر، في افتتاح بناية البرلمان الجديدة المعبرة عن سلطة الشعب عبر البرلمان، ثم الحاجة إلى بناء قوي لدواوين الوزارات ورئاسة الوزارة، لتظهر بنية مختلفة للسلطة تتوزع من خلالها، وإن كان هناك شيء كان في مصر تجاه رأس السلطة يعطيها قوة القرار.
إن العمارة الإسلامية اعتمدت بصورة كبيرة على تعزيز الداخل على حساب الخارج وعلى مبدأ الخصوصية المطلقة، لكن مع التغير في أنماط العمارة، صار الخارج واجهات غير معبرة أحيانًا عن التركيب الداخلي، فالأعمدة الزخرفية على واجهات البنايات الأوروبية الطراز لا تقدم وظيفة بل تقدم شكلًا زخرفيًّا، في حين كانت المشربيات والكوابيل الحاملة والأبواب كلها تعبر عن وظائف الداخل، لكن في عمارة القاهرة مع نهاية القرن التاسع عشر، اختفى المدخل المنكسر في العمارة القاهرية، هذا المدخل الذي كان يفصل تمامًا الداخلَ عن الخارج، ويعطي فرصةً لأهل المنزل للتستر من الغرباء، لنجد أن المداخل المباشرة إلى وسط الفيلا أو الشقة السكنية هي العلامة البارزة.
لكن مع نهايات القرن العشرين بدأت الأنماط السكنية تفضل تطوير نوع ما من الخصوصية بعزل غرف السكن بعيدًا عن مناطق الاستقبال، كمطلب اجتماعي. هل هيبة العمارة، لاسيما العمارة السلطة، أمر أساسي؟ في حقيقة الأمر، إنَّ هذه الهيبة أساسية، ونتوقف هنا عند استقبالات سلاطين المماليك السفراء، سواء في ميدان القلعة أو في إيوانها الكبير أو في الحوش السلطاني.
كان كل السفراء يكتبون تقارير تعضد هيبة هذه الدولة، وتركيبة القلعة كمقر للحكم يضم السلطان وعرشه والدواوين ودار نائب السلطنة والعساكر السلطانية وإسطبلات الخيول جعلت منها نموذجًا مُصغرًا من الدولة تتركز فيه كل قرارات وأدوات الحكم. لكنّ هناك شيئا ما أعاق نمو هذه الدولة، هو رفض التطور، ظهر هذا جليًّا في رفض المماليك استخدام المدافع التي كانت في طور التطور في مصر المملوكيَّة، ورفضهم استخدام البنادق بتوسع، وهو ما كان أحدَ أسباب هزيمة السلطان الغوري وطومان باي أمام العثمانيين.
إن فكرة الوقوف عند الفارس، التي تعود إلى عصر الحروب الصليبية، لم تعد هي مقياس العصور اللاحقة، لذا فإنَّ محمد علي حين أدمج المصريين في الجيش، وجنَّدهم في إطار نظامي يضمن له الولاء ولأسرته، أوجد مساحة لنقل مقر الحكم من الحصن المنيع، حيث يحتمي الحاكم من ثورات الشعب ومن انقلاب جنوده عليه، إلى المدينة الشاسعة، فسكن في طرفها الشمالي في شبرا شبه منعزل عن المدينة. وبمرور الوقت أصبحت القصور الملكية مندمجةً مع المدينة العاصمة، خاصةً عندما أدرك إسماعيل المتغيرات في بنية المجتمع المصري، وحينما أرادت النخبة المصرية نصيبها في السلطة في ظل وعيها السياسي المتنامي، فأصبحت النظارات تقوم بعمل ما، تطور مع الزمن لتترسخ الدولة المعاصرة في أُطر جديدة. إذن الوقوف هنا ضد التطور يسقط الدولة، بينما التفاعل مع المستجدات يجدد دمها.
يبين كتاب "مقر الحكم في مصر .. السياسة والعمارة" للدكتور خالد عزب – والصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب - أن عمارة مقر الحكم تعد مؤشرًا على التغيرات التي تحدث في طبيعة الحكم في مصر، وتعكس طبيعة المجتمع والمتغيرات الحادثة فيه، فلا شك أن مصر في عصر إسماعيل تغيرت، كنتيجة طبيعية للتعليم الذي اندمج فيه من اقتنع من المصريين بأهميته، بل تدافع إليه بعضُهم لإحساسهم بأنه يحدث حراكا اجتماعيا لهم. هذا كان من مؤشراته صعود استخدام اللغة العربية على حساب اللغة التركية كلغةٍ للتعليم ثم كلغةٍ رسميةٍ للدولة، أضف إلى ذلك ظهور الصحافة بقوة كمؤثر في تشكيل الوعي والرأي العام، والمدقق بقوة في صحافة عصر إسماعيل سيجد انتقاداتٍ تُوجه له، وضد الوجود الأجنبي المستنزف لثروات مصر والمصريين، خاصةً من بعض الأفاقين الأجانب الذين جاءوا للحصول على امتيازات دون أن يقدموا شيئًا.
إنَّ ما حرصت عليه أسرةُ محمد علي هو إيجاد هرمية محددة للمدارس من الأولية إلى العليا، هذه البنية كانت ضروريةً لتخريج نوعية جديدة من موظفي الدولة يلبون متطلباتها، لكن في نفس الوقت يتم زرع الولاء عبر النظام والتربية في هذه البنية لأسرة محمد علي. هذا يذكرنا بما قام به ولاةُ مصر الإسلامية حين فتحوا جامع عمرو بن العاص ليكون جامعةً علمية، والفاطميون الأزهرَ ليكون جامعةً علمية، والأيوبيون والمماليك المدارس لتكون أداةً لتحالفهم مع رجال الدين مع إدماج بعض خريجي هذه المدارس في السلطة لتلبية احتياجاتها من الموظفين، فكان منهم من تولى ديوان الإنشاء ومنهم من تولى الوزارة، واستمر هذا في العصر العثماني، إلا أن عصر محمد علي كان مختلفًا لتطور الدولة وحاجتها إلى موظفين لتلبية هذا التطور.
تطور العمارة
كان تطور أشكال العمارة في مصر من عصر الولاة إلى عصر محمد علي نمطيًّا، لم يخرج عن أطره المحددة، إلا أنه شهد مع أول محاولة للاستقلال عن سلطة الخلافة العباسية شخصية تحاول أن تبلور عمارة مصرية، وإن تأثرت بالعراق في القطائع التي لم يبق منها سوى جامع أحمد بن طولون كأعظم وأقدم أثر شبه متكامل في مصر، إلا أننا نرى بوضوح مع الدولة الفاطمية شخصية معمارية لمصر تتشكل، لكن لم يظهر بمصر طراز معماري فريد متميز إلا في العصر المملوكي، حتى صرنا نراه في المآذن والمساجد والمدارس والقصور، وبلغ ذروتَه في منشأة السلطان حسن بميدان القلعة، وفي مدرسة السلطان قايتباي بصحراء المماليك، وفي العصر العثماني كانت هناك عمارة تعبر عن سلطة الوافد (مسجد سليمان بالقلعة ومسجد الملكة صفية) وهي مساجد صممت في إستنبول، غير أن مصرَ ظلت محتفظةً بالروح المملوكية في عمارتها، وإن دخلت نصوص تركية على كتابات هذه العمائر، هذا يعبر عن أن الوجود العثماني في مصر لم يكن قويًا قابضًا على كل شيء، لقد استطاع المصريون إيجاد مساحة ما بعيدًا عن سلطة إستنبول، أتاحت لهم درجةً من درجات الروح المصرية.
أما في عصر أسرة محمد علي، فقد بات الوضع مختلفًا، إذ أن تأثر المصريين بالعمارة العثمانية أصبح أقوى، نتيجةً لاستقدام محمد علي لمهندسين من الأناضول أو شرق أوروبا، يظهر هذا بوضوح في قصر الجوهرة وقصر شبرا ومسجده، بينما في عصر خلفائه، وضح أن المهندسين المصريين والأوروبيين الذين عملوا في مصر كانوا أكثر تأثيرًا إلى حد أن وجه العاصمة بات وكأنه أوروبي، حتى إن إلياس الأيوبي يذكر "أن صنعة عمل المشربيات والتفنن فيها أخذا يزولان شيئًا فشيئًا، وتحل محلهما الصنعة على الطراز الغربي، حتى أصبح ثمن العينة فقط من الصنعة القديمة أغلى مما كان ثمن الشباك كله في عهد علي بك الكبير ومحمد بك أبي الذهب، وكذلك بات شأن التذويق التنميق في داخل المنازل والقصور، فإن الذوق والصنعة زالا منهما، وحل الذوق والصنعة الغربية".
لكن كانت أسرة محمد علي مدركةً أن التراث العربي الإسلامي المعماري يربط هذه الأسرةَ بالوطن الذي يحكموه، لذا نرى قصورهم تزينها الكتابات العربية، وخاصةً في قاعة العرش التي اكتسبت طابعًا عربيًّا صرفًا، كذلك فإنَّ الطبقة الوسطى المرتبطة بأسرة محمد علي على الرغم من تشييدها فيلات على الطراز الغربي في حي الحلمية الجديدة، ففي السلاملك الملحق بهذه الفيلات استخدمت حواجز من الخشب الخرط أو رواشن، هذا المزج سرعان ما اختفى إلا نادرًا كما في حي جاردن سيتي أوائل القرن العشرين، ليقوم جدل معماري مصري بين إعادة إنتاج العمارة الإسلامية في صورة معاصرة في عدد من البنايات كنقابة الأطباء وجمعية المهندسين ووزارة الأوقاف وبناية دار الكتب المصرية، وبين الحداثة المعمارية في مبنى وزارة الاتصالات، أو استدعاء التأثر بالعمارة اليونانية الرومانية الممتزجة بالحداثة في دار القضاء العالي أو جامعة القاهرة.
العمارة هنا ليست مباني، بل تعبير عن صراع هوية وصراع فكري في المجتمع المصري، وفي النهاية لم يستطع المعماريون المصريون إبراز تمايز معماري مصري عن الآخر أيًا كان، هذا ما يؤكد إشكالية الهوية المعمارية في مصر، ولعل هذا يفسر الراحة النفسية بصورة أو بأخرى لدى المصريين تجاه قصر الاتحادية كمقر رئاسي منذ عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، فسور القصر المغلف بالكتابات العربية وطرز الواجهات المستوحى من شموخ العمارة المملوكية، وهيبة القصر المعمارية المعبرة عن عظمة وقوة الدولة، جعلته يرسخ في ذهن المصريين كقصر رئاسي لمصر.
أنماط وتقاليد اجتماعية
إذن العمارة تعكس تغيرا في الأنماط والتقاليد الاجتماعية، فالمصريون كانت غرف منازلهم متعددة الوظائف، فهي أماكن للاستقبال والطعام والنوم، لكن مع عصر أسرة محمد علي، خاصة منذ عصر إسماعيل، بدأت تغيرات تطرأ على المجتمع، انعكست على الأثاث وتصميمات المنزل، فقد أدخل إسماعيل عادات معيشية غربية، حملت الكثير منهم، على أن يستبدلوا ما كانوا عليه – كأجدادهم – من طرق الجلوس وأكل ونوم واستقبال الضيوف، بطرق جلوس الغربيين وأكلهم ونومهم واستقبالهم لضيوفهم، عملًا بالقول الشائع "الناس على دين ملوكهم".
هذا أدى إلى أن تصبح لكل غرفة وظيفة واحدة، وظهرت تبعًا لذلك أنماط جديدة من صناعة الأثاث. لكن هذا أدى أيضًا إلى بدء اختفاء وتضاؤل وظيفة بعض الأبنية، فمع دخول خطوط المياه القاهرةَ في عصر إسماعيل تضاءلت تدريجيًّا بنايات الأسبلة وأهميتها، هذا يقودنا لعامل التكنولوجيا والمبتكرات الحديثة التي لها تأثير ليس على العمارة فقط، بل على السلوك العام للمجتمع، فالعربات التي تجرها الخيول انتشرت في مصر، لكن ظهور الترام والسيارات أدى إلى توسع القاهرة شرقًا، حتى باتت صحراء شرق القاهرة ذات قيمة كبيرة جذبت سراة مصر، من هنا نستطيع أن نفسر تشييد السلطان حسين قصرًا له في مصر الجديدة. هنا يتحرر المصريون نتيجة سهولة وسرعة الحركة بالسيارة مع بدايات القرن العشرين من فكرة العيش إلى جوار السلطة بحكم الوظيفة أو الارتباط العضوي، ليذهبوا إلى مصر الجديدة ثم مدينة نصر، ويتحركوا عبر شوارع المدينة، حتى صار السكن في أطراف المدينة للأثرياء وليس للفقراء (القاهرة الجديدة مثلًا).
ومع التحول للنمط المعاصر لتركيبة السلطة وتقليص قبضة الحاكم الذي كان يظن أن هناك رعية تابعة له، إلى شعب يأتي بالحاكم، والذي يبدأ تدريجيًّا في التنازل عبر عقود عن السلطة المطلقة، نرى أن أدوات الرقابة بدءًا من مجلس شورى النواب تولد لدينا من عصر إسماعيل بناية البرلمان، التي أخذت بُعدًا آخر بعد ثورة 1919 مع الملكية شبه الدستورية في مصر، في افتتاح بناية البرلمان الجديدة المعبرة عن سلطة الشعب عبر البرلمان، ثم الحاجة إلى بناء قوي لدواوين الوزارات ورئاسة الوزارة، لتظهر بنية مختلفة للسلطة تتوزع من خلالها، وإن كان هناك شيء كان في مصر تجاه رأس السلطة يعطيها قوة القرار.
إن العمارة الإسلامية اعتمدت بصورة كبيرة على تعزيز الداخل على حساب الخارج وعلى مبدأ الخصوصية المطلقة، لكن مع التغير في أنماط العمارة، صار الخارج واجهات غير معبرة أحيانًا عن التركيب الداخلي، فالأعمدة الزخرفية على واجهات البنايات الأوروبية الطراز لا تقدم وظيفة بل تقدم شكلًا زخرفيًّا، في حين كانت المشربيات والكوابيل الحاملة والأبواب كلها تعبر عن وظائف الداخل، لكن في عمارة القاهرة مع نهاية القرن التاسع عشر، اختفى المدخل المنكسر في العمارة القاهرية، هذا المدخل الذي كان يفصل تمامًا الداخلَ عن الخارج، ويعطي فرصةً لأهل المنزل للتستر من الغرباء، لنجد أن المداخل المباشرة إلى وسط الفيلا أو الشقة السكنية هي العلامة البارزة.
لكن مع نهايات القرن العشرين بدأت الأنماط السكنية تفضل تطوير نوع ما من الخصوصية بعزل غرف السكن بعيدًا عن مناطق الاستقبال، كمطلب اجتماعي. هل هيبة العمارة، لاسيما العمارة السلطة، أمر أساسي؟ في حقيقة الأمر، إنَّ هذه الهيبة أساسية، ونتوقف هنا عند استقبالات سلاطين المماليك السفراء، سواء في ميدان القلعة أو في إيوانها الكبير أو في الحوش السلطاني.
كان كل السفراء يكتبون تقارير تعضد هيبة هذه الدولة، وتركيبة القلعة كمقر للحكم يضم السلطان وعرشه والدواوين ودار نائب السلطنة والعساكر السلطانية وإسطبلات الخيول جعلت منها نموذجًا مُصغرًا من الدولة تتركز فيه كل قرارات وأدوات الحكم. لكنّ هناك شيئا ما أعاق نمو هذه الدولة، هو رفض التطور، ظهر هذا جليًّا في رفض المماليك استخدام المدافع التي كانت في طور التطور في مصر المملوكيَّة، ورفضهم استخدام البنادق بتوسع، وهو ما كان أحدَ أسباب هزيمة السلطان الغوري وطومان باي أمام العثمانيين.
إن فكرة الوقوف عند الفارس، التي تعود إلى عصر الحروب الصليبية، لم تعد هي مقياس العصور اللاحقة، لذا فإنَّ محمد علي حين أدمج المصريين في الجيش، وجنَّدهم في إطار نظامي يضمن له الولاء ولأسرته، أوجد مساحة لنقل مقر الحكم من الحصن المنيع، حيث يحتمي الحاكم من ثورات الشعب ومن انقلاب جنوده عليه، إلى المدينة الشاسعة، فسكن في طرفها الشمالي في شبرا شبه منعزل عن المدينة. وبمرور الوقت أصبحت القصور الملكية مندمجةً مع المدينة العاصمة، خاصةً عندما أدرك إسماعيل المتغيرات في بنية المجتمع المصري، وحينما أرادت النخبة المصرية نصيبها في السلطة في ظل وعيها السياسي المتنامي، فأصبحت النظارات تقوم بعمل ما، تطور مع الزمن لتترسخ الدولة المعاصرة في أُطر جديدة. إذن الوقوف هنا ضد التطور يسقط الدولة، بينما التفاعل مع المستجدات يجدد دمها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.