افتتحها وزير التعليم العالي.. أبرز المعلومات عن جامعة كفر الشيخ الأهلية (صور)    هآرتس: نتنياهو يعتزم طرح خطة لضم أجزاء من غزة لإنقاذ حكومته    مقتل شخصين وإصابة آخرين في هجوم طعن في لندن    هل تصدق رواية الزمالك في تقديم لاعبه معالي.. وما علاقة بنشرقي؟ (فيديو)    أول تعليق من محافظ سوهاج على حرائق برخيل (صور)    وزير الثقافة يعزي ويؤازر خالد جلال من كواليس عرض "حواديت" بعد وفاة شقيقه    السيسي يوجه بتوفير الرعاية الصحية اللازمة والاهتمام الطبي الفوري للكابتن حسن شحاتة    عودة انقطاع الكهرباء في مناطق بالجيزة وخروج كابل محطة محولات جزيرة الذهب عن الخدمة    المعمل الجنائي يعاين حريق شقة في المريوطية    رابطة الأندية: بدء عقوبة "سب الدين والعنصرية" فى الدوري بالموسم الجديد    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    الكشف الطبي على 540 مواطنًا بقرية جلبانة ضمن القافلة الطبية لجامعة الإسماعيلية    بمناسبة اليوم العالمي.. التهاب الكبد خطر صامت يمكن تفاديه    قبل عرضه.. تفاصيل فيلم بيج رامى بطولة رامز جلال    نقيب الإعلاميين: كلمة الرئيس السيسي بشأن غزة رد عملي على حملات التضليل    سميرة صدقي: عبلة كامل أفضل فنانة قدمت دور المرأة الشعبية    علاج الحموضة بالأعشاب الطبيعية في أسرع وقت    برومو تشويقى ل مسلسل "ما تراه ليس كما يبدو".. سبع حكايات ومفاجآت غير متوقعة    محافظ جنوب سيناء يتابع تطوير محطة معالجة دهب والغابة الشجرية (صور)    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    رفقة العراق والبحرين .. منتخب مصر في المجموعة الثانية بكأس الخليج للشباب    «المصري اليوم» داخل قطار العودة إلى السودان.. مشرفو الرحلة: «لا رجوع قبل أن نُسلّم أهلنا إلى حضن الوطن»    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    حزب الجيل: السيسي يعيد التأكيد على ثوابت مصر في دعم فلسطين    كم سنويا؟.. طريقة حساب عائد مبلغ 200 ألف جنيه من شهادة ادخار البنك الأهلي    5 شركات تركية تدرس إنشاء مصانع للصناعات الهندسية والأجهزة المنزلية في مصر    تنفيذي الشرقية يكرم أبطال حرب أكتوبر والمتبرعين للصالح العام    هندسة المنوفية الأولى عالميًا في المحاكاة بمسابقة Formula Student UK 2025    ديفيز: سعيد بالعودة للأهلي.. وهذه رسالتي للجماهير    نموذج تجريبي لمواجهة أزمة كثافة الفصول استعدادًا للعام الدراسي الجديد في المنوفية    أمانة الشؤون القانونية المركزية ب"مستقبل وطن" تبحث مع أمنائها بالمحافظات الاستعدادات لانتخابات مجلس الشيوخ 2025    هل ظهور المرأة بدون حجاب أمام رجل غريب ينقض وضوءها؟.. أمينة الفتوى توضح    السفارة الأمريكية: كتائب حزب الله تقف وراء اقتحام مبنى حكومي ببغداد    قنا: القبض على شاب متهم بالاعتداء على طفل داخل منزل أسرته في قرية الدرب بنجع حمادي    محافظ القاهرة يكرم 30 طالبا وطالبة من أوائل الثانوية العامة والمكفوفين والدبلومات الفنية    الحر الشديد خطر صامت.. كيف تؤثر درجات الحرارة المرتفعة على القلب والدماغ؟    وثيقة لتجديد الخطاب الديني.. تفاصيل اجتماع السيسي مع مدبولي والأزهري    توجيهات بترشيد استهلاك الكهرباء والمياه داخل المنشآت التابعة ل الأوقاف في شمال سيناء    12 راحلا عن الأهلي في الانتقالات الصيفية    حملات الدائري الإقليمي تضبط 18 سائقا متعاطيا للمخدرات و1000 مخالفة مرورية    ينطلق غدا.. تفاصيل الملتقى 22 لشباب المحافظات الحدودية ضمن مشروع "أهل مصر"    كريم رمزي: فيريرا استقر على هذا الثلاثي في تشكيل الزمالك بالموسم الجديد    على خلفية وقف راغب علامة.. حفظ شكوى "المهن الموسيقية" ضد 4 إعلاميين    منال عوض تتابع ملفات وزارة البيئة وتبحث تطوير منظومة إدارة المخلفات    تصعيد خطير ضد الوجود المسيحي بفلسطين.. مستوطنون يعتدون على دير للروم الأرثوذكس    أوكرانيا: ارتفاع عدد قتلى وجرحى الجيش الروسي لأكثر من مليون فرد    إطلاق حملة لتعقيم وتطعيم الكلاب الضالة بمدينة العاشر من رمضان (صور)    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    متحدثة الهلال الأحمر الفلسطيني: 133 ضحية للمجاعة فى غزة بينهم 87 طفلًا    رئيس جامعة القاهرة يشهد تخريج الدفعة 97 من الطلاب الوافدين بكلية طب الأسنان    في مستهل زيارته لنيويورك.. وزير الخارجية يلتقي بالجالية المصرية    المجلس الوزاري الأمني للحكومة الألمانية ينعقد اليوم لبحث التطورات المتعلقة بإسرائيل    مفوض حقوق الإنسان يدعو لاتخاذ خطوات فورية لإنهاء الاحتلال من أراضى فلسطين    «تغير المناخ» بالزراعة يزف بشرى سارة بشأن موعد انكسار القبة الحرارية    تعرف على مواعيد مباريات المصري بالدوري خلال الموسم الكروي الجديد    بداية فوضى أم عرض لأزمة أعمق؟ .. لماذا لم يقيل السيسي محافظ الجيزة ورؤساء الأحياء كما فعل مع قيادات الداخلية ؟    بالأسماء.. 5 مصابين في انقلاب سيارة سرفيس بالبحيرة    جامعة العريش تنظم حفلا لتكريم أوائل الخريجين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القرآن والنحو .. متى يلتقيان؟
نشر في صوت البلد يوم 08 - 10 - 2017

أفلح أمهر الناس؛ إحساساً بنبض الألفاظ؛ ودقة جرسها؛ وسلامة إعرابها. فهؤلاء هم معشر الشعراء والأدباء الذين امتلكوا حساسية خاصة إزاء موسيقى النغم القولي والكتابي؛ فلا تطربهم سوى الألفاظ الحالّة في موضعها الذي هي له موضوعة قارّة مستقرة. أما غيرهم؛ ممن امتلكوا عدة الناقد، وبضاعة التاجر؛ وعدِموا سليقة الموهوب الماهر الغوّاص وراء نغم الكلمات؛ واستكناه أسرارها؛ وكشف خبيئها؛ فهم سلالة أخرى؛ لا علاقة لها بكل ما هو وراء النحو؛ من معانٍ تند عن أذهان النحاة غير الموهوبين.
أما النحاة العباقرة؛ فهم في ثلة الأولين لا شلة الآخرين. ذات يوم، مررت بإحدى دور النشر القاهرية؛ فوجدت مجموعة من النحويين يحتربون حول المفعول المطلق؛ فتدخلت أملاً بتخفيف حدة الاحتقان والاشتجار؛ وإسكات المهاترات الناشبة بينهم؛ فذكرت على سبيل الحقيقة، ولكن في قالب الفكاهة والتندر؛ أن قولنا: «خلق الله السماوات»؛ هو مفعول مطلق وليس مفعولاً به؛ فقامت عليَّ قيامة هذا النفر من المشتغلين بالنحو؛ من الذين دخلوا حرمته؛ وهم خلو من المهارة اللغوية الفنية الأدبية. فلما أردتُ الدفاع عن قولي؛ أمطروني وابلاً من السباب والشتائم؛ فضحكت من غيرتهم الجاهلة على العربية المفجوعة في بنيها؛ وأحلتهم إلى عبدالقاهر الجرجاني في «أسرار البلاغة»، وابن الحاجب في أماليه؛ فهذا الرأي لهما؛ فوجموا؛ وأصابهم الخرس.
وحول هذه القضية؛ يقول الدكتور لطفي عبدالبديع في كتابه «التركيب اللغوي للأدب بحث في فلسفة اللغة والاستطيقا»: «وبحسبنا أن نذكر من ذلك خلاف هؤلاء النحاة في المفعول المطلق والمفعول به؛ إذ يرى عبدالقاهر، وابن الحاجب في أماليه؛ أن السماوات في: خلق الله السماوات، وأنشأ العالم، وأوجد الخلق إلى نحو ذلك؛ مفعول مطلق، لا مفعول به؛ وحجتهم على ذلك؛ أن المفعول به فعلاً؛ ما كان موجوداً قبل الفعل الذي عمل فيه؛ ثم أوقع الفاعل به فعلاً.
والمفعول المطلق ما كان العامل فيه هو فعل إيجاده، وأيضاً فالمفعول المطلق ما يقع عليه اسم الفاعل بلا قيد، نحو قولك: ضربت ضرباً، والمفعول به ما لا يقع عليه ذلك إلا مقيداً بقولك به: كضربت علياً. وأنت لو قلت: (السماوات) مفعول كما تقول الضرب مفعول؛ كان صحيحاً، ولو قلت: السماوات مفعول به، كما تقول (علي) مفعول به لم يصح».
إذاً؛ فكيف يفهم أمثال هؤلاء النحاة نصوص التراث في: علوم الأدب، واللغة، والبلاغة، والتاريخ، والحضارة، والفلسفة، والتصوف، والعقائد، والتفسير، والفقه، وأصول الفقه، وعلوم القرآن، والحديث الشريف؛ وهي كلها آية في البلاغة، والفن، والبيان؟ ولا أقول متسائلاً عجباً وفرقاً: وكيف يتجاوبون مع عطاءات لغة القرآن الكريم؛ التي هي؛ فوق نحوهم، وتقعيدهم؛ الذي هو ناقص غير مكتمل؛ فهناك نصوص من لغات العرب ولهجاتها؛ التي هي صحيحة سماعاً وقياساً؛ لكنهم أدبروا عنها؛ بما وضعوه من قواعد لم تستقصِ الظاهرة اللغوية في المجتمع العربي القديم كله حتى عصور الاحتجاج.
ولننظر إلى لغة الكتاب العزيز؛ ففيها ما ضرب عنق القاعدة النحوية؛ وألقى بها إلى حيث التفكير في الإلغاء، أو إعادة البحث والدراسة من جديد بإخلاص وروية؛ فمن ذلك؛ قال تعالى: «لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أُنْزِل إليك وما أُنْزِل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً» (النساء: 162). فجاءت كلمة المقيمين منصوبة، وكان حقها العطف على المرفوع قبلها؛ فخالفت نحو النحاة؛ وعلّل النحاة، وسوَّغوا، وأوَّلوا، وتعسّفوا؛ من أجل الحفاظ على قاعدتهم المقدسة؛ ولو نظروا في اللفظة القرآنية على أنها الأصل في التقعيد وليس بعض لغات قبائل العرب؛ لكان الغَناء والفتح لهم وللعربية. فلماذا جاءت كلمة (المقيمين) منصوبة؟! وأظن؛ والله أعلم؛ أن السياق القرآني يشير إلى ثقل الصلاة على كثير من النفوس في كل الأديان السماوية؛ فنحن الآن نرى كثيراً من المسلمين يصومون مع مشقة الصوم؛ ويدفعون زكواتهم مع حب المال وزينته؛ لكنهم يستشعرون الضعف وعدم استطاعة أداء الصلاة؛ لذلك خصَّ القرآن مَن يؤدون الصلاة بحكم خاص لغة؛ استشعاراً لعظيم أهمية الصلاة في حياة المؤمن؛ فكل العبادات مطلوبة؛ لكن الصلاة هي أم العبادات، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة؛ فلو صلحت صلح سائر العمل، ولو فسدت فسد العمل كله؛ وفق ما يقول الحديث الشريف المشهور. إذاً؛ جاءت كلمة المقيمين مخالفة لما قبلها حكماً نحوياً، وأثراً بلاغياً؛ لمزية فوق النحو والقواعد. فهل فطن هؤلاء النحاة لمراد الشارع الحكيم، ومقصوده اللغوي والديني، أم اكتفوا بالبحث في إثبات قواعدهم العجماء؛ ولو على أكتاف بلاغة كلام الله المعجز؟
وهناك قوله تعالى: «إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله؛ فأولئك مع المؤمنين، وسوف يؤتِ الله المؤمنين أجراً عظيماً» (النساء: 146). ونلحظ أن الفعل (يؤتِ) جاء مجزوماً؛ بلا جازم. وسياق الآيات قبلها يتحدث عن المنافقين الذين لم يتوبوا؛ فلهم الدرك الأسفل من النار؛ أما من تابوا؛ فلهم حكم جديد شرعاً، ولغةً؛ لذلك اختارت لغة القرآن الجزم على الرفع؛ لخصيصة تكمن في الجزم، وهو أن الجواب محكوم بفعل الشرط وحكمه؛ فالمعنى: من تاب واعتصم بالله وأخلص دينه لله؛ فيؤتهِ الله أجراً عظيماً. ولو قلنا على الرفع كمعظم النحاة؛ فما ضرورة حذف الياء؟! ويستحيل أن يكون الحذف لالتقاء الساكنين كما ادعوا؛ فالحكمة البلاغية وراء الحذف الشرطي؛ فليفهم ذلك النحاة. وقوله عزَّ وجلَّ: «اهبطوا مِصْراً؛ فإنَّ لكم ما سألتم» (البقرة: 61). هنا ورد الممنوع من الصرف منوناً؛ فما رد النحاة على ذلك؟ ولو قاله ناثر معاصر؛ لأهالوا على وجهه التراب؛ بحجة الخطأ النحوي! فهل قرأوا القرآن الكريم؛ وعرفوا أن الممنوع من الصرف كغيره من القواعد؛ ليس جامداً؛ يعمل في الفراغ؛ بصورة آلية رتيبة؛ ولكن الضرورة الفنية قد تلجئنا إلى الخروج عن القاعدة النحوية والصرفية؛ لمعانٍ جليلة؛ وفنيات شائقة.
والمعنى هو؛ اذهبوا إلى البلدة المسماة بمصر؛ ففيها ما تريدون من البقول والطعام؛ وليس كما قال أغلب النحاة والمفسرين؛ بأن المقصود هو أي مصر من الأمصار؛ فالتنوين هنا للتعيين والتحديد لا مطلق البلاد؛ وليس لإعنَات بني إسرائيل بالبحث في الأمصار كافة؛ فالمقصود هو مصر؛ تلك البلاد التي يجري فيها نهر النيل؛ فهي مشهورة بزراعة البقوليات المطلوبة، وهي البلاد التي تجاور بيت المقدس.
ولنا في بحث العلامة ابن التلاميذ الشنقيطي التركزي عن صرف لفظة (عمر)؛ وأنها ليست ممنوعة من الصرف؛ لأنها جمع عُمْرة، وليست معدول عامر، كما يقول النحاة؛ ففي هذا البحث الكفاية والغَناء؛ فليرجع إليه متشددو النحو، وقساته؛ فالمعيار في القضية؛ هو لماذا كان الخروج؟ لا الرفض المطلق؛ والاكتفاء بما قاله القدماء؛ كأنه لا ريب فيه، ولا تثريب عليه.
أفلح أمهر الناس؛ إحساساً بنبض الألفاظ؛ ودقة جرسها؛ وسلامة إعرابها. فهؤلاء هم معشر الشعراء والأدباء الذين امتلكوا حساسية خاصة إزاء موسيقى النغم القولي والكتابي؛ فلا تطربهم سوى الألفاظ الحالّة في موضعها الذي هي له موضوعة قارّة مستقرة. أما غيرهم؛ ممن امتلكوا عدة الناقد، وبضاعة التاجر؛ وعدِموا سليقة الموهوب الماهر الغوّاص وراء نغم الكلمات؛ واستكناه أسرارها؛ وكشف خبيئها؛ فهم سلالة أخرى؛ لا علاقة لها بكل ما هو وراء النحو؛ من معانٍ تند عن أذهان النحاة غير الموهوبين.
أما النحاة العباقرة؛ فهم في ثلة الأولين لا شلة الآخرين. ذات يوم، مررت بإحدى دور النشر القاهرية؛ فوجدت مجموعة من النحويين يحتربون حول المفعول المطلق؛ فتدخلت أملاً بتخفيف حدة الاحتقان والاشتجار؛ وإسكات المهاترات الناشبة بينهم؛ فذكرت على سبيل الحقيقة، ولكن في قالب الفكاهة والتندر؛ أن قولنا: «خلق الله السماوات»؛ هو مفعول مطلق وليس مفعولاً به؛ فقامت عليَّ قيامة هذا النفر من المشتغلين بالنحو؛ من الذين دخلوا حرمته؛ وهم خلو من المهارة اللغوية الفنية الأدبية. فلما أردتُ الدفاع عن قولي؛ أمطروني وابلاً من السباب والشتائم؛ فضحكت من غيرتهم الجاهلة على العربية المفجوعة في بنيها؛ وأحلتهم إلى عبدالقاهر الجرجاني في «أسرار البلاغة»، وابن الحاجب في أماليه؛ فهذا الرأي لهما؛ فوجموا؛ وأصابهم الخرس.
وحول هذه القضية؛ يقول الدكتور لطفي عبدالبديع في كتابه «التركيب اللغوي للأدب بحث في فلسفة اللغة والاستطيقا»: «وبحسبنا أن نذكر من ذلك خلاف هؤلاء النحاة في المفعول المطلق والمفعول به؛ إذ يرى عبدالقاهر، وابن الحاجب في أماليه؛ أن السماوات في: خلق الله السماوات، وأنشأ العالم، وأوجد الخلق إلى نحو ذلك؛ مفعول مطلق، لا مفعول به؛ وحجتهم على ذلك؛ أن المفعول به فعلاً؛ ما كان موجوداً قبل الفعل الذي عمل فيه؛ ثم أوقع الفاعل به فعلاً.
والمفعول المطلق ما كان العامل فيه هو فعل إيجاده، وأيضاً فالمفعول المطلق ما يقع عليه اسم الفاعل بلا قيد، نحو قولك: ضربت ضرباً، والمفعول به ما لا يقع عليه ذلك إلا مقيداً بقولك به: كضربت علياً. وأنت لو قلت: (السماوات) مفعول كما تقول الضرب مفعول؛ كان صحيحاً، ولو قلت: السماوات مفعول به، كما تقول (علي) مفعول به لم يصح».
إذاً؛ فكيف يفهم أمثال هؤلاء النحاة نصوص التراث في: علوم الأدب، واللغة، والبلاغة، والتاريخ، والحضارة، والفلسفة، والتصوف، والعقائد، والتفسير، والفقه، وأصول الفقه، وعلوم القرآن، والحديث الشريف؛ وهي كلها آية في البلاغة، والفن، والبيان؟ ولا أقول متسائلاً عجباً وفرقاً: وكيف يتجاوبون مع عطاءات لغة القرآن الكريم؛ التي هي؛ فوق نحوهم، وتقعيدهم؛ الذي هو ناقص غير مكتمل؛ فهناك نصوص من لغات العرب ولهجاتها؛ التي هي صحيحة سماعاً وقياساً؛ لكنهم أدبروا عنها؛ بما وضعوه من قواعد لم تستقصِ الظاهرة اللغوية في المجتمع العربي القديم كله حتى عصور الاحتجاج.
ولننظر إلى لغة الكتاب العزيز؛ ففيها ما ضرب عنق القاعدة النحوية؛ وألقى بها إلى حيث التفكير في الإلغاء، أو إعادة البحث والدراسة من جديد بإخلاص وروية؛ فمن ذلك؛ قال تعالى: «لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أُنْزِل إليك وما أُنْزِل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجراً عظيماً» (النساء: 162). فجاءت كلمة المقيمين منصوبة، وكان حقها العطف على المرفوع قبلها؛ فخالفت نحو النحاة؛ وعلّل النحاة، وسوَّغوا، وأوَّلوا، وتعسّفوا؛ من أجل الحفاظ على قاعدتهم المقدسة؛ ولو نظروا في اللفظة القرآنية على أنها الأصل في التقعيد وليس بعض لغات قبائل العرب؛ لكان الغَناء والفتح لهم وللعربية. فلماذا جاءت كلمة (المقيمين) منصوبة؟! وأظن؛ والله أعلم؛ أن السياق القرآني يشير إلى ثقل الصلاة على كثير من النفوس في كل الأديان السماوية؛ فنحن الآن نرى كثيراً من المسلمين يصومون مع مشقة الصوم؛ ويدفعون زكواتهم مع حب المال وزينته؛ لكنهم يستشعرون الضعف وعدم استطاعة أداء الصلاة؛ لذلك خصَّ القرآن مَن يؤدون الصلاة بحكم خاص لغة؛ استشعاراً لعظيم أهمية الصلاة في حياة المؤمن؛ فكل العبادات مطلوبة؛ لكن الصلاة هي أم العبادات، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة؛ فلو صلحت صلح سائر العمل، ولو فسدت فسد العمل كله؛ وفق ما يقول الحديث الشريف المشهور. إذاً؛ جاءت كلمة المقيمين مخالفة لما قبلها حكماً نحوياً، وأثراً بلاغياً؛ لمزية فوق النحو والقواعد. فهل فطن هؤلاء النحاة لمراد الشارع الحكيم، ومقصوده اللغوي والديني، أم اكتفوا بالبحث في إثبات قواعدهم العجماء؛ ولو على أكتاف بلاغة كلام الله المعجز؟
وهناك قوله تعالى: «إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله؛ فأولئك مع المؤمنين، وسوف يؤتِ الله المؤمنين أجراً عظيماً» (النساء: 146). ونلحظ أن الفعل (يؤتِ) جاء مجزوماً؛ بلا جازم. وسياق الآيات قبلها يتحدث عن المنافقين الذين لم يتوبوا؛ فلهم الدرك الأسفل من النار؛ أما من تابوا؛ فلهم حكم جديد شرعاً، ولغةً؛ لذلك اختارت لغة القرآن الجزم على الرفع؛ لخصيصة تكمن في الجزم، وهو أن الجواب محكوم بفعل الشرط وحكمه؛ فالمعنى: من تاب واعتصم بالله وأخلص دينه لله؛ فيؤتهِ الله أجراً عظيماً. ولو قلنا على الرفع كمعظم النحاة؛ فما ضرورة حذف الياء؟! ويستحيل أن يكون الحذف لالتقاء الساكنين كما ادعوا؛ فالحكمة البلاغية وراء الحذف الشرطي؛ فليفهم ذلك النحاة. وقوله عزَّ وجلَّ: «اهبطوا مِصْراً؛ فإنَّ لكم ما سألتم» (البقرة: 61). هنا ورد الممنوع من الصرف منوناً؛ فما رد النحاة على ذلك؟ ولو قاله ناثر معاصر؛ لأهالوا على وجهه التراب؛ بحجة الخطأ النحوي! فهل قرأوا القرآن الكريم؛ وعرفوا أن الممنوع من الصرف كغيره من القواعد؛ ليس جامداً؛ يعمل في الفراغ؛ بصورة آلية رتيبة؛ ولكن الضرورة الفنية قد تلجئنا إلى الخروج عن القاعدة النحوية والصرفية؛ لمعانٍ جليلة؛ وفنيات شائقة.
والمعنى هو؛ اذهبوا إلى البلدة المسماة بمصر؛ ففيها ما تريدون من البقول والطعام؛ وليس كما قال أغلب النحاة والمفسرين؛ بأن المقصود هو أي مصر من الأمصار؛ فالتنوين هنا للتعيين والتحديد لا مطلق البلاد؛ وليس لإعنَات بني إسرائيل بالبحث في الأمصار كافة؛ فالمقصود هو مصر؛ تلك البلاد التي يجري فيها نهر النيل؛ فهي مشهورة بزراعة البقوليات المطلوبة، وهي البلاد التي تجاور بيت المقدس.
ولنا في بحث العلامة ابن التلاميذ الشنقيطي التركزي عن صرف لفظة (عمر)؛ وأنها ليست ممنوعة من الصرف؛ لأنها جمع عُمْرة، وليست معدول عامر، كما يقول النحاة؛ ففي هذا البحث الكفاية والغَناء؛ فليرجع إليه متشددو النحو، وقساته؛ فالمعيار في القضية؛ هو لماذا كان الخروج؟ لا الرفض المطلق؛ والاكتفاء بما قاله القدماء؛ كأنه لا ريب فيه، ولا تثريب عليه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.