22 يوليو 2025.. أسعار الحديد والأسمنت خلال تعاملات اليوم    جيش الاحتلال الإسرائيلي يقتحم طوباس وطمون شمالي الضفة الغربية    مصرع شخص وإصابة 3 آخرين إثر تصادم سيارتين بطريق المنيا الصحراوي الغربي    أسترازينيكا تعتزم استثمار 50 مليار دولار في أمريكا بحلول 2030    معهد تيودور بلهارس للأبحاث يواصل تقديم برنامج الزمالة المصرية    دراسة: السكريات المضافة والمحليات الصناعية تؤدي للبلوغ المبكر لدى الأطفال    5 قرارات جمهورية حاسمة ينتظرها الشارع المصري    رسميًا ..فتح باب القبول بمعهد الكوزن المصري الياباني لطلاب الإعدادية 2025    خبراء تغذية يحذرون من إعادة تسخين هذه الأطعمة في المصيف.. قد تتحول لسموم صامتة    اليوم.. فتح باب التقديم لكلية الشرطة للعام الدراسي الجديد إلكترونيًا    تنسيق الثانوية العامة 2025.. مؤشرات كليات حاسبات ومعلومات وذكاء اصطناعي 2024 بالدرجات (علمي علوم ورياضة)    سعر الذهب اليوم في السودان وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الثلاثاء 22 يوليو 2025    موقع وزارة التربية والتعليم ل نتيجة الثانوية العامة 2025 برقم الجلوس فور اعتمادها    «أزمات في أوضة اللبس؟».. رد صريح من نجم الأهلي    سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الثلاثاء 22-7-2025 بعد هبوطه ب8 بنوك    النصر يقترب من حسم صفقة مدوية، وإعلامي سعودي: أقسم بالله سيكون حديث الشارع الرياضي    «هل انتهت القصة؟».. جون إدوارد يرفض كل سُبل الاتصال مع نجم الزمالك (تفاصيل)    وسيط كولومبوس ل في الجول: النادي أتم اتفاقه مع الأهلي لشراء وسام أبو علي    «الوزير» ورئيس وزراء الكويت يبحثان تحويل الوديعة الكويتية لاستثمارات في مصر    ترامب: مستعدون لشن ضربات متكررة على المنشآت النووية الإيرانية إذا لزم الأمر    دموع الفراق وفرحة العودة، شاهد ماذا فعل السودانيون بعد وصولهم أسوان قبل العودة لبلادهم (فيديو وصور)    7 أيام عِجاف.. تحذير شديد بشأن حالة الطقس: درجة الحرارة فوق معدلاتها الطبيعية    رانيا محمود ياسين غاضبة: «منفعلتش على أمي.. كنت بدور عليها ومش لاقياها»    العاهل الأردني يؤكد دعم المملكة لأمن سوريا واستقرارها ووحدة أراضيها    جيش الاحتلال: صفارات الإنذار تدوي عقب رصد صاروخ يمني    أجنة على حافة الموت.. تقرير أممي يكشف مأساة الحوامل في غزة    البيت الأبيض: ترامب يسعى إلى حل دبلوماسي لصراعات الشرق الأوسط    يوسف معاطي يكشف سر رفض فيلم "حسن ومرقص" وهذا طلب البابا شنودة للموافقة (فيديو)    مفاجأة مدوية، محمد صلاح يتدخل لانتقال كوكا إلى الأهلي    «انهيار لغوي».. محمد سعيد محفوظ يرصد أخطاء بالجملة في بيان نقابة الموسيقيين ضد راغب علامة    مصطفى كامل يهدد محمود الليثي ورضا البحراوي بالشطب: منصبي لا يقل عن أي وزارة    إيمان العاصي تشارك في «قسمة العدل» والعرض خارج رمضان (تفاصيل)    تامر أمين ل «فشخرنجية الساحل»: التباهي بالثراء حرام شرعا ويزيد الاحتقان المجتمعي    بفرمان من ريبيرو.. تأكد رحيل 5 نجوم عن الأهلي (بالأسماء)    هي دي مصر، رجال الشرطة بأسوان يساعدون النساء وكبار السن السودانيين لتسهيل عودتهم إلى بلادهم (فيديو)    باستثناء الرومي والشيدر، ارتفاع كبير يضرب جميع أصناف الجبن بالأسواق، وصل إلى 37 جنيها    9 اختبارات تؤهلك للالتحاق بكلية الشرطة    طريقة عمل الأرز البسمتي، في خطوات بسيطة وأحلى من الجاهز    موعد مباراة ألمانيا وإسبانيا في نصف نهائي أمم أوروبا للسيدات والقناة الناقلة    سيمون توجّه رسالة حاسمة لجمهورها: لن أعلّق على ما لا يستحق    كيروش تولى قيادة منتخب عربي    بحضور أكثر من 50 ألف.. مستقبل وطن ينظم مؤتمر دعم القائمة الوطنية بمجلس الشيوخ بالشرقية    وصول قطار العائدين السودانيين إلى محطة السد العالي في أسوان    تفسير آية| «أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا» الشعراوي يوضح سر وجود الإنسان وغاية خلقه    لا علاقة له ب العنف الجسدي.. أمين الفتوى يوضح معنى «واضربوهن»    التصريح بدفن جثة ربة منزل لقيت مصرعها خنقًا علي يد زوجها بالقليوبية    مصرع شاب في مشاجرة بين تجار خُردة بالإسماعيلية.. والأمن يُلقي القبض على المتهم    السفيرالمصري ببرلين يدعوا إلي زيارة مصرومشاهدة معالمها الأثرية والتاريخية والسياحية    محافظ شمال سيناء يستقبل وفد من دار الإفتاء المصرية    «خاتم فرعوني» عمره 3500 سنة يُعرض للبيع في مزاد بلندن بسعر بخس    رئيس المجلس الوطني الفلسطيني يرحب ببيان دولي يدعو لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة    "مستقبل وطن" ينظم مؤتمرًا جماهيريًا بالشرقية لدعم مرشحيه في انتخابات الشيوخ    تحذير بشأن حالة الطقس اليوم: منخفض الهند وقبة حرارية في القاهرة والمحافظات    وزير خارجية إيران: منشآتنا النووية تعرضت لأضرار جسيمة لكن لن نتخلى عن التخصيب    انتشال جثة ونقل مُصاب إثر سقوط سيارة نقل من معدية شرق التفريعة ببورسعيد    ماذا قال عن بيان الاتحاد الفلسطيني؟.. وسام أبو علي يعتذر لجماهير الأهلي    ملتقى أزهري يكشف عن مظاهر الإعجاز في حديث القرآن عن الليل والنهار    هل النية شرط لصحة الوضوء؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أحمد عبداللطيف : " حصن التراب" رواية آلام المورسكيين
نشر في صوت البلد يوم 10 - 08 - 2017

الموريسكيون هم أحفاد المسلمين الذين اعتنقوا المسيحية بعد سقوط المملكة الإسلامية وصعود التاج الكاثوليكي للحكم، والذين تم تهجيرهم من إسبانيا قبل أربعة قرون، (بالتحديد في عام 1609)، حين أجبرتهم السلطة على عبور البحر والذهاب إلى دول شمال أفريقيا ليستكملوا حياتهم هُناك في شتات وتمزق أبدي.
هذه المأساة (التهجير)، لم يتناولها المؤرخون بتفاصيلها وعمقها الإنساني لكن الروايات وضعتها في الاعتبار، فحاولت الاقتراب من الموريسكيين واستحضارهم ليحكوا لنا ما حدث وما لم نسمعه من قبل، وهو ما فعله الروائي المصري أحمد عبداللطيف في روايته “حصن التراب”.
أحدهم في الرواية، ويدعى خوان دي مولينا، يخبرنا قائلاً “حيث كانت تنتظرنا المراكب سمعنا من يقول إنهم سيلقون بنا في عرض البحر”، ثم يضيف “إنهم لا ينتقمون منّا نحن فقط بل ينتقمون من البحر أيضاً، وما الفارق بين أن يلقوا بنا في البحر أو أن يلقوا بنا في أرض لا نعرفها ؟”، فعمّن تتحدث الرواية إذن؟ هل عن الموريسكيين وحدهم أم عنّا نحنُ الذين اتخذنا من المراكب أوطاناً بديلة لا تدوم؟
تاريخ مغاير
أحمد عبداللطيف (المولود في عام 1978)، ويعد من الكُتّاب المجددين في فن الرواية وصدرت له من قبل أربع روايات هي “صانع المفاتيح” التي تدرس الآن في قسم الدراسات العربية بجامعة تشارلز بالتشيك، و”عالم المندل”، و”كتاب النحّات”، و”إلياس”.
ترجم عن اللغة الإسبانية العديد من الأعمال المهمة، منها “مسيرة الفيل” و”البصيرة” و”ثورة الأرض” لجوزيه ساراماغو، و”المرأة المهووسة” لخوان مياس، وحاصل على جائزة الدولة المصرية التشجيعية في الرواية عام 2011، وجائزة المركز القومي للترجمة عام 2013، والمركز الأول لجائزة ساويرس الثقافية في الرواية لعام 2015.
لا يعرف عبداللطيف لماذا كتب عن الموريسكيين دون غيرهم، ولا يعرف أيضاً لماذا تأخر في الكتابة عنهم مع أنه يتتبع خطاهم منذ أكثر من عشرين عاماً حين درس تاريخهم بالجامعة واطلع على أدبهم وحضارتهم.
وقال :حين تستحوذ فكرةٌ على عقل الكاتب تظل تطارده في منامه وصحوه إلى أن تكتمل وتنضج، وأنا أشعر بأن الرواية كانت تُكتب بداخلي دون أن أنتبه، فبعد انتهائي من دراستي التي كانت في تخصص اللغة الإسبانية والتي تضمنت بطبيعة الحال دراسة تاريخ الأندلس، وجدتني أفتشُ -أينما ذهبت- عن الكتب التي تتحدث عن الموريسكيين كي أكوّن صورةً واضحةً عن حياتهم وطبيعتهم، وقرأت نحو مئة مرجع معظمها مكتوب باللغة الإسبانية، أما المراجع العربية فكانت قليلة ونادرة، وكان ذلك مهماً كي أتجنب ما كُتب وأتناول القضية من وجهات نظر مختلفة”.
ومنحت رواية “حصن التراب” للموريسكيين الذين واجهوا بأنفسهم التعذيب والاضطهاد الديني الفرصة لأن يكتبوا تاريخهم الذي لا يشبه التاريخ المعروف، فالتاريخ دائماً ما يروي الأحداث والوقائع ويدوّن أسماء القادة المنتصرين والمهزومين، لكنه نادراً ما يروي حكايات البشر، ونادراً ما يضع أصابعه على ما أصاب أرواحهم وجعلهم أمواتًا إلى الأبد، “وهنا يأتي دور الخيال الذي ببصيرته يستدعي ما حدث ويقول ما لم يجرؤ أحدٌ على قوله”.
ومن خلال عائلة محمد دي مولينا الموريسكية، نعرف ما الذي يمكن أن يُصيب المرء بالضبط حين يُنتزع من أرضه مثل نبتة، “نبتة أصروا على أن تعيش بشروط التربة الجديدة دون أن يدركوا أن الماء على كثرته عندما يُصبُ في غير مكانه يَصبُ في غير هدفه”.
وأوضح عبداللطيف “كان يهمني أن أكتب رواية بعيدة عن الطرح الموثق، أن أكتب رواية الناس العاديين الذين نسيهم التاريخ وكمم أفواههم، أن أكتب عن الذين عذبتهم الهوية، تلك الهوية التي أراها الشيء الصادق الوحيد، والتي تجري في دمائنا ونورثها لأبنائنا وأحفادنا، وهي التي جعلت الموريسكيين يتمنون لو يدفنوا فقط في أراضيهم”.
وقال “الهوية التي تدفعنا إلى الحلم، حلم العودة، فالموريسكيون يشبهوننا كثيراً، يشبهون الفلسطينيين والسوريين والمسيحيين المصريين وكل من تم تهجيره وسُلبت منه هويته وحياته وأرضه”.
وأضاف “حين نسترجع اليوم قضية الموريسكيين نسترجع معها كل القضايا المتعلقة بالتطرف الديني الذي لم يكن في عمقه دينياً إنما سياسياً، صحيح أن محاكم التفتيش التي تعرض لها الموريسكيون كانت لأسباب دينية لا منطقية، ومن بينها اتهامهم بإدعاء اعتناق المسيحية، وعدم شرب الخمر، ورفضهم أكل لحم الخنزير، إلا أن التخوف الحقيقي الذي كان لدى السلطة هو احتمالية تحالف الموريسكيين مع الدولة العثمانية لغزو إسبانيا، لكن هذا لم يحدث، فلم يثبت التاريخ أن الموريسكيين كانت لهم علاقة بالعثمانيين، أو أنهم كانوا يريدون أن يصيروا عرباً، وذلك لأنهم كانوا منتمين فعلاً إلى بلدهم وهويتهم الإسبانية”.
القتل باسم الدين
تطرح رواية “حصن التراب” عدة تساؤلات تشغل بال كل منّا ونحملها معنا على مر المآسي والسنين ولم نجد إجابة لها رغم كل ما حدث وكل ما سيحدث: “ما السبب – إن كان ثمة سبب- للقتل باسم الله؟ باسم الدين؟ وهل هو فعلًا قتل باسم الله أم باسم الملك أم باسم الأراضي والبيوت أم باسم الكراهية؟ لماذا تريد أن أشبهك لتقبلني؟ لماذا تشغل نفسك بهدايتي، وباقتيادي للجنة، وبتطهير روحي؟”.
لم يكن لدى الموريسكيين أي مشكلة في البقاء تحت حكم التاج الكاثوليكي والتعايش مع المسيحيين كما تعايشوا معهم قبل سقوط غرناطة عام 1492م، وكان ذلك أحد البنود التي اتفق عليها أبوعبدالله الصغير (آخر ملوك الأندلس) مع القشتاليين حين قام بتسليمهم مفاتيح غرناطة، أن يظل الموريسكيون في إسبانيا وأن يمارسوا شعائرهم بحرية، لكن بعد عشر سنوات تم نقض العهد، وخُيروا -عام 1502م- بين التخلي عن دينهم أو التهجير، كما مُورست عليهم أبشع أنواع القهر والتعذيب والتمييز الطائفي، فقط لكونهم مسلمين، أو بالأحرى لكونهم “أقلية”.
ويرى عبداللطيف أن على إسبانيا الاعتراف بإساءتها للموريسكيين لأن مثل هذه المراجعات هي التي تبني مبادئ الإنسانية وتصحح أخطاءنا وتجعلنا نتفادى الصراع الأزلي بين الأوروبيين والعرب، بين الأكثرية والأقلية، بين البيض والسود، بين الرجل والمرأة.
وتابع “بعيداً عن أن قضية الموريسكيين قضية مهمة، وبعيداً عن أنني مهتم بكتابة رواية جمالية فنية بها عناصر جديدة ومغايرة، إلا أن الرواية تسعى في الأساس إلى تفكيك التاريخ الرسمي الثابت، لذا لا يمكن قراءتها إلا على أرضية أنها رواية تنتمي إلى ما بعد الحداثة، بمعنى أنه ليست هناك حقيقة مطلقة وأن لا أحد يعطي أحداً الحقيقة وإنما يجب أن نسعى نحن إليها، وقد يصل كل منّا إلى حقيقة تخصه هو وحده لأنه لا يوجد تاريخ واحد إنما ‘تاريخات' عديدة”.
ولا تطمح “حصن التراب” إذن إلى أن تكون كتاباً تاريخياً أو مرجعاً أو وثيقة، ورغم أن العائلة التي تتحدث الرواية عنها اسمها حقيقي إلا أن أوراق أفرادها ومخطوطاتهم ليست حقيقية، وذلك لأنه لا أحد يعرف إلى أين ذهبت حكاياتهم التي دوّنوها، حيث كانوا يخبئون أوراقهم في جدران بيوتهم حتى لا تحصل عليها السلطة التي ألزمتهم بالنوم وأبوابهم مفتوحة كي تراقبهم لتعرف ما إذا كانوا مسيحيين مخلصين أم لا.
وأشار عبداللطيف إلى أنه “حين سافرت إلى إسبانيا، زرتُ بعض المدن التي عاش فيها الموريسكيون، مثل: غرناطة وقرطبة وإشبيلية، واطلعتُ على محاكم التفتيش التي استعنتُ ببعضها في الرواية، لكنني لم أحصل على أوراقٍ تخصهم، لذا قررت أن أكتب يومياتهم التي فقدوها، أن أكتب ما كانوا يريدون أن يكتبوه، وأن أجعل لعائلة محمد دي مولينا نسلاً جديداً”.
وجاءت اليوميات -التي تم تدوينها في عام ونصف العام- مُرهفة وتعكس هشاشة الإنسان وحكمته في آن واحد، وقد بدا ذلك من السطر الأول في الرواية والذي فاحت منه رائحة الموت، إنه الموت الذي تعامل معه الموريسكيون على أنه محور الحياة، بل هو الحياة ذاتها، وأحد أبطال الرواية يقول: “أعلم أن الحياة حفرات وكل منّا يختار حفرته التي تسع جسده”.
كل شيء حولهم إذن كان يصل بهم إلى الموت، وكل حلم كان يُفسر على أنه الموت، وكل شعور ينتابهم يدل على أنهم صاروا أمواتًا، تحولهم إلى حجارة، ومن حجارة إلى تماثيل، ثم سقوط أذرعهم وتبدل أجسادهم بأجساد لا يعرفونها، أليس كل ذلك هو الموت؟
ولذا كان طبيعياً أن تأتي لغة “حصن التراب” شاعرية، فكل نص فيها يصلح لأن يكون قصيدة، حيث تعمد الروائي أن يستخدم تقنيات في الكتابة توضح حالة الالتباس والتوتر التي طغت على أبطاله جراء ما تعرضوا له، مثل تكرار الكلمات والعبارات الذي لم يكن هدفه التوكيد بل الإنكار وعدم تصديق ما يحدث، أيضًا كانت إزالة الفواصل واستبدالها بالنقاط الكثيرة هدفها لا أن يلتقط القارئ أنفاسه بل ليلتقط الأبطال أنفاسهم المفقودة.
وأوضح عبداللطيف في حواره “لا أميل في أعمالي إلى فصل الشكل (اللغة) عن المضمون (الحكاية)، أريد دائماً أن يعرف القارئ من خلال الاستعارات المستخدمة أن ثمة مأساة وآلامًا كثيرة سيقابلها في طريقه، كما أنني أرى أن لكل رواية لغتها التي تفرضها على كاتبها، ومع الموريسكيين آثرت استخدام المجاز كي أتسلل إلى دواخلهم ومشاعرهم”.
الموريسكيون هم أحفاد المسلمين الذين اعتنقوا المسيحية بعد سقوط المملكة الإسلامية وصعود التاج الكاثوليكي للحكم، والذين تم تهجيرهم من إسبانيا قبل أربعة قرون، (بالتحديد في عام 1609)، حين أجبرتهم السلطة على عبور البحر والذهاب إلى دول شمال أفريقيا ليستكملوا حياتهم هُناك في شتات وتمزق أبدي.
هذه المأساة (التهجير)، لم يتناولها المؤرخون بتفاصيلها وعمقها الإنساني لكن الروايات وضعتها في الاعتبار، فحاولت الاقتراب من الموريسكيين واستحضارهم ليحكوا لنا ما حدث وما لم نسمعه من قبل، وهو ما فعله الروائي المصري أحمد عبداللطيف في روايته “حصن التراب”.
أحدهم في الرواية، ويدعى خوان دي مولينا، يخبرنا قائلاً “حيث كانت تنتظرنا المراكب سمعنا من يقول إنهم سيلقون بنا في عرض البحر”، ثم يضيف “إنهم لا ينتقمون منّا نحن فقط بل ينتقمون من البحر أيضاً، وما الفارق بين أن يلقوا بنا في البحر أو أن يلقوا بنا في أرض لا نعرفها ؟”، فعمّن تتحدث الرواية إذن؟ هل عن الموريسكيين وحدهم أم عنّا نحنُ الذين اتخذنا من المراكب أوطاناً بديلة لا تدوم؟
تاريخ مغاير
أحمد عبداللطيف (المولود في عام 1978)، ويعد من الكُتّاب المجددين في فن الرواية وصدرت له من قبل أربع روايات هي “صانع المفاتيح” التي تدرس الآن في قسم الدراسات العربية بجامعة تشارلز بالتشيك، و”عالم المندل”، و”كتاب النحّات”، و”إلياس”.
ترجم عن اللغة الإسبانية العديد من الأعمال المهمة، منها “مسيرة الفيل” و”البصيرة” و”ثورة الأرض” لجوزيه ساراماغو، و”المرأة المهووسة” لخوان مياس، وحاصل على جائزة الدولة المصرية التشجيعية في الرواية عام 2011، وجائزة المركز القومي للترجمة عام 2013، والمركز الأول لجائزة ساويرس الثقافية في الرواية لعام 2015.
لا يعرف عبداللطيف لماذا كتب عن الموريسكيين دون غيرهم، ولا يعرف أيضاً لماذا تأخر في الكتابة عنهم مع أنه يتتبع خطاهم منذ أكثر من عشرين عاماً حين درس تاريخهم بالجامعة واطلع على أدبهم وحضارتهم.
وقال :حين تستحوذ فكرةٌ على عقل الكاتب تظل تطارده في منامه وصحوه إلى أن تكتمل وتنضج، وأنا أشعر بأن الرواية كانت تُكتب بداخلي دون أن أنتبه، فبعد انتهائي من دراستي التي كانت في تخصص اللغة الإسبانية والتي تضمنت بطبيعة الحال دراسة تاريخ الأندلس، وجدتني أفتشُ -أينما ذهبت- عن الكتب التي تتحدث عن الموريسكيين كي أكوّن صورةً واضحةً عن حياتهم وطبيعتهم، وقرأت نحو مئة مرجع معظمها مكتوب باللغة الإسبانية، أما المراجع العربية فكانت قليلة ونادرة، وكان ذلك مهماً كي أتجنب ما كُتب وأتناول القضية من وجهات نظر مختلفة”.
ومنحت رواية “حصن التراب” للموريسكيين الذين واجهوا بأنفسهم التعذيب والاضطهاد الديني الفرصة لأن يكتبوا تاريخهم الذي لا يشبه التاريخ المعروف، فالتاريخ دائماً ما يروي الأحداث والوقائع ويدوّن أسماء القادة المنتصرين والمهزومين، لكنه نادراً ما يروي حكايات البشر، ونادراً ما يضع أصابعه على ما أصاب أرواحهم وجعلهم أمواتًا إلى الأبد، “وهنا يأتي دور الخيال الذي ببصيرته يستدعي ما حدث ويقول ما لم يجرؤ أحدٌ على قوله”.
ومن خلال عائلة محمد دي مولينا الموريسكية، نعرف ما الذي يمكن أن يُصيب المرء بالضبط حين يُنتزع من أرضه مثل نبتة، “نبتة أصروا على أن تعيش بشروط التربة الجديدة دون أن يدركوا أن الماء على كثرته عندما يُصبُ في غير مكانه يَصبُ في غير هدفه”.
وأوضح عبداللطيف “كان يهمني أن أكتب رواية بعيدة عن الطرح الموثق، أن أكتب رواية الناس العاديين الذين نسيهم التاريخ وكمم أفواههم، أن أكتب عن الذين عذبتهم الهوية، تلك الهوية التي أراها الشيء الصادق الوحيد، والتي تجري في دمائنا ونورثها لأبنائنا وأحفادنا، وهي التي جعلت الموريسكيين يتمنون لو يدفنوا فقط في أراضيهم”.
وقال “الهوية التي تدفعنا إلى الحلم، حلم العودة، فالموريسكيون يشبهوننا كثيراً، يشبهون الفلسطينيين والسوريين والمسيحيين المصريين وكل من تم تهجيره وسُلبت منه هويته وحياته وأرضه”.
وأضاف “حين نسترجع اليوم قضية الموريسكيين نسترجع معها كل القضايا المتعلقة بالتطرف الديني الذي لم يكن في عمقه دينياً إنما سياسياً، صحيح أن محاكم التفتيش التي تعرض لها الموريسكيون كانت لأسباب دينية لا منطقية، ومن بينها اتهامهم بإدعاء اعتناق المسيحية، وعدم شرب الخمر، ورفضهم أكل لحم الخنزير، إلا أن التخوف الحقيقي الذي كان لدى السلطة هو احتمالية تحالف الموريسكيين مع الدولة العثمانية لغزو إسبانيا، لكن هذا لم يحدث، فلم يثبت التاريخ أن الموريسكيين كانت لهم علاقة بالعثمانيين، أو أنهم كانوا يريدون أن يصيروا عرباً، وذلك لأنهم كانوا منتمين فعلاً إلى بلدهم وهويتهم الإسبانية”.
القتل باسم الدين
تطرح رواية “حصن التراب” عدة تساؤلات تشغل بال كل منّا ونحملها معنا على مر المآسي والسنين ولم نجد إجابة لها رغم كل ما حدث وكل ما سيحدث: “ما السبب – إن كان ثمة سبب- للقتل باسم الله؟ باسم الدين؟ وهل هو فعلًا قتل باسم الله أم باسم الملك أم باسم الأراضي والبيوت أم باسم الكراهية؟ لماذا تريد أن أشبهك لتقبلني؟ لماذا تشغل نفسك بهدايتي، وباقتيادي للجنة، وبتطهير روحي؟”.
لم يكن لدى الموريسكيين أي مشكلة في البقاء تحت حكم التاج الكاثوليكي والتعايش مع المسيحيين كما تعايشوا معهم قبل سقوط غرناطة عام 1492م، وكان ذلك أحد البنود التي اتفق عليها أبوعبدالله الصغير (آخر ملوك الأندلس) مع القشتاليين حين قام بتسليمهم مفاتيح غرناطة، أن يظل الموريسكيون في إسبانيا وأن يمارسوا شعائرهم بحرية، لكن بعد عشر سنوات تم نقض العهد، وخُيروا -عام 1502م- بين التخلي عن دينهم أو التهجير، كما مُورست عليهم أبشع أنواع القهر والتعذيب والتمييز الطائفي، فقط لكونهم مسلمين، أو بالأحرى لكونهم “أقلية”.
ويرى عبداللطيف أن على إسبانيا الاعتراف بإساءتها للموريسكيين لأن مثل هذه المراجعات هي التي تبني مبادئ الإنسانية وتصحح أخطاءنا وتجعلنا نتفادى الصراع الأزلي بين الأوروبيين والعرب، بين الأكثرية والأقلية، بين البيض والسود، بين الرجل والمرأة.
وتابع “بعيداً عن أن قضية الموريسكيين قضية مهمة، وبعيداً عن أنني مهتم بكتابة رواية جمالية فنية بها عناصر جديدة ومغايرة، إلا أن الرواية تسعى في الأساس إلى تفكيك التاريخ الرسمي الثابت، لذا لا يمكن قراءتها إلا على أرضية أنها رواية تنتمي إلى ما بعد الحداثة، بمعنى أنه ليست هناك حقيقة مطلقة وأن لا أحد يعطي أحداً الحقيقة وإنما يجب أن نسعى نحن إليها، وقد يصل كل منّا إلى حقيقة تخصه هو وحده لأنه لا يوجد تاريخ واحد إنما ‘تاريخات' عديدة”.
ولا تطمح “حصن التراب” إذن إلى أن تكون كتاباً تاريخياً أو مرجعاً أو وثيقة، ورغم أن العائلة التي تتحدث الرواية عنها اسمها حقيقي إلا أن أوراق أفرادها ومخطوطاتهم ليست حقيقية، وذلك لأنه لا أحد يعرف إلى أين ذهبت حكاياتهم التي دوّنوها، حيث كانوا يخبئون أوراقهم في جدران بيوتهم حتى لا تحصل عليها السلطة التي ألزمتهم بالنوم وأبوابهم مفتوحة كي تراقبهم لتعرف ما إذا كانوا مسيحيين مخلصين أم لا.
وأشار عبداللطيف إلى أنه “حين سافرت إلى إسبانيا، زرتُ بعض المدن التي عاش فيها الموريسكيون، مثل: غرناطة وقرطبة وإشبيلية، واطلعتُ على محاكم التفتيش التي استعنتُ ببعضها في الرواية، لكنني لم أحصل على أوراقٍ تخصهم، لذا قررت أن أكتب يومياتهم التي فقدوها، أن أكتب ما كانوا يريدون أن يكتبوه، وأن أجعل لعائلة محمد دي مولينا نسلاً جديداً”.
وجاءت اليوميات -التي تم تدوينها في عام ونصف العام- مُرهفة وتعكس هشاشة الإنسان وحكمته في آن واحد، وقد بدا ذلك من السطر الأول في الرواية والذي فاحت منه رائحة الموت، إنه الموت الذي تعامل معه الموريسكيون على أنه محور الحياة، بل هو الحياة ذاتها، وأحد أبطال الرواية يقول: “أعلم أن الحياة حفرات وكل منّا يختار حفرته التي تسع جسده”.
كل شيء حولهم إذن كان يصل بهم إلى الموت، وكل حلم كان يُفسر على أنه الموت، وكل شعور ينتابهم يدل على أنهم صاروا أمواتًا، تحولهم إلى حجارة، ومن حجارة إلى تماثيل، ثم سقوط أذرعهم وتبدل أجسادهم بأجساد لا يعرفونها، أليس كل ذلك هو الموت؟
ولذا كان طبيعياً أن تأتي لغة “حصن التراب” شاعرية، فكل نص فيها يصلح لأن يكون قصيدة، حيث تعمد الروائي أن يستخدم تقنيات في الكتابة توضح حالة الالتباس والتوتر التي طغت على أبطاله جراء ما تعرضوا له، مثل تكرار الكلمات والعبارات الذي لم يكن هدفه التوكيد بل الإنكار وعدم تصديق ما يحدث، أيضًا كانت إزالة الفواصل واستبدالها بالنقاط الكثيرة هدفها لا أن يلتقط القارئ أنفاسه بل ليلتقط الأبطال أنفاسهم المفقودة.
وأوضح عبداللطيف في حواره “لا أميل في أعمالي إلى فصل الشكل (اللغة) عن المضمون (الحكاية)، أريد دائماً أن يعرف القارئ من خلال الاستعارات المستخدمة أن ثمة مأساة وآلامًا كثيرة سيقابلها في طريقه، كما أنني أرى أن لكل رواية لغتها التي تفرضها على كاتبها، ومع الموريسكيين آثرت استخدام المجاز كي أتسلل إلى دواخلهم ومشاعرهم”.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.