«صبحي موسى» أديب يُدرك جيدا دور الأدب، اجتماعيا وسياسيا، وتمكن من ناصيته الفنية، وتكفلت موهبته، في نعومة، بتوظيف كل هذا في أعمال سيشار إليها بالبنان يوما ما، وستقدمه لمحبي الأدب، وجموع القراء بطريقة صحيحة، لأنه في الحقيقة « لا يجيد تقديم نفسه » للناس، وربما هو الحياء اللاإرادي. أعرفه منذ سنوات، ولم أعرفه، فكل انطباعاتى عنه لم تكن دقيقة، إلى أن خطفتنى روايته «الموريسكى الأخير» خطفا جميلاً، ووجدت نفسى أمام مبدع جاد، وباحث أمين، ومُخيِّلَة ماهرة باهرة، ووعى بأهمية الكتابة عن مأساة «الموريسكيين المسلمين» آخر ضحايا انهيار دولة الأندلس، وربط حالتهم بحال المصريين بعد «ثورة يناير» خاصة مع قفز الإخوان على حكم مصر وانكشاف أنياب التطرف ، وتأمل فيها كوارث الاضطهاد على أساس دينى فى الحالين، وهذا الربط منح الرواية زخماً تاريخياً ممتعاً ومؤلما، وآنيا يؤجج الشجن والحسرات. هذا الحوار ليس فقط لتقديم كاتب موهوب، فهو معروف، بل ينطوى على رفض للانطباعات الأولية غير الدقيقة عموما، والتحذير من البناء عليها، وأيضا، تحية لرواية ممتعة، احتجزت مكانتها بمصاف الأدب الجاد، والعميق. { هل ثمة أوجه تشابه بين ثورتى «الموريسكيين» و«يناير» جعلتك تزاوج بينهما فى روايتك «الموريسكى الأخير»؟ {{ لم أكن معنياً أن يكون التزاوج بالمعنى الحرفى بينهما، لكننى أردت مناقشة فرض ما فى ظل ظروف راهنة، وهو ماذا إذا عدنا من جديد إلى الحكم على أساس ديني، وكانت أبرز التجليات فى هذا السياق هى أزمة الموريسكيين، أو تهجير ما يقرب من مليون مواطن عن وطنهم لا لشيء سوى أنهم مشكوك فى تدينهم بالمسيحية الكاثوليكية، أى أنهم فقدوا حقهم فى المواطنة لعدم انتمائهم إلى الدين الرسمى للبلاد آنذاك، كان هذا التهجير هو التجلى الأخير للأزمة التى استمر ما يزيد على مائة وعشرين عاماً، ولعبت فيها محاكم التفتيش دور البطولة المطلقة، حيث تمتعت بسلطات لا نهائية فى تتبع الموريسكيين والتفتيش فى ضمائرهم ومعاقبتهم باسم المسيحية أو حماية الرب من الزنادقة الملحدين، وهذا المشهد كان ضاغطاً على مخيلتى فى ظل صعود الإسلاميين، ومن ثم جاء التزاوج بين الحالتين وليس الثورتين، وإن لم يمنع ذلك رصدى حالات الفوضى التى أعقبت الثورات الإسبانية وما حدث بعد 25 يناير، فضلاً عن حالة الاحتقان الطائفى بين المسلمين أنفسهم، والمزايدة التى تمت من قبل الموحدين على المرابطين باسم الدين، بالإضافة إلى المشهد العام المتمثل فى حالة الضعف العربى الراهن المماثل للضعف الذى هيمن على الأندلس فى ظل ملوك الطوائف وتطاحنهم واستعانتهم بالأعداء على أبناء عمومتهم، هناك العديد من التشابهات بين اللحظتين جعلتنى أتوقف لأتساءل عن الخلل فى الثقافة العربية من جانب والثقافة الإنسانية من جانب آخر، فهل لو توافرت نفس الشروط ستحدث نفس النتائج، أميل إلى الإجابة بنعم، خاصة فى ظل تصاعد دور السلفيين فى المشهد السياسى والثقافى المصري، وتغافل السلطات عن قيامهم بدور محاكم التفتيش فى العديد من الحوادث. { هل تعرُّض الأدب لتواريخ معينة يكون هدفاً لذاته، أم قِناع للإسقاط على واقع يقصده الكاتب؟ {{ فى ظنى أن حالة القِناع والإسقاط فى الأدب ولَّت منذ عقود طويلة، ومن يفكر فى الكتابة على هذا النحو لا يعترف بما جرى فى العالم من متغيرات، لقد وضعتنا ثورة الاتصالات الحديثة على قدم وساق، وجعلت العالم قرية صغيرة كما يقولون، ومن الصعب عودة الأنظمة الشمولية التى تتحكم حتى فى مخيلة وأحلام المواطنين، لذا فى التصورات الجديدة فى الكتابة التاريخية تقوم على محاولة البحث فى الجينات الرئيسية فى الثقافات الأساسية لدى الجماعة البشرية، وهذا ما يدعو الكاتب للعودة إلى فقرات ومفاصل معينة من تاريخ الوطن أو الجماعة للبحث عن دوافع الأفعال لدى هذه الجماعة، فعلى سبيل المثال.. لماذا يكره المصريون العنف؟ هذا سؤال يستوجب العودة إلى التاريخ الفرعونى وليس اليونانى والرومانى أو الإسلامى فقط، فالتاريخ الفرعونى استمر أكثر من ثلاثة آلاف عام، وفيه تم توحيد المصريين من قرى ونجوع إلى مراكز ومدن وأقاليم، وصولاً إلى الشمال والجنوب فالدولة الموحدة المركزية، وهذا يعنى المرور بكثير من الحروب الأهلية الداخلية، ما يعنى أن المصريين استقر فى أعماقهم الثقافية أن العنف له ضريبة قاسية، ومن ثم نتجت لديهم حيل محددة.، وهناك ما يسمى الخناقة المصرية الذى يشتعل فيها الصوت والتهويش دون دم. هناك محاولات احتواء الآخر وقبوله، وهناك أمثلة تحض على التسامح وعدم الرغبة فى الشر، هذا أصبح جزءا من دور الروائى لأنه بمخيلته يمكنه أن يتصور تطور الحياة بناء على فرض معين، وهو بما لديه من قدرة على التحليل والتخيل وإعادة تشكيل الحياة يقدم ليس فقط مزيجا من علم الاجتماع وعلم التاريخ ولكن بحثاً فى فلسفة التاريخ، أى أنه بربطه بما يجرى الآن, يحاول أن يخبرنا بأسباب رفضنا لأمر أمرا أو قبولنا بغيره، ويمكنه أن يتنبأ برهان ما أكثر من غيره. { هل قصدت بروايتك الانضمام إلى من يطالبون إسبانيا بالاعتذار للموريسكيين المسلمين ومنحهم الجنسية الإسبانية مثلما فعلت مع اليهود؟ {{ نعم كان ذلك جزءاً من أهدافى فى العمل، وقلته بشكل صريح، وما نضال «مراد» بطل الرواية ومجموعته إلا من أجل ذلك، والرواية انتهت بحجز مقعد له فى مؤتمر عام للموريسكيين سيطالبون فيه بالاعتذار لهم ومنحهم الجنسية الإسبانية على غرار ما حدث مع الموريسكيين اليهود، وهم أقلية قليلة مقارنة بالموريسكيين المسلمين الذين لم يقتصر شتاتهم على بلدان المغرب العربي، ولكن فى كثير من بقاع الأرض كمصر والشام وتركيا وألمانيا وفرنسا، وحتى العالم الجديد أو أمريكا اللاتينية، والآن يمكننى أن أقول إن هذا الاعتذار يجب أن يكون منا جميعاً لهذه الجماعة البشرية التى ظُلمت مرتين، الأولى فى الشمال وهم تحت الحكم الإسبانى ومحاكم التفتيش تطاردهم وتفتش فى صدورهم على الإسلام الذى خبأوه فيها، ومرة أخرى حين جاءوا إلى بلدان المغرب العربى فاتُهموا فى إسلامهم مثلما كانوا متهمين فى الشمال فى مسيحيتهم. هذه الجماعة البشرية يجب الاعتذار لها تاريخياً من قبل العالم آجمع عبر يوم أو عيد يمكننا أن نسميه يوم الموريسكي، يوم نتذكر فيه مأساتهم كى لا نكررها فى أى مكان أخر مع أى إنسان آخر. حين يحدث ذلك ستكون البشرية تعلمت قيمة جديدة وسنَّت سُنَّة حسنة فى تاريخها الجديد. { هل حكاية «مراد» بطل الرواية، وسليل العائلة الموريسكية والمرشح لعمادتها، ومطالبته بوقف العائلة, محض خيال روائى أم واقع تاريخي، وهل قصة جده عطية الله الملتزم، وجده أبو جذام، الذى منحه محمد على جفلكاً بمائتى فدان حقيقية أم محض خيال أيضاً؟ {{ كل هذا محض خيال فني. فالرواية, رغم سمتها التاريخي, الخيال فيها يزيد على 80 بالمائة، بينما الوقائع التاريخية لا تزيد على 20 بالمائة. حتى الواقع التاريخى القديم, كثورات الموريسكيين وما جرى فيها, أغلبه خيال، خاصة أنها كتبت على هيئة مذكرات، والشخصيات الرئيسية ك «عبد الله بن جهور» و«محمد بن جهور» و«فرناندو» و«باديس» وغيرهم كلها محض خيال، وما ذكر تاريخياعن شخصية «محمد ابن أُميَّة» الذى أصبح ملكاً على الموريسكيين لا يزيد على سطور، وكان على أن أنسج التفاصيل واليوميات، أذكر بعض الوقائع ضمن إطار من الأحداث اليومية والمذكرات التى كان لابد أن تبدو كمذكرات حربية، لأن صاحبها رجل لم يعاين الأحداث, لكنه كان واحداً من صناعها، فهو كاتب الأمير وابن قائد الثورة ومؤسس الأسرة التى شملها التيه كل هذه العقود، وكان على أن أنسج تتابعاً لسلالته، كان على أن أبتكر أكثر من ثلاثة عشر جداً حتى أصل إلى آخر الموريسكيين فى المحروسة مراد يوسف رفيق. وعلى أن أنسج لكل جد أسطورته الخاصة، فضلاً عن أحداث الزمن الحالي، وصراعات الموريسكيين وبيتهم ووقفهم وهجراتهم وغضب «العين الراعية» عليهم، وأن أربط ذلك بما جرى فى الأندلس وفى المغرب وتونس وما حدث فى عصر المماليك، ومحمد على، وما جرى من ثورات لبقايا الموريسكيين فى إقليم الأندلس حتى استقل هذا الإقليم ضمن دستور كونفيدرالي، وأن أربط بين «راشيل انفانتي» وأبى الهوية الأندلسية فى اقليم الأندلس «بلاس انفانتي»، وأن أجرى كل ذلك على الأرض المصرية وما حدث من ظهور للإسلاميين والصراع بين المؤيدين لهم والرافضين لحكمهم حتى قامت ثورة 30 يونيو. وكل هذا محض خيال ضمن حالة تاريخية تتحدث عن أزمة الموريسكيين وتربط ما جرى لهم بما قد يجرى للمصريين من وصول جماعة دينية إلى الحكم، وتفتيشها فى ضمائر الناس وفقاً لمقاييسها عن الإيمان وتفسيراتها للسنة والقرآن.