ترامب: قريبون من تحقيق السلام ويوجه الشكر لمصر وقطر والسعودية والأردن وتركيا    منتخب مصر يتأخر بهدف أمام تشيلى فى الشوط الأول بكأس العالم للشباب    أسعار الخضروات فى أسيوط اليوم السبت 4102025    اسعار الحديد فى أسيوط اليوم السبت 4102025    بعد أشمون، تحذير عاجل ل 3 قرى بمركز تلا في المنوفية بسبب ارتفاع منسوب النيل    اليوم، الهيئة الوطنية تعلن الجدول الزمني لانتخابات مجلس النواب    عاجل - حماس: توافق وطني على إدارة غزة عبر مستقلين بمرجعية السلطة الفلسطينية    تتقاطع مع مشهد دولي يجمع حماس وترامب لأول مرة.. ماذا تعني تصريحات قائد فيلق القدس الإيراني الأخيرة؟    موافقة حماس على خطة ترامب... خطوة استباقية قد تفتح أفق إنهاء الحرب    اسعار الذهب فى أسيوط اليوم السبت 4102025    نجم نيوكاسل يكتسح منصات التواصل بسبب تسريحة شعر الأميرة ديانا (صور)    تشكيل الأهلي المتوقع أمام كهرباء الإسماعيلية في الدوري    الأرصاد: طقس دافئ اليوم السبت وغدًا الأحد مع انخفاض طفيف بالحرارة    بيطري بني سويف تنفذ ندوات بالمدارس للتوعية بمخاطر التعامل مع الكلاب الضالة    إصابة 7 أشخاص في حادث تصادم سيارتين بالطريق الدائري بالفيوم    نسرح في زمان".. أغنية حميد الشاعري تزيّن أحداث فيلم "فيها إيه يعني"    مواقيت الصلاة فى أسيوط اليوم السبت 4102025    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 4-10-2025 في محافظة الأقصر    سعر السمك البلطى والسردين والجمبرى والكابوريا بالأسواق السبت 04-10-2025    الإثنين أم الخميس؟.. موعد إجازة 6 أكتوبر 2025 للقطاع العام والخاص بعد قرار رئيس الوزراء    "مستقبل وطن" يتكفل بتسكين متضرري غرق أراضي طرح النهر بالمنوفية: من بكرة الصبح هنكون عندهم    هدافو دوري المحترفين بعد انتهاء مباريات الجولة السابعة.. حازم أبوسنة يتصدر    تامر مصطفى يكشف مفاتيح فوز الاتحاد أمام المقاولون العرب في الدوري    أبرزها قناة kids5 وmbc3.. ترددات قنوات الكارتون للأطفال 2025    نادى سموحة يُعلن عن عدم اكتمال النصاب القانونى لاجتماع الجمعية العمومية    القلاوى حكما لمباراة إنبى وزد.. وعباس لفاركو ودجلة فى دورى Nile    تفاعل مع فيديوهات توثق شوارع مصر أثناء فيضان النيل قبل بناء السد العالي: «ذكريات.. كنا بنلعب في الماية»    لبحث الجزر النيلية المعرضة للفيضانات.. تشكيل لجنة طوارئ لقياس منسوب النيل في سوهاج    تفاصيل موافقة حماس على خطة ترامب لإنهاء الحرب    موعد امتحانات شهر أكتوبر 2025 لصفوف النقل.. التعليم تحدد تفاصيل أول اختبار شهري للطلاب    رابط منصة الشهادات العامة 2025-2026 عبر موقع وزارة التربية والتعليم    مصرع شاب بطلق ناري في مشاجرة بأسوان    النص الكامل ل بيان حماس حول ردها على خطة ترامب بشأن غزة    «عايزين تطلعوه عميل لإسرائيل!».. عمرو أديب يهدد هؤلاء: محدش يقرب من محمد صلاح    الصحف المصرية.. أسرار النصر عرض مستمر    الوادى الجديد تحتفل بعيدها القومى.. حفل فنى وإنشاد دينى.. وفيلم بالصوت والضوء عن تاريخ المحافظة    6 أبراج «روحهم حلوة»: حسّاسون يهتمون بالتفاصيل ويقدمون الدعم للآخرين دون مقابل    عمرو دياب يشعل دبي بحفل ضخم.. وهذه أسعار التذاكر    وزير الرى الأسبق: ليس هناك ضرر على مصر من فيضان سد النهضة والسد العالى يحمينا    وائل عبد العزيز يتوعد صفحة نشرت خبرا عن ضياع شقيقته ياسمين    احتفاء واسع وخطوة غير مسبوقة.. ماذا فعل ترامب تجاه بيان حماس بشأن خطته لإنهاء حرب غزة؟    جيش الاحتلال الإسرائيلى يقتحم بلدات فى نابلس ويعتقل شابين فلسطينيين    محيط الرقبة «جرس إنذار» لأخطر الأمراض: يتضمن دهونا قد تؤثرا سلبا على «أعضاء حيوية»    عدم وجود مصل عقر الحيوان بوحدة صحية بقنا.. وحالة المسؤولين للتحقيق    متحدث «الري»: أديس أبابا خزّنت كميات مياه ضخمة بالسد الإثيوبي قبل الموعد لأسباب إعلامية    في زفة عروسين، مصرع فتاة وإصابة آخرين خلال تصادم سيارة ملاكي بسور خرساني بمنشأة القناطر    ضبط 108 قطع خلال حملات مكثفة لرفع الإشغالات بشوارع الدقهلية    سعر الدولار مقابل الجنيه والعملات العربية والأجنبية فى بداية الأسبوع السبت 04-10-2025    أسعار السكر والزيت والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 4 أكتوبر 2025    لزيادة الطاقة وبناء العضلات، 9 خيارات صحية لوجبات ما قبل التمرين    الشطة الزيت.. سر الطعم الأصلي للكشري المصري    داء كرون واضطرابات النوم، كيفية التغلب على الأرق المصاحب للمرض    هل يجب الترتيب بين الصلوات الفائتة؟.. أمين الفتوى يجيب    جامعة قناة السويس تنظم مهرجان الكليات لسباق الطريق احتفالًا بانتصارات أكتوبر    مواقيت الصلاه في المنيا اليوم الجمعه 3 أكتوبر 2025 اعرفها بدقه    افتتاح 3 مساجد بمراكز محافظة كفر الشيخ    رسميًا.. البلشي وعبدالرحيم يدعوان لعقد اجتماع مجلس الصحفيين من جريدة الوفد الأحد    تكريم 700 حافظ لكتاب الله من بينهم 24 خاتم قاموا بتسميعه فى 12 ساعة بقرية شطورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جورج لوكاتش الشاب وما يبقى منه
نشر في صوت البلد يوم 22 - 07 - 2017

استهل الهنغاري جورج لوكاتش (1885 - 1970) حياته الفلسفية عام 1909 بكتاب عنوانه «الروح والأشكال»، ورحل، بعد ستة عقود، من دون أن ينهي كتابه الكبير «أنطولوجيا الوجود الاجتماعي». أعطى في مساره دراسات متنوعة عالجت: تاريخ الأدب والرواية، بخاصة، ومواضيع فلسفية حال: «تحطيم العقل»، الذي نقد النزوعات اللاعقلانية في الفلسفة المعاصرة، وكتاب هيغل الشاب، الذي سطا عليه لاحقاً الفرنسي روجيه جارودي وأدرجه في كتابه «موت الإله». إضافة إلى كتاب عن الوجودية حاور فيه جان بول سارتر، ودراسات طويلة عن: توماس مان، غوته، بلزاك، تولستوي والواقعية الروسية، وسولجنستين، وامتد نشاطه إلى روايات أفريقية، مثل «الولد الأسود» لكاميرا لاي ، وهناك كتاب في ألف صفحة، «خصوصية علم الجمال» الذي حاول فيه تجديد مقولاته الأدبية، من دون أن يأتي بجديد كبير، لأنه بقي يختصر الأدب في مقولات فلسفية «تقليدية».
بيد أن ما أشهر هذا الناقد - الفيلسوف، يعود إلى كتاب وضعه في مرحلة الشباب: «نظرية الرواية»، الذي أنجزه في شتاء 1914 - 1915، وهجاه لاحقاً، كما لو كان عثرة كتابية غير مقصودة. وإذا كان في حياة فيلسوف كتب ستين عاماً ما يثير الفضول، حتى أخذ صفة «الباحث الذي لا يتعب»، فإن ما يثير في اقدار كتابه «نظرية الرواية» يعود إلى أكثر من سبب: حمل ملامح زمنه، وكان احتجاجاً عليها، وذلك في فترة دامية من تاريخ أوروبا الحديث، ارتبطت بالحرب العالمية الأولى 1914 - 1918، التي دفن فيها الملايين من البشر، وشكلت مدخلاً متشائماً إلى القرن العشرين. فعوضاً عن التكامل الإنساني، الذي وعد به الفكر البرجوزاي الأوروبي، جاءت حرب أسقطت «أوهام الإنسان الشامل» واحتفلت بالخراب. لهذا أدرج الباحثون الكتاب في إطار «الرومانسية المعادية للرأسمالية»، بلغة الفرنسي ميشيل لوفي، الذي وضع عن لوكاتش الشاب أكثر من دراسة. لا غرابة أن نقرأ في «نظرية الرواية»: «طوبى للأزمنة التي تطالع في السماء المرصعة النجوم خريطة السُبل المفتوحة لها وعليها أن تتبعها، طوبى للأزمنة التي تستنير سبلها بالنجوم..». واجه الفيلسوف زمن الحرب بأضواء زمن توارى، كانت الأشياء فيه أليفة والإنسان ابناً للطبيعة.
يعود السبب الثاني إلى أمر أشبه بالمفارقة، فقد انزاح الكاتب، بعد سنوات قليلة، انزياحاً واسعاً عن المنظور الذي عالج به كتابه، واختار الماركسية، التي دفعته، في سياق محدد، إلى شيء قريب من «الدوغمائية» أخذ لاحقاً صفة: الستالينية. ربما كان في هذه الصفة «المرذولة»، التي جعلت البعض يساوي بين النازية والستالينية، ما دفع البعض إلى الفصل الشامل بين كتاب لوكاتش الأول وكتبه اللاحقة، على اعتبار أن الكتب اللاحقة صورة عن حزبية عمياء، بعيداً من «نظرية الرواية» الذي جاء مرآة لعقل إبداعي طليق يحتفي بالإنسان الحر لا «بالقوى المنتجة».
وواقع الأمر أيضاً، أن استمرارية الكتاب تعود، في جزء منها، إلى الناقد لوسيان جولدمان، الذي اتكأ على كتاب لوكاتش واتخذ منه مرجعاً له، وذلك في «جدل طريف» يثير بعض الأسئلة: عثر كتاب لوكاتش على حياة جديدة في جهد غولدمان اللامع، أكان ذلك في كتابه الشهير «من أجل علم اجتماع للرواية»، أم في دراسات أخرى أقل شهرة. كان جولدمان، الروماني الأصل، قد ترك بلاده واستقر في باريس، وغدا ناقداً شهيراً بعد كتاب «الإله المحتجب»، وبدا قريباً، نظرياً، من ماركسيين آخرين، مثل اليونانيين أكسيلوس وكوستريادس، والفرنسي الخصيب في موسوعيته هنري لوففر، ما جعل كتاب لوكاتش الشاب يضاف، بشكل أو آخر، إلى «الماركسية الغربية» بمنأى عن «ماركسية سوفياتية» جافة الأطراف، أجبرت الناقد الفيلسوف على أكثر من «نقد ذاتي».
وإذا كان، الكثير من الباحثين قد ألقوا بكل ما كتبه لوكاتش في كيس الستالينية المرذول، فإن بعضاً، وهم قلة اليوم، حرصوا على تقدير الجهد المعرفي الواسع، الذي قدّمه ذلك الهنغاري الذي كان يكتب بالألمانية. تجلّى موقف هذا البعض القليل في مجلة «روائيات» Romanmesques ، في عددها الثامن، الذي ظهر في العام الماضي وحمل عنوان: «لوكاتش عام 2016 مئة عام على «نظرية الرواية» وعالج قضايا الكتاب الشهير، من دون أن ينسى كتابات أخرى. أشرف على هذا العدد، المكرّس كلياً للناقد الهنغاري، باحثون كثيرون مثل: م. لوفي ور.سير. وهما تعاملا مع مفهوم الرومانسية، الذي شكّل مقدمة للخيار الشيوعي الذي أخذ به لوكاتش، والباحث ج.لاشو الذي كتب عن تصور «الواقعية العظيمة»، الذي دافع عنه لوكاتش بعد عشرين عاماً من ظهور كتابه الشهير، ذلك الكتاب الذي احتفظ منه بمفهوم الكلية، و «المجال الكوني للعالم».
أما الفرنسي ف. شار بونييه فانصرف إلى الرواية والواقعية اللذين أعلنا عن تصور لوكاتش «الإنسانوي» الذي اخترق كل كتاباته. حرص هؤلاء النقاد وغيرهم، على تبيان أمرين، أولهما تجانس جهد الفيلسوف، الذي جعل من كتاباته وحدة عضوية، وثانيهما استمرارية مشروعة من البداية إلى النهاية. وصل هؤلاء إلى نقيض ما وصل إليه غيرهم، فأدرجوا كتاب «نظرية الرواية» في كتابات لوكاتش الشاملة، ولم يروا فيه لحظة منعزلة عن إشراقات الشاب اللامع، التي حاصرها «التزامه السياسي» و «تعصّبه العقائدي».
يطرح موضوع «مئة عام على كتاب نظرية الرواية» ثلاثة أسئلة: كيف يتم تقويم أعمال مفكر مضى زمنه، مزج بين البحث المعرفي والموقف السياسي؟ وما هي حدود موضوعية النظر إلى جهد مفكر سقط مشروعه الفلسفي «الماركسية». وسقط أكثر المرجع السياسي الذي استظل به؟ وما هي الحاجة الفعلية إلى جهد نظري اشتق مقولاته الكبرى من أرسطو وهيغل وماركس؟ والواضح في الأسئلة ماثل في «السياق»، الذي جعل من سارتر، في الزمن ذاته، فيلسوف القرن العشرين وقذف به لاحقاً إلى ركن صغير بعد ظهور مفكرين تجاوزوه: فوكو وديلوز وبارت. والأساسي ماثل في مفهوم «الحاجة»، الذي جعل من جهد لوكاتش ضرورة في سياق مضى ازدهرت فيه «الواقعية»، كان فيه الصراع السياسي الموزع على الرأسمالية والاشتراكية. وواقع الأمر أن هذا الخيار، اليوم، هو الذي استدعى مواقف ترى في لوكاتش صفحة من ماضٍ لا حاجة إليه، ومواقف أخرى «لا تؤمن بعودة الماضي» بقدر ما تحن إليه، وتخلط بين صورة الفيلسوف القليل القامة والحنين المتأسي الذي لا يمكن تقييده.
والمبهر في مسار لوكاتش، إن كان هناك ما هو مبهر حقاً، يتمثل في إرادة الباحث، لا في ما أنجزه، ذلك أنه ثابر على تقصّي موضوعه، قراءة وكتابة، ستين عاماً رافعاً شعاراً يتفق مع إرادته: «على من بدأ بحثاً أن ينهيه». ولذلك صرعه السرطان في الخامسة والثمانين، وهو يكتب يومياً صفحات جديدة من كتاب لم يكمله «أنطولوجيا الوجود الاجتماعي». والأكيد أن درس هذا الهنغاري من سيرة فكرية شاسعة، عالج فيها، بوضوح وبلا اقتصاد، الأدب الألماني، الأدب الروسي، الأدب الفرنسي، الفلسفة الألمانية، قضايا الماركسية، الديموقراطية، السينما (له كتاب في هذا المجال) وأعمال كافكا، وكان نصيراً بلا تحفظ لروايات تولستوي وبلزاك، وتوقف طويلاً أمام رواية «الجندي الطيب شفايك» للتشيخي هاشيك وغيره الكثير، مع رجوع متواتر إلى الفلسفة اليونانية القديمة.
أما بالنسبة للأدب والمقولات النقدية، فيقال أن لوكاتش كان يقيم تطابقاً قسرياً بين الأعمال الأدبية والتاريخ، معتمداً على مفهوم «الحقبة» فيقرّر: مآل الأدب البرجوازي وفترة «تفكك الشكل الروائي»، وحقبة الذهاب إلى أدب ملحمي جديد عنوانه «الأدب الاشتراكي»، الذي كان عليه أن يستولد «تولستوي أحمر»، ويأتي بواقعية جديدة. ومهما يكن من أمر، فإن أهمية كتاب «نظرية الرواية» تعود إلى جمالياته الكتابية، إلى ذلك الأسلوب المشرق الذي زاده إشراقاً «الوعي الأسيان»، الذي كان يفتش عن ملاذ للروح في عالم يسير إلى التقوّض. ذلك أن مقولات الكتاب النظرية قريبة القرب كله من فلسفة هيغل: زمن الملحمة وزمن الرواية، الإنسان المغترب الذي «هجره الرب»، أو الذي ضلّ في الطريق ولم يقع على دليل، وعالم النقاء المتنائي و «عالم الإثم»، الذي يحايث رأسمالية تحسن صناعة الموت وتقدس النقود وتسلّع الإنسان.
يقول لوكاتش في «نظرية الرواية»: «إن الأزمنة السعيدة ليست لها فلسفة»، أي أن جميع الناس في تلك الأزمنة فلاسفة، بل يكاد يقول: إن بشر الأزمنة السعيدة لا يعرفون السعادة لأنهم يعيشونها. فلا يعرف معنى السعادة، إلا من عرفها زمناً، وفرّت هاربة وانتظر عودتها؟ واجه لوكاتش الشاب اضطراب الزمن الذي يعيش بزمن الملحمة المستعاد، وأعتقد لاحقاً أن في المجتمع الاشتراكي مرايا لأكثر من ملحمة، من دون أن يدري، وهو الذي جمع بين الحلم والإرادة، أن المرايا تتكسر قبل النظر إليها. ولهذا اختلف إلى ممرات ضيقة، وتحمّل الزمن الستاليني بمشقة وحمل معه أكثر من نقد ذاتي «إلزامي»، مؤمناً كما كان يقول في أيامه الأخيرة: إن أسوأ نظام اشتراكي أفضل من أي نظام رأسمالي.
استهل الهنغاري جورج لوكاتش (1885 - 1970) حياته الفلسفية عام 1909 بكتاب عنوانه «الروح والأشكال»، ورحل، بعد ستة عقود، من دون أن ينهي كتابه الكبير «أنطولوجيا الوجود الاجتماعي». أعطى في مساره دراسات متنوعة عالجت: تاريخ الأدب والرواية، بخاصة، ومواضيع فلسفية حال: «تحطيم العقل»، الذي نقد النزوعات اللاعقلانية في الفلسفة المعاصرة، وكتاب هيغل الشاب، الذي سطا عليه لاحقاً الفرنسي روجيه جارودي وأدرجه في كتابه «موت الإله». إضافة إلى كتاب عن الوجودية حاور فيه جان بول سارتر، ودراسات طويلة عن: توماس مان، غوته، بلزاك، تولستوي والواقعية الروسية، وسولجنستين، وامتد نشاطه إلى روايات أفريقية، مثل «الولد الأسود» لكاميرا لاي ، وهناك كتاب في ألف صفحة، «خصوصية علم الجمال» الذي حاول فيه تجديد مقولاته الأدبية، من دون أن يأتي بجديد كبير، لأنه بقي يختصر الأدب في مقولات فلسفية «تقليدية».
بيد أن ما أشهر هذا الناقد - الفيلسوف، يعود إلى كتاب وضعه في مرحلة الشباب: «نظرية الرواية»، الذي أنجزه في شتاء 1914 - 1915، وهجاه لاحقاً، كما لو كان عثرة كتابية غير مقصودة. وإذا كان في حياة فيلسوف كتب ستين عاماً ما يثير الفضول، حتى أخذ صفة «الباحث الذي لا يتعب»، فإن ما يثير في اقدار كتابه «نظرية الرواية» يعود إلى أكثر من سبب: حمل ملامح زمنه، وكان احتجاجاً عليها، وذلك في فترة دامية من تاريخ أوروبا الحديث، ارتبطت بالحرب العالمية الأولى 1914 - 1918، التي دفن فيها الملايين من البشر، وشكلت مدخلاً متشائماً إلى القرن العشرين. فعوضاً عن التكامل الإنساني، الذي وعد به الفكر البرجوزاي الأوروبي، جاءت حرب أسقطت «أوهام الإنسان الشامل» واحتفلت بالخراب. لهذا أدرج الباحثون الكتاب في إطار «الرومانسية المعادية للرأسمالية»، بلغة الفرنسي ميشيل لوفي، الذي وضع عن لوكاتش الشاب أكثر من دراسة. لا غرابة أن نقرأ في «نظرية الرواية»: «طوبى للأزمنة التي تطالع في السماء المرصعة النجوم خريطة السُبل المفتوحة لها وعليها أن تتبعها، طوبى للأزمنة التي تستنير سبلها بالنجوم..». واجه الفيلسوف زمن الحرب بأضواء زمن توارى، كانت الأشياء فيه أليفة والإنسان ابناً للطبيعة.
يعود السبب الثاني إلى أمر أشبه بالمفارقة، فقد انزاح الكاتب، بعد سنوات قليلة، انزياحاً واسعاً عن المنظور الذي عالج به كتابه، واختار الماركسية، التي دفعته، في سياق محدد، إلى شيء قريب من «الدوغمائية» أخذ لاحقاً صفة: الستالينية. ربما كان في هذه الصفة «المرذولة»، التي جعلت البعض يساوي بين النازية والستالينية، ما دفع البعض إلى الفصل الشامل بين كتاب لوكاتش الأول وكتبه اللاحقة، على اعتبار أن الكتب اللاحقة صورة عن حزبية عمياء، بعيداً من «نظرية الرواية» الذي جاء مرآة لعقل إبداعي طليق يحتفي بالإنسان الحر لا «بالقوى المنتجة».
وواقع الأمر أيضاً، أن استمرارية الكتاب تعود، في جزء منها، إلى الناقد لوسيان جولدمان، الذي اتكأ على كتاب لوكاتش واتخذ منه مرجعاً له، وذلك في «جدل طريف» يثير بعض الأسئلة: عثر كتاب لوكاتش على حياة جديدة في جهد غولدمان اللامع، أكان ذلك في كتابه الشهير «من أجل علم اجتماع للرواية»، أم في دراسات أخرى أقل شهرة. كان جولدمان، الروماني الأصل، قد ترك بلاده واستقر في باريس، وغدا ناقداً شهيراً بعد كتاب «الإله المحتجب»، وبدا قريباً، نظرياً، من ماركسيين آخرين، مثل اليونانيين أكسيلوس وكوستريادس، والفرنسي الخصيب في موسوعيته هنري لوففر، ما جعل كتاب لوكاتش الشاب يضاف، بشكل أو آخر، إلى «الماركسية الغربية» بمنأى عن «ماركسية سوفياتية» جافة الأطراف، أجبرت الناقد الفيلسوف على أكثر من «نقد ذاتي».
وإذا كان، الكثير من الباحثين قد ألقوا بكل ما كتبه لوكاتش في كيس الستالينية المرذول، فإن بعضاً، وهم قلة اليوم، حرصوا على تقدير الجهد المعرفي الواسع، الذي قدّمه ذلك الهنغاري الذي كان يكتب بالألمانية. تجلّى موقف هذا البعض القليل في مجلة «روائيات» Romanmesques ، في عددها الثامن، الذي ظهر في العام الماضي وحمل عنوان: «لوكاتش عام 2016 مئة عام على «نظرية الرواية» وعالج قضايا الكتاب الشهير، من دون أن ينسى كتابات أخرى. أشرف على هذا العدد، المكرّس كلياً للناقد الهنغاري، باحثون كثيرون مثل: م. لوفي ور.سير. وهما تعاملا مع مفهوم الرومانسية، الذي شكّل مقدمة للخيار الشيوعي الذي أخذ به لوكاتش، والباحث ج.لاشو الذي كتب عن تصور «الواقعية العظيمة»، الذي دافع عنه لوكاتش بعد عشرين عاماً من ظهور كتابه الشهير، ذلك الكتاب الذي احتفظ منه بمفهوم الكلية، و «المجال الكوني للعالم».
أما الفرنسي ف. شار بونييه فانصرف إلى الرواية والواقعية اللذين أعلنا عن تصور لوكاتش «الإنسانوي» الذي اخترق كل كتاباته. حرص هؤلاء النقاد وغيرهم، على تبيان أمرين، أولهما تجانس جهد الفيلسوف، الذي جعل من كتاباته وحدة عضوية، وثانيهما استمرارية مشروعة من البداية إلى النهاية. وصل هؤلاء إلى نقيض ما وصل إليه غيرهم، فأدرجوا كتاب «نظرية الرواية» في كتابات لوكاتش الشاملة، ولم يروا فيه لحظة منعزلة عن إشراقات الشاب اللامع، التي حاصرها «التزامه السياسي» و «تعصّبه العقائدي».
يطرح موضوع «مئة عام على كتاب نظرية الرواية» ثلاثة أسئلة: كيف يتم تقويم أعمال مفكر مضى زمنه، مزج بين البحث المعرفي والموقف السياسي؟ وما هي حدود موضوعية النظر إلى جهد مفكر سقط مشروعه الفلسفي «الماركسية». وسقط أكثر المرجع السياسي الذي استظل به؟ وما هي الحاجة الفعلية إلى جهد نظري اشتق مقولاته الكبرى من أرسطو وهيغل وماركس؟ والواضح في الأسئلة ماثل في «السياق»، الذي جعل من سارتر، في الزمن ذاته، فيلسوف القرن العشرين وقذف به لاحقاً إلى ركن صغير بعد ظهور مفكرين تجاوزوه: فوكو وديلوز وبارت. والأساسي ماثل في مفهوم «الحاجة»، الذي جعل من جهد لوكاتش ضرورة في سياق مضى ازدهرت فيه «الواقعية»، كان فيه الصراع السياسي الموزع على الرأسمالية والاشتراكية. وواقع الأمر أن هذا الخيار، اليوم، هو الذي استدعى مواقف ترى في لوكاتش صفحة من ماضٍ لا حاجة إليه، ومواقف أخرى «لا تؤمن بعودة الماضي» بقدر ما تحن إليه، وتخلط بين صورة الفيلسوف القليل القامة والحنين المتأسي الذي لا يمكن تقييده.
والمبهر في مسار لوكاتش، إن كان هناك ما هو مبهر حقاً، يتمثل في إرادة الباحث، لا في ما أنجزه، ذلك أنه ثابر على تقصّي موضوعه، قراءة وكتابة، ستين عاماً رافعاً شعاراً يتفق مع إرادته: «على من بدأ بحثاً أن ينهيه». ولذلك صرعه السرطان في الخامسة والثمانين، وهو يكتب يومياً صفحات جديدة من كتاب لم يكمله «أنطولوجيا الوجود الاجتماعي». والأكيد أن درس هذا الهنغاري من سيرة فكرية شاسعة، عالج فيها، بوضوح وبلا اقتصاد، الأدب الألماني، الأدب الروسي، الأدب الفرنسي، الفلسفة الألمانية، قضايا الماركسية، الديموقراطية، السينما (له كتاب في هذا المجال) وأعمال كافكا، وكان نصيراً بلا تحفظ لروايات تولستوي وبلزاك، وتوقف طويلاً أمام رواية «الجندي الطيب شفايك» للتشيخي هاشيك وغيره الكثير، مع رجوع متواتر إلى الفلسفة اليونانية القديمة.
أما بالنسبة للأدب والمقولات النقدية، فيقال أن لوكاتش كان يقيم تطابقاً قسرياً بين الأعمال الأدبية والتاريخ، معتمداً على مفهوم «الحقبة» فيقرّر: مآل الأدب البرجوازي وفترة «تفكك الشكل الروائي»، وحقبة الذهاب إلى أدب ملحمي جديد عنوانه «الأدب الاشتراكي»، الذي كان عليه أن يستولد «تولستوي أحمر»، ويأتي بواقعية جديدة. ومهما يكن من أمر، فإن أهمية كتاب «نظرية الرواية» تعود إلى جمالياته الكتابية، إلى ذلك الأسلوب المشرق الذي زاده إشراقاً «الوعي الأسيان»، الذي كان يفتش عن ملاذ للروح في عالم يسير إلى التقوّض. ذلك أن مقولات الكتاب النظرية قريبة القرب كله من فلسفة هيغل: زمن الملحمة وزمن الرواية، الإنسان المغترب الذي «هجره الرب»، أو الذي ضلّ في الطريق ولم يقع على دليل، وعالم النقاء المتنائي و «عالم الإثم»، الذي يحايث رأسمالية تحسن صناعة الموت وتقدس النقود وتسلّع الإنسان.
يقول لوكاتش في «نظرية الرواية»: «إن الأزمنة السعيدة ليست لها فلسفة»، أي أن جميع الناس في تلك الأزمنة فلاسفة، بل يكاد يقول: إن بشر الأزمنة السعيدة لا يعرفون السعادة لأنهم يعيشونها. فلا يعرف معنى السعادة، إلا من عرفها زمناً، وفرّت هاربة وانتظر عودتها؟ واجه لوكاتش الشاب اضطراب الزمن الذي يعيش بزمن الملحمة المستعاد، وأعتقد لاحقاً أن في المجتمع الاشتراكي مرايا لأكثر من ملحمة، من دون أن يدري، وهو الذي جمع بين الحلم والإرادة، أن المرايا تتكسر قبل النظر إليها. ولهذا اختلف إلى ممرات ضيقة، وتحمّل الزمن الستاليني بمشقة وحمل معه أكثر من نقد ذاتي «إلزامي»، مؤمناً كما كان يقول في أيامه الأخيرة: إن أسوأ نظام اشتراكي أفضل من أي نظام رأسمالي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.