شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    مشاركة فعالة لجامعة قناة السويس في مؤتمر تفعيل القيادات الطلابية باللجان الرياضية    «التنظيم والإدارة» يعلن توقف الامتحانات بمركز تقييم القدرات.. لهذا السبب    وزير الشؤون النيابية: الحكومة تقدم أجندة تشريعية مرنة كل دورة برلمانية    سعر الحديد مساء الجمعة 22 أغسطس 2025    محمود فوزي: الحكومة جادة في تطبيق قانون الإيجار القديم وحماية الفئات الضعيفة    وقفة للجالية المصرية بفرنسا دعماً لمصر ورفضاً لأي اعتداء على بعثاتها الدبلوماسية    حماس: تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي اعتراف بجرم يرقى للتطهير العرقي    المجاعة تهدد نصف مليون في غزة.. كيف يضغط المجتمع الدولي على إسرائيل؟    حماس: تصريحات كاتس «اعتراف بجرم يرقى للتطهير العرقي»    زيلينسكي: لا يوجد أي اتصال مع روسيا بشأن محادثات السلام    وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي يدينون خطة إسرائيل الاستيطانية الجديدة    لا يخسر في بريميرليج و18 مساهمة.. هل يواصل صلاح إسقاط ضحيته "نيوكاسل"؟    فانتازي يلا كورة.. ارتفاع سعر ريتشارليسون.. وانخفاض عدة لاعبين    بروكسي يتعادل مع مالية كفر الزيات في افتتاح مباريات دوري المحترفين    «حماة الوطن» ينظم حلقة نقاشية حول تعديل قانون الرياضة    حبس متهم لإدارته ورشة لتصنيع الأسلحة البيضاء بالشرابية    «تسريب غاز».. مصدر أمني يكشف سبب صوت الانفجار بموقف سيارات ملحق بمطار القاهرة    ضبط سائق لاستيلائه على سيارة ومبلغ مالي من شركة بالسلام    بعد مداهمة وكر التسول.. حملات مكثفة لغلق فتحات الكباري بالجيزة| صور    6 مصابين من أسرة واحدة في حادث انقلاب سيارة ملاكي في بني سويف    "أحرج معجبة حاولت مصافحته".. علي الحجار يثير الجدل:"مينفعش يعني"    بادشاه لسعد القرش.. قصص فلسفية شاعرية تشتبك مع القضايا الكبرى    الوادي الجديد تبحث إنشاء منصة إلكترونية للمواقع السياحية والأثرية    "قالتلي إلحقني".. محامي شيرين عبد الوهاب يصدر بيان بشأن عودتها ل حسام حبيب    التفاؤل ماليهم.. ما هي الأبراج التي لها نظرة إيجابية ؟    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    الحبس عامين ل تارك صلاة الجمعة في ماليزيا.. أحمد كريمة يكشف الحكم الشرعي    نجاح عملية دقيقة لاستئصال ورم بالمخ وقاع الجمجمة بمستشفى العامرية العام بالإسكندرية    الكروم ومرض السكر.. مكمل غذائي مساعد لا يغني عن العلاج الدوائي    عميد طب القصر العيني يتابع جاهزية البنية التحتية استعدادًا لانطلاق العام الدراسي    "درويش" يحقق قفزة كبيرة ويتخطى 20 مليون جنيه في 9 أيام    ضبط لص حاول سرقة حقيبة من شخص فى العمرانية    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    الكشف الطبى على 276 مريضا من أهالى قرى البنجر فى قافلة مجانية بالإسكندرية    فورين بوليسي: منطقة "دونباس" مفتاح الحرب والسلام في أوكرانيا    مصر تحصد فضية الريشة الطائرة بالبطولة العربية المدرسية بالأردن    حقيقة حرمان خريجي البكالوريا من الالتحاق بعدد من الكليات    مرموش: لم تفاجئني بداية إيكيتيكي مع ليفربول.. وصلاح الأفضل    ضبط 400 قضية مخدرات وتنفيذ 83 ألف حكم قضائي خلال يوم    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    بنسبة تخفيض تصل 30%.. افتتاح سوق اليوم الواحد فى مدينة دهب    العين مرآة العقل.. وهذه العلامة قد تكشف مرضًا عقليًا أو اضطراب نفسي    محافظ مطروح يستقبل رئيس جامعة الازهر لافتتاح مقر لكلية البنات الأزهرية    الاقتصاد المصرى يتعافى    مصلحة الضرائب تنفي وجود خلاف بين الحكومة وشركات البترول حول ضريبة القيمة المضافة    وزارة التخطيط ووكالة جايكا تطلقان تقريرا مشتركا حول 70 عاما من الصداقة والثقة المصرية اليابانية    «التسامح والرضا».. وصفة للسعادة تدوم مدى الحياة    دعمًا للأجيال الواعدة.. حماة الوطن يكرم أبطال «UC Math» في دمياط    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    صحيفة عبرية: نتنياهو يشجع بن جفير وسموتريتش على تقويض فرص التوصل إلى اتفاق    ناقد رياضي: بن رمضان اللاعب الأكثر ثباتًا في الأهلي.. ومواجهة المحلة صعبة    ثائرٌ يكتُب    محافظ أسيوط يسلم جهاز عروسة لابنة إحدى المستفيدات من مشروعات تمكين المرأة    «خير يوم طلعت عليه الشمس».. تعرف على فضل يوم الجمعة والأعمال المستحبة فيه    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    أزمة وتعدى.. صابر الرباعى يوجه رسالة لأنغام عبر تليفزيون اليوم السابع    نجم الأهلي السابق: أفضل تواجد عبد الله السعيد على مقاعد البدلاء ومشاركته في آخر نصف ساعة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شبلول "في صحبة فاروق شوشة"
نشر في صوت البلد يوم 01 - 07 - 2017

ليس في أخلاق الناس خلق يأسر قلبي، ويملك عليَّ أقطار نفسي، ويملأ روحي غبطة وسرورًا مثل خلق الوفاء، وعندما يمتزج الوفاء بعطر الفكر والفن والأدب، فذلك هو الشهد المصفى؛ لأنه يتمثل في أحاديث الفن والفكر والإبداع، وفيه تلتقي الأجيال وتتلاقح العقول.
والتأمل في تراث شاعر العربية الراحل فاروق شوشة وحياته يدل على أن لِقيمة الوفاء منزلة رفيعة لديه، بل إنني أزعم من خلال معايشة طويلة لمنجزه أن الوفاء مفتاح سحري لعالمه الشعري ومنجزه النقدي على السواء.
وقد قيّض الله له بعد رحيله من يبادله وفاءً بوفاء وحب، وهو شاعر الإسكندرية النبيل أحمد فضل شبلول، والعلاقة بين فاروق وشبلول أصيلة وعميقة، وفي كتاب شبلول" في صحبة فاروق شوشة" الذي يضوع بعبق الوفاء وسحره الجميل حديث من الرجلين عن تلك العلاقة الندية وتاريخها.
يبرز الكتاب في صدق نادر بعض جوانب شخصية فاروق، فهذا الوجه الطيب النبيل الهادئ، صاحب الصوت الخفيض الذي يفيض عذوبة ورقة، ينطوي في داخله على قلق وتوتر شديدين كقدر يغلي على النار بسبب تغير الزمان وفساد العصر، وفي قصائد من مثل: "خدم خدم" و"شبيه زماننا" خير دليل على ذلك، وكذلك في رسالته النثرية "إلى محمود درويش" شاعر القضية الفلسطينية، كما أن الكتاب يقدم لنا أحمد شبلول بوجوهه المتنوعة: الشاعر والناقد والباحث والصحفي، وقبل كل هذا وبعده يقدم لنا أحمد الإنسان المحب الوفي الذي يحفظ العهد لصديقه وأستاذه الشاعر الكبير.
يذكرنا العنوان بأحد كتب فاروق شوشة وهو "في صحبة هؤلاء" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب مما يدل على عمق أثر فاروق في صاحبه شبلول.
يبدأ الكتاب بمقدمة ضافية تفيض بروح الشعر للروائي الكبير محمد جبريل، وفيها لوحات سردية سريعة لمواقف ثقافية وإنسانية جمعت بين شوشة وجبريل في اتحاد الكتاب، وفي الحياة الثقافية عامة.
وتنهمر الذكريات، ويتداعى الحزن ويلوح أثر الفقد على قلب صاحبنا شبلول عندما يحدث شاعره الراحل في مفتتح كتابه بضمير المخاطب الذي يعكس شدة القرب ولوعة الفراق، كاشفًا عن منزلة فاروق من نفسه، وعن ذكرياته وأحزانه لفقد الشاعر والصديق.
بعد ذلك تتوزع فصول الكتاب على أربعة محاور، منها ما كتبه شبلول عن فاروق ومنها حوارات لشبلول ولآخرين مع الشاعر الراحل، ومنها كتابات لفاروق شوشة نفسه عن صديقه أحمد شبلول.
في المحور الأول: يقدم شبلول دراسات نقدية لبعض أعمال شوشة الإبداعية، فتحت عنوان "تجليات الواقع في صورة شعرية" يعرض شبلول لقصائد ديوان "الدائرة المحكمة" من حيث بنيتها العروضية وتشكيلها الموسيقي وموضوعاتها وقضاياها، ولا استطيع أن أخفي انبهاري الشديد بتحليل شبلول لقصيدة: "صورة" فقد وقف عند كل كلمة يسائلها ويستنطقها ويستخرج كنوزها المخبأة، ويرى صورة الواقع من خلالها، بينما عرض لأهم القضايا الفنية والفكرية التي طرحها ديوان "الجميلة تنزل إلى النهر" ورأى أن الجميلة هنا هي: الأمة العربية التي خرجت من فم النهر تبحث في ورق التوت عن ساتر.
ويشير شبلول أكثر من مرة إلى جانب لم يأخذ حقه في شعر شوشة، وهو دواوينه التي كتبها للأطفال وهي: "حبيبة والقمر" و"ملك تبدأ خطواتها" و"الأمير باسم" و "الطائر الصغير".
أما المحور الثاني: فقد خُصِصَ لدراسة بعض أعمال شوشة النثرية، ودراساته النقدية، فهو يعرض لسيرته الشعرية "عذابات العمر الجميل" والتي بها يصبح فاروق شوشة أول شعراء جيله الذين يؤرخون لمسيرتهم الشعرية في كتاب مستقل بذاته ... لتكون عونًا للقراء والباحثين والنقاد على دخول عالمهم الشعري وتفهمه ومعايشته معايشة صحيحة.
وفي عرضه لكتاب " الشعر أولًا .. والشعر أخيرًا" يشير إلى أن الكتابة الأدبية في نظر شوشة لا بد أن تصدر عن محبة حقيقة، ووعي حقيقي بأهمية هذه المحبة في اختيار الموضوع وتحديد زاوية النظر إليه، ومنهج التعامل معه.
وفي كتابه "أصوات شعرية مقتحمة" يقف فاروق شوشة أمام أربعة عشر شاعرًا مصريًا منهم أحمد شبلول ويرى أن تجاربهم لم تلق ما تستحقه من الاهتمام النقدي، وهم في مجموعهم، وتنوع أنغامهم، واختلاف مساراتهم وأعمارهم، يشكلون صفحة أو صفحات من ديوان الشعر المصري المعاصر.
يطالعنا في هذا المحور جمال ونضارة الوجه النقدي لفاروق شوشة، وعمق ودقة الوجه البحثي لشبلول، وقدرته الفذة على تلخيص الأفكار.
ويمكن أن يُضاف إلى هذا المحور ما كتبه شبلول حول برنامج "لغتنا الجميلة" الذي ظل فاروق يقدمه في إذاعة البرنامج العام منذ سنة 1967م حتى وفاته، ووصل عدد حلقاته إلى أكثر من ستة عشر ألف حلقة، واجتمع حوله ملايين المستمعين في مصر والعالم العربي.
ويأتي المحور الثالث: وفيه يظهر الوجه الصحفي لأحمد شبلول من خلال الحوارات التي أجراها مع صديقه فاروق, وفي ظني أنه لا غنى لقارئ فاروق شوشة،ومن يريد أن يقترب من عالمه الشعري ومشروعه النقدي، وآرائه في الفكر والفن والحياة عن مطالعة تلك الحوارات وتأملها والعكوف عليها.
ومن بين تلك الحوارات ألتقطُ للقارئ نموذجًا دالًا على رحابة فكره واستنارته واعتداله، فعندما سأله شبلول: كيف يفهم أو يتعامل فاروق شوشة مع "الحداثة"؟ وهل الحداثة ضد التراث؟
قال فاروق: "يجب أن نفرق بشدة بين من يتحدثون عن الحداثة، ومن يحققونها بالإبداع فعلًا، ويبدو لي أن الأصوات التي تملأ الساحة الآن، رفعًا لشعار "الحداثة" هي من الصنف الأول، ولهذا فكثيرًا ما أحس أننا سئمنا كلامًا عن الحداثة، وبدلًا من حديثكم عنها قدموها لنا إن استطعتم، هذه واحدة، وأخرى أنَّ "الحداثة" لا يمكن أن تكون نفيًا للتراث, أو انقطاعًا عنه؛ لأن التراث حيّ ومستمر فينا باللغة، ونفي هذه اللغة نفي للإداراك والاتصال والاستمرار، حتى لو تمثلت حداثتنا في إدراك جديد للغة وظيفة ونسقًا وهندسة تراكيب وبناءً، وسيظل الأساس اللغوي الذي يربطنا بالتراث قائمًا ممتدًا شئنا أم أبينا.
ولعلي من الذين يفضلون الحديث عن التجديد بمعنى التغير والتجاوز والإضافة أكثر من مقولة "الحداثة" التي لا بد أنها خاضعة بفعل الزمن والتجاوز لكل ما يعتور الناس والأشياء، فإذا بهذه الحداثة المطروحة الآن قد أصبحث قدمًا وسلفية في مقبل الأيام.
ويستمر بوح فاروق شوشة وحواراته حول "قصيدة النثر" و"النظرية البنيوية" و"مجمع اللغة العربية" ودوره فيه، والموجة الأولى "لشعر التفعيلة"، وعن برامجه التي أعدها وقدمها للإذاعة والتليفزيون، وكلها دالة على وعي فاروق وفطنته وبعد نظره، وعلى أنه صاحب شخصية شديدة "الاتزان" كما وصفه بذلك أبو همام رحمة الله.
وفي الكتاب حوار أجراه الأستاذ مصطفى عبد الله مع فاروق، وآخر أجرته معه وكالة الصحافة العربية وقد أحسن شبلول إذ ضمهما إلى كتابه لما فيهما من حديث عذب حول شخصيات وقضايا مهمة عايشها الشاعر.
ويضاف إلى المحور الصحفي فصلان: أحدهما عقده شبلول للحديث عن احتفالية المجلس الأعلى للثقافة بمناسبة بلوغ فاروق السبعين، والفصل الآخر كتبته ميرفت واصف عن حفل تأبين شاعرنا الراحل شارك فيه شعراء مصر وأدباؤها.
والحق أن المادة الصحفية التي يقدمها شبلول في الكتاب حية متميزة وتستحق البقاء، ويمتزج فيها الطابع البحثي بالطابع الصحفي.
أما المحور الرابع: فقد كتب فيه فاروق شوشة نفسه مقالين عن صديقه الوفي أحمد و قصيدة حول مدينته الإسكندرية، يقول فاروق: "لم يكن أحمد فضل شبلول في يوم من الأيام مجرد واحد من أصوات الاسكندرية الشعرية المقتحمة، وإنما كان بالاضافة إلي ذلك واحداً من أبرز الدارسين والباحثين في جيله لواقعها الأدبي والثقافي, قبل أن يتجاوز هذه الدائرة الجغرافية الضيقة، لتصبح اهتماماته وشواغله باتساع العالم العربي كله."
وللإسكندرية حضور طاغٍ بين صفحات الكتاب فهي موطن شبلول ومحمد جبريل، ومعشوقة فاروق شوشة فيستدعيها جبريل في صورة حلقات الذكر على رصيف البوصيري، وصخرة الأنفوشي وقلعة قايتباي... وهي عند شبلول ذلك الزمان الذي لا يدور إلي شمس والجمال الذي لم يقف عند نهر الحقيقة؛ لذا لم يكن من الغريب أن يختتم شبلول كتابه بقصيدة فاروق التي يخاطب فيها الإسكندرية:
الحكايات ملء صدرك
والبحر هو البحر
يوافيك جاثياً
مثلما الآن
ومستغرقاً
إلى ركبك الملكيّ
وفي قصرك العسجدي
على عرشك الثبجيّ
ويعطيك من نفسه
ولا يضن ولا يشتكي
عرفت أحمد شبلول الكاتب والشاعر من خلال فاروق شوشة عندما كتب عنه فاروق كأحد الأصوات الشعرية المقتحمة، وأصبحت من قرائه ومتابعيه.
ومرت الأيام، وذهب فاروق شوشة إلى جوار ربه، وصدر كتاب شبلول، وكم كانت سعادتي عندما رأيته في معرض الإسكندرية الدولى للكتاب، سارعت بالسلام عليه والحياء يكاد يعقد لساني من الخجل، ذكرته بفاروق ومقاله، فرحب بي بحرارة، وقال: "إن لي كتابًا عن فاروق"، فأخبرته أنني بحثت عنه ولم أجده، فأخذني من يدي إلى فرع مكتبة الإسكندرية بالمعرض، واشترى لي نسخة من الكتاب، وأصر على أن يدفع هو ثمنها، ثم حكي لي قصة مشابهة حدثت له مع فاروق وذكرها في كتابه حيث اصطحبه فاروق شوشة إلى فرع الهيئة المصرية العامة للكتاب بالإسكندرية، واشترى له نسخة من أحد دواوينه، وكتب عليها إهداءً لشبلول.
كنت أتابع ملامح وجه شبلول وهو يحكي لي تلك الواقعة، وأرى آثار الحزن، وعلامات الأسى والاعتبار والحنان، وكأنه يريد أن يقول لي إنني أسدد معك ديني لفاروق، أو كأنه يريد أن يعلمني أن الوفاء أمانة وميراث أجيال تتواصل في محبة الإبداع.
ليس في أخلاق الناس خلق يأسر قلبي، ويملك عليَّ أقطار نفسي، ويملأ روحي غبطة وسرورًا مثل خلق الوفاء، وعندما يمتزج الوفاء بعطر الفكر والفن والأدب، فذلك هو الشهد المصفى؛ لأنه يتمثل في أحاديث الفن والفكر والإبداع، وفيه تلتقي الأجيال وتتلاقح العقول.
والتأمل في تراث شاعر العربية الراحل فاروق شوشة وحياته يدل على أن لِقيمة الوفاء منزلة رفيعة لديه، بل إنني أزعم من خلال معايشة طويلة لمنجزه أن الوفاء مفتاح سحري لعالمه الشعري ومنجزه النقدي على السواء.
وقد قيّض الله له بعد رحيله من يبادله وفاءً بوفاء وحب، وهو شاعر الإسكندرية النبيل أحمد فضل شبلول، والعلاقة بين فاروق وشبلول أصيلة وعميقة، وفي كتاب شبلول" في صحبة فاروق شوشة" الذي يضوع بعبق الوفاء وسحره الجميل حديث من الرجلين عن تلك العلاقة الندية وتاريخها.
يبرز الكتاب في صدق نادر بعض جوانب شخصية فاروق، فهذا الوجه الطيب النبيل الهادئ، صاحب الصوت الخفيض الذي يفيض عذوبة ورقة، ينطوي في داخله على قلق وتوتر شديدين كقدر يغلي على النار بسبب تغير الزمان وفساد العصر، وفي قصائد من مثل: "خدم خدم" و"شبيه زماننا" خير دليل على ذلك، وكذلك في رسالته النثرية "إلى محمود درويش" شاعر القضية الفلسطينية، كما أن الكتاب يقدم لنا أحمد شبلول بوجوهه المتنوعة: الشاعر والناقد والباحث والصحفي، وقبل كل هذا وبعده يقدم لنا أحمد الإنسان المحب الوفي الذي يحفظ العهد لصديقه وأستاذه الشاعر الكبير.
يذكرنا العنوان بأحد كتب فاروق شوشة وهو "في صحبة هؤلاء" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب مما يدل على عمق أثر فاروق في صاحبه شبلول.
يبدأ الكتاب بمقدمة ضافية تفيض بروح الشعر للروائي الكبير محمد جبريل، وفيها لوحات سردية سريعة لمواقف ثقافية وإنسانية جمعت بين شوشة وجبريل في اتحاد الكتاب، وفي الحياة الثقافية عامة.
وتنهمر الذكريات، ويتداعى الحزن ويلوح أثر الفقد على قلب صاحبنا شبلول عندما يحدث شاعره الراحل في مفتتح كتابه بضمير المخاطب الذي يعكس شدة القرب ولوعة الفراق، كاشفًا عن منزلة فاروق من نفسه، وعن ذكرياته وأحزانه لفقد الشاعر والصديق.
بعد ذلك تتوزع فصول الكتاب على أربعة محاور، منها ما كتبه شبلول عن فاروق ومنها حوارات لشبلول ولآخرين مع الشاعر الراحل، ومنها كتابات لفاروق شوشة نفسه عن صديقه أحمد شبلول.
في المحور الأول: يقدم شبلول دراسات نقدية لبعض أعمال شوشة الإبداعية، فتحت عنوان "تجليات الواقع في صورة شعرية" يعرض شبلول لقصائد ديوان "الدائرة المحكمة" من حيث بنيتها العروضية وتشكيلها الموسيقي وموضوعاتها وقضاياها، ولا استطيع أن أخفي انبهاري الشديد بتحليل شبلول لقصيدة: "صورة" فقد وقف عند كل كلمة يسائلها ويستنطقها ويستخرج كنوزها المخبأة، ويرى صورة الواقع من خلالها، بينما عرض لأهم القضايا الفنية والفكرية التي طرحها ديوان "الجميلة تنزل إلى النهر" ورأى أن الجميلة هنا هي: الأمة العربية التي خرجت من فم النهر تبحث في ورق التوت عن ساتر.
ويشير شبلول أكثر من مرة إلى جانب لم يأخذ حقه في شعر شوشة، وهو دواوينه التي كتبها للأطفال وهي: "حبيبة والقمر" و"ملك تبدأ خطواتها" و"الأمير باسم" و "الطائر الصغير".
أما المحور الثاني: فقد خُصِصَ لدراسة بعض أعمال شوشة النثرية، ودراساته النقدية، فهو يعرض لسيرته الشعرية "عذابات العمر الجميل" والتي بها يصبح فاروق شوشة أول شعراء جيله الذين يؤرخون لمسيرتهم الشعرية في كتاب مستقل بذاته ... لتكون عونًا للقراء والباحثين والنقاد على دخول عالمهم الشعري وتفهمه ومعايشته معايشة صحيحة.
وفي عرضه لكتاب " الشعر أولًا .. والشعر أخيرًا" يشير إلى أن الكتابة الأدبية في نظر شوشة لا بد أن تصدر عن محبة حقيقة، ووعي حقيقي بأهمية هذه المحبة في اختيار الموضوع وتحديد زاوية النظر إليه، ومنهج التعامل معه.
وفي كتابه "أصوات شعرية مقتحمة" يقف فاروق شوشة أمام أربعة عشر شاعرًا مصريًا منهم أحمد شبلول ويرى أن تجاربهم لم تلق ما تستحقه من الاهتمام النقدي، وهم في مجموعهم، وتنوع أنغامهم، واختلاف مساراتهم وأعمارهم، يشكلون صفحة أو صفحات من ديوان الشعر المصري المعاصر.
يطالعنا في هذا المحور جمال ونضارة الوجه النقدي لفاروق شوشة، وعمق ودقة الوجه البحثي لشبلول، وقدرته الفذة على تلخيص الأفكار.
ويمكن أن يُضاف إلى هذا المحور ما كتبه شبلول حول برنامج "لغتنا الجميلة" الذي ظل فاروق يقدمه في إذاعة البرنامج العام منذ سنة 1967م حتى وفاته، ووصل عدد حلقاته إلى أكثر من ستة عشر ألف حلقة، واجتمع حوله ملايين المستمعين في مصر والعالم العربي.
ويأتي المحور الثالث: وفيه يظهر الوجه الصحفي لأحمد شبلول من خلال الحوارات التي أجراها مع صديقه فاروق, وفي ظني أنه لا غنى لقارئ فاروق شوشة،ومن يريد أن يقترب من عالمه الشعري ومشروعه النقدي، وآرائه في الفكر والفن والحياة عن مطالعة تلك الحوارات وتأملها والعكوف عليها.
ومن بين تلك الحوارات ألتقطُ للقارئ نموذجًا دالًا على رحابة فكره واستنارته واعتداله، فعندما سأله شبلول: كيف يفهم أو يتعامل فاروق شوشة مع "الحداثة"؟ وهل الحداثة ضد التراث؟
قال فاروق: "يجب أن نفرق بشدة بين من يتحدثون عن الحداثة، ومن يحققونها بالإبداع فعلًا، ويبدو لي أن الأصوات التي تملأ الساحة الآن، رفعًا لشعار "الحداثة" هي من الصنف الأول، ولهذا فكثيرًا ما أحس أننا سئمنا كلامًا عن الحداثة، وبدلًا من حديثكم عنها قدموها لنا إن استطعتم، هذه واحدة، وأخرى أنَّ "الحداثة" لا يمكن أن تكون نفيًا للتراث, أو انقطاعًا عنه؛ لأن التراث حيّ ومستمر فينا باللغة، ونفي هذه اللغة نفي للإداراك والاتصال والاستمرار، حتى لو تمثلت حداثتنا في إدراك جديد للغة وظيفة ونسقًا وهندسة تراكيب وبناءً، وسيظل الأساس اللغوي الذي يربطنا بالتراث قائمًا ممتدًا شئنا أم أبينا.
ولعلي من الذين يفضلون الحديث عن التجديد بمعنى التغير والتجاوز والإضافة أكثر من مقولة "الحداثة" التي لا بد أنها خاضعة بفعل الزمن والتجاوز لكل ما يعتور الناس والأشياء، فإذا بهذه الحداثة المطروحة الآن قد أصبحث قدمًا وسلفية في مقبل الأيام.
ويستمر بوح فاروق شوشة وحواراته حول "قصيدة النثر" و"النظرية البنيوية" و"مجمع اللغة العربية" ودوره فيه، والموجة الأولى "لشعر التفعيلة"، وعن برامجه التي أعدها وقدمها للإذاعة والتليفزيون، وكلها دالة على وعي فاروق وفطنته وبعد نظره، وعلى أنه صاحب شخصية شديدة "الاتزان" كما وصفه بذلك أبو همام رحمة الله.
وفي الكتاب حوار أجراه الأستاذ مصطفى عبد الله مع فاروق، وآخر أجرته معه وكالة الصحافة العربية وقد أحسن شبلول إذ ضمهما إلى كتابه لما فيهما من حديث عذب حول شخصيات وقضايا مهمة عايشها الشاعر.
ويضاف إلى المحور الصحفي فصلان: أحدهما عقده شبلول للحديث عن احتفالية المجلس الأعلى للثقافة بمناسبة بلوغ فاروق السبعين، والفصل الآخر كتبته ميرفت واصف عن حفل تأبين شاعرنا الراحل شارك فيه شعراء مصر وأدباؤها.
والحق أن المادة الصحفية التي يقدمها شبلول في الكتاب حية متميزة وتستحق البقاء، ويمتزج فيها الطابع البحثي بالطابع الصحفي.
أما المحور الرابع: فقد كتب فيه فاروق شوشة نفسه مقالين عن صديقه الوفي أحمد و قصيدة حول مدينته الإسكندرية، يقول فاروق: "لم يكن أحمد فضل شبلول في يوم من الأيام مجرد واحد من أصوات الاسكندرية الشعرية المقتحمة، وإنما كان بالاضافة إلي ذلك واحداً من أبرز الدارسين والباحثين في جيله لواقعها الأدبي والثقافي, قبل أن يتجاوز هذه الدائرة الجغرافية الضيقة، لتصبح اهتماماته وشواغله باتساع العالم العربي كله."
وللإسكندرية حضور طاغٍ بين صفحات الكتاب فهي موطن شبلول ومحمد جبريل، ومعشوقة فاروق شوشة فيستدعيها جبريل في صورة حلقات الذكر على رصيف البوصيري، وصخرة الأنفوشي وقلعة قايتباي... وهي عند شبلول ذلك الزمان الذي لا يدور إلي شمس والجمال الذي لم يقف عند نهر الحقيقة؛ لذا لم يكن من الغريب أن يختتم شبلول كتابه بقصيدة فاروق التي يخاطب فيها الإسكندرية:
الحكايات ملء صدرك
والبحر هو البحر
يوافيك جاثياً
مثلما الآن
ومستغرقاً
إلى ركبك الملكيّ
وفي قصرك العسجدي
على عرشك الثبجيّ
ويعطيك من نفسه
ولا يضن ولا يشتكي
عرفت أحمد شبلول الكاتب والشاعر من خلال فاروق شوشة عندما كتب عنه فاروق كأحد الأصوات الشعرية المقتحمة، وأصبحت من قرائه ومتابعيه.
ومرت الأيام، وذهب فاروق شوشة إلى جوار ربه، وصدر كتاب شبلول، وكم كانت سعادتي عندما رأيته في معرض الإسكندرية الدولى للكتاب، سارعت بالسلام عليه والحياء يكاد يعقد لساني من الخجل، ذكرته بفاروق ومقاله، فرحب بي بحرارة، وقال: "إن لي كتابًا عن فاروق"، فأخبرته أنني بحثت عنه ولم أجده، فأخذني من يدي إلى فرع مكتبة الإسكندرية بالمعرض، واشترى لي نسخة من الكتاب، وأصر على أن يدفع هو ثمنها، ثم حكي لي قصة مشابهة حدثت له مع فاروق وذكرها في كتابه حيث اصطحبه فاروق شوشة إلى فرع الهيئة المصرية العامة للكتاب بالإسكندرية، واشترى له نسخة من أحد دواوينه، وكتب عليها إهداءً لشبلول.
كنت أتابع ملامح وجه شبلول وهو يحكي لي تلك الواقعة، وأرى آثار الحزن، وعلامات الأسى والاعتبار والحنان، وكأنه يريد أن يقول لي إنني أسدد معك ديني لفاروق، أو كأنه يريد أن يعلمني أن الوفاء أمانة وميراث أجيال تتواصل في محبة الإبداع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.