السكة الحديد تعتذر عن سقوط قطار بضائع بالقليوبية.. وإجراءات قانونية للمتسببين    فوضى الأمطار في سياتل، انهيار سد أمريكي يهدد 3 ضواحي بأمواج وفيضانات مفاجئة    حورية فرغلي: بقضي وقتي مع الحيوانات ومبقتش بثق في حد    حورية فرغلي: لسه بعاني من سحر أسود وبتكلم مع ربنا كتير    محمد القس: أحمد السقا أجدع فنان.. ونفسي اشتغل مع منى زكي    جلال برجس: الرواية أقوى من الخطاب المباشر وتصل حيث تعجز السياسة    بسبب سوء الأحوال الجوية.. تعطيل الدراسة في شمال سيناء اليوم    وكيل صحة الغربية يعلن افتتاح وحدة التصلب المتعدد والسكتة الدماغية بمستشفى طنطا العام    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الثلاثاء 16 ديسمبر    وفاة شخص وإصابة شقيقه في مشاجرة بالغربية    تأجيل محاكمة 9 متهمين بخلية المطرية    توسك: التنازلات الإقليمية لأوكرانيا شرط أمريكي لاتفاق السلام    ترامب يعلن مادة الفينتانيل المخدرة «سلاح دمار شامل»    مباراة ال 8 أهداف.. بورنموث يفرض تعادلا مثيرا على مانشستر يونايتد    أيامى فى المدينة الجامعية: عن الاغتراب وشبح الخوف!    لإجراء الصيانة.. انقطاع التيار الكهربائي عن 21 قرية في كفر الشيخ    لقاح الإنفلونزا.. درع الوقاية للفئات الأكثر عرضة لمضاعفات الشتاء    إنقاذ قلب مريض بدسوق العام.. تركيب دعامتين دوائيتين ينهي معاناة 67 عامًا من ضيق الشرايين    «المؤشر العالمي للفتوى» يناقش دور الإفتاء في مواجهة السيولة الأخلاقية وتعزيز الأمن الفكري    وزير قطاع الأعمال العام: عودة منتجات «النصر للسيارات» للميني باص المصري بنسبة مكون محلي 70%    العربية لحقوق الإنسان والمفوضية تدشنان حوارا إقليميا لإنشاء شبكة خبراء عرب    ثماني دول أوروبية تناقش تعزيز الدفاعات على الحدود مع روسيا    5 أعشاب تخلصك من احتباس السوائل بالجسم    لجنة فنية للتأكد من السلامة الإنشائية للعقارات بموقع حادث سقوط حاويات فارغة من على قطار بطوخ    صعق كهرباء ينهي حياة عامل داخل مصنع بمدينة 6 أكتوبر    تحطم زجاج سيارة ملاكي إثر انهيار شرفة عقار في الإسكندرية    فتش عن الإمارات .. حملة لليمينيين تهاجم رئيس وزراء كندا لرفضه تصنيف الإخوان كمنظمة إرهابية    الكونغو: سجن زعيم المتمردين السابق لومبالا 30 عامًا لارتكابه فظائع    محافظ القليوبية ومدير الأمن يتابعان حادث تساقط حاويات من قطار بضائع بطوخ    نهائي كأس العرب 2025.. موعد مباراة المغرب ضد الأردن والقنوات الناقلة    كأس العرب، حارس مرمى منتخب الأردن بعد إقصاء السعودية لسالم الدوسري: التواضع مطلوب    منذر رياحنة يوقّع ختام «كرامة» ببصمته... قيادة تحكيمية أعادت الاعتبار للسينما الإنسانية    إبراهيم المعلم: الثقافة بمصر تشهد حالة من المد والجزر.. ولم أتحول إلى رقيب ذاتي في النشر    التموين تواصل افتتاح أسواق اليوم الواحد بالقاهرة.. سوق جديد بالمرج لتوفير السلع    نقيب أطباء الأسنان يحذر من زيادة أعداد الخريجين: المسجلون بالنقابة 115 ألفا    مصرع طفلين وإصابة 4 أشخاص على الأقل فى انفجار بمبنى سكنى فى فرنسا    شيخ الأزهر يهنئ ملك البحرين باليوم الوطني ال54 ويشيد بنموذجها في التعايش والحوار    حسام البدرى: من الوارد تواجد أفشة مع أهلى طرابلس.. والعميد يحظى بدعم كبير    الأهلى يوافق على عرض إشتوريل برايا البرتغالى لضم محمد هيثم    الأمر سيصعب على برشلونة؟ مدرب جوادلاخارا: عشب ملعبنا ليس الأفضل    منتدى «السياحة والآثار» وTripAdvisor يناقشان اتجاهات السياحة العالمية ويبرزان تنوّع التجربة السياحية المصرية    في جولة ليلية.. محافظ الغربية يتفقد رصف شارع سيدي محمد ومشروعات الصرف بسمنود    محافظ الجيزة يتابع تنفيذ تعديلات مرورية بشارع العروبة بالطالبية لتيسير الحركة المرورية    العمل: طفرة في طلب العمالة المصرية بالخارج وإجراءات حماية من الشركات الوهمية    حضور ثقافي وفني بارز في عزاء الناشر محمد هاشم بمسجد عمر مكرم    الثلاثاء إعادة 55 دائرة فى «ثانية نواب» |139 مقرًا انتخابيًا بالسفارات فى 117 دولة.. وتصويت الداخل غدًا    غزل المحلة يطلب ضم ناصر منسى من الزمالك فى يناير    السعودية تودع كأس العرب دون الحفاظ على شباك نظيفة    القبض على المتهم بالشروع في قتل زوجة شقيقه وإبنته ببولاق الدكرور    متحدث الصحة: إطلاق الرقم الموحد 105 لتلقي استفسارات المواطنين    هل الزيادة في الشراء بالتقسيط تُعد فائدة ربوية؟.. "الإفتاء" تُجيب    الإدارية العليا ترفض الطعون المقدمة في بطلان الدوائر الانتخابية في قنا    اللمسة «الخبيثة» | «لا للتحرش.. بيئة مدرسية آمنة» حملات توعية بالإسكندرية    كيف أرشد الإسلام لأهمية اختيار الصديق؟ الأزهر للفتوي يوضح    وزير التعليم: تطوير شامل للمناهج من رياض الأطفال حتى الصف الثاني الثانوي    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 15-12-2025 في محافظة قنا    الأزهر يدين الهجوم الإرهابي الذي استهدف تجمعًا لأستراليين يهود ويؤكد رفضه الكامل لاستهداف المدنيين    حُسن الخاتمة.. مفتش تموين يلقى ربه ساجدًا في صلاة العشاء بالإسماعيلية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حداثة الرصافي: صدمة وعي أم توهم عقل؟
نشر في صوت البلد يوم 03 - 05 - 2017

عد أدونيس حداثة الشاعر العراقي الرصافي حداثة منقوصة غير مكتملة، ولعل هذا الرأي منطلق من انقياد أدونيس الرؤيوي نحو ثنائية الفكر/اللغة، التي كان البنيويون قد تعاملوا معها من زاوية شعرية الازدواج كامتداد لآراء دي سوسير، الذي أكد اندماجهما كوجهي الورقة.
وقد تصور أدونيس أن الرصافي الذي استحث أدواته الداحضة المتبرمة الثورية، كان يتوجب عليه توسيع درجة التبرم لتصل إلى اللغة، كي يدحض نموذج القصيدة العمودي بوصفه نسقا لغويا معتادا، ولينتفض من ثم على الذاكرة والحاضنة الثقافية، وبهذا ستكون حداثته شعرية لا موضوعية، ولا مناص أن في هذه المطالبة بعض الإجحاف..
وعودة بسيطة إلى مؤلفات الرصافي وكتاباته النثرية ستدلنا إلى أن حداثته كانت شعرية نثرية معا، بمعنى أن ما ابتغاه الرصافي من التحديث كان شموليا، وليس حصريا يقتصر على النظم أو النثر.
وإذ تصور أدونيس أن تمسك الرصافي بالقصيدة العمودية هو الذي ولّد ما سماه صدمة الحداثة، فإننا نرى العكس، بدليل أن الرصافي كان قد شيّد على قصيدة العمود دعواته الإصلاحية، معيدا للقصيدة حيويتها بلغة بسيطة فصيحة متزنة صوتيا، وكان لهذا التوجه شأنه المهم في جذب جمهور لا تغريه إلا الذائقة المتمسكة بالمعتاد الشكلي من الشعر، ليكون هذا الجمهور وجها لوجه أمام أفكار الرصافي التحديثية، وبذلك حقق الرصافي ما ابتغاه من الترويج والإشاعية.
ولو كانت دعواته الإصلاحية تقتضي منه الخروج على التقليدية الشعرية، لأعلن لاانتمائيته للعمود الخليلي، ولتنكر للنظام الشعري، ولربما لاقت آراؤه حياة، لكن ثوريته عندذاك ستتوزع ولا تتركز وستتعدد ولا تتوحد سواء في تحررها أو في نقمتها، وهي تتخذ الشعر وسيلة لا غاية.
ولا غرو أن الولوج المحسوب النتائج هو الذي حمل الرصافي على أن يخطو خطواته الجريئة في طريق الحداثة، التي ما كان أدونيس قد اهتم إلا بجانبها الفكري متغاضيا عن انعكاس الجانب الفني عليها عن قصد أو غير قصد.
ولعل ازدواجية هذا الموقف ما بين الإشادة والمؤاخذة عند ادونيس سببه إيمانه بأن الثورة الجمالية في الشعر تتطلب زمنا شعريا متحركا يتجاوز التاريخ وينشق عن الماضي.. وأن الثقافة ليست استعادة، بل هي ابتكار، وأن هذه هي الثقافة الفعالة التي تُبدع الإنسان في ما يبدعها وتؤسسه في ما يؤسسها.
ولا غرو أن أي حداثة، سواء أكانت شعرية أم نثرية؛ فإن لها بعدين، الأول إيجابي وهو المطلوب، الذي فيه الفائدة والتغيير، حين تدفع بالذات إلى اكتساب المعرفة التي بها يتعمق الوعي بالواقع، ويزداد الالتصاق بتفاصيل ظواهره وبواطن قضاياه لتسهم بدورها في تقدم المجتمع وتغييره من الداخل.
والبعد الثاني سلبي وهو الخطير والمرير، حين يدفع الانبهار بالحداثة إلى تقطيع الصلة بالحاضر والماضي والتعالي عليهما والنظر إليهما بدونية، وهكذا تسلّم الذات للوافد التجديدي وهي عاجزة عن التغيير، كونها تلفعت بالأسلبة رداءً ورضيت بالانبهار قنوعا وبالتطلع عجزا وتوانيا، ومن ثم تحبط عزائمها عن بلوغ مراميها.
ولعل الرصافي وقع تحت طائلة البعد الأخير، فانبهر بفلسفات علمية غربية ومنها الفلسفة العقلية الديكارتية وانتهجها أهدافا لا وسائل، وهذا ما أدى به إلى الوقوع ضحية الإعاقة والضمور، مع مزيد من الارتكاس في النقض والتجني. والسؤال الذي يطرح في هذا المجال لماذا تجنب أدونيس وهو المعني بالموضوعات والمضامين التطرق إلى النقد الديني عند الرصافي، واكتفى بالنقدين السياسي والاجتماعي، ومعلوم أن الرصافي نَقَدَ المدنية الغربية والحاضر العربي ونَقَدَ الماضي العربي من الناحيتين الدينية والتاريخية.
إن ما يعزز فرضية تغافل أدونيس عن النقد الديني عند الرصافي، ما أثبته في أول هامش من هوامش الدراسة التي تضمنها كتابه المعروف «الثابت والمتحول» في جزئه الثالث، وقد اكتفى بالتلميح والإيجاز قائلا: «تميزت حياته بالجرأة في التعبير، وهاجم اجتماعيا العادات والتقاليد الدينية وغيرها، ما أدى إلى الإفتاء بتكفيره وحرق كتابه (رسائل التعليقات) وطرده من العراق ومات سنة 1945». وكان الأجدى أن يقدم للقارئ رؤية أعمق تكشف حقيقة كفر الرصافي، وسبب إحراق كتابه وعلاقة ذلك بالحداثة التي تلبست الرصافي وجعلته يخالف المعتاد وينقم على التقاليد البالية.
وأدونيس الذي عرف بمنهجيته في المناقشة والعرض والتحليل، ما كان ليمر على هذه الأمور مرورا عابرا أو يقف بدون تنقيب في المتون، وهو الذي لا يترك واردة إلا ويتمسك بها، ولا شاردة إلا ويصفها. ولعل واقع الحال كان يفترض من أدونيس اصطفافا مع الرصافي، وهو المأخوذ مثله بمهاجمة التقاليد الاجتماعية، لكن الرصافي كان أكثر من أدونيس تبرما في معالجة بعض القضايا الدينية، مقدما لها على القضايا الاجتماعية الأخرى كالمرأة والفقر والاستعمار والتاريخ، باعتبار أن هذه القضايا هي تبعات الدين، ومع ذلك فضّل أدونيس مناقشة الجانب الاجتماعي /الحضاري العام فاصلا إياه عن الجانب الديني الخاص. ولعل تغافل أدونيس عن الدخول في حداثة الرصافي الدينية وتركيزه على الحداثتين الاجتماعية والشعرية، هو انعكاس لمفهوم الحداثة الذي تبناه، والذي يعني «الصراع بين النظام القائم على السلفية والرغبة العاملة لتغيير هذا النظام».
وإذا عددنا حداثة الرصافي الشعرية حداثة صادمة، حسب أدونيس وأنه ظل مربوط الأصول بالعمود، فما بالنا بحداثته التأليفية النثرية؟ هل هي حداثة صادمة أيضا؟ أو أنها حداثة واهمة كونها لم تخلص للمنهج العقلي لا سيما بعد أن تخبطت عنده الأدوات وتباينت لديه المقاصد والأغراض، وهو يدعي السعي نحو الحقيقة؟ وتحديدا في راهن ما ظهر من مؤلفات الرصافي التي لم تكن منشورة في زمن تأليف أدونيس لكتابه «الثابت والمتحول». وأعني كتاب «الشخصية المحمدية أو حل اللغز المقدس».
فهل كان نقد الرصافي للإسلام خاضعا لمرأى استشراقي متعاطيا التشكيك بالنبوة من باب الدحض والتسفيه ليس إلا؟ أو أن شكوكه تنطلق من وازع عقلي ذاتي يفتقر إلى آليات التشكيك وموجباته، إزاء شخصية مقدسة لها دورها الإنساني العظيم؟
وفي العموم، فإن حداثة الرصافي جاءت رفضا صريحا للانغلاق على الهوية، مع رغبة متدارية في التنكر لكل ما هو تراثي، أو بدرجة أخف إعادة إنتاج الماضي بمنظار الحاضر انفتاحا على التحضر وتدعيما لمسارات التحرر. ولقد جسّد الرصافي في هذا المصنف تأثره بالفلسفة العقلية الديكارتية، معليا من شأن الوافد الفلسفي وحاطا من قيمة التراث السيري، منبهرا بتلقي المعارف الغربية واستقبال رياحها. ولقد أنجز الرصافي تأليف الكتاب عام 1933 وطبع بعد وفاته بستة عقود.. وما يهمنا من الكتاب مقدمته التي أعلن فيها الرصافي سعيه نحو الحقيقة لا التاريخ، والحقيقة عنده مطلقة، ولذلك يفتتح الكتاب بتحميد الحقيقة وتمجيدها. ولقد وجد أن التاريخ بلا حقائق وأنه زيف لا قيمة له ولا وزن ولا حساب، وذهب إلى أكثر من ذلك، حين دحض التاريخ قاطبة فقال:»أبرأ إلى الحقيقة من التاريخ، وأنا اليوم أكتب ما أكتب للحقيقة وحدها لا شريك لها عندي».
ولو كان الرصافي ظافرا بالحقيقة لما خشي من إخراج كتابه في حياته، بعد أن توقع سخط الناس عليه، وأنهم سيعلنون إلحاده وارتداده.. ويظل هاجس التحديث العقلي واقفا وراء ما عُرف به الرصافي من الجرأة في طرح الآراء الانتهاكية المتخطية للثوابت والمباالغة في التجاوز.
وكان من نتاج هذه النزعة الحداثوية تولّد نوع من التعملق الذاتي الذي سوّغ للرصافي أن ينفرد مخالفا الرأي العام متغافلا عن التجريب والملاحظة، متوهما أنه باحث أكاديمي وكاتب فريد ومؤرخ ضليع بالتاريخ الإسلامي، وفقيه متبحر في علوم العقائد والحديث والرجال وفيلسوف عرف كنه الفلسفة وهضم بنودها واشتراطاتها. وهذا كله أغراه وجعله قادرا على القفز على الثوابت وزلزلة المحظورات واختراقها والخوض فيها بلا دليل من مرجعية تخصصية أو دراسة تصنيفية، وهكذا بيت النية بالتحامل، ومن ذلك مثلا تعمده عدم الحفاوة والتبجيل في ذكر الرسول الكريم، فأينما يرد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام في الكتاب، فانه يرد خاليا من أي عبارات تشريفية، مع أن هذه العبارات لا تضاد العلم ولا تنافي الحقيقة، لكنه التغاضي غير الموضوعي عن التبجيل والتعاطي غير الحيادي مع المقدس. ولعل صدمة حداثة الرصافي الشعرية، أقل خطورة وأذى من هول الحداثة الفلسفية، كون الأخيرة فندت أكثر مما أثبتت، وتمادت أكثر مما تحفظت، وسفهت أكثر مما وكدّت، والسبب أن الرصافي كان يقرأ ويؤول بأسلبة مفروغة الوفاض من منهجيات النقد وآلياته.. فبعض مرويات التاريخ يسفهها ثم ما يلبث أن يعاود الاستشهاد ببعضها أو يحتج بها. وما هذا إلا انكفاء وعدول، فضلا عن تطرف فكري، أهم علاماته أنه مغالبة أو مغالطة في دحض بعض المرويات أو التنكر لأسانيد بعينها، وإذا كانت نزعة الشك الديكارتية قد غلبت عليه، وصفة التعقلن والعلمنة قد تلبسته، فلماذا إذن لم يطبقها أول الأمر على الشعر العربي ويناقشه تاريخيا في قدمه ومروياته وقائليه ونقاده ومدارسه؟
ومعلوم أن طه حسين كان قد خاض غمار التشكيك في الشعر الجاهلي، فكتب وناقش ونشر، ثم لما تبين له خطأ بعض ادعاءاته عاد أدراجه نافضا عنه بعض التشكيك متراجعا عن بعض الفرضيات، لكن الرصافي أصرَّ على آرائه وهو العارف أن النتيجة ستكون قاسية، وأنه سيلقى أسوأ الجزاء لكونه قد تمادى وغالى.
ولذلك كان سعيه إلى الإقناع أكثر من سعيه إلى الحقيقة، وقد دفعه تذبذبه الفكري إلى التحامل والتحايل والمغالاة، حتى صار التباهي بالتفلسف وعدم الاكتراث للعواقب سيان عند الرصافي، وهذا ما وسم فكره بالوهم والتجني. وبذلك يمسي الرصافي أديبا أغرته الحداثة فوقع في محظوراتها، وما من ضمان لذلك بتاتاً، ما دامت الحرية ليست انعتاقا ولا انفلاتا حد التجني، كما أنها ليست انبهارا إلى درجة التطرف؛ بل هي حوارية تستلهم المنطق وتوظف العقل في مدارات من التفكير ذات بؤر يخصِّب بعضها بعضا عبر رؤى قد تبتعد عن التنميط إدراكاً، وقد تدنو من التجديد وعياً.
....
كاتبة عراقية
عد أدونيس حداثة الشاعر العراقي الرصافي حداثة منقوصة غير مكتملة، ولعل هذا الرأي منطلق من انقياد أدونيس الرؤيوي نحو ثنائية الفكر/اللغة، التي كان البنيويون قد تعاملوا معها من زاوية شعرية الازدواج كامتداد لآراء دي سوسير، الذي أكد اندماجهما كوجهي الورقة.
وقد تصور أدونيس أن الرصافي الذي استحث أدواته الداحضة المتبرمة الثورية، كان يتوجب عليه توسيع درجة التبرم لتصل إلى اللغة، كي يدحض نموذج القصيدة العمودي بوصفه نسقا لغويا معتادا، ولينتفض من ثم على الذاكرة والحاضنة الثقافية، وبهذا ستكون حداثته شعرية لا موضوعية، ولا مناص أن في هذه المطالبة بعض الإجحاف..
وعودة بسيطة إلى مؤلفات الرصافي وكتاباته النثرية ستدلنا إلى أن حداثته كانت شعرية نثرية معا، بمعنى أن ما ابتغاه الرصافي من التحديث كان شموليا، وليس حصريا يقتصر على النظم أو النثر.
وإذ تصور أدونيس أن تمسك الرصافي بالقصيدة العمودية هو الذي ولّد ما سماه صدمة الحداثة، فإننا نرى العكس، بدليل أن الرصافي كان قد شيّد على قصيدة العمود دعواته الإصلاحية، معيدا للقصيدة حيويتها بلغة بسيطة فصيحة متزنة صوتيا، وكان لهذا التوجه شأنه المهم في جذب جمهور لا تغريه إلا الذائقة المتمسكة بالمعتاد الشكلي من الشعر، ليكون هذا الجمهور وجها لوجه أمام أفكار الرصافي التحديثية، وبذلك حقق الرصافي ما ابتغاه من الترويج والإشاعية.
ولو كانت دعواته الإصلاحية تقتضي منه الخروج على التقليدية الشعرية، لأعلن لاانتمائيته للعمود الخليلي، ولتنكر للنظام الشعري، ولربما لاقت آراؤه حياة، لكن ثوريته عندذاك ستتوزع ولا تتركز وستتعدد ولا تتوحد سواء في تحررها أو في نقمتها، وهي تتخذ الشعر وسيلة لا غاية.
ولا غرو أن الولوج المحسوب النتائج هو الذي حمل الرصافي على أن يخطو خطواته الجريئة في طريق الحداثة، التي ما كان أدونيس قد اهتم إلا بجانبها الفكري متغاضيا عن انعكاس الجانب الفني عليها عن قصد أو غير قصد.
ولعل ازدواجية هذا الموقف ما بين الإشادة والمؤاخذة عند ادونيس سببه إيمانه بأن الثورة الجمالية في الشعر تتطلب زمنا شعريا متحركا يتجاوز التاريخ وينشق عن الماضي.. وأن الثقافة ليست استعادة، بل هي ابتكار، وأن هذه هي الثقافة الفعالة التي تُبدع الإنسان في ما يبدعها وتؤسسه في ما يؤسسها.
ولا غرو أن أي حداثة، سواء أكانت شعرية أم نثرية؛ فإن لها بعدين، الأول إيجابي وهو المطلوب، الذي فيه الفائدة والتغيير، حين تدفع بالذات إلى اكتساب المعرفة التي بها يتعمق الوعي بالواقع، ويزداد الالتصاق بتفاصيل ظواهره وبواطن قضاياه لتسهم بدورها في تقدم المجتمع وتغييره من الداخل.
والبعد الثاني سلبي وهو الخطير والمرير، حين يدفع الانبهار بالحداثة إلى تقطيع الصلة بالحاضر والماضي والتعالي عليهما والنظر إليهما بدونية، وهكذا تسلّم الذات للوافد التجديدي وهي عاجزة عن التغيير، كونها تلفعت بالأسلبة رداءً ورضيت بالانبهار قنوعا وبالتطلع عجزا وتوانيا، ومن ثم تحبط عزائمها عن بلوغ مراميها.
ولعل الرصافي وقع تحت طائلة البعد الأخير، فانبهر بفلسفات علمية غربية ومنها الفلسفة العقلية الديكارتية وانتهجها أهدافا لا وسائل، وهذا ما أدى به إلى الوقوع ضحية الإعاقة والضمور، مع مزيد من الارتكاس في النقض والتجني. والسؤال الذي يطرح في هذا المجال لماذا تجنب أدونيس وهو المعني بالموضوعات والمضامين التطرق إلى النقد الديني عند الرصافي، واكتفى بالنقدين السياسي والاجتماعي، ومعلوم أن الرصافي نَقَدَ المدنية الغربية والحاضر العربي ونَقَدَ الماضي العربي من الناحيتين الدينية والتاريخية.
إن ما يعزز فرضية تغافل أدونيس عن النقد الديني عند الرصافي، ما أثبته في أول هامش من هوامش الدراسة التي تضمنها كتابه المعروف «الثابت والمتحول» في جزئه الثالث، وقد اكتفى بالتلميح والإيجاز قائلا: «تميزت حياته بالجرأة في التعبير، وهاجم اجتماعيا العادات والتقاليد الدينية وغيرها، ما أدى إلى الإفتاء بتكفيره وحرق كتابه (رسائل التعليقات) وطرده من العراق ومات سنة 1945». وكان الأجدى أن يقدم للقارئ رؤية أعمق تكشف حقيقة كفر الرصافي، وسبب إحراق كتابه وعلاقة ذلك بالحداثة التي تلبست الرصافي وجعلته يخالف المعتاد وينقم على التقاليد البالية.
وأدونيس الذي عرف بمنهجيته في المناقشة والعرض والتحليل، ما كان ليمر على هذه الأمور مرورا عابرا أو يقف بدون تنقيب في المتون، وهو الذي لا يترك واردة إلا ويتمسك بها، ولا شاردة إلا ويصفها. ولعل واقع الحال كان يفترض من أدونيس اصطفافا مع الرصافي، وهو المأخوذ مثله بمهاجمة التقاليد الاجتماعية، لكن الرصافي كان أكثر من أدونيس تبرما في معالجة بعض القضايا الدينية، مقدما لها على القضايا الاجتماعية الأخرى كالمرأة والفقر والاستعمار والتاريخ، باعتبار أن هذه القضايا هي تبعات الدين، ومع ذلك فضّل أدونيس مناقشة الجانب الاجتماعي /الحضاري العام فاصلا إياه عن الجانب الديني الخاص. ولعل تغافل أدونيس عن الدخول في حداثة الرصافي الدينية وتركيزه على الحداثتين الاجتماعية والشعرية، هو انعكاس لمفهوم الحداثة الذي تبناه، والذي يعني «الصراع بين النظام القائم على السلفية والرغبة العاملة لتغيير هذا النظام».
وإذا عددنا حداثة الرصافي الشعرية حداثة صادمة، حسب أدونيس وأنه ظل مربوط الأصول بالعمود، فما بالنا بحداثته التأليفية النثرية؟ هل هي حداثة صادمة أيضا؟ أو أنها حداثة واهمة كونها لم تخلص للمنهج العقلي لا سيما بعد أن تخبطت عنده الأدوات وتباينت لديه المقاصد والأغراض، وهو يدعي السعي نحو الحقيقة؟ وتحديدا في راهن ما ظهر من مؤلفات الرصافي التي لم تكن منشورة في زمن تأليف أدونيس لكتابه «الثابت والمتحول». وأعني كتاب «الشخصية المحمدية أو حل اللغز المقدس».
فهل كان نقد الرصافي للإسلام خاضعا لمرأى استشراقي متعاطيا التشكيك بالنبوة من باب الدحض والتسفيه ليس إلا؟ أو أن شكوكه تنطلق من وازع عقلي ذاتي يفتقر إلى آليات التشكيك وموجباته، إزاء شخصية مقدسة لها دورها الإنساني العظيم؟
وفي العموم، فإن حداثة الرصافي جاءت رفضا صريحا للانغلاق على الهوية، مع رغبة متدارية في التنكر لكل ما هو تراثي، أو بدرجة أخف إعادة إنتاج الماضي بمنظار الحاضر انفتاحا على التحضر وتدعيما لمسارات التحرر. ولقد جسّد الرصافي في هذا المصنف تأثره بالفلسفة العقلية الديكارتية، معليا من شأن الوافد الفلسفي وحاطا من قيمة التراث السيري، منبهرا بتلقي المعارف الغربية واستقبال رياحها. ولقد أنجز الرصافي تأليف الكتاب عام 1933 وطبع بعد وفاته بستة عقود.. وما يهمنا من الكتاب مقدمته التي أعلن فيها الرصافي سعيه نحو الحقيقة لا التاريخ، والحقيقة عنده مطلقة، ولذلك يفتتح الكتاب بتحميد الحقيقة وتمجيدها. ولقد وجد أن التاريخ بلا حقائق وأنه زيف لا قيمة له ولا وزن ولا حساب، وذهب إلى أكثر من ذلك، حين دحض التاريخ قاطبة فقال:»أبرأ إلى الحقيقة من التاريخ، وأنا اليوم أكتب ما أكتب للحقيقة وحدها لا شريك لها عندي».
ولو كان الرصافي ظافرا بالحقيقة لما خشي من إخراج كتابه في حياته، بعد أن توقع سخط الناس عليه، وأنهم سيعلنون إلحاده وارتداده.. ويظل هاجس التحديث العقلي واقفا وراء ما عُرف به الرصافي من الجرأة في طرح الآراء الانتهاكية المتخطية للثوابت والمباالغة في التجاوز.
وكان من نتاج هذه النزعة الحداثوية تولّد نوع من التعملق الذاتي الذي سوّغ للرصافي أن ينفرد مخالفا الرأي العام متغافلا عن التجريب والملاحظة، متوهما أنه باحث أكاديمي وكاتب فريد ومؤرخ ضليع بالتاريخ الإسلامي، وفقيه متبحر في علوم العقائد والحديث والرجال وفيلسوف عرف كنه الفلسفة وهضم بنودها واشتراطاتها. وهذا كله أغراه وجعله قادرا على القفز على الثوابت وزلزلة المحظورات واختراقها والخوض فيها بلا دليل من مرجعية تخصصية أو دراسة تصنيفية، وهكذا بيت النية بالتحامل، ومن ذلك مثلا تعمده عدم الحفاوة والتبجيل في ذكر الرسول الكريم، فأينما يرد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام في الكتاب، فانه يرد خاليا من أي عبارات تشريفية، مع أن هذه العبارات لا تضاد العلم ولا تنافي الحقيقة، لكنه التغاضي غير الموضوعي عن التبجيل والتعاطي غير الحيادي مع المقدس. ولعل صدمة حداثة الرصافي الشعرية، أقل خطورة وأذى من هول الحداثة الفلسفية، كون الأخيرة فندت أكثر مما أثبتت، وتمادت أكثر مما تحفظت، وسفهت أكثر مما وكدّت، والسبب أن الرصافي كان يقرأ ويؤول بأسلبة مفروغة الوفاض من منهجيات النقد وآلياته.. فبعض مرويات التاريخ يسفهها ثم ما يلبث أن يعاود الاستشهاد ببعضها أو يحتج بها. وما هذا إلا انكفاء وعدول، فضلا عن تطرف فكري، أهم علاماته أنه مغالبة أو مغالطة في دحض بعض المرويات أو التنكر لأسانيد بعينها، وإذا كانت نزعة الشك الديكارتية قد غلبت عليه، وصفة التعقلن والعلمنة قد تلبسته، فلماذا إذن لم يطبقها أول الأمر على الشعر العربي ويناقشه تاريخيا في قدمه ومروياته وقائليه ونقاده ومدارسه؟
ومعلوم أن طه حسين كان قد خاض غمار التشكيك في الشعر الجاهلي، فكتب وناقش ونشر، ثم لما تبين له خطأ بعض ادعاءاته عاد أدراجه نافضا عنه بعض التشكيك متراجعا عن بعض الفرضيات، لكن الرصافي أصرَّ على آرائه وهو العارف أن النتيجة ستكون قاسية، وأنه سيلقى أسوأ الجزاء لكونه قد تمادى وغالى.
ولذلك كان سعيه إلى الإقناع أكثر من سعيه إلى الحقيقة، وقد دفعه تذبذبه الفكري إلى التحامل والتحايل والمغالاة، حتى صار التباهي بالتفلسف وعدم الاكتراث للعواقب سيان عند الرصافي، وهذا ما وسم فكره بالوهم والتجني. وبذلك يمسي الرصافي أديبا أغرته الحداثة فوقع في محظوراتها، وما من ضمان لذلك بتاتاً، ما دامت الحرية ليست انعتاقا ولا انفلاتا حد التجني، كما أنها ليست انبهارا إلى درجة التطرف؛ بل هي حوارية تستلهم المنطق وتوظف العقل في مدارات من التفكير ذات بؤر يخصِّب بعضها بعضا عبر رؤى قد تبتعد عن التنميط إدراكاً، وقد تدنو من التجديد وعياً.
....
كاتبة عراقية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.