"لو عايز تبقى ضابط".. تعرف على المواعيد النهائية للتقديم بكلية الشرطة 2025    وزير العمل يفتتح ندوة توعوية بقانون العمل الجديد ويؤكد: مشاركة الجميع في صياغة القرارات    وزارة العمل تعلن عن 11 فرصة عمل للمصريين في الأردن برواتب تصل إلى 350 دينارًا    سعر الذهب اليوم في مصر بحلول التعاملات المسائية الأحد    بالصور- جامعة أسوان تطلق مبادرة "كن مستعدًا" لتأهيل الشباب لسوق العمل    السيسي يطلع على خطط تطوير شبكات الاتصالات.. توجيهات جديدة    مَن الرابح والخاسر الأكبر.. كيف يرى المحللون قمة ألاسكا؟    تشكيل مباراة أرسنال ومانشستر يونايتد في الدوري الإنجليزي    "دعم مالي عاجل".. هيئة قناة السويس تزف بشرى سارة للنادي الإسماعيلي    الداخلية تكشف ملابسات فيديو سيدة تعرضت للتحرش اللفظي بالجيزة    قرار جديد من التموين بشأن عدادات المياه: حظر التركيب إلا بشروط    محافظ الجيزة يزور بطل واقعة إنقاذ "فتاة المنيب" للاطمئنان على صحته    إيرادات السبت.. "درويش" الأول و"الشاطر" يتفوق على "روكي الغلابة"    وصلة هزار بين أحمد وعمرو سعد على هامش حفله بالساحل الشمالي (فيديو)    الفريق أسامة ربيع يكرم الربان ولاء حافظ صاحب أطول غطسة لمريض شلل رباعي    خالد الجندي: مخالفة قواعد المرور معصية شرعًا و"العمة" توجه الأمة    "حقوق إنسان النواب": خدمات "الصحة" تعكس جدية الدولة في النهوض بالقطاع    مقاومة المضادات الحيوية: خطر جديد يهدد البشرية    ضبط قائد دراجة نارية لاتهامه بالتحرش اللفظي بسيدة بالجيزة    قرار جديد من المحكمة بشأن استئناف «شهاب بتاع الجمعية» على حكم حبسه    "الصحة" تغلق 10 عيادات غير مرخصة ملحقة بفنادق في جنوب سيناء    جوان ألفينا يبدأ مشواره مع الزمالك بأداء واعد أمام المقاولون العرب    رد فعل شتوتغارت على أداء فولتماد أمام بايرن    أس: تشابي ألونسو ينوي الدفع بماستانتونو ضد أوساسونا    فنون شعبية وطرب أصيل في ليالي صيف بلدنا برأس البر ودمياط الجديدة    رئيس الأركان الإسرائيلي: نُقرّ اليوم خطة المرحلة التالية من الحرب    مرصد الأزهر: تعليم المرأة فريضة شرعية.. والجماعات المتطرفة تحرمه بتأويلات باطلة    رئيس وزراء إسبانيا يقطع عطلته الصيفية لزيارة المناطق الأكثر تضررا من حرائق الغابات    مانشستر يونايتد يدرس التحرك لضم آدم وارتون    صحة الوادى الجديد: انتظام العمل فى المرحلة الثالثة من مبادرة "100 يوم صحة"    رئيس شئون القران بالأوقاف: مسابقة دولة التلاوة رحلة لاكتشاف جيل جديد من القراء    إلزام المؤسسات التعليمية بقبول 5% من ذوى الإعاقة في المنظومة.. اعرف التفاصيل    إزالة أحجار قطعت الطريق الدولي بمطروح بعد انقلاب سيارة نقل    وظائف شاغرة بالمطابع الأميرية.. تعرف على الشروط والتفاصيل    حقيقة انتقال هاكان للدوري السعودي    مصر تحصد ذهبية التتابع المختلط بختام بطولة العالم للخماسي الحديث تحت 15 عامًا    اللواء محمد إبراهيم الدويري: أوهام «إسرائيل الكبرى» لن تتحقق وتصريحات نتنياهو تدق ناقوس الخطر عربياً    الخارجية الروسية تتوقع فوز خالد العناني مرشح مصر في سباق اليونيسكو    محافظ كفر الشيخ يدشن مبادرة لزراعة الأشجار المثمرة ضمن مبادرة 100 مليون شجرة    مدير عام الطب البيطري سوهاج يناشد المواطنين سرعة تحصين حيواناتهم ضد العترة الجديدة    شئون البيئة بالشرقية: التفتيش على 63 منشآة غذائية وصناعية وتحرير محاضر للمخالفين    136 مجلسا فقهيا لمناقشة خطورة سرقة الكهرباء بمطروح    رئيسة القومي للمرأة تهنئ المستشار محمد الشناوي بتوليه رئاسة هيئة النيابة الإدارية    الأنبا ثيئودوسيوس يترأس القداس الإلهي بكنيسة العذراء مريم بفيصل    الداخلية تكشف ملابسات تداول منشور تضمن مشاجرة بين شخصين خلافا على انتظار سيارتيهما بمطروح    في 3 خطوات بس.. للاستمتاع بحلوى تشيز كيك الفراولة على البارد بطريقة بسيطة    حزب الجبهة الوطنية: تلقينا أكثر من 170 طلب ترشح لانتخابات مجلس النواب    مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي يعلن تفاصيل مسابقة "أبو الحسن سلام" للبحث العلمي    ملك البدايات .. . ليفربول يحتفل برقم محمد صلاح التاريخي فى الدوري الإنجليزي    المفتي يوضح حكم النية عند الاغتسال من الجنابة    الصحة: 30 مليون خدمة طبية للمواطنين خلال النصف الأول من 2025    مصرع شخص وإصابة 24 آخرين إثر انحراف قطار عن مساره في شرق باكستان    فتنة إسرائيلية    حظك اليوم وتوقعات الأبراج    رويترز: سماع دوي انفجارات قرب محطة للكهرباء في العاصمة اليمنية صنعاء    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم الأحد 17 أغسطس 2025    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الجديد.. سعر الذهب اليوم الأحد 17 أغسطس محليًا وعالميًا (تفاصيل)    ملخص وأهداف مباراة ريال مايوركا ضد برشلونة 3-0 فى الدورى الإسبانى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حداثة الرصافي: صدمة وعي أم توهم عقل؟
نشر في صوت البلد يوم 03 - 05 - 2017

عد أدونيس حداثة الشاعر العراقي الرصافي حداثة منقوصة غير مكتملة، ولعل هذا الرأي منطلق من انقياد أدونيس الرؤيوي نحو ثنائية الفكر/اللغة، التي كان البنيويون قد تعاملوا معها من زاوية شعرية الازدواج كامتداد لآراء دي سوسير، الذي أكد اندماجهما كوجهي الورقة.
وقد تصور أدونيس أن الرصافي الذي استحث أدواته الداحضة المتبرمة الثورية، كان يتوجب عليه توسيع درجة التبرم لتصل إلى اللغة، كي يدحض نموذج القصيدة العمودي بوصفه نسقا لغويا معتادا، ولينتفض من ثم على الذاكرة والحاضنة الثقافية، وبهذا ستكون حداثته شعرية لا موضوعية، ولا مناص أن في هذه المطالبة بعض الإجحاف..
وعودة بسيطة إلى مؤلفات الرصافي وكتاباته النثرية ستدلنا إلى أن حداثته كانت شعرية نثرية معا، بمعنى أن ما ابتغاه الرصافي من التحديث كان شموليا، وليس حصريا يقتصر على النظم أو النثر.
وإذ تصور أدونيس أن تمسك الرصافي بالقصيدة العمودية هو الذي ولّد ما سماه صدمة الحداثة، فإننا نرى العكس، بدليل أن الرصافي كان قد شيّد على قصيدة العمود دعواته الإصلاحية، معيدا للقصيدة حيويتها بلغة بسيطة فصيحة متزنة صوتيا، وكان لهذا التوجه شأنه المهم في جذب جمهور لا تغريه إلا الذائقة المتمسكة بالمعتاد الشكلي من الشعر، ليكون هذا الجمهور وجها لوجه أمام أفكار الرصافي التحديثية، وبذلك حقق الرصافي ما ابتغاه من الترويج والإشاعية.
ولو كانت دعواته الإصلاحية تقتضي منه الخروج على التقليدية الشعرية، لأعلن لاانتمائيته للعمود الخليلي، ولتنكر للنظام الشعري، ولربما لاقت آراؤه حياة، لكن ثوريته عندذاك ستتوزع ولا تتركز وستتعدد ولا تتوحد سواء في تحررها أو في نقمتها، وهي تتخذ الشعر وسيلة لا غاية.
ولا غرو أن الولوج المحسوب النتائج هو الذي حمل الرصافي على أن يخطو خطواته الجريئة في طريق الحداثة، التي ما كان أدونيس قد اهتم إلا بجانبها الفكري متغاضيا عن انعكاس الجانب الفني عليها عن قصد أو غير قصد.
ولعل ازدواجية هذا الموقف ما بين الإشادة والمؤاخذة عند ادونيس سببه إيمانه بأن الثورة الجمالية في الشعر تتطلب زمنا شعريا متحركا يتجاوز التاريخ وينشق عن الماضي.. وأن الثقافة ليست استعادة، بل هي ابتكار، وأن هذه هي الثقافة الفعالة التي تُبدع الإنسان في ما يبدعها وتؤسسه في ما يؤسسها.
ولا غرو أن أي حداثة، سواء أكانت شعرية أم نثرية؛ فإن لها بعدين، الأول إيجابي وهو المطلوب، الذي فيه الفائدة والتغيير، حين تدفع بالذات إلى اكتساب المعرفة التي بها يتعمق الوعي بالواقع، ويزداد الالتصاق بتفاصيل ظواهره وبواطن قضاياه لتسهم بدورها في تقدم المجتمع وتغييره من الداخل.
والبعد الثاني سلبي وهو الخطير والمرير، حين يدفع الانبهار بالحداثة إلى تقطيع الصلة بالحاضر والماضي والتعالي عليهما والنظر إليهما بدونية، وهكذا تسلّم الذات للوافد التجديدي وهي عاجزة عن التغيير، كونها تلفعت بالأسلبة رداءً ورضيت بالانبهار قنوعا وبالتطلع عجزا وتوانيا، ومن ثم تحبط عزائمها عن بلوغ مراميها.
ولعل الرصافي وقع تحت طائلة البعد الأخير، فانبهر بفلسفات علمية غربية ومنها الفلسفة العقلية الديكارتية وانتهجها أهدافا لا وسائل، وهذا ما أدى به إلى الوقوع ضحية الإعاقة والضمور، مع مزيد من الارتكاس في النقض والتجني. والسؤال الذي يطرح في هذا المجال لماذا تجنب أدونيس وهو المعني بالموضوعات والمضامين التطرق إلى النقد الديني عند الرصافي، واكتفى بالنقدين السياسي والاجتماعي، ومعلوم أن الرصافي نَقَدَ المدنية الغربية والحاضر العربي ونَقَدَ الماضي العربي من الناحيتين الدينية والتاريخية.
إن ما يعزز فرضية تغافل أدونيس عن النقد الديني عند الرصافي، ما أثبته في أول هامش من هوامش الدراسة التي تضمنها كتابه المعروف «الثابت والمتحول» في جزئه الثالث، وقد اكتفى بالتلميح والإيجاز قائلا: «تميزت حياته بالجرأة في التعبير، وهاجم اجتماعيا العادات والتقاليد الدينية وغيرها، ما أدى إلى الإفتاء بتكفيره وحرق كتابه (رسائل التعليقات) وطرده من العراق ومات سنة 1945». وكان الأجدى أن يقدم للقارئ رؤية أعمق تكشف حقيقة كفر الرصافي، وسبب إحراق كتابه وعلاقة ذلك بالحداثة التي تلبست الرصافي وجعلته يخالف المعتاد وينقم على التقاليد البالية.
وأدونيس الذي عرف بمنهجيته في المناقشة والعرض والتحليل، ما كان ليمر على هذه الأمور مرورا عابرا أو يقف بدون تنقيب في المتون، وهو الذي لا يترك واردة إلا ويتمسك بها، ولا شاردة إلا ويصفها. ولعل واقع الحال كان يفترض من أدونيس اصطفافا مع الرصافي، وهو المأخوذ مثله بمهاجمة التقاليد الاجتماعية، لكن الرصافي كان أكثر من أدونيس تبرما في معالجة بعض القضايا الدينية، مقدما لها على القضايا الاجتماعية الأخرى كالمرأة والفقر والاستعمار والتاريخ، باعتبار أن هذه القضايا هي تبعات الدين، ومع ذلك فضّل أدونيس مناقشة الجانب الاجتماعي /الحضاري العام فاصلا إياه عن الجانب الديني الخاص. ولعل تغافل أدونيس عن الدخول في حداثة الرصافي الدينية وتركيزه على الحداثتين الاجتماعية والشعرية، هو انعكاس لمفهوم الحداثة الذي تبناه، والذي يعني «الصراع بين النظام القائم على السلفية والرغبة العاملة لتغيير هذا النظام».
وإذا عددنا حداثة الرصافي الشعرية حداثة صادمة، حسب أدونيس وأنه ظل مربوط الأصول بالعمود، فما بالنا بحداثته التأليفية النثرية؟ هل هي حداثة صادمة أيضا؟ أو أنها حداثة واهمة كونها لم تخلص للمنهج العقلي لا سيما بعد أن تخبطت عنده الأدوات وتباينت لديه المقاصد والأغراض، وهو يدعي السعي نحو الحقيقة؟ وتحديدا في راهن ما ظهر من مؤلفات الرصافي التي لم تكن منشورة في زمن تأليف أدونيس لكتابه «الثابت والمتحول». وأعني كتاب «الشخصية المحمدية أو حل اللغز المقدس».
فهل كان نقد الرصافي للإسلام خاضعا لمرأى استشراقي متعاطيا التشكيك بالنبوة من باب الدحض والتسفيه ليس إلا؟ أو أن شكوكه تنطلق من وازع عقلي ذاتي يفتقر إلى آليات التشكيك وموجباته، إزاء شخصية مقدسة لها دورها الإنساني العظيم؟
وفي العموم، فإن حداثة الرصافي جاءت رفضا صريحا للانغلاق على الهوية، مع رغبة متدارية في التنكر لكل ما هو تراثي، أو بدرجة أخف إعادة إنتاج الماضي بمنظار الحاضر انفتاحا على التحضر وتدعيما لمسارات التحرر. ولقد جسّد الرصافي في هذا المصنف تأثره بالفلسفة العقلية الديكارتية، معليا من شأن الوافد الفلسفي وحاطا من قيمة التراث السيري، منبهرا بتلقي المعارف الغربية واستقبال رياحها. ولقد أنجز الرصافي تأليف الكتاب عام 1933 وطبع بعد وفاته بستة عقود.. وما يهمنا من الكتاب مقدمته التي أعلن فيها الرصافي سعيه نحو الحقيقة لا التاريخ، والحقيقة عنده مطلقة، ولذلك يفتتح الكتاب بتحميد الحقيقة وتمجيدها. ولقد وجد أن التاريخ بلا حقائق وأنه زيف لا قيمة له ولا وزن ولا حساب، وذهب إلى أكثر من ذلك، حين دحض التاريخ قاطبة فقال:»أبرأ إلى الحقيقة من التاريخ، وأنا اليوم أكتب ما أكتب للحقيقة وحدها لا شريك لها عندي».
ولو كان الرصافي ظافرا بالحقيقة لما خشي من إخراج كتابه في حياته، بعد أن توقع سخط الناس عليه، وأنهم سيعلنون إلحاده وارتداده.. ويظل هاجس التحديث العقلي واقفا وراء ما عُرف به الرصافي من الجرأة في طرح الآراء الانتهاكية المتخطية للثوابت والمباالغة في التجاوز.
وكان من نتاج هذه النزعة الحداثوية تولّد نوع من التعملق الذاتي الذي سوّغ للرصافي أن ينفرد مخالفا الرأي العام متغافلا عن التجريب والملاحظة، متوهما أنه باحث أكاديمي وكاتب فريد ومؤرخ ضليع بالتاريخ الإسلامي، وفقيه متبحر في علوم العقائد والحديث والرجال وفيلسوف عرف كنه الفلسفة وهضم بنودها واشتراطاتها. وهذا كله أغراه وجعله قادرا على القفز على الثوابت وزلزلة المحظورات واختراقها والخوض فيها بلا دليل من مرجعية تخصصية أو دراسة تصنيفية، وهكذا بيت النية بالتحامل، ومن ذلك مثلا تعمده عدم الحفاوة والتبجيل في ذكر الرسول الكريم، فأينما يرد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام في الكتاب، فانه يرد خاليا من أي عبارات تشريفية، مع أن هذه العبارات لا تضاد العلم ولا تنافي الحقيقة، لكنه التغاضي غير الموضوعي عن التبجيل والتعاطي غير الحيادي مع المقدس. ولعل صدمة حداثة الرصافي الشعرية، أقل خطورة وأذى من هول الحداثة الفلسفية، كون الأخيرة فندت أكثر مما أثبتت، وتمادت أكثر مما تحفظت، وسفهت أكثر مما وكدّت، والسبب أن الرصافي كان يقرأ ويؤول بأسلبة مفروغة الوفاض من منهجيات النقد وآلياته.. فبعض مرويات التاريخ يسفهها ثم ما يلبث أن يعاود الاستشهاد ببعضها أو يحتج بها. وما هذا إلا انكفاء وعدول، فضلا عن تطرف فكري، أهم علاماته أنه مغالبة أو مغالطة في دحض بعض المرويات أو التنكر لأسانيد بعينها، وإذا كانت نزعة الشك الديكارتية قد غلبت عليه، وصفة التعقلن والعلمنة قد تلبسته، فلماذا إذن لم يطبقها أول الأمر على الشعر العربي ويناقشه تاريخيا في قدمه ومروياته وقائليه ونقاده ومدارسه؟
ومعلوم أن طه حسين كان قد خاض غمار التشكيك في الشعر الجاهلي، فكتب وناقش ونشر، ثم لما تبين له خطأ بعض ادعاءاته عاد أدراجه نافضا عنه بعض التشكيك متراجعا عن بعض الفرضيات، لكن الرصافي أصرَّ على آرائه وهو العارف أن النتيجة ستكون قاسية، وأنه سيلقى أسوأ الجزاء لكونه قد تمادى وغالى.
ولذلك كان سعيه إلى الإقناع أكثر من سعيه إلى الحقيقة، وقد دفعه تذبذبه الفكري إلى التحامل والتحايل والمغالاة، حتى صار التباهي بالتفلسف وعدم الاكتراث للعواقب سيان عند الرصافي، وهذا ما وسم فكره بالوهم والتجني. وبذلك يمسي الرصافي أديبا أغرته الحداثة فوقع في محظوراتها، وما من ضمان لذلك بتاتاً، ما دامت الحرية ليست انعتاقا ولا انفلاتا حد التجني، كما أنها ليست انبهارا إلى درجة التطرف؛ بل هي حوارية تستلهم المنطق وتوظف العقل في مدارات من التفكير ذات بؤر يخصِّب بعضها بعضا عبر رؤى قد تبتعد عن التنميط إدراكاً، وقد تدنو من التجديد وعياً.
....
كاتبة عراقية
عد أدونيس حداثة الشاعر العراقي الرصافي حداثة منقوصة غير مكتملة، ولعل هذا الرأي منطلق من انقياد أدونيس الرؤيوي نحو ثنائية الفكر/اللغة، التي كان البنيويون قد تعاملوا معها من زاوية شعرية الازدواج كامتداد لآراء دي سوسير، الذي أكد اندماجهما كوجهي الورقة.
وقد تصور أدونيس أن الرصافي الذي استحث أدواته الداحضة المتبرمة الثورية، كان يتوجب عليه توسيع درجة التبرم لتصل إلى اللغة، كي يدحض نموذج القصيدة العمودي بوصفه نسقا لغويا معتادا، ولينتفض من ثم على الذاكرة والحاضنة الثقافية، وبهذا ستكون حداثته شعرية لا موضوعية، ولا مناص أن في هذه المطالبة بعض الإجحاف..
وعودة بسيطة إلى مؤلفات الرصافي وكتاباته النثرية ستدلنا إلى أن حداثته كانت شعرية نثرية معا، بمعنى أن ما ابتغاه الرصافي من التحديث كان شموليا، وليس حصريا يقتصر على النظم أو النثر.
وإذ تصور أدونيس أن تمسك الرصافي بالقصيدة العمودية هو الذي ولّد ما سماه صدمة الحداثة، فإننا نرى العكس، بدليل أن الرصافي كان قد شيّد على قصيدة العمود دعواته الإصلاحية، معيدا للقصيدة حيويتها بلغة بسيطة فصيحة متزنة صوتيا، وكان لهذا التوجه شأنه المهم في جذب جمهور لا تغريه إلا الذائقة المتمسكة بالمعتاد الشكلي من الشعر، ليكون هذا الجمهور وجها لوجه أمام أفكار الرصافي التحديثية، وبذلك حقق الرصافي ما ابتغاه من الترويج والإشاعية.
ولو كانت دعواته الإصلاحية تقتضي منه الخروج على التقليدية الشعرية، لأعلن لاانتمائيته للعمود الخليلي، ولتنكر للنظام الشعري، ولربما لاقت آراؤه حياة، لكن ثوريته عندذاك ستتوزع ولا تتركز وستتعدد ولا تتوحد سواء في تحررها أو في نقمتها، وهي تتخذ الشعر وسيلة لا غاية.
ولا غرو أن الولوج المحسوب النتائج هو الذي حمل الرصافي على أن يخطو خطواته الجريئة في طريق الحداثة، التي ما كان أدونيس قد اهتم إلا بجانبها الفكري متغاضيا عن انعكاس الجانب الفني عليها عن قصد أو غير قصد.
ولعل ازدواجية هذا الموقف ما بين الإشادة والمؤاخذة عند ادونيس سببه إيمانه بأن الثورة الجمالية في الشعر تتطلب زمنا شعريا متحركا يتجاوز التاريخ وينشق عن الماضي.. وأن الثقافة ليست استعادة، بل هي ابتكار، وأن هذه هي الثقافة الفعالة التي تُبدع الإنسان في ما يبدعها وتؤسسه في ما يؤسسها.
ولا غرو أن أي حداثة، سواء أكانت شعرية أم نثرية؛ فإن لها بعدين، الأول إيجابي وهو المطلوب، الذي فيه الفائدة والتغيير، حين تدفع بالذات إلى اكتساب المعرفة التي بها يتعمق الوعي بالواقع، ويزداد الالتصاق بتفاصيل ظواهره وبواطن قضاياه لتسهم بدورها في تقدم المجتمع وتغييره من الداخل.
والبعد الثاني سلبي وهو الخطير والمرير، حين يدفع الانبهار بالحداثة إلى تقطيع الصلة بالحاضر والماضي والتعالي عليهما والنظر إليهما بدونية، وهكذا تسلّم الذات للوافد التجديدي وهي عاجزة عن التغيير، كونها تلفعت بالأسلبة رداءً ورضيت بالانبهار قنوعا وبالتطلع عجزا وتوانيا، ومن ثم تحبط عزائمها عن بلوغ مراميها.
ولعل الرصافي وقع تحت طائلة البعد الأخير، فانبهر بفلسفات علمية غربية ومنها الفلسفة العقلية الديكارتية وانتهجها أهدافا لا وسائل، وهذا ما أدى به إلى الوقوع ضحية الإعاقة والضمور، مع مزيد من الارتكاس في النقض والتجني. والسؤال الذي يطرح في هذا المجال لماذا تجنب أدونيس وهو المعني بالموضوعات والمضامين التطرق إلى النقد الديني عند الرصافي، واكتفى بالنقدين السياسي والاجتماعي، ومعلوم أن الرصافي نَقَدَ المدنية الغربية والحاضر العربي ونَقَدَ الماضي العربي من الناحيتين الدينية والتاريخية.
إن ما يعزز فرضية تغافل أدونيس عن النقد الديني عند الرصافي، ما أثبته في أول هامش من هوامش الدراسة التي تضمنها كتابه المعروف «الثابت والمتحول» في جزئه الثالث، وقد اكتفى بالتلميح والإيجاز قائلا: «تميزت حياته بالجرأة في التعبير، وهاجم اجتماعيا العادات والتقاليد الدينية وغيرها، ما أدى إلى الإفتاء بتكفيره وحرق كتابه (رسائل التعليقات) وطرده من العراق ومات سنة 1945». وكان الأجدى أن يقدم للقارئ رؤية أعمق تكشف حقيقة كفر الرصافي، وسبب إحراق كتابه وعلاقة ذلك بالحداثة التي تلبست الرصافي وجعلته يخالف المعتاد وينقم على التقاليد البالية.
وأدونيس الذي عرف بمنهجيته في المناقشة والعرض والتحليل، ما كان ليمر على هذه الأمور مرورا عابرا أو يقف بدون تنقيب في المتون، وهو الذي لا يترك واردة إلا ويتمسك بها، ولا شاردة إلا ويصفها. ولعل واقع الحال كان يفترض من أدونيس اصطفافا مع الرصافي، وهو المأخوذ مثله بمهاجمة التقاليد الاجتماعية، لكن الرصافي كان أكثر من أدونيس تبرما في معالجة بعض القضايا الدينية، مقدما لها على القضايا الاجتماعية الأخرى كالمرأة والفقر والاستعمار والتاريخ، باعتبار أن هذه القضايا هي تبعات الدين، ومع ذلك فضّل أدونيس مناقشة الجانب الاجتماعي /الحضاري العام فاصلا إياه عن الجانب الديني الخاص. ولعل تغافل أدونيس عن الدخول في حداثة الرصافي الدينية وتركيزه على الحداثتين الاجتماعية والشعرية، هو انعكاس لمفهوم الحداثة الذي تبناه، والذي يعني «الصراع بين النظام القائم على السلفية والرغبة العاملة لتغيير هذا النظام».
وإذا عددنا حداثة الرصافي الشعرية حداثة صادمة، حسب أدونيس وأنه ظل مربوط الأصول بالعمود، فما بالنا بحداثته التأليفية النثرية؟ هل هي حداثة صادمة أيضا؟ أو أنها حداثة واهمة كونها لم تخلص للمنهج العقلي لا سيما بعد أن تخبطت عنده الأدوات وتباينت لديه المقاصد والأغراض، وهو يدعي السعي نحو الحقيقة؟ وتحديدا في راهن ما ظهر من مؤلفات الرصافي التي لم تكن منشورة في زمن تأليف أدونيس لكتابه «الثابت والمتحول». وأعني كتاب «الشخصية المحمدية أو حل اللغز المقدس».
فهل كان نقد الرصافي للإسلام خاضعا لمرأى استشراقي متعاطيا التشكيك بالنبوة من باب الدحض والتسفيه ليس إلا؟ أو أن شكوكه تنطلق من وازع عقلي ذاتي يفتقر إلى آليات التشكيك وموجباته، إزاء شخصية مقدسة لها دورها الإنساني العظيم؟
وفي العموم، فإن حداثة الرصافي جاءت رفضا صريحا للانغلاق على الهوية، مع رغبة متدارية في التنكر لكل ما هو تراثي، أو بدرجة أخف إعادة إنتاج الماضي بمنظار الحاضر انفتاحا على التحضر وتدعيما لمسارات التحرر. ولقد جسّد الرصافي في هذا المصنف تأثره بالفلسفة العقلية الديكارتية، معليا من شأن الوافد الفلسفي وحاطا من قيمة التراث السيري، منبهرا بتلقي المعارف الغربية واستقبال رياحها. ولقد أنجز الرصافي تأليف الكتاب عام 1933 وطبع بعد وفاته بستة عقود.. وما يهمنا من الكتاب مقدمته التي أعلن فيها الرصافي سعيه نحو الحقيقة لا التاريخ، والحقيقة عنده مطلقة، ولذلك يفتتح الكتاب بتحميد الحقيقة وتمجيدها. ولقد وجد أن التاريخ بلا حقائق وأنه زيف لا قيمة له ولا وزن ولا حساب، وذهب إلى أكثر من ذلك، حين دحض التاريخ قاطبة فقال:»أبرأ إلى الحقيقة من التاريخ، وأنا اليوم أكتب ما أكتب للحقيقة وحدها لا شريك لها عندي».
ولو كان الرصافي ظافرا بالحقيقة لما خشي من إخراج كتابه في حياته، بعد أن توقع سخط الناس عليه، وأنهم سيعلنون إلحاده وارتداده.. ويظل هاجس التحديث العقلي واقفا وراء ما عُرف به الرصافي من الجرأة في طرح الآراء الانتهاكية المتخطية للثوابت والمباالغة في التجاوز.
وكان من نتاج هذه النزعة الحداثوية تولّد نوع من التعملق الذاتي الذي سوّغ للرصافي أن ينفرد مخالفا الرأي العام متغافلا عن التجريب والملاحظة، متوهما أنه باحث أكاديمي وكاتب فريد ومؤرخ ضليع بالتاريخ الإسلامي، وفقيه متبحر في علوم العقائد والحديث والرجال وفيلسوف عرف كنه الفلسفة وهضم بنودها واشتراطاتها. وهذا كله أغراه وجعله قادرا على القفز على الثوابت وزلزلة المحظورات واختراقها والخوض فيها بلا دليل من مرجعية تخصصية أو دراسة تصنيفية، وهكذا بيت النية بالتحامل، ومن ذلك مثلا تعمده عدم الحفاوة والتبجيل في ذكر الرسول الكريم، فأينما يرد ذكر النبي عليه الصلاة والسلام في الكتاب، فانه يرد خاليا من أي عبارات تشريفية، مع أن هذه العبارات لا تضاد العلم ولا تنافي الحقيقة، لكنه التغاضي غير الموضوعي عن التبجيل والتعاطي غير الحيادي مع المقدس. ولعل صدمة حداثة الرصافي الشعرية، أقل خطورة وأذى من هول الحداثة الفلسفية، كون الأخيرة فندت أكثر مما أثبتت، وتمادت أكثر مما تحفظت، وسفهت أكثر مما وكدّت، والسبب أن الرصافي كان يقرأ ويؤول بأسلبة مفروغة الوفاض من منهجيات النقد وآلياته.. فبعض مرويات التاريخ يسفهها ثم ما يلبث أن يعاود الاستشهاد ببعضها أو يحتج بها. وما هذا إلا انكفاء وعدول، فضلا عن تطرف فكري، أهم علاماته أنه مغالبة أو مغالطة في دحض بعض المرويات أو التنكر لأسانيد بعينها، وإذا كانت نزعة الشك الديكارتية قد غلبت عليه، وصفة التعقلن والعلمنة قد تلبسته، فلماذا إذن لم يطبقها أول الأمر على الشعر العربي ويناقشه تاريخيا في قدمه ومروياته وقائليه ونقاده ومدارسه؟
ومعلوم أن طه حسين كان قد خاض غمار التشكيك في الشعر الجاهلي، فكتب وناقش ونشر، ثم لما تبين له خطأ بعض ادعاءاته عاد أدراجه نافضا عنه بعض التشكيك متراجعا عن بعض الفرضيات، لكن الرصافي أصرَّ على آرائه وهو العارف أن النتيجة ستكون قاسية، وأنه سيلقى أسوأ الجزاء لكونه قد تمادى وغالى.
ولذلك كان سعيه إلى الإقناع أكثر من سعيه إلى الحقيقة، وقد دفعه تذبذبه الفكري إلى التحامل والتحايل والمغالاة، حتى صار التباهي بالتفلسف وعدم الاكتراث للعواقب سيان عند الرصافي، وهذا ما وسم فكره بالوهم والتجني. وبذلك يمسي الرصافي أديبا أغرته الحداثة فوقع في محظوراتها، وما من ضمان لذلك بتاتاً، ما دامت الحرية ليست انعتاقا ولا انفلاتا حد التجني، كما أنها ليست انبهارا إلى درجة التطرف؛ بل هي حوارية تستلهم المنطق وتوظف العقل في مدارات من التفكير ذات بؤر يخصِّب بعضها بعضا عبر رؤى قد تبتعد عن التنميط إدراكاً، وقد تدنو من التجديد وعياً.
....
كاتبة عراقية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.