سعر الذهب في مصر اليوم الخميس 31-7-2025 مع بداية التعاملات    الرئيس الفلسطيني يثمّن موقف كندا التاريخي باعتزامها الاعتراف بدولة فلسطين    لولا دا سيلفا: تدخل أمريكا في النظام القضائي البرازيلي غير مقبول    سعر الدولار اليوم الخميس 31-7-2025 بعد تسجيله أعلى مستوياته خلال 60 يومًا    ترامب يعلن عن اتفاق تجاري مع كوريا الجنوبية    أمريكا: تحذيرات في كريسنت سيتي بعد أضرار بميناء المدينة جراء موجة مد بحري مفاجئة    «يوم استثنائي».. تحذير شديد بشأن حالة الطقس اليوم: أمطار ورياح مُحملة بالأتربة    لليوم الرابع، ارتفاع أسعار النفط وسط مخاوف من تأثر الإمدادات بتهديدات ترامب الجمركية    "ابن العبري".. راهب عبر العصور وخلّد اسمه في اللاهوت والفلسفة والطب    15 دولة غربية تدعو دولا أخرى لإعلان عزمها الاعتراف بفلسطين    إعلام أوكراني: الدفاع الجوي يتصدى لهجمات في كييف وحريق جراء هجوم مسيّرة روسية    قناة السويس حكاية وطنl القناة الجديدة.. 10 سنوات من التحدى والإنجاز    مع الهضبة والكينج .. ليالى استثنائية فى انتظار جمهور العلمين    من يتصدر إيرادات الموسم السينمائى الصيفى ومن ينضم للمنافسة ؟    «وصلة» لقاء دافىء بين الأجيال .. « القومى للمسرح » يحتفى بالمكرمين    طريقة عمل الكب كيك في البيت وبأقل التكاليف    حرمه منها كلوب وسلوت ينصفه، ليفربول يستعد لتحقيق حلم محمد صلاح    نحن ضحايا «عك»    الأحكام والحدود وتفاعلها سياسيًا (2)    سلاح النفط العربي    بسهولة ومن غير أدوية.. أفضل الأطعمة لعلاج الكبد الدهني    المهرجان القومي للمسرح يحتفي بالفائزين في مسابقة التأليف المسرحي    بينهم طفل.. إصابة 4 أشخاص في حادث تصادم بطريق فايد بالإسماعيلية (أسماء)    اتحاد الدواجن يكشف سبب انخفاض الأسعار خلال الساعات الأخيرة    هاريس تٌعلن عدم ترشحها لمنصب حاكمة كاليفورنيا.. هل تخوض انتخابات الرئاسة 2028؟    424 مرشحًا يتنافسون على 200 مقعد.. صراع «الشيوخ» يدخل مرحلة الحسم    "بعد يومين من انضمامه".. لاعب الزمالك الجديد يتعرض للإصابة خلال مران الفريق    نقيب السينمائيين: لطفي لبيب أحد رموز العمل الفني والوطني.. ورحيله خسارة كبيرة    السيارات الكهربائية.. والعاصمة الإنجليزية!    بسبب خلافات الجيرة في سوهاج.. مصرع شخصين بين أبناء العمومة    بمحيط مديرية التربية والتعليم.. مدير أمن سوهاج يقود حملة مرورية    تراجع غير متوقع للمبيعات المؤجلة للمساكن في أمريكا خلال الشهر الماضي    الحد الأدني للقبول في الصف الأول الثانوي 2025 المرحلة الثانية في 7 محافظات .. رابط التقديم    اصطدام قطار برصيف محطة "السنطة" في الغربية.. وخروج عربة من على القضبان    المهرجان القومي للمسرح المصري يعلن إلغاء ندوة الفنان محيي إسماعيل لعدم التزامه بالموعد المحدد    هذه المرة عليك الاستسلام.. حظ برج الدلو اليوم 31 يوليو    أول تصريحات ل اللواء محمد حامد هشام مدير أمن قنا الجديد    «الصفقات مبتعملش كشف طبي».. طبيب الزمالك السابق يكشف أسرارًا نارية بعد رحيله    سعر التفاح والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 31 يوليو 2025    لحماية الكلى من الإرهاق.. أهم المشروبات المنعشة للمرضى في الصيف    ختام منافسات اليوم الأول بالبطولة الأفريقية للبوتشيا المؤهلة لكأس العالم 2026    في حفل زفاف بقنا.. طلق ناري يصيب طالبة    مصرع شاب وإصابة 4 في تصادم سيارة وتروسيكل بالمنيا    التنسيقية تعقد صالونًا نقاشيًا حول أغلبية التأثير بالفصل التشريعي الأول بالشيوخ    رئيس وزراء كندا: نعتزم الاعتراف بدولة فلسطين في سبتمبر ويجب نزع سلاح حماس    إغلاق جزئى لمزرعة سمكية مخالفة بقرية أم مشاق بالقصاصين فى الإسماعيلية    التوأم يشترط وديات من العيار الثقيل لمنتخب مصر قبل مواجهتي إثيوبيا وبوركينا فاسو    شادى سرور ل"ستوديو إكسترا": بدأت الإخراج بالصدفة فى "حقوق عين شمس"    القبض على 3 شباب بتهمة الاعتداء على آخر وهتك عرضه بالفيوم    هل يعاني الجفالي من إصابة مزمنة؟.. طبيب الزمالك السابق يجيب    "تلقى عرضين".. أحمد شوبير يكشف الموقف النهائي للاعب مع الفريق    مدير تعليم القاهرة تتفقد أعمال الإنشاء والصيانة بمدارس المقطم وتؤكد الالتزام بالجدول الزمني    حياة كريمة.. الكشف على 817 مواطنا بقافلة طبية بالتل الكبير بالإسماعيلية    أسباب عين السمكة وأعراضها وطرق التخلص منها    ما حكم الخمر إذا تحولت إلى خل؟.. أمين الفتوى يوضح    الورداني: الشائعة اختراع شيطاني وتعد من أمهات الكبائر التي تهدد استقرار الأوطان    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر: المهم التحصن لا معرفة من قام به    ما المقصود ببيع المال بالمال؟.. أمين الفتوى يُجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاستبداد يولّد جلّادين .. والفن هو الأمل
نشر في صوت البلد يوم 27 - 04 - 2017

قد لا يكون موضوع رواية الكاتب المصري وحيد الطويلة «حذاء فيلليني» (دار المتوسط) جديداً في سجلّ الثيمات المتصلة بمآسي الطغيان وترسانة التعذيب ووحشية الاستبداد، في المجتمعات العربية وفي العالم. إلا أن الشكل الذي اختاره ونسَجَه من خيوطٍ متشابكة، أبرَزَ جوانب كامنة في أعماق الجلادين وفي مشاعر الضحايا، من خلال ضوء كشّافٍ يتوسّل بالسرد المتعدد الأصوات، وبالتقطيع السينمائي الذي يُجمّع المشاهد والأحداث ضمن فضاء مُتوازٍ. ومن ثمّ، اتخذ الشكلُ وطرائق السرد أهمية راجحة، ساعدت على الحفر في تلك العلاقة الملتبسة بين الجلاد والضحية، بين النظام السياسي الذي يُفرخ الاضطهادَ والتعذيب، والضحايا الذين يقاومون التشويهَ والموت...
تتكوّن الرواية من ثلاثة عشر فصلاً ومُلحق يحمل عنوان «المشهد الأخير» هو عبارة عن إعادة تشخيص لحظاتٍ أساسية من النص الروائي عبر لقطاتٍ وثلاثة مشاهد، يُشرف على إخراجها فيلليني بأسلوبه الفانتاستيكي المُكتظ بالأصوات والموسيقى والتفاصيل الحيوية... وحضور المخرج الإيطالي الشهير بكثافة في ثنايا السرد، وبخاصةٍ في «المشهد الأخير»، ينطوي على أبعاد رمزية استثمرها الكاتب لإقامةِ جدلية محورية بنى عليها دلالات الرواية، كما سنحلل ذلك لاحقاً.
يأتينا السرد في معظم فصول الرواية، باستثناء فصليْن، على لسان مُطاع الطبيب النفساني الذي هو ضحية الضابط الجلاد خلال اعتقال تعسفي دام أقلّ من شهر. وهناك فصلان يتحدث من خلالهما الضابط الجلاد وزوجته التي عانتْ أيضاً من سلوكه المهين لها فوق الفراش. وفي فصليْن آخريْن، يتخذ السردُ شكلَ حوار بين مطاع والشيطان، ثم بينه وبين فيلليني المخرج السينمائي، وفي فصل آخر بينه وبين مأمون مساعد الجلاد ومنفذ أوامره... على هذا النحو تغدو لعبة السرد في «حذاء فيلليني» مُتداولة بين شخصيات مُشاركة في الفعل (مُطاع الذي تحول اسمه إلى مطيع أثناء التعذيب، والضابط وزوجته ومأمون)، ثم شخصية مستعارة من ذاكرة مطاع هي شخصية فيلليني الذي هو بمثابة «الأنا الأعلى» لدى الطبيب النفساني المغرم بأفلامه ورؤيته الشعرية إلى الحياة. والنقطة المركزية لتحريك «الفعل» داخل الرواية، تتمثل في زيارة زوجة الضابط لعيادة مطاع ومعها زوجها الجلاد المُنهار بعد إقالته من منصبه السلطوي وإصابته بالعنة والعجز عن متابعة الإذلال الجنسي الذي كان يمارسه على زوجته...أصبحت الفرصة،إذن، سانحة لكي تنتقم الزوجة من جلادها، وقد جاءت لتستعين بالطبيب الذي لا تعرف أنه كان أيضا ضحية لزوجها. وستكون لحظة المواجهة هذه، داخل العيادة، فرصة لتفجير سلسلة من الأسئلة والمشاعر لدى مطاع الضحية، المجبول من طينة مختلفة والذي يشدّه تكوينه الثقافي والفني إلى عالم القيَم الإنسانية النبيلة التي تراهِنُ على احترام البشر وتمجيد الحياة.
إلى جانب هذه اللحظة الأساس المتمثلة في مواجهة الطبيب لجلادِه وزوجته، ثم لمأمون المتعاون مع إدارة الأمن العليا، هناك استحضار لخلفية مرحلة شباب الطبيب من خلال قصة حبه المتعثر مع جارته الجميلة التي شحذتْ عاطفته الإنسانية، وهناك أيضاً استعادة الزوجة لمسار حياتها الرمادي مع زوجها الضابط الذي كان يستعملها «تكملة» لمهنة التعذيب التي يمارسها ضد الأبرياء... مجموع هذه العناصر المتمثلة في خيوط السرد المتوازية والأصوات المتقاطعة، والمشاهد السينمائية المُتخيّلة، تضفي على رواية «حذاء فيلليني» شكل مواجهة عنيفة بين قوى الشر والتسلط المستندة إلى أجهزة المخابرات والضباط المتخصصين في التعذيب، وبين قيَم تُعلي من شأن الحياة والإنسان، والتي يمثلها مطاع المعالج النفساني والمخرج فيلليني المعانق لرؤية شعرية بها يُقاوم الظلم والاستلاب.

الفن طوق نجاة
من خلال هذا البناء المتعدد الطبقات والأصوات وتقاطع المحكيات، وتجاوُر السرد مع اللقطات السينمائية، يبدو جلياً أن «حذاء فيلليني» لا تتقصّد فقط «فضح» أو «إدانة» ظاهرة الاستبداد والقمع التي رافقتْ تجربة ما يُسمى ب «الدولة الوطنية» بعد استقلالات الأقطار العربية، ذلك أن روايات أخرى كثيرة رصدتْ هذا العنصر المضادّ لبناء دولة ديموقراطية على ربُوعنا، وإنما يريد وحيد الطويلة، وفق فهمي، أن يذهب إلى أبعد من ذلك ليتغلغل في صلب أواليات الاضطهاد والتعذيب، ويستبطن العوامل المُحفزة لدى الجلادين، وكذلك الآثار المترسبة في نفوس الضحايا والجلادين على السواء.
من هنا ندرك أن الرواية، حين تتوسّل في هذا الشكل المُركب، المتوازي الخيوط والمسالك، لا ترمي إلى تجسيد ظاهرة التعذيب والقمع في بلدٍ عربي بعيْنه (وردتْ الإشارة إلى سمات من فضائه)، وإنما هي تتعدى ذلك إلى ملامسة هذه الظاهرة في شموليتها العربية والكونية. ولعل هذا ما يبرر، فنياً، لجوء الكاتب إلى استدعاء فيلليني وحذائه وطقوسه ومواقفه الغرائبية، ليكون شخصية مُجاورة ومتفاعلة مع شخصيات الرواية. على هذا النحو، تغدو ظاهرة القمع والتعذيب عنصرا ضمن عناصر أخرى في الإحالة على إشكاليةٍ أعمّ، تعاني منها المجتمعات البشرية قاطبة وهي إشكالية الاستلاب التي حولت الناس إلى سجناء داخل عالم تنهشه الليبرالية المتوحشة وبنياتُ «مجتمع الفرجة» التي تساند السيطرة الاستبدادية على المجتمع المدني... لأجل ذلك، يغدو السؤال الضمني الكامن وراء إشكالية القمع والاستبداد، هو في الآن نفسه، سؤال مواجهة أخطبوط الاستلاب الذي يُحيل الدولة إلى «ليفيتانْ»، غولٍ، يفترس القيم الإنسانية ويُسخّر المواطنين لِتأبيدِ سلطة المال وطقوس الطاعةِ العمياء...
إلا أن وحيد الطويلة لا يسلك سبيل التعميم والتجريد، بل ينسج قماش روايته من محكياتٍ متجذرة في سلوك زبانية الأنظمة القامعة وفي سلوك المواطنين المُعرضين للمسخ والتشويه. يتجلى ذلك، على مستوى تشكيل النص، في تركيزه على ثلاثة فضاءاتٍ هي: القبو، العيادة، والقفص الذي يتم داخله تصوير مشاهد فيلليني. هو إذن، فضاء مُغلق يتواءم مع عنصر «المواجهة» بين الضحايا والجلادين. وعندما يتعلق الأمر بشخصياتٍ «زائرة» مثل فيلليني والشيطان، يتم ذلك في الحلم لأنه «لا شيء أصدق من الحلم». داخل الفضاء المغلق الذي تتمّ فيه المواجهة، تطغى مشاعر الحقد والانتقام لدى كلٍّ من الجلاد والضحية، لأن ردود الفعل لديهما تظلّ محكومة بما هو آنيّ وظرفي، إذ يهدف الجلاد إلى فْرض الطاعة والخنوع، وتميل الضحية إلى استئصال جرثومة الشرّ وإقرار العدل، على نحو ما يخطر ببالِ مطاع وهو أمام جلاده المنهار: «عذّبْه فقط حتى يُنكر صوته ويعي أصوات الآخرين، حتى يعرف الفرق بين صوت الجلاد وصوت الضحية. هذه طبقة من العدلِ الذي تبتغيه...» (ص53).
بطبيعة الحال، مبرر الانتقام لدى الضحية يبدو معقولاً وطبيعياً، لكنه لن يحل المعضلة من جذورها، على نحو ما أوضح فيلليني لمطاع المتشبع بفلسفته: «كل حياتك قامت على جُملتي: لا شيء أصدق من حُلم. وتحقّق الحلمُ، دعْه إذاً وتقدمْ لحياتك. اهزمْهم بأن تصنع حياة أخرى مُدهشة. لن يهزمَهم قتلهُم. إذا سقط منهم واحد تشققت الأرض عن عشرة. كل ما فعلوه بك يريدون شيئاً واحداً: أن يُجردوك من أحلامك. اتركه إذاً ونمْ واحلم حلماً جيداً».
يمكن القول بأن دلالة «حذاء فيلليني» تكتسب أبعادها وأفقها من استحضار المخرج الإيطالي وافتراض علاقة إعجاب بأعماله من لدُن مطاع المعالج النفساني. ذلك أن تفاصيل محكياتِ كل شخصية في الرواية (الطبيب، الضابط الجلاد، الزوجة، مأمون المخبر) تؤول، عبر جدلية المواجهة داخل الرواية، إلى ما يشبه الباب الموصَد، لأن داء القمع والاستبداد وتشييء المرأة متجذر في تربة الماضي الموروث وفي إخفاقات النهوض العربي المتتالية، ومن ثم ضرورة البحث عن عنصر يكون بمثابة «التركيب» لجدليةِ: استبداد الدولة/ حقوق المواطنة». وقد اختار الكاتب رؤية فيلليني ذات القيم المناصرة في شكلٍ مطلق للإنسان وحريته.
واضح أن ما يقترحه الكاتب، ضمنياً، هو رمزية الفن ذي الأبعاد الإنسانية والقيم الكونية المنشودة من خلال ما يتجلى عند واحد من فرسان الفنّ السابع. كأنما يريد أن يهمس لنا بأن الطريق إلى علاج داء الاستبداد وعنجهية التسلط، إنما تبدأ من تجذير القيم التي يحملها الفن المغموسُ في أعماق الحياة والمؤمن بقدرتها على تبديد عناصر الشرّ المعادية كرامة الإنسان: «الحياة سلسلة من الأدوار. يجب أن تتعلم أن تحيا مُجدداً. حينها سوف تنبت لك أجنحة قوية. لا تسجن نفسك في الماضي . كلما عُدتَ إليه هاجمتك الأشباح. لا يمكنك اختصار الجلاد بشخصٍ أو حفنةٍ تشبهه. (...) ليس صحيحاً أن النار تدمّر كل شيء. تبقى دائماً بارقة أمل. لا تنس أن تمنحه لحبيبتك، للشوارع، للمرايا، لمفاتيح الكهرباء، للشروخ في الجدران. الأملُ رشوة يقبَلها الجميع» (ص174).
يبدو هذا الأفق الدلالي الذي تحومُ حوله رواية «حذاء فيلليني» من خلال اتخاذ الفن طوْقَ نجاة، لمواجهة وضعٍ عربي غارق في التداعي والانهيار، هو الأفق الوحيد الممكن، لأنه لا يُسرف في التفاؤل ويكتفي بالدعوة إلى المراهنة على الحياة وقدرتها على التجدد والاستمرار.
استطاع وحيد الطويلة، في هذه الرواية، أن يؤكد حرصه على ابتداع شكل روائي قادر على تخصيص الرؤية إلى العالم وتكسير القشور الحائلة من دون استنطاق ما هو كامن في اللاوعي أو مدسوس بين ثنايا الموروث. وفي الآن ذاته، استثمرَ لغته المتميزة بالدقة والطزاجة والمزاوجة بين النثرية والشعرية، مثلما عوّدنا في رواياته السابقة.
قد لا يكون موضوع رواية الكاتب المصري وحيد الطويلة «حذاء فيلليني» (دار المتوسط) جديداً في سجلّ الثيمات المتصلة بمآسي الطغيان وترسانة التعذيب ووحشية الاستبداد، في المجتمعات العربية وفي العالم. إلا أن الشكل الذي اختاره ونسَجَه من خيوطٍ متشابكة، أبرَزَ جوانب كامنة في أعماق الجلادين وفي مشاعر الضحايا، من خلال ضوء كشّافٍ يتوسّل بالسرد المتعدد الأصوات، وبالتقطيع السينمائي الذي يُجمّع المشاهد والأحداث ضمن فضاء مُتوازٍ. ومن ثمّ، اتخذ الشكلُ وطرائق السرد أهمية راجحة، ساعدت على الحفر في تلك العلاقة الملتبسة بين الجلاد والضحية، بين النظام السياسي الذي يُفرخ الاضطهادَ والتعذيب، والضحايا الذين يقاومون التشويهَ والموت...
تتكوّن الرواية من ثلاثة عشر فصلاً ومُلحق يحمل عنوان «المشهد الأخير» هو عبارة عن إعادة تشخيص لحظاتٍ أساسية من النص الروائي عبر لقطاتٍ وثلاثة مشاهد، يُشرف على إخراجها فيلليني بأسلوبه الفانتاستيكي المُكتظ بالأصوات والموسيقى والتفاصيل الحيوية... وحضور المخرج الإيطالي الشهير بكثافة في ثنايا السرد، وبخاصةٍ في «المشهد الأخير»، ينطوي على أبعاد رمزية استثمرها الكاتب لإقامةِ جدلية محورية بنى عليها دلالات الرواية، كما سنحلل ذلك لاحقاً.
يأتينا السرد في معظم فصول الرواية، باستثناء فصليْن، على لسان مُطاع الطبيب النفساني الذي هو ضحية الضابط الجلاد خلال اعتقال تعسفي دام أقلّ من شهر. وهناك فصلان يتحدث من خلالهما الضابط الجلاد وزوجته التي عانتْ أيضاً من سلوكه المهين لها فوق الفراش. وفي فصليْن آخريْن، يتخذ السردُ شكلَ حوار بين مطاع والشيطان، ثم بينه وبين فيلليني المخرج السينمائي، وفي فصل آخر بينه وبين مأمون مساعد الجلاد ومنفذ أوامره... على هذا النحو تغدو لعبة السرد في «حذاء فيلليني» مُتداولة بين شخصيات مُشاركة في الفعل (مُطاع الذي تحول اسمه إلى مطيع أثناء التعذيب، والضابط وزوجته ومأمون)، ثم شخصية مستعارة من ذاكرة مطاع هي شخصية فيلليني الذي هو بمثابة «الأنا الأعلى» لدى الطبيب النفساني المغرم بأفلامه ورؤيته الشعرية إلى الحياة. والنقطة المركزية لتحريك «الفعل» داخل الرواية، تتمثل في زيارة زوجة الضابط لعيادة مطاع ومعها زوجها الجلاد المُنهار بعد إقالته من منصبه السلطوي وإصابته بالعنة والعجز عن متابعة الإذلال الجنسي الذي كان يمارسه على زوجته...أصبحت الفرصة،إذن، سانحة لكي تنتقم الزوجة من جلادها، وقد جاءت لتستعين بالطبيب الذي لا تعرف أنه كان أيضا ضحية لزوجها. وستكون لحظة المواجهة هذه، داخل العيادة، فرصة لتفجير سلسلة من الأسئلة والمشاعر لدى مطاع الضحية، المجبول من طينة مختلفة والذي يشدّه تكوينه الثقافي والفني إلى عالم القيَم الإنسانية النبيلة التي تراهِنُ على احترام البشر وتمجيد الحياة.
إلى جانب هذه اللحظة الأساس المتمثلة في مواجهة الطبيب لجلادِه وزوجته، ثم لمأمون المتعاون مع إدارة الأمن العليا، هناك استحضار لخلفية مرحلة شباب الطبيب من خلال قصة حبه المتعثر مع جارته الجميلة التي شحذتْ عاطفته الإنسانية، وهناك أيضاً استعادة الزوجة لمسار حياتها الرمادي مع زوجها الضابط الذي كان يستعملها «تكملة» لمهنة التعذيب التي يمارسها ضد الأبرياء... مجموع هذه العناصر المتمثلة في خيوط السرد المتوازية والأصوات المتقاطعة، والمشاهد السينمائية المُتخيّلة، تضفي على رواية «حذاء فيلليني» شكل مواجهة عنيفة بين قوى الشر والتسلط المستندة إلى أجهزة المخابرات والضباط المتخصصين في التعذيب، وبين قيَم تُعلي من شأن الحياة والإنسان، والتي يمثلها مطاع المعالج النفساني والمخرج فيلليني المعانق لرؤية شعرية بها يُقاوم الظلم والاستلاب.

الفن طوق نجاة
من خلال هذا البناء المتعدد الطبقات والأصوات وتقاطع المحكيات، وتجاوُر السرد مع اللقطات السينمائية، يبدو جلياً أن «حذاء فيلليني» لا تتقصّد فقط «فضح» أو «إدانة» ظاهرة الاستبداد والقمع التي رافقتْ تجربة ما يُسمى ب «الدولة الوطنية» بعد استقلالات الأقطار العربية، ذلك أن روايات أخرى كثيرة رصدتْ هذا العنصر المضادّ لبناء دولة ديموقراطية على ربُوعنا، وإنما يريد وحيد الطويلة، وفق فهمي، أن يذهب إلى أبعد من ذلك ليتغلغل في صلب أواليات الاضطهاد والتعذيب، ويستبطن العوامل المُحفزة لدى الجلادين، وكذلك الآثار المترسبة في نفوس الضحايا والجلادين على السواء.
من هنا ندرك أن الرواية، حين تتوسّل في هذا الشكل المُركب، المتوازي الخيوط والمسالك، لا ترمي إلى تجسيد ظاهرة التعذيب والقمع في بلدٍ عربي بعيْنه (وردتْ الإشارة إلى سمات من فضائه)، وإنما هي تتعدى ذلك إلى ملامسة هذه الظاهرة في شموليتها العربية والكونية. ولعل هذا ما يبرر، فنياً، لجوء الكاتب إلى استدعاء فيلليني وحذائه وطقوسه ومواقفه الغرائبية، ليكون شخصية مُجاورة ومتفاعلة مع شخصيات الرواية. على هذا النحو، تغدو ظاهرة القمع والتعذيب عنصرا ضمن عناصر أخرى في الإحالة على إشكاليةٍ أعمّ، تعاني منها المجتمعات البشرية قاطبة وهي إشكالية الاستلاب التي حولت الناس إلى سجناء داخل عالم تنهشه الليبرالية المتوحشة وبنياتُ «مجتمع الفرجة» التي تساند السيطرة الاستبدادية على المجتمع المدني... لأجل ذلك، يغدو السؤال الضمني الكامن وراء إشكالية القمع والاستبداد، هو في الآن نفسه، سؤال مواجهة أخطبوط الاستلاب الذي يُحيل الدولة إلى «ليفيتانْ»، غولٍ، يفترس القيم الإنسانية ويُسخّر المواطنين لِتأبيدِ سلطة المال وطقوس الطاعةِ العمياء...
إلا أن وحيد الطويلة لا يسلك سبيل التعميم والتجريد، بل ينسج قماش روايته من محكياتٍ متجذرة في سلوك زبانية الأنظمة القامعة وفي سلوك المواطنين المُعرضين للمسخ والتشويه. يتجلى ذلك، على مستوى تشكيل النص، في تركيزه على ثلاثة فضاءاتٍ هي: القبو، العيادة، والقفص الذي يتم داخله تصوير مشاهد فيلليني. هو إذن، فضاء مُغلق يتواءم مع عنصر «المواجهة» بين الضحايا والجلادين. وعندما يتعلق الأمر بشخصياتٍ «زائرة» مثل فيلليني والشيطان، يتم ذلك في الحلم لأنه «لا شيء أصدق من الحلم». داخل الفضاء المغلق الذي تتمّ فيه المواجهة، تطغى مشاعر الحقد والانتقام لدى كلٍّ من الجلاد والضحية، لأن ردود الفعل لديهما تظلّ محكومة بما هو آنيّ وظرفي، إذ يهدف الجلاد إلى فْرض الطاعة والخنوع، وتميل الضحية إلى استئصال جرثومة الشرّ وإقرار العدل، على نحو ما يخطر ببالِ مطاع وهو أمام جلاده المنهار: «عذّبْه فقط حتى يُنكر صوته ويعي أصوات الآخرين، حتى يعرف الفرق بين صوت الجلاد وصوت الضحية. هذه طبقة من العدلِ الذي تبتغيه...» (ص53).
بطبيعة الحال، مبرر الانتقام لدى الضحية يبدو معقولاً وطبيعياً، لكنه لن يحل المعضلة من جذورها، على نحو ما أوضح فيلليني لمطاع المتشبع بفلسفته: «كل حياتك قامت على جُملتي: لا شيء أصدق من حُلم. وتحقّق الحلمُ، دعْه إذاً وتقدمْ لحياتك. اهزمْهم بأن تصنع حياة أخرى مُدهشة. لن يهزمَهم قتلهُم. إذا سقط منهم واحد تشققت الأرض عن عشرة. كل ما فعلوه بك يريدون شيئاً واحداً: أن يُجردوك من أحلامك. اتركه إذاً ونمْ واحلم حلماً جيداً».
يمكن القول بأن دلالة «حذاء فيلليني» تكتسب أبعادها وأفقها من استحضار المخرج الإيطالي وافتراض علاقة إعجاب بأعماله من لدُن مطاع المعالج النفساني. ذلك أن تفاصيل محكياتِ كل شخصية في الرواية (الطبيب، الضابط الجلاد، الزوجة، مأمون المخبر) تؤول، عبر جدلية المواجهة داخل الرواية، إلى ما يشبه الباب الموصَد، لأن داء القمع والاستبداد وتشييء المرأة متجذر في تربة الماضي الموروث وفي إخفاقات النهوض العربي المتتالية، ومن ثم ضرورة البحث عن عنصر يكون بمثابة «التركيب» لجدليةِ: استبداد الدولة/ حقوق المواطنة». وقد اختار الكاتب رؤية فيلليني ذات القيم المناصرة في شكلٍ مطلق للإنسان وحريته.
واضح أن ما يقترحه الكاتب، ضمنياً، هو رمزية الفن ذي الأبعاد الإنسانية والقيم الكونية المنشودة من خلال ما يتجلى عند واحد من فرسان الفنّ السابع. كأنما يريد أن يهمس لنا بأن الطريق إلى علاج داء الاستبداد وعنجهية التسلط، إنما تبدأ من تجذير القيم التي يحملها الفن المغموسُ في أعماق الحياة والمؤمن بقدرتها على تبديد عناصر الشرّ المعادية كرامة الإنسان: «الحياة سلسلة من الأدوار. يجب أن تتعلم أن تحيا مُجدداً. حينها سوف تنبت لك أجنحة قوية. لا تسجن نفسك في الماضي . كلما عُدتَ إليه هاجمتك الأشباح. لا يمكنك اختصار الجلاد بشخصٍ أو حفنةٍ تشبهه. (...) ليس صحيحاً أن النار تدمّر كل شيء. تبقى دائماً بارقة أمل. لا تنس أن تمنحه لحبيبتك، للشوارع، للمرايا، لمفاتيح الكهرباء، للشروخ في الجدران. الأملُ رشوة يقبَلها الجميع» (ص174).
يبدو هذا الأفق الدلالي الذي تحومُ حوله رواية «حذاء فيلليني» من خلال اتخاذ الفن طوْقَ نجاة، لمواجهة وضعٍ عربي غارق في التداعي والانهيار، هو الأفق الوحيد الممكن، لأنه لا يُسرف في التفاؤل ويكتفي بالدعوة إلى المراهنة على الحياة وقدرتها على التجدد والاستمرار.
استطاع وحيد الطويلة، في هذه الرواية، أن يؤكد حرصه على ابتداع شكل روائي قادر على تخصيص الرؤية إلى العالم وتكسير القشور الحائلة من دون استنطاق ما هو كامن في اللاوعي أو مدسوس بين ثنايا الموروث. وفي الآن ذاته، استثمرَ لغته المتميزة بالدقة والطزاجة والمزاوجة بين النثرية والشعرية، مثلما عوّدنا في رواياته السابقة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.