التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    نشرة التوك شو| موجة حارة جديدة.. وشعبة السيارات تكشف سبب انخفاض الأسعار    فلسطين.. مدفعية الاحتلال تكثف قصفها وسط جباليا بالتزامن مع نسف مباني سكنية شمالي غزة    طارق فهمي: الإعلان الأممي عن تفشي المجاعة في غزة يعكس حجم الكارثة الإنسانية    بوتين: واثق أن خبرة ترامب ستسهم في استعادة العلاقات الثنائية بين بلدينا    وزير الخارجية الأردني: على إسرائيل رفع حصارها عن قطاع غزة والسماح بإيصال المساعدات    الإنتاج الحربي يستهل مشواره بالفوز على راية الرياضي في دوري المحترفين    المستشار القانوني للزمالك يتحدث عن.. التظلم على سحب أرض أكتوبر.. وأنباء التحقيق مع إدارة النادي    بهدف رويز.. باريس سان جيرمان ينجو من فخ أنجيه في الدوري الفرنسي    مواعيد مباريات دوري المحترفين المصري اليوم السبت    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    ويجز يشعل حماس جمهور حفله في العلمين الجديدة بأغنيتي "الأيام" و"الدنيا إيه"    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    ابنة سيد مكاوي عن شيرين عبدالوهاب: فقدت تعاطفي بسبب عدم مسؤوليتها    5 تصريحات جريئة ل محمد عطية: كشف تعرضه للضرب من حبيبة سابقة ويتمنى عقوبة «مؤلمة» للمتحرشين    تنسيق الشهادات المعادلة 2025، قواعد قبول طلاب الثانوية السعودية بالجامعات المصرية    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    في ظهوره الأول مع تشيلسي، إستيفاو ويليان يدخل التاريخ في الدوري الإنجليزي (فيديو)    تشيلسي يقسو على وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي (فيديو)    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    اليوم، دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا    سليم غنيم يحافظ على الصدارة للعام الثاني في سباقات الحمام الزاجل الدولية    في لحظات.. شقة تتحول إلى ساحة من اللهب والدخان    سعر الأرز والسكر والسلع الأساسية في الأسواق اليوم السبت 23 أغسطس 2025    استقالة وزير الخارجية الهولندي بسبب موقف بلاده من إسرائيل    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    قطع المياه عن بعض المناطق بأكتوبر الجديدة لمدة 6 ساعات    خطة عاجلة لتحديث مرافق المنطقة الصناعية بأبو رواش وتطوير بنيتها التحتية    تحت عنوان كامل العدد، مدحت صالح يفتتح حفله على مسرح المحكي ب "زي ما هي حبها"    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    خيرى حسن ينضم إلى برنامج صباح الخير يا مصر بفقرة أسبوعية على شاشة ماسبيرو    المنوفية تقدم أكثر من 2.6 مليون خدمة طبية ضمن حملة 100 يوم صحة    صحة المنوفية تواصل حملاتها بسرس الليان لضمان خدمات طبية آمنة وذات جودة    كتر ضحك وقلل قهوة.. طرق للتخلص من زيادة هرمون التوتر «الكورتيزول»    نجاح عملية جراحية دقيقة لاستئصال ورم ليفي بمستشفى القصاصين فى الإسماعيلية    نتيجة تنسيق رياض الأطفال والصف الأول الابتدائي الأزهر الشريف 2025 خلال ساعات.. «رابط مباشر»    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 23 أغسطس 2025    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    ظهور مفاجئ ل «منخفض الهند».. تحذير بشأن حالة الطقس اليوم: القاهرة تُسجل 40 مئوية    القضاء على بؤرة إجرامية خطرة بأشمون خلال تبادل النار مع قوات الشرطة    ضبط 1954 مخالفة ورفع كفاءة طريق «أم جعفر – الحلافي» ورصف شارع الجيش بكفر الشيخ    أخبار × 24 ساعة.. موعد انطلاق العام الدراسى الجديد بالمدارس الدولية والرسمية    مقتل عنصر من الأمن السورى فى هجوم انتحارى نفذه "داعش" بدير الزور    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. الدفاع الروسية: سيطرنا على 9 بلدات فى أوكرانيا خلال أسبوع .. وزيرة خارجية سلوفينيا: المجاعة مرحلة جديدة من الجحيم فى غزة.. إسرائيل عطلت 60 محطة تحلية مياه فى غزة    منها الإقلاع عن التدخين.. 10 نصائح للحفاظ على صحة عينيك مع تقدمك فى العمر (تعرف عليها)    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    محافظ مطروح ورئيس جامعة الأزهر يفتتحان كلية البنات الأزهرية بالمحافظة    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    رابطة الصحفيين أبناء الدقهلية تؤكد انحيازها التام لحرية الإعلام    سعر طن الحديد الاستثماري وعز والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 22 أغسطس 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القاهرة وعالمها الثقافي.. بقايا الزمن الغابر
نشر في صوت البلد يوم 12 - 04 - 2017

في الظن، أن الجو الجميل الذي تتمتع به مصر على مدار السنة، هو ما يجعلها هدفاً للزائرين من كل بقاع الأرض، فضلاً عن العمق الحضاري والتاريخي، الذي تتسم به مصر والمتجسّد في المواقع التراثية والتاريخية والدينية والسياحية والأثرية، تلك التي تجعلها قِبلة للزيارة في كل المواسم وليس في موسم محدد .إنها هبة إلهية، لبلد اقتصاده في حالة غير مستقرة، في زمن الفاسدين والحاكمين الطامعين الذين نهبوا كل شيء، وورّثوا أبناءهم الحريات اللامحدودة في تجريف المال العام .لكن مصر الجميلة والبهية والمؤنسة، تحاول تخطي الأسوار والخسائر والعوائق، بالتحدي الموجود في أفئدة شبابها الطالع والضاحك والمبتهج لأبسط الأمور الحياتية التي تواجهه، فهو مستعد إلى تحويل السواد إن حلّ الى ومضات من الفرح الدائم، المزاح هو هوية المصري، هوية مؤطرة بالطيبة والحنوّ والتعاضد بين الناس، وهذا ما لمسته لمس اليد، ليس بينهم فقط، بل مع الجميع الذين يكونون على أرضهم .
الزمن الباقي
في مصر يحس العربي وحتى الأجنبي أنه في أرضه، في مكانه، في الحيز الصحيح، الحيز الذي يجعل القلب يرفرف وهو يخطو في هذه الزحمة العجيبة، ربما الأوربي يُذكِّره هذا الزحام بأجواء «ألف ليلة وليلة». لا غزاة هنا يسلبونها حاضرها وخيراتها، ولا مهيمن من الجيران، يرشدها إلى طرق الظلام والفكر المغالي، الطائفي والمذهبي، ولا يوجد هنا ديكتاتور صغير، يطعن خاصرته كل يوم بالحراب ويتركها جريحة وفريسة للذئاب العابرة، في مصر تحس أنك بين أهلك ومحبيك، وناسك، بين الماضي من الفن الذي لا يُنسى، الماضي الذي ما زلنا نعتاش ونتغذى جمالياً عليه.
الزمن الضائع
أجد أن المصري، بفطرته المجبولة على التماهي مع الآخر، أياً كانت هُويته وأصوله وجذوره، يسعى الى مساعدتك ان طلبت المساعدة والتسآل، ينبري يوصف لك ويشير ويُدل حتى تجد غايتك، أسير وأسأل أياً كان عن شارع «عماد الدين»، الكل هنا يُدل، أو يعتذر بأدب إنْ لم يكن يعرف، أصل الشارع الذي أبحث عنه، وفي رأسي أحمل تاريخاً رومانطيقياً عنه، فهذا الشارع كان أيام الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، هوليوود العرب، المكان السار والبهيج الذي كان يمور بالمسارح ودور السينما والنوادي الليلية وشركات إنتاج المسرحيات والأوبريتات والفرق الموسيقية والمسرحية، آتي لأتتبع خطى العمالقة، من الملحنين والمطربين والممثلين والمخرجين في هذا الشارع، إذ حوله ستجد شوارع صغرى بأسماء زكريا أحمد وسيد درويش ونجيب الريحاني، وإذا ما استمررت فيه إلى آخره ستكون في شارع محمد فريد الذي سيوصلك الى قصر عابدين، هناك سأقضي بعض السهرات، في حانة تقع على السطح، إني محب لنوعية هذه الحانات ولا سيما الجزء البريء منها، وهو السهر مع الأصدقاء في جلسات طويلة لتعاطي الذكريات مخلوطة بالشراب والشعر والأدب، نصغي إلى السيدة أم كلثوم كوكب الشرق، ونصيخ السمع إلى الماضي المتداخل مع حاضرنا وهو يحرك الفواتن من الطرائف والمُلَح الصداقية التي يجيد بعض أصدقائي اصطفاءها وإعدادها بطريقة مذهلة وساخرة وأنا معهم أتبِّل وأملِّح وأجهِّز المائدة الكوميدية الساخرة
ظِل الريحاني
حين أحاول نبش المسارح القديمة في شارع عماد الدين، مثل مسرح السيدة ملك وجورج أبيض وعلي الكسار وغيرهم، فأني لم أجد سوى مسرح الريحاني، هذا المسرح الذي ظل صامداً حتى اللحظة في عطائه المسرحي وإنْ على قلة وتدهور وتعاضل وعسر واضح، كونه لا يستطيع التواصل مع الماضي وعالم الزمن الجميل الذي طوته الحادثات والأزمنة الجديدة التي اخترقت قلب المدينة، بكل جبروت الميديا الحديثة والمتطورة كل ساعة ويوم .
الزمن المنسي
أجد «سينما كريم» ما زالت تعرض أفلاماً معينة، وألاحظ الماضي يتركز في بعض البقايا التي بدت آثارها تبين، في طلل ورميم وتتناثر هنا وهناك، متمثلة في معلم آيل، أو في طريقه الى الزوال .في الشارع الخلفي والموازي له، والذي يقع فيه الفندق الذي أنزل فيه، أحد الأصدقاء المصريين الذين يسيرون معي، يشير إلى مبنى موضوع في يد الترميم والعناية والتجديد، وتلوح عليه من خلال نظرة أولى ملامح المجد الغابر، صديقي يقول هذا المكان كان مقهى في مصر الأربعينيات والخمسينيات، وكان في الليل يتحول إلى مسرح كبير، ففيه كان يتم اجتماع الثوار الجزائريين، ومن هنا كانوا يخططون للثورة والتحرير من المستعمر الفرنسي، وحين نصل في سيرنا الى موضع النُزْل الذي أقيم فيه، يشير إلى شقة صغيرة قال لي .. «إنها كانت سكناً للممثلة ماجدة الخطيب»، وحين نتوغل أكثر، نصل إلى وزارة الأوقاف التي قضَّى فيها الروائي العالمي نجيب محفوظ سنين طوالاً وهو مستغرق في وظيفته وعمله اليومي، بين عطن الأوراق الرسمية والروتينية. حتى وصولنا إلى الدائرة التي تقع في منتصف شارع طلعت حرب، وهنا تستطيع أن تتلمس أضواء دور السينما المتلألئة والبراقة في الليل، في عرضها للإعلانات السينمائية، فهنا ستبرز سينما راديو ومترو وميامي وبعض الدور الأخرى مما تبقى من الزمن الضالع في الماضي القريب. إحدى دور العرض تعرض فيلماً مصرياً بعنوان «القرموطي في أرض النار» وثانية تعرض فيلماً أجنبياً يتراءى عليه الزحام. في نهاية الشارع تستطيع أن ترى جزءاً من «ميدان التحرير»، أما البداية فهي ستكون للقضاء العالي، بأعمدته الرخامية العالية، تلك التي وقف تحتها ممثلون عديدون وهم يؤدون بعض اللقطات في الأفلام العربية حينها، كعبد الحليم حافظ والممثلة إيمان ومحمود المليجي في نهاية الفيلم البديع «أيام وليالي». قربه يقع «سوق التوفيقية» ولطالما تسوَّقت منه الكعك الأسمر المنقوط بحبة البركة والجبنة الرومية ذات المذاق الخاص، وفي عطفاته وزواياه المتفرعة منه، ثمّة مقاهٍ بسيطة تقدم الشاي والقهوة والاستراحة المطلوبة، لو كنت مجهداً من المشي والزحام.
القاهرة الخديوية
وأنا أجول بين هذه الشوارع المترعة بأضواء المحلات الجذابة، وأستعيد في سيري بعض مشاهد الزمن القديم، ينبئني صديق بأن القاهرة تنقسم في طراز معمارها إلى مرحلتين .. طرازالمرحلة الخديوية، والثاني طراز قاهرة المُعز، كنت في السابق لم أعِ هذه الفروق في العمارة القاهرية. من هنا فأني أجول وأسكن وأتحرَّك طوال فترة إقامتي في طراز الخديوي سعيد، ذلك الحاكم الذي عندما شرع المهندسون بشق قناة السويس، وتم موعد مراسيم تدشينها وفتحها، مختصرة بذلك الزمن والعالم والمكان في تحرك الملاحة البحرية، ونشاطها التجاري والإقتصادي، لتكون كما هي عليه اليوم، جاء بمهندسين خبراء وفنانين في العمارة، ليهندسوا القاهرة حسب طراز البناء الإيطالي، لتكون حاضرة حديثة، فيها رقي البناء الايطالي، وتصاميمه الفنية الباذخة والرفيعة، والهاجسة بالبعد الموسيقي، والهارموني المتناغم مع ايقاع موج النيل، وشاطئه الماسي.
قاهرة المعز
أما طراز «قاهرة المُعز» فهو ذلكم البناء التركي القديم، الأفقي، والذي يعتمد على المساحة ذات الفضاءات الممتدة، لتظهر من بعيد المنائر والقباب للمساجد والجوامع والمقامات الكبيرة للحسين والسيدة زينب وبعض الأئمة الذين توجد أضرحتهم هناك ومنذ زمن بعيد، ومن ضمنها مصر الفاطمية ومسجد الدروز الفسيح والمبني على طبقات الضوء المفتوح على الافق والأرجاء الحاضنة للشموس والظلال .
نهر البشر
الى هناك ذهبنا راجلين من «العتبة» المكتظة بالعربات وحركة البائعين التي لن تنتهي، حتى وصولنا الى أضواء مقهى الفيشاوي والزحمة الأليفة والمرتضاة ل» خان الخليلي»، الشوارع المؤدية إليه لا تستطيع فيها السير، من شدة التراص الذي تشقَّه بواسطة الكتف، ولكأنك تسبح في محيط من الناس، وتود الوصول إلى المركز كيفما كان، شوارع تلتف على بعضها، متداخلة في أسواق لا تحصى من الحوائج والمعروضات التي تمتد كشلال طويل، بضاعة تتراكم فوق بعضها، مع بشر يتراكمون أيضاً، ويسدون الآفاق التي تكاد أن توصلك إلى المراد، هي توصلك ولكنْ بشق الأنفس.
ميدان التحرير
من مقهى في ميدان التحرير، اعتدت على تناول القهوة والشاي فيه، والتمتع برؤية العابرين وهم يمضون الى شأنهم اليومي، ثمة فتيان صغار يبيعون المناديل الورقية، ونساء طاعنات كذلك يحملن العلكة والمناديل، ويدرن دورتهنَّ المعتادة على مقاهي التحرير التي تضم زبائن من مختلف المشارب، شباناً مصريين من كلا الجنسين، سائحين أوروبيين، يشربون الشاي المُنَعْنَع ويتعاطون بدافع الفضول الشيشة المصرية، وهي كلمة تركية، فالشيشة تعني القارورة الزجاجية، والعراقيون يسمون أي قارورة زجاجية ب «الشيشة» حسب العامية البغدادية
أين الضفتان ؟
من هناك أتجه إلى «غاردن سيتي» بغية الوصول إلى الصديق الشاعر «جرجس شكري»، كانت مناسبة لأرى البرلمان المصري العريق، يقابله من الجهة الأخرى من ساحة الميدان المتحف المصري، وهو صرح بارز، من الآجر الأحمر، ومن بعيد تلوح ملامحه الأرجوانية، ملتحفاً في سدوره كنوزه الإسطورية، ومنطوياً على تاريخ طويل من الحضارة المصرية القديمة، أمر في طريقي بمسرح السلام وببعض المعالم الحديثة التي تشي بطبيعة المكان، حتى أصل إلى «قصور الثقافة». يهديني الصديق كتاب «الثابت والمتحول» لأدونيس الذي طبعته الهيئة المصرية العامة للكتاب، في حجم شعبي بسعر زهيد جداً، وفي إمكان أي قارئ أن يقتني نسخة منه لفرط سعره الزهيد .في الخارج كان الجو جميلاً ودافئاً والشمس البديعة تدعوك إلى زيارة كورنيش النيل، أصل الى الشاطئ، وأقف متأملاً الصيادين الفتيان في زوارقهم، وهم يرمون الشباك في النيل، من مقربة أرى الأسماك تتراقص في شباكها، لامعة كالفضة في شمس النيل، المُعديَّات تعبر النهر إلى جهات أخرى، وأنا واقف أتأمل المنحدر الحجري للنهر، والمئذنة البعيدة المزخرفة والمُخرَّمة بشكلها الاسطواني المصنوع من الصلصال، في الحال أكتب هذا المقطع الشعري» ظمآنَ وقفتُ على النيلِ ضحىً، جزتُ السُّورَ، شربتُ الأفُقَ الخوخيَّ ، ومن ثَمَّ غسلتُ الماء».
.....
٭ شاعر وكاتب عراقي
في الظن، أن الجو الجميل الذي تتمتع به مصر على مدار السنة، هو ما يجعلها هدفاً للزائرين من كل بقاع الأرض، فضلاً عن العمق الحضاري والتاريخي، الذي تتسم به مصر والمتجسّد في المواقع التراثية والتاريخية والدينية والسياحية والأثرية، تلك التي تجعلها قِبلة للزيارة في كل المواسم وليس في موسم محدد .إنها هبة إلهية، لبلد اقتصاده في حالة غير مستقرة، في زمن الفاسدين والحاكمين الطامعين الذين نهبوا كل شيء، وورّثوا أبناءهم الحريات اللامحدودة في تجريف المال العام .لكن مصر الجميلة والبهية والمؤنسة، تحاول تخطي الأسوار والخسائر والعوائق، بالتحدي الموجود في أفئدة شبابها الطالع والضاحك والمبتهج لأبسط الأمور الحياتية التي تواجهه، فهو مستعد إلى تحويل السواد إن حلّ الى ومضات من الفرح الدائم، المزاح هو هوية المصري، هوية مؤطرة بالطيبة والحنوّ والتعاضد بين الناس، وهذا ما لمسته لمس اليد، ليس بينهم فقط، بل مع الجميع الذين يكونون على أرضهم .
الزمن الباقي
في مصر يحس العربي وحتى الأجنبي أنه في أرضه، في مكانه، في الحيز الصحيح، الحيز الذي يجعل القلب يرفرف وهو يخطو في هذه الزحمة العجيبة، ربما الأوربي يُذكِّره هذا الزحام بأجواء «ألف ليلة وليلة». لا غزاة هنا يسلبونها حاضرها وخيراتها، ولا مهيمن من الجيران، يرشدها إلى طرق الظلام والفكر المغالي، الطائفي والمذهبي، ولا يوجد هنا ديكتاتور صغير، يطعن خاصرته كل يوم بالحراب ويتركها جريحة وفريسة للذئاب العابرة، في مصر تحس أنك بين أهلك ومحبيك، وناسك، بين الماضي من الفن الذي لا يُنسى، الماضي الذي ما زلنا نعتاش ونتغذى جمالياً عليه.
الزمن الضائع
أجد أن المصري، بفطرته المجبولة على التماهي مع الآخر، أياً كانت هُويته وأصوله وجذوره، يسعى الى مساعدتك ان طلبت المساعدة والتسآل، ينبري يوصف لك ويشير ويُدل حتى تجد غايتك، أسير وأسأل أياً كان عن شارع «عماد الدين»، الكل هنا يُدل، أو يعتذر بأدب إنْ لم يكن يعرف، أصل الشارع الذي أبحث عنه، وفي رأسي أحمل تاريخاً رومانطيقياً عنه، فهذا الشارع كان أيام الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، هوليوود العرب، المكان السار والبهيج الذي كان يمور بالمسارح ودور السينما والنوادي الليلية وشركات إنتاج المسرحيات والأوبريتات والفرق الموسيقية والمسرحية، آتي لأتتبع خطى العمالقة، من الملحنين والمطربين والممثلين والمخرجين في هذا الشارع، إذ حوله ستجد شوارع صغرى بأسماء زكريا أحمد وسيد درويش ونجيب الريحاني، وإذا ما استمررت فيه إلى آخره ستكون في شارع محمد فريد الذي سيوصلك الى قصر عابدين، هناك سأقضي بعض السهرات، في حانة تقع على السطح، إني محب لنوعية هذه الحانات ولا سيما الجزء البريء منها، وهو السهر مع الأصدقاء في جلسات طويلة لتعاطي الذكريات مخلوطة بالشراب والشعر والأدب، نصغي إلى السيدة أم كلثوم كوكب الشرق، ونصيخ السمع إلى الماضي المتداخل مع حاضرنا وهو يحرك الفواتن من الطرائف والمُلَح الصداقية التي يجيد بعض أصدقائي اصطفاءها وإعدادها بطريقة مذهلة وساخرة وأنا معهم أتبِّل وأملِّح وأجهِّز المائدة الكوميدية الساخرة
ظِل الريحاني
حين أحاول نبش المسارح القديمة في شارع عماد الدين، مثل مسرح السيدة ملك وجورج أبيض وعلي الكسار وغيرهم، فأني لم أجد سوى مسرح الريحاني، هذا المسرح الذي ظل صامداً حتى اللحظة في عطائه المسرحي وإنْ على قلة وتدهور وتعاضل وعسر واضح، كونه لا يستطيع التواصل مع الماضي وعالم الزمن الجميل الذي طوته الحادثات والأزمنة الجديدة التي اخترقت قلب المدينة، بكل جبروت الميديا الحديثة والمتطورة كل ساعة ويوم .
الزمن المنسي
أجد «سينما كريم» ما زالت تعرض أفلاماً معينة، وألاحظ الماضي يتركز في بعض البقايا التي بدت آثارها تبين، في طلل ورميم وتتناثر هنا وهناك، متمثلة في معلم آيل، أو في طريقه الى الزوال .في الشارع الخلفي والموازي له، والذي يقع فيه الفندق الذي أنزل فيه، أحد الأصدقاء المصريين الذين يسيرون معي، يشير إلى مبنى موضوع في يد الترميم والعناية والتجديد، وتلوح عليه من خلال نظرة أولى ملامح المجد الغابر، صديقي يقول هذا المكان كان مقهى في مصر الأربعينيات والخمسينيات، وكان في الليل يتحول إلى مسرح كبير، ففيه كان يتم اجتماع الثوار الجزائريين، ومن هنا كانوا يخططون للثورة والتحرير من المستعمر الفرنسي، وحين نصل في سيرنا الى موضع النُزْل الذي أقيم فيه، يشير إلى شقة صغيرة قال لي .. «إنها كانت سكناً للممثلة ماجدة الخطيب»، وحين نتوغل أكثر، نصل إلى وزارة الأوقاف التي قضَّى فيها الروائي العالمي نجيب محفوظ سنين طوالاً وهو مستغرق في وظيفته وعمله اليومي، بين عطن الأوراق الرسمية والروتينية. حتى وصولنا إلى الدائرة التي تقع في منتصف شارع طلعت حرب، وهنا تستطيع أن تتلمس أضواء دور السينما المتلألئة والبراقة في الليل، في عرضها للإعلانات السينمائية، فهنا ستبرز سينما راديو ومترو وميامي وبعض الدور الأخرى مما تبقى من الزمن الضالع في الماضي القريب. إحدى دور العرض تعرض فيلماً مصرياً بعنوان «القرموطي في أرض النار» وثانية تعرض فيلماً أجنبياً يتراءى عليه الزحام. في نهاية الشارع تستطيع أن ترى جزءاً من «ميدان التحرير»، أما البداية فهي ستكون للقضاء العالي، بأعمدته الرخامية العالية، تلك التي وقف تحتها ممثلون عديدون وهم يؤدون بعض اللقطات في الأفلام العربية حينها، كعبد الحليم حافظ والممثلة إيمان ومحمود المليجي في نهاية الفيلم البديع «أيام وليالي». قربه يقع «سوق التوفيقية» ولطالما تسوَّقت منه الكعك الأسمر المنقوط بحبة البركة والجبنة الرومية ذات المذاق الخاص، وفي عطفاته وزواياه المتفرعة منه، ثمّة مقاهٍ بسيطة تقدم الشاي والقهوة والاستراحة المطلوبة، لو كنت مجهداً من المشي والزحام.
القاهرة الخديوية
وأنا أجول بين هذه الشوارع المترعة بأضواء المحلات الجذابة، وأستعيد في سيري بعض مشاهد الزمن القديم، ينبئني صديق بأن القاهرة تنقسم في طراز معمارها إلى مرحلتين .. طرازالمرحلة الخديوية، والثاني طراز قاهرة المُعز، كنت في السابق لم أعِ هذه الفروق في العمارة القاهرية. من هنا فأني أجول وأسكن وأتحرَّك طوال فترة إقامتي في طراز الخديوي سعيد، ذلك الحاكم الذي عندما شرع المهندسون بشق قناة السويس، وتم موعد مراسيم تدشينها وفتحها، مختصرة بذلك الزمن والعالم والمكان في تحرك الملاحة البحرية، ونشاطها التجاري والإقتصادي، لتكون كما هي عليه اليوم، جاء بمهندسين خبراء وفنانين في العمارة، ليهندسوا القاهرة حسب طراز البناء الإيطالي، لتكون حاضرة حديثة، فيها رقي البناء الايطالي، وتصاميمه الفنية الباذخة والرفيعة، والهاجسة بالبعد الموسيقي، والهارموني المتناغم مع ايقاع موج النيل، وشاطئه الماسي.
قاهرة المعز
أما طراز «قاهرة المُعز» فهو ذلكم البناء التركي القديم، الأفقي، والذي يعتمد على المساحة ذات الفضاءات الممتدة، لتظهر من بعيد المنائر والقباب للمساجد والجوامع والمقامات الكبيرة للحسين والسيدة زينب وبعض الأئمة الذين توجد أضرحتهم هناك ومنذ زمن بعيد، ومن ضمنها مصر الفاطمية ومسجد الدروز الفسيح والمبني على طبقات الضوء المفتوح على الافق والأرجاء الحاضنة للشموس والظلال .
نهر البشر
الى هناك ذهبنا راجلين من «العتبة» المكتظة بالعربات وحركة البائعين التي لن تنتهي، حتى وصولنا الى أضواء مقهى الفيشاوي والزحمة الأليفة والمرتضاة ل» خان الخليلي»، الشوارع المؤدية إليه لا تستطيع فيها السير، من شدة التراص الذي تشقَّه بواسطة الكتف، ولكأنك تسبح في محيط من الناس، وتود الوصول إلى المركز كيفما كان، شوارع تلتف على بعضها، متداخلة في أسواق لا تحصى من الحوائج والمعروضات التي تمتد كشلال طويل، بضاعة تتراكم فوق بعضها، مع بشر يتراكمون أيضاً، ويسدون الآفاق التي تكاد أن توصلك إلى المراد، هي توصلك ولكنْ بشق الأنفس.
ميدان التحرير
من مقهى في ميدان التحرير، اعتدت على تناول القهوة والشاي فيه، والتمتع برؤية العابرين وهم يمضون الى شأنهم اليومي، ثمة فتيان صغار يبيعون المناديل الورقية، ونساء طاعنات كذلك يحملن العلكة والمناديل، ويدرن دورتهنَّ المعتادة على مقاهي التحرير التي تضم زبائن من مختلف المشارب، شباناً مصريين من كلا الجنسين، سائحين أوروبيين، يشربون الشاي المُنَعْنَع ويتعاطون بدافع الفضول الشيشة المصرية، وهي كلمة تركية، فالشيشة تعني القارورة الزجاجية، والعراقيون يسمون أي قارورة زجاجية ب «الشيشة» حسب العامية البغدادية
أين الضفتان ؟
من هناك أتجه إلى «غاردن سيتي» بغية الوصول إلى الصديق الشاعر «جرجس شكري»، كانت مناسبة لأرى البرلمان المصري العريق، يقابله من الجهة الأخرى من ساحة الميدان المتحف المصري، وهو صرح بارز، من الآجر الأحمر، ومن بعيد تلوح ملامحه الأرجوانية، ملتحفاً في سدوره كنوزه الإسطورية، ومنطوياً على تاريخ طويل من الحضارة المصرية القديمة، أمر في طريقي بمسرح السلام وببعض المعالم الحديثة التي تشي بطبيعة المكان، حتى أصل إلى «قصور الثقافة». يهديني الصديق كتاب «الثابت والمتحول» لأدونيس الذي طبعته الهيئة المصرية العامة للكتاب، في حجم شعبي بسعر زهيد جداً، وفي إمكان أي قارئ أن يقتني نسخة منه لفرط سعره الزهيد .في الخارج كان الجو جميلاً ودافئاً والشمس البديعة تدعوك إلى زيارة كورنيش النيل، أصل الى الشاطئ، وأقف متأملاً الصيادين الفتيان في زوارقهم، وهم يرمون الشباك في النيل، من مقربة أرى الأسماك تتراقص في شباكها، لامعة كالفضة في شمس النيل، المُعديَّات تعبر النهر إلى جهات أخرى، وأنا واقف أتأمل المنحدر الحجري للنهر، والمئذنة البعيدة المزخرفة والمُخرَّمة بشكلها الاسطواني المصنوع من الصلصال، في الحال أكتب هذا المقطع الشعري» ظمآنَ وقفتُ على النيلِ ضحىً، جزتُ السُّورَ، شربتُ الأفُقَ الخوخيَّ ، ومن ثَمَّ غسلتُ الماء».
.....
٭ شاعر وكاتب عراقي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.