مصر بين جمهوريتى 23 يوليو و30 يونيو ورسائل الرئيس    تشكيل المصري - منذر طمين يقود الهجوم أمام النجم الساحلي وديا    حوار في الجول - تيدي أوكو يكشف أسباب فشل انتقاله إلى الزمالك.. وموقف الكشف الطبي    مؤشرات تنسيق الثانوية العامة 2025 علمي.. كليات ومعاهد تقبل مجموع 50% فقط في 2024    محمد الجالى: توجيهات الرئيس السيسي عن الطاقة استراتيجية للتحول لمركز إقليمى.. وتحقيق الاكتفاء الذاتي يرتبط ب"الأمن القومي"    وزير الخارجية والهجرة يسلم رسالة خطية من فخامة رئيس الجمهورية الى رئيس جمهورية النيجر    «أجبرتها على التراجع».. مروحية إيرانية تتصدى لمدمرة أمريكية في المياه الإقليمية    صلاح عبدالعاطي: إسرائيل تستخدم المفاوضات غطاءً لإطالة أمد الحرب وفرض ترتيبات قسرية    أوكرانيا وروسيا تستعدان لإجراء محادثات سلام في تركيا    حزب إرادة جيل يهنئ الرئيس السيسي والشعب المصري بذكرى ثورة 23 يوليو    البابا تواضروس يستقبل مجموعة خدام من كنيستنا في نيوكاسل    أرسنال يهزم ميلان في مباراة ودية بسنغافورة    علي معلول يوقع على عقود انضمامه إلى ناديه الجديد    الرابط المعتمد لنتيجة الثانوية الأزهرية 2025.. استعلم عبر بوابة الأزهر الشريف برقم الجلوس (فور ظهورها)    محمد رياض: نبحث عن تيارات فكرية جديدة في الكتابة المسرحية    "شفتشي" ثاني أغنيات الوش الثاني من "بيستهبل" ل أحمد سعد    خلال استقبال مساعد وزير الصحة.. محافظ أسوان: التأمين الشامل ساهم في تطوير الصروح الطبية    بالأسماء.. رئيس أمناء جامعة بنها الأهلية يُصدر 9 قرارات بتعيين قيادات جامعية جديدة    منهم برج الدلو والحوت.. الأبراج الأكثر حظًا في الحياة العاطفية في شهر أغسطس 2025    متحدث الوزراء يكشف السبب الرئيسي وراء تأجيل احتفالية افتتاح المتحف المصري الكبير    وزير الدفاع يكرم أصحاب الإنجازات الرياضية من أبناء القوات المسلحة (تفاصيل)    ماذا يحدث لجسمك عند تناول السلمون نيئًا؟    من الارتفاع إلى الهبوط.. قراءة في أداء سهم "بنيان" في ثاني يوم تداول بالبورصة    خادم الحرمين وولى العهد السعودى يهنئان الرئيس السيسى بذكرى ثورة 23 يوليو    القاهرة والرياض تبحثان مستجدات الأوضاع بالبحر الأحمر    بعد تراجع 408.. تعرف على أسعار جميع سيارات بيجو موديل 2026 بمصر    برلين تمهد الطريق أمام تصدير مقاتلات يوروفايتر لتركيا    حمدى رزق يكتب: الحبُ للحبيبِ الأوَّلِ    113 شهيدًا في قطاع غزة خلال 24 ساعة    محادثات اقتصادية وتجارية بين الصين والولايات المتحدة.. على أساس مبادئ الاحترام المتبادل    «اتصرف غلط».. نجم الأهلي السابق يعلق على أزمة وسام أبو علي ويختار أفضل بديل    فسخ العقود وإنذارات للمتأخرين.. ماذا يحدث في تقنين أراضي أملاك الدولة بقنا؟    خطة استثمارية ب100 مليون دولار.. «البترول» و«دانة غاز» تعلنان نتائج بئر «بيجونيا-2» بإنتاج 9 مليارات قدم    تحرير 7 محاضر لأصحاب أنشطة تجارية في حملة تموينية بالعاشر من رمضان    «فتحنا القبر 6 مرات في أسبوعين».. أهالي قرية دلجا بالمنيا يطالبون بتفسير وفاة أطفال «الأسرة المكلومة»    ب2.5 مليون.. افتتاح أعمال رفع كفاءة وحدة الأشعة بمستشفى فاقوس في الشرقية (تفاصيل)    لماذا لا ينخفض ضغط الدم رغم تناول العلاج؟.. 9 أسباب وراء تلك المشكلة    «ادهشيهم في الساحل الشرير».. حضري «الكشري» في حلة واحدة لغذاء مميز (المكونات والطريقة)    رضا البحراوي يمازح طلاب الثانوية العامة    "المطورين العقاريين" تطالب بحوار عاجل بشأن قرار إلغاء تخصيص الأراضي    طرح إعلان فيلم Giant لأمير المصري تمهيدا لعرضه عالميا    الأهلي يترقب انتعاش خزينته ب 5.5 مليون دولار خلال ساعات    محفظ قرآن بقنا يهدي طالبة ثانوية عامة رحلة عمرة    أمين الفتوى: الشبكة جزء من المهر والأصل أن تعود للخاطب عند فسخ الخطبة    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : كم نتمنى ان نكون مثلكم ?!    فيريرا يركز على الجوانب الفنية في مران الزمالك الصباحي    تباين أداء مؤشرات البورصة في منتصف تعاملات اليوم    وفاة شخصين متأثرين بإصابتهما في حادث تصادم سيارتين بقنا    أسرة مريم الخامس أدبي تستقبل نتيجتها بالزغاريد في دمياط    الإفتاء توضح كيفية إتمام الصفوف في صلاة الجماعة    بالفيديو.. الأرصاد: موجة شديدة الحرارة تضرب البلاد حتى منتصف الأسبوع المقبل    "الأعلى للإعلام" يُوقف مها الصغير ويحيلها للنيابة بتهمة التعدي على الملكية الفكرية    الرئيس السيسي: هذا الوطن قادر بأبنائه على تجاوز التحديات والصعاب    البنك الزراعي المصري يبحث تعزيز التعاون مع اتحاد نقابات جنوب إفريقيا    رئيس الوزراء يتفقد موقع إنشاء المحطة النووية بالضبعة    دار الإفتاء المصرية توضح حكم تشريح جثة الميت    خلال فترة التدريب.. مندوب نقل أموال ينهب ماكينات ATM بشبرا الخيمة    حريق يلتهم محلين تجاريين وشقة في أسيوط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عشاق وفونوغراف وأزمنة .. درس استثنائي وتطبيقي في فن كتابة الرواية
نشر في صوت البلد يوم 27 - 02 - 2017

تعلن هذه الرواية عن نفسها منذ العنوان إعلانا زمنياً، فتنبث عبر ذلك العنوان إشارة زمنية مرتبطة بالإنسان (عشاق) أولاً، ثم الآلة (فونوغراف) ثانياً، وبهذا أرادت الروائية لفت الانتباه إلى دلالة الزمن في روايتها منذ عتبة النص الأولى، ودوره كواحد من تلك العناصر الثلاثة، في رسم مسيرة استرجاعية عمرها خمسة أجيال من عائلة نهى جابر فؤاد صبحي اسماعيل الكتبخاني، وهي المسيرة التي رسمت الكاتبة مساراتها، وأثثت كل طية من طيات فضاءاتها بمادة معرفية عميقة، وخبرات حياتية متراكمة، ومعلومات تاريخية موثوقة، نسجت من خلالها مئة عام من تاريخ العراق والمنطقة بلغة ثرية حسية متحركة أقل ما يقال عنها إنها ساحرة نابضة بالحياة والعاطفة، مشبعة بالصور الحسية، فواحة بالعطور، منغمة بموسيقى مشهدية رفيعة المستوى.
يعود التفوق في هذه الرواية، الصادرة عن دار المدى عام 2016، لأسباب عديدة أهمها تشبع الكاتبة على مدى تاريخها بشتى المجالات المعرفية: من الموسيقى إلى الأدب إلى الفلسفة، ومن علم النفس إلى علم الاجتماع والتاريخ، فكانت تضع غلال هذه الحقول فوق مساحات كبيرة من أرضها التي فرشتها تحت الضوء، ثم دوزنت عصاها السحرية لاستعمال شذرات هذا الخزين في المكان والزمان المناسبين. ووفقاً لباختين فإن "كل متكلم إلا ويحمل أفقاً اجتماعياً معيناً يعينه على اختيار الكلمات المناسبة".
تصل نهى جابر الكتبخاني بغداد بعد عودتها من غرينوبل في فرنسا، حيث كانت تعمل مدرسة للغة العربية في مدرسة فرنسية، وخلال رحلة العودة الشاقة تمر بالأمكنة والمقاهي والتماثيل، وتستذكر بعض أحزانها الشخصية التي تنسل جميعها من معطف مكان فاشل استشهد فيه أخوها الأصغر في انفجار حدث بالجامعة المستنصرية، وفي انفجار آخر حدث في الكنيسة يقضي أهل خطيبة أخيها الثاني وليد.
تحتل نهى المركز الذي ستدور حوله المدارات، خصوصاً عندما تصل بيت أهلها في بغداد، فتنشر الكاتبة حولها كل ما تفتقده هي، في غربتها الاضطرارية، من أشذاء وأجواء البيت الخلابة، وتفاصيل الحديقة البغدادية الشهيرة بنخيلها وحمضياتها وأزهارها وقمرياتها وعصافيرها، فضلاً عن الأحاسيس البيتية الدافئة التي أغدقتها الكاتبة بسخاء على نهى بطلة الرواية، بل ونجدها تكرر هذا الاحتفاء بين فصل وآخر على شكل حفلات صغيرة حول موائد الطعام وخلال أوقات الشاي، وكأن هذا الاحتفاء بوصول نهى إلى بغداد مرسوم بقوة (الهومسك)، الذي تشعر به الكاتبة نفسها، وهي المغتربة فعلاً عن بيتها ووطنها.
تبدأ الرواية من هنا، أو بالأحرى هذه هي البداية الأولى للرواية. مع هذا الوصول المفعم بالعواطف ومشاعر الحنين إلى البيت بمعنييه الروحي والجغرافي. وهذه الثيمة الأثيرة لدى الكثير من الكتاب في الآداب العربية والعالمية، تجعلها الروائية فرصة للانطلاق والتعرف على مئة عام من تاريخ العراق الحديث، والمبثوثة أحداثه بين سطور مخطوطة قديمة موجودة في مكتبة الأب جابر الكتبخاني، والتي يعهد بها لاحقاً إلى ابنته نهى من أجل تدقيقها وتحقيقها، وإعادة نسخها على الكومبيوتر.
في هذه المخطوطة يتحدث صبحي الكتبخاني (جد جابر) عن فترة سابقة لبدايات القرن العشرين كانت فيها بغداد ولاية تابعة للدولة العثمانية، بينما أبوه إسماعيل ثري وصولي مداهن لسلطة الباب العالي.
وسيراجع صبحي أحداث حياته، ويتمرد على هذه الأحداث، لما وجد فيها من ظلم وعجرفة ونفاق من أجل النفوذ. كما سيصر على سفره للاستانة لكي يقرأ هناك المزيد من الكتب، ويطلع على مستجدات الحضارة واختراعاتها، وسيكون من بينها الفونوغراف الذي سيلعب دوراً كبيراً في أحداث الرواية ومفاجآتها، حتى أن نهاية الرواية، التي انكتبت بحرفية عالية، سيتم الوصول إليها عن طريق هذا الجهاز القديم المحفوظ داخل علبة من الكارتون مع مخطوطات جد أبيها التي يدون فيها كل أحداث حياته وحياة عائلة الكتبخاني.
ستحاول نهى السباق مع الزمن لإنقاذ المجلدات، وإعادة نسخها إكراماً لوالدها جابر الكتبخاني. وخلال رحلتها للبحث عن مصلّح للفونوغراف القديم العاطل، والذي سيحل لغز الرواية، ستعثر نهى الكتبخاني على رجل الرؤيا الذي سحرها في أحلام اليقظة. ستقارن أيضاً بين مآسي ذلك الماضي السحيق وكآبة الحاضر الأليم الذي تخيم عليه تداعيات الحرب من اغتراب وحرائق وعواصف وأعمال سلب ونهب. وهو المشهد الذي يتكرر مع كل احتلال:
"الهزيمة كما أراها تعني انهيار عالم عتيق، وولادة عالم جديد مضرج بدماء الولادة وصيحات الثأر، الهزيمة تعني أن حياتنا مرتبطة بالمهزوم والمنتصر معاً، ونحن من ندفع ثمن الهزيمة أو النصر." (ص 398)
لم ينم صبحي في الليالي التي تلت موافقة أبيه المستبد، على سفره للاستانة، وتصادف ذلك مع مرض شديد أصابه في تلك الفترة الحرجة من حياته، لتدفع لنا الرواية بواحد من أمتع فصولها، وهو فصل "بيت الشاي" الذي يقدم لنا نبذة وافية عن تاريخ دخول هذا المشروب الى العراق، وكيف بدأت وتكونت صلته الروحية مع العراقيين، وواحدة من كرامات هذه الصلة تتحقق عندما ينتقل صبحي، وهو في طور النقاهة، إلى هذه الغرفة، فيكون أريج الشاي أحد أسباب شفائه.
ومثلما يتم تعريفنا داخل تلك الغرفة السحرية على طريق الشاي وأهل الشاي وما قاله البوذيون والرهبان في الشاي، ستطرأ على مدى الرواية تعاريف أخرى عن أشياء عُرفت، أو ظهرت للمرة الأولى في العراق، كقلم الحبر، والكرامفون، والسيارة، والغليون، والطائرة، وشارع الرشيد.
يصل صبحي الكتبخاني إلى الإستانة، ويتجول بين المدن والعوائل والنساء، ويتعرف من خلال أصدقائه الجدد على الصحف والمجلات وأسماء الموسيقيين الكبار، فضلاً عن الاتجاهات السياسية والفنية السائدة في ذلك العصر، ويكاد ينخرط في نشاطات الشباب المتمرد والمناهض للسلطة المطلقة للسلطان عبدالحميد الثاني من خلال بعض الجمعيات الناشئة حديثاً كجمعية الاتحاد والترقي التي ضمت معظم أعضاء تركيا الفتاة.
وفي كل مكان تتوقف فيه الرواية، تقدم لنا الكاتبة صورة بانورامية دقيقة مفعمة بالحياة عن تفاصيل الأماكن والثياب والأطعمة، حتى لا يفوتها ذكر أدق المكونات الخاصة بأكلة دون أخرى في هذا البلد أو ذاك.
الغريب أن الأحداث التاريخية في الرواية تشدنا إليها أكثر من الأحداث الحالية التي تنقلها الرواية إلينا في حركة ذهاب وإياب بين بغداد في الربع الأول من القرن العشرين (1900-1925)، وبغداد بعد الاحتلال (2003-2015)، ولولا أن صبحي الكتبخاني (صاحب المخطوطة) مرهف الحس ناحل الخاطر بشكل كبير، لقلنا إنه يروي الأحداث بعيون امرأة، ويتحدث بلغتها، ولكن الكاتبة سوغت لنا هذا الأمر بشكل ذكي عندما جعلته فناناً يتذوق الموسيقى، ويكتب في الصحف والمجلات، والأهم من هذا وذاك، فإنه يدون تاريخه الشخصي وتاريخ العائلة، مما يجعل من المنطقي أن يكون منتبهاً لكل صغيرة وكبيرة تمر أمامه من تضاريس وأزياء وأقمشة ونباتات وزخارف وتحفيات وكائنات، لأنه سيصف كل ذلك في دفاتره لاحقاً. وسيطغى النفس الملحمي للغة على الألسن وأطوار الأعين.
يعود صبحي الى بغداد في عام الطوفان، وهو لا يزال يحفظ الأخبار، ويدون الاحداث ويجمع القصاصات عن المدن والابتكارات والنساء، فيتمرد على أبيه وينشر أفكاره التقدمية حول الاستقلال عن سلطنة ظالمة، ثم تأتي حقبة جديدة من الصراع حول النفط بعد الحرب العالمية الأولى، وصبحي يواصل كتابة مذكراته ومشاهداته وانطباعاته، وكل ما يسجله فيها مقصود لكي يقودنا إلى لعبة بارعة عمدت إليها الكاتبة من خلال مغنية اسمها بنفشة خاتون (يعني اسمها بالفارسية البنفسج)، خلّد صبحي الكتبخاني قصتها، وتركنا مشدودين كالوتر إلى حدث يتعلق بها، سيقوم عليه لغز محيّر، لن يحله إلا الفونوغراف في الجزء الاخير للرواية، حيث ستجعل الروائية، وبحس درامي حاذق، هذه النهاية لطمة قوية، وضربة قاصمة في وجه عصور الجواري التي دأب السلاطين على امتلاكها، وتداولها كهدايا فيما بينهم.
هذه العائلة التي يرمز جدها الأعلى اسماعيل الكتبخاني إلى الجبروت والنفاق وتملق السلطة العثمانية ومن بعدها سلطة الاحتلال، ستجعلنا نمسك الورقة والقلم أثناء القراءة لرسم شجرتها، التي يحتل قمتها الأب المداهن، وصاحب التحولات السريعة، ويتناسل منها عدة أبناء وبنات، منهم الابن صبحي اسماعيل الكتبخاني صاحب المخطوطة، التي تطلق الكاتبة من خلالها سهمها النافذ والثاقب في نقد هذا التاريخ الحافل بالظلم واستعباد البشر.
لا ترسم هذه الرواية الماتعة حافات المياه أو الأشياء، بل ترمي بكل ثقلها في عمق التاريخ والجغرافيا والأنثربولوجيا، وستفتح لك باب الدخول إلى التاريخ العراقي، ثم باب الخروج منه إلى حديقته الخلفية.
منجم من الروائح والأزمنة والأصوات والأطعمة والحواس التي تموّن أبطال الرواية بالذوق الرفيع، والحكمة الناهلة من خزنة معرفية ووجدانية وتاريخية، تقدمها الكاتبة من خلال درس استثنائي وتطبيقي في فن كتابة الرواية.
ليس من السهولة لقارئ ما أن يجد المتعة أو الصبر على رواية تاريخية تبلغ عدد صفحاتها 584 صفحة، لولا إن هذه المغامرة الملحمية قد انطوت لغتها على درجة كبيرة من السحر والحسية، وكانت مادتها على درجة كبيرة من الثراء، بحيث يتطلب جمعها أو إعدادها فريق من الكتاب والباحثين، بينما في حقيقة الأمر كتبته امرأة واحدة امتلكت من العمر ربيعه الدائم .. إنها لطفية الدليمي.
تعلن هذه الرواية عن نفسها منذ العنوان إعلانا زمنياً، فتنبث عبر ذلك العنوان إشارة زمنية مرتبطة بالإنسان (عشاق) أولاً، ثم الآلة (فونوغراف) ثانياً، وبهذا أرادت الروائية لفت الانتباه إلى دلالة الزمن في روايتها منذ عتبة النص الأولى، ودوره كواحد من تلك العناصر الثلاثة، في رسم مسيرة استرجاعية عمرها خمسة أجيال من عائلة نهى جابر فؤاد صبحي اسماعيل الكتبخاني، وهي المسيرة التي رسمت الكاتبة مساراتها، وأثثت كل طية من طيات فضاءاتها بمادة معرفية عميقة، وخبرات حياتية متراكمة، ومعلومات تاريخية موثوقة، نسجت من خلالها مئة عام من تاريخ العراق والمنطقة بلغة ثرية حسية متحركة أقل ما يقال عنها إنها ساحرة نابضة بالحياة والعاطفة، مشبعة بالصور الحسية، فواحة بالعطور، منغمة بموسيقى مشهدية رفيعة المستوى.
يعود التفوق في هذه الرواية، الصادرة عن دار المدى عام 2016، لأسباب عديدة أهمها تشبع الكاتبة على مدى تاريخها بشتى المجالات المعرفية: من الموسيقى إلى الأدب إلى الفلسفة، ومن علم النفس إلى علم الاجتماع والتاريخ، فكانت تضع غلال هذه الحقول فوق مساحات كبيرة من أرضها التي فرشتها تحت الضوء، ثم دوزنت عصاها السحرية لاستعمال شذرات هذا الخزين في المكان والزمان المناسبين. ووفقاً لباختين فإن "كل متكلم إلا ويحمل أفقاً اجتماعياً معيناً يعينه على اختيار الكلمات المناسبة".
تصل نهى جابر الكتبخاني بغداد بعد عودتها من غرينوبل في فرنسا، حيث كانت تعمل مدرسة للغة العربية في مدرسة فرنسية، وخلال رحلة العودة الشاقة تمر بالأمكنة والمقاهي والتماثيل، وتستذكر بعض أحزانها الشخصية التي تنسل جميعها من معطف مكان فاشل استشهد فيه أخوها الأصغر في انفجار حدث بالجامعة المستنصرية، وفي انفجار آخر حدث في الكنيسة يقضي أهل خطيبة أخيها الثاني وليد.
تحتل نهى المركز الذي ستدور حوله المدارات، خصوصاً عندما تصل بيت أهلها في بغداد، فتنشر الكاتبة حولها كل ما تفتقده هي، في غربتها الاضطرارية، من أشذاء وأجواء البيت الخلابة، وتفاصيل الحديقة البغدادية الشهيرة بنخيلها وحمضياتها وأزهارها وقمرياتها وعصافيرها، فضلاً عن الأحاسيس البيتية الدافئة التي أغدقتها الكاتبة بسخاء على نهى بطلة الرواية، بل ونجدها تكرر هذا الاحتفاء بين فصل وآخر على شكل حفلات صغيرة حول موائد الطعام وخلال أوقات الشاي، وكأن هذا الاحتفاء بوصول نهى إلى بغداد مرسوم بقوة (الهومسك)، الذي تشعر به الكاتبة نفسها، وهي المغتربة فعلاً عن بيتها ووطنها.
تبدأ الرواية من هنا، أو بالأحرى هذه هي البداية الأولى للرواية. مع هذا الوصول المفعم بالعواطف ومشاعر الحنين إلى البيت بمعنييه الروحي والجغرافي. وهذه الثيمة الأثيرة لدى الكثير من الكتاب في الآداب العربية والعالمية، تجعلها الروائية فرصة للانطلاق والتعرف على مئة عام من تاريخ العراق الحديث، والمبثوثة أحداثه بين سطور مخطوطة قديمة موجودة في مكتبة الأب جابر الكتبخاني، والتي يعهد بها لاحقاً إلى ابنته نهى من أجل تدقيقها وتحقيقها، وإعادة نسخها على الكومبيوتر.
في هذه المخطوطة يتحدث صبحي الكتبخاني (جد جابر) عن فترة سابقة لبدايات القرن العشرين كانت فيها بغداد ولاية تابعة للدولة العثمانية، بينما أبوه إسماعيل ثري وصولي مداهن لسلطة الباب العالي.
وسيراجع صبحي أحداث حياته، ويتمرد على هذه الأحداث، لما وجد فيها من ظلم وعجرفة ونفاق من أجل النفوذ. كما سيصر على سفره للاستانة لكي يقرأ هناك المزيد من الكتب، ويطلع على مستجدات الحضارة واختراعاتها، وسيكون من بينها الفونوغراف الذي سيلعب دوراً كبيراً في أحداث الرواية ومفاجآتها، حتى أن نهاية الرواية، التي انكتبت بحرفية عالية، سيتم الوصول إليها عن طريق هذا الجهاز القديم المحفوظ داخل علبة من الكارتون مع مخطوطات جد أبيها التي يدون فيها كل أحداث حياته وحياة عائلة الكتبخاني.
ستحاول نهى السباق مع الزمن لإنقاذ المجلدات، وإعادة نسخها إكراماً لوالدها جابر الكتبخاني. وخلال رحلتها للبحث عن مصلّح للفونوغراف القديم العاطل، والذي سيحل لغز الرواية، ستعثر نهى الكتبخاني على رجل الرؤيا الذي سحرها في أحلام اليقظة. ستقارن أيضاً بين مآسي ذلك الماضي السحيق وكآبة الحاضر الأليم الذي تخيم عليه تداعيات الحرب من اغتراب وحرائق وعواصف وأعمال سلب ونهب. وهو المشهد الذي يتكرر مع كل احتلال:
"الهزيمة كما أراها تعني انهيار عالم عتيق، وولادة عالم جديد مضرج بدماء الولادة وصيحات الثأر، الهزيمة تعني أن حياتنا مرتبطة بالمهزوم والمنتصر معاً، ونحن من ندفع ثمن الهزيمة أو النصر." (ص 398)
لم ينم صبحي في الليالي التي تلت موافقة أبيه المستبد، على سفره للاستانة، وتصادف ذلك مع مرض شديد أصابه في تلك الفترة الحرجة من حياته، لتدفع لنا الرواية بواحد من أمتع فصولها، وهو فصل "بيت الشاي" الذي يقدم لنا نبذة وافية عن تاريخ دخول هذا المشروب الى العراق، وكيف بدأت وتكونت صلته الروحية مع العراقيين، وواحدة من كرامات هذه الصلة تتحقق عندما ينتقل صبحي، وهو في طور النقاهة، إلى هذه الغرفة، فيكون أريج الشاي أحد أسباب شفائه.
ومثلما يتم تعريفنا داخل تلك الغرفة السحرية على طريق الشاي وأهل الشاي وما قاله البوذيون والرهبان في الشاي، ستطرأ على مدى الرواية تعاريف أخرى عن أشياء عُرفت، أو ظهرت للمرة الأولى في العراق، كقلم الحبر، والكرامفون، والسيارة، والغليون، والطائرة، وشارع الرشيد.
يصل صبحي الكتبخاني إلى الإستانة، ويتجول بين المدن والعوائل والنساء، ويتعرف من خلال أصدقائه الجدد على الصحف والمجلات وأسماء الموسيقيين الكبار، فضلاً عن الاتجاهات السياسية والفنية السائدة في ذلك العصر، ويكاد ينخرط في نشاطات الشباب المتمرد والمناهض للسلطة المطلقة للسلطان عبدالحميد الثاني من خلال بعض الجمعيات الناشئة حديثاً كجمعية الاتحاد والترقي التي ضمت معظم أعضاء تركيا الفتاة.
وفي كل مكان تتوقف فيه الرواية، تقدم لنا الكاتبة صورة بانورامية دقيقة مفعمة بالحياة عن تفاصيل الأماكن والثياب والأطعمة، حتى لا يفوتها ذكر أدق المكونات الخاصة بأكلة دون أخرى في هذا البلد أو ذاك.
الغريب أن الأحداث التاريخية في الرواية تشدنا إليها أكثر من الأحداث الحالية التي تنقلها الرواية إلينا في حركة ذهاب وإياب بين بغداد في الربع الأول من القرن العشرين (1900-1925)، وبغداد بعد الاحتلال (2003-2015)، ولولا أن صبحي الكتبخاني (صاحب المخطوطة) مرهف الحس ناحل الخاطر بشكل كبير، لقلنا إنه يروي الأحداث بعيون امرأة، ويتحدث بلغتها، ولكن الكاتبة سوغت لنا هذا الأمر بشكل ذكي عندما جعلته فناناً يتذوق الموسيقى، ويكتب في الصحف والمجلات، والأهم من هذا وذاك، فإنه يدون تاريخه الشخصي وتاريخ العائلة، مما يجعل من المنطقي أن يكون منتبهاً لكل صغيرة وكبيرة تمر أمامه من تضاريس وأزياء وأقمشة ونباتات وزخارف وتحفيات وكائنات، لأنه سيصف كل ذلك في دفاتره لاحقاً. وسيطغى النفس الملحمي للغة على الألسن وأطوار الأعين.
يعود صبحي الى بغداد في عام الطوفان، وهو لا يزال يحفظ الأخبار، ويدون الاحداث ويجمع القصاصات عن المدن والابتكارات والنساء، فيتمرد على أبيه وينشر أفكاره التقدمية حول الاستقلال عن سلطنة ظالمة، ثم تأتي حقبة جديدة من الصراع حول النفط بعد الحرب العالمية الأولى، وصبحي يواصل كتابة مذكراته ومشاهداته وانطباعاته، وكل ما يسجله فيها مقصود لكي يقودنا إلى لعبة بارعة عمدت إليها الكاتبة من خلال مغنية اسمها بنفشة خاتون (يعني اسمها بالفارسية البنفسج)، خلّد صبحي الكتبخاني قصتها، وتركنا مشدودين كالوتر إلى حدث يتعلق بها، سيقوم عليه لغز محيّر، لن يحله إلا الفونوغراف في الجزء الاخير للرواية، حيث ستجعل الروائية، وبحس درامي حاذق، هذه النهاية لطمة قوية، وضربة قاصمة في وجه عصور الجواري التي دأب السلاطين على امتلاكها، وتداولها كهدايا فيما بينهم.
هذه العائلة التي يرمز جدها الأعلى اسماعيل الكتبخاني إلى الجبروت والنفاق وتملق السلطة العثمانية ومن بعدها سلطة الاحتلال، ستجعلنا نمسك الورقة والقلم أثناء القراءة لرسم شجرتها، التي يحتل قمتها الأب المداهن، وصاحب التحولات السريعة، ويتناسل منها عدة أبناء وبنات، منهم الابن صبحي اسماعيل الكتبخاني صاحب المخطوطة، التي تطلق الكاتبة من خلالها سهمها النافذ والثاقب في نقد هذا التاريخ الحافل بالظلم واستعباد البشر.
لا ترسم هذه الرواية الماتعة حافات المياه أو الأشياء، بل ترمي بكل ثقلها في عمق التاريخ والجغرافيا والأنثربولوجيا، وستفتح لك باب الدخول إلى التاريخ العراقي، ثم باب الخروج منه إلى حديقته الخلفية.
منجم من الروائح والأزمنة والأصوات والأطعمة والحواس التي تموّن أبطال الرواية بالذوق الرفيع، والحكمة الناهلة من خزنة معرفية ووجدانية وتاريخية، تقدمها الكاتبة من خلال درس استثنائي وتطبيقي في فن كتابة الرواية.
ليس من السهولة لقارئ ما أن يجد المتعة أو الصبر على رواية تاريخية تبلغ عدد صفحاتها 584 صفحة، لولا إن هذه المغامرة الملحمية قد انطوت لغتها على درجة كبيرة من السحر والحسية، وكانت مادتها على درجة كبيرة من الثراء، بحيث يتطلب جمعها أو إعدادها فريق من الكتاب والباحثين، بينما في حقيقة الأمر كتبته امرأة واحدة امتلكت من العمر ربيعه الدائم .. إنها لطفية الدليمي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.