في كتابه Essays "مدونات/رسائل" يخاطب توماس مان وهو أحد رموز الثقافة والفكر الألمان الذي عاني من وطأة النازية في بلاده، شقيقه الأكبر هاينريش مان قائلاً:- لا أستطيع أن افهم كيف وأنت الغني بالثقافة والعلوم أن تلوذ بالصمت تجاه أعمال النازية كأنك تريد أن تبرر سلوكها اللاأخلاقي. بعد خطابه الشهير ذاك لأخيه والذي انتقل فيما بعد إلي سجال أيديولوجي، يتحول "هاينريش" من متعاطف نوع ما مع الفكر القومي المتعصب إلي مناهض للفاشية وإرهاب سلطة الدولة فيُلاحق هو الآخر.. رواية "إعجام" الصادرة عن دار الآداب في بيروت عام 2004 والتي ترجمت مؤخراً إلي الألمانية، إدانة سياسية وأخلاقية صارخة لنظام كشف الكاتب العراقي سنان أنطون النقاب عن سفر من أسفار قمعه لمواطنيه من أجل البقاء في السلطة. والنص من ناحية المضمون وطريقة السرد بتفاصيل دقيقة استحضر فيها الكاتب عظمة الحدث ومؤثراته النفسية في حاضرة المكان والزمان، تقارب مع ما ذهب إليه "توماس مان" عندما واجه نظام شمولي زهق آلاف الأرواح وكرس جهده لإبادة ومعاناة أفراد مجتمعه. الصورة تتكرر في العراق بعد مرور أكثر من عقدين علي انتهاء الحرب العالمية الثانية وفناء النظام النازي في ألمانيا والفاشي في إيطاليا، أيضاً علي يد جلاوزة مارسوا بحق معارضيهم وشعوبهم علي مدي ثلاثة عقود كل أشكال الترهيب والتخويف والتعذيب بحجة الدفاع عن العدالة وحرية المجتمع "المطلقة" ومفاهيم السلطة ومنجزاتها أيضا. استهل الكاتب في "إضاءة" مطلع الرواية ب :- أحداث هذا النص وشخصياته من نسج الخيال- كأن به يريد أن يتسترعنوة علي بطل الرواية الحقيقي. بالمقابل عمد علي تتبع أثر قهر بشري طمر الزمن آثاره ونزحت عنه فقاعاته ليظل غير مكشوف.. إنه أعاد صياغة الحدث روائياً وقيمياً ليجعل الذاكرة تشرع اصطفافها لمواجهة الأيديولوجيا كي لا تبقي متربعة علي مسرح السياسة بشكل شمولي ينتج الخوف والموت والدمار.. والرواية بتقديري لا تصنف بما يعرف بالرواية الطويلة "Roman" لكنها رواية سياسية قصيرة تمتلك من الإبداع الوصفي للأحداث بواقعية ودعابة وتشويق يصلح لأن تكون عملاً درامياً للسينما أو التلفزيون. وهي تتناول قصة شاب عراقي ينتهي مصيره في سجون النظام السابق. أينما حلّ في فضاءات غرف التحقيق، خلجت إلي أزقة نخاعه في اليقظة والمنام كوابيس ملحمية لا تخلو من مشاهد الدم والخوف من المجهول، يشاطر نفسه الهمس كي لا يقع في العجز وينثني عن استرجاع الذاكرة في زحمة الغثيان والتعذيب. المهم في الرواية أن الكاتب مارس أسلوب "التدوين" منهجاً لكشف حياة السجناء المجهولين في العراق وكيفية معاملتهم وهم يتجهون إلي معاقل التحقيق في أقبية مجهولة دون علم أحد. مهم أيضاً تسليطه الضوء علي بعض فصول الإرهاب السياسي والقمع الفكري والنفسي والجسدي خلال حقبة من حكم البعث وما فيه من ملابسات ومساومات ومقايضات سياسية، ستظل آثارها السيئة مغروسة في تربة العراق وعقول أبنائه. ورغم مغادرته وطنه العراق متجهاً نحو الولاياتالمتحدة في بكر شبابه، ألا إن الكاتب والشاعر العراقي سنان أنطون الذي ولد في بغداد عام 1967 كاتباً مميّزاً دخل آفاق الثقافة من بابها الواسع وبني مستقبله الوفير بالشعر والنصوص السردية الجميلة والمقالات الهامة باللغتين العربية والإنكليزية.. لكن إلي أين كان يريد أن يبحر؟ وعن ماذا يريد أن يُعبر؟. عندما اختار عنوان "إعجام" لروايته، والإصرار علي أسر الكلمة معرفياً ولغوياً لينطلق فيما بعد إلي متنها الذي بدأه بالإشارة إلي مخطوطة غامضة كتبت باليد دون نقاط ووجدت في حوزة مديرية الأمن العامة، يبدو أنها رسالة هامة تطلب تفكيك لغزها وكتابتها علي آلة الطابعة. ونص المخطوطة هذه يشكل مدخل الرواية وخاتمتها، ذهب الكاتب إلي "تدوين أحداثها" للتاريخ بأمانة ودقة ليجعل القارئ يراوح بين الاستذكار والتأمل، التفاصيل والوقائع. ولا يشكل السرد الروائي في مجمله موقفاً أخلاقياً انتهجه الكاتب بموضوعية وحسب، أنما وضع القارئ أمام مسؤولية تاريخية ليقف شاهداً علي تلك الأحداث وتتبع أثرها توثيقياً.. ما أسترعي انتباهي أيضاً الهمس الساخر ودغدغة الذاكرة كقوله:- كان شارب أبي عمر المائل إلي الاحمرار يذكرني دائماً بالصراصير التي كانت تستعمر بيتنا ليلاً- أو:- وكنت أشاكسها وأحاول إقناعها بأن الممثلين المصريين ينتظرون في الاستديو حتي إنتهاء فعاليات القائد، فكانت تنظر إليَّ بإستغراب ولا تدري هل تصدق ما أقوله أم لا.. في آخر:- وكانت اللجنة يقصد " الطبية في مديرية التجنيد" قد استحدثت خطاباً جديداً، كنا قبلها "معفوين" أما الآن فقد تحولنا إلي "غير صالحين" بضاعة كاسدة في زمن الحروب.. طبعاً هذا المصطلح كان متداولاً في عهد النازية أيضاً، وتعرض مصير الكثيرين بسببه للخطر.. الوجه الآخر للرواية أيضاً، أنها كشفت النقاب روائياً عن جوانب كثيرة من أساليب التعذيب النفسي وكيفية ملاحقة المواطنين العراقيين وطرق اختراق أجهزة الأمن للمؤسسات والمدارس والكليات ودور الثقافة والعلم. ورغم صبغتها السياسية والتوثيقية، تبقي رواية "إعجام" جديرة بالاهتمام والدراسة لما تمتلكه من سيماءات سردية ولغوية وأدبية ووجدانية في العمق. فقد حرصت دار نشر لينوس السويسرية مؤخراً إلي ترجمتها ونشرها باللغة الألمانية. كذلك قامت بعض دور النشر الأخري علي ترجمتها وإصدارها باللغة الإنكليزية والنرويجيه.. والرواية في إطارها العام لا تتميّز علي أنها نص روائي تقليدي، إنما تعتبر توليفة جديدة تمزج بين النص الروائي والنص الدرامي، مقروءاً وبصرياً.. أتخيّل أن الكاتب قد عمد عن قصد أو دون قصد كما هو واضح في أسلوبه بطريقة حكواتية تارة، وأخري حوارية نمطية، لأن يجمع بين الاتجاهين. أنه نهل من ضرع بيئته العراقية لغته الكتابية، متنقلاً في سرده الدرامي بين إيحاءات الفصحي وأنماط اللهجة العامية الدارجة داخل المجتمعات والطوائف العراقية المتنوعة والتي أضفت علي النص نكهة جمالية خاصة رغم عدم فهم الكثيرين من غير العراقيين لها، كقوله أكلج وداأتكولج وموصوجه أو خلط كلمتين مثل راح أدور برحأدور وراحييجي إلخ. الأمر الذي أفقد الرواية رونقها الأدبي الأصيل وجعلها لا ترقي بالمستوي المطلوب لغوياً. لكنها في ذات الوقت "أي العامية" ستحرر المترجم من إشكالية الالتزام بروح النص فتسهل علي الكاتب مقايضة العمل ونقله من الروائي إلي درامي "سيناريو" مكتمل المقومات الفنية والحسية بشكل مؤثر وبذلك يكون الكاتب قد نجح في استدراج السينمائي إلي عمله الروائي وهو ما كان يتوخاه مثلما واضح من متن الرواية وملحق خاتمتها. ** منشور بصحيفة "الزمان" العراقية 3 سبتمبر 2009