«التضامن» توافق على إشهار جمعيتين في محافظة البحيرة    سعر الدولار في البنوك المصرية اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025    يوسف معاطي: سمير غانم لن يتكرر وأكثر كوميديان يضحك عادل إمام    الصحة: توقيع بروتوكول لدعم الولادات الطبيعية ضمن المبادرة الرئاسية «الألف يوم الذهبية»    للطلاب المتقدمين لمدارس التكنولوجيا التطبيقية.. طريقة دفع رسوم الاختبار    وزير العمل: التعليم الفني يشهد طفرة كبيرة في السنوات الأخيرة بتعاون وجهود ملحوظة من القطاع الخاص    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج الدراسات القانونية باللغة الفرنسية ب "حقوق حلوان"    وزير الري يتابع أعمال مصلحة الميكانيكا والكهرباء وموقف إعداد خطة لإدارة وصيانة محطات الرفع بمصر    معيط: دمج مراجعتي صندوق النقد يمنح مصر وقتًا أوسع لتنفيذ الإصلاحات    وزير التنمية المحلية: شركاء التنمية حليف قوي في دفع العمل البيئي والمناخي في مصر    ترامب: لا أسعى للقاء جين بينج لكني قد أزور الصين تلبية لدعوته    ارتفاع حصيلة ضحايا إطلاق النار فى نيويورك ل5 أشخاص بينهم ضابط شرطة    ترامب: لا أسعى للقاء جين بينج لكني قد أزور الصين تلبية لدعوته    دخول 9 شاحنات مساعدات إنسانية إلى معبر كرم أبو سالم تمهيدًا لدخولها لقطاع غزة    وزير الخارجية يلتقي بقادة مجموعة الحكماء The Elders الداعمة للسلام    رئيس الوزراء البريطاني يعقد اجتماعا طارئا لبحث مسار السلام في غزة    رئيس اتحاد طنجة: عبد الحميد معالي اختار الانضمام إلى الزمالك عن أندية أوروبا    كريم رمزي يعلق على ستوري عبد القادر.. ويفجر مفاجأة بشأن موقف الزمالك    ثنائي المصري أحمد وهب وأحمد شرف ضمن معسكر منتخب الشباب استعدادًا لبطولة كأس العالم بشيلي    بعد القبض على رمضان صبحي.. تعرف على موقفة القانوني ومدة الحبس وموعد الأفراج عن اللاعب    نقيب المهندسين ل طلاب الثانوية العامة: احذروا من الالتحاق بمعاهد غير معتمدة.. لن نقيد خريجيها    بيان عاجل من الكهرباء بشأن انقطاع التيار بالجيزة.. والوزارة: انتهاء التغذيات في هذا الموعد    "حرارة مرتفعة ورطوبة خانقة".. الأرصاد تكشف عن تفاصيل طقس الثلاثاء    عاجل.. الشرطة تلقي القبض على رمضان صبحي بعد عودته من تركيا    أسعار الخضروات والفاكهة اليوم الثلاثاء في شمال سيناء    سميرة صدقي: محمد رمضان وأحمد العوضي مش هيعرفوا يبقوا زي فريد شوقي (فيديو)    العظماء السبعة في دولة التلاوة، خريطة إذاعة القرآن الكريم اليوم الثلاثاء    رسميًا الآن.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الثلاثاء 29-7-2025 في البنوك    حملة «100 يوم صحة» تقدم 19.2 مليون خدمة طبية مجانية خلال 13 يوما    تفاصيل القبض على رمضان صبحي في مطار القاهرة (إنفوجراف)    رابط التقديم الإلكتروني ل تنسيق الصف الأول الثانوي 2025.. مرحلة ثانية (الحد الأدني ب 6 محافظات)    ضياء رشوان: الأصوات المشككة لن تسكت.. والرئيس السيسي قال ما لم يقله أحد من الزعماء العرب    مصرع 30 شخصًا في العاصمة الصينية بكين جراء الأمطار الغزيرة    يقل فوج من المصطافين.. إصابة 59 شخصاً إثر انقلاب أتوبيس رحلات خلال العودة من مطروح    بفرمان من ريبيرو.. الأهلي يتراجع عن صفقته الجديدة.. شوبير يكشف    من «ظلمة» حطام غزة إلى «نور» العلم فى مصر    «رجب»: احترام العقود والمراكز القانونية أساس بناء الثقة مع المستثمرين    بدء اختبارات مشروع تنمية المواهب بالتعاون بين الاتحادين الدولي والمصري لكرة القدم    من هو ريان الرحيمي لاعب البنزرتي الذي أشاد به ريبيرو؟    تحت عنوان «إتقان العمل».. أوقاف قنا تعقد 126 قافلة دعوية    وزير الثقافة يشهد العرض المسرحي «حواديت» على مسرح سيد درويش بالإسكندرية    لا تليق بمسيرتي.. سميرة صدقي تكشف سبب رفضها لبعض الأدوار في الدراما    مرشح الجبهة الوطنية: تمكين الشباب رسالة ثقة من القيادة السياسية    تشييع جثماني طبيبين من الشرقية لقيا مصرعهما في حادث بالقاهرة    لجنة للمرور على اللجان الانتخابية بالدقهلية لبحث جاهزيتها لانتخابات الشيوخ    صراع على السلطة في مكان العمل.. حظ برج الدلو اليوم 29 يوليو    غادة عادل vs صبا مبارك.. انطلاق تصوير «وتر حساس» الجزء الثاني    محافظ سوهاج يوجه بتوفير فرصة عمل لسيدة كفيفة بقرية الصلعا تحفظ القرآن بأحكامه    تشييع جثمانى طبيبين من الشرقية لقيا مصرعهما فى حادث على الدائرى.. صور    «النادي ممكن يتقفل».. رسائل نارية من نصر أبوالحسن لجماهير الإسماعيلي    لها مفعول السحر.. رشة «سماق» على السلطة يوميًا تقضي على التهاب المفاصل وتخفض الكوليسترول.    للحماية من التهاب المرارة.. تعرف على علامات حصوات المرارة المبكرة    بدون تكلفة ومواد ضارة.. أفضل وصفة طبيعية لتبييض الأسنان    مي كساب بإطلالة جديدة باللون الأصفر.. تصميم جذاب يبرز قوامها    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحب العذري.. مجانين العشق ما بين البداوة وعصر الإنترنت
نشر في صوت البلد يوم 27 - 02 - 2017

يقف الشاعر على درب حبيبته ويتلو قصيد العشق العفيف متغزلا بمخلوقٍ فضائي أقرب إلى الملاك منه إلى الأنثى، وهو ما عُرف بالغزل العفيف والعذري. ولعل السؤال المهم في عصر العولمة والحقائق العارية هو، هل ظهر الغزل العفيف والحب العذري بسبب عفاف الناس، أم بسبب حدود الإسلام التي حدّت من طقوس التهتك التي شاعت قبل الإسلام؟
يخال لكثير من المحدثين أنّ تعبير "الحب العذري" يختص بالمحافظة على عذرية وبكارة الفتاة، فيما الأمر يرتبط على الأغلب بقبيلة عذرة التي شاع فيها الغزل العفيف بعد الإسلام. وعلى المهتم بشعر ومشاعر العرب في تلك المرحلة أن ينظر بجد الى كيف عاش آباؤهم قبل عقود من موجة الغزل العذري والحب العفيف.
ويحتج المدافعون عن العفة في الحب العذري بأن شعر عنترة وقصائد غزله بعبلة كمثال سبقت ظهور الإسلام، لتنفي بذلك فرضية أنّ التعفف صفة نشأت اضطرارا بسبب الإسلام وحدوده الصارمة بشأن الاختلاط.
الحب العذري هو تشبب عاشقٍ متيمٍ بحبيبةٍ واحدةٍ، ويُجهل في الأصل سبب نسبه إلى بني عذرة، لا سيما أنّ أشهر من عشقوا ودبجوا القصيد الغزلي العفيف لم يكونوا من بني عذرة، فعروة بن حزام، وقيس بن الملوح مجنون ليلى، وقيس لبنى، وجميل بثينة، وعبدالله بن الدمينة، وكثيّر عزة، والعباس بن الأحنف، ويزيد بن معاوية، كلهم ليسوا من بني عذرة، بل إنّ قبيلة عذرة لم تنجب شاعرا عفيفا متعففا واحدا نقلته لنا قصص العرب.
لا علاقة للحب العذري بقبيلة عذرة
حرتُ في تفسير نسب العفاف إلى عذرة، فبحثت في كتاب محدث هو “سوسيولوجيا الغزل العربي” للطاهر لبيب الذي نقل هذا القول “قال سفيان بن زياد: قلت لامرأة من عذرة رأيت بها هوى غالبا خفت عليها الموت منه: ما بال العشق يقتلكم معاشر عذرة من بين أحياء العرب؟ فقالت فينا جمال وتعفّف، والجمال يحملنا على العفاف، والعفاف يورثنا رقة القلوب، والعشق يُفني آجالنا، وإنا نرى عيوناً لا ترونها”. وحاولت أن أتقصى أصل هذه الحكاية فعييت. وبحثت في ما نسب إلى روضة المحبين لإبن قيم الجوزية فوجدت رواية جاء فيها "قال سعيد بن عقبة لأعرابي: ممن أنت؟ قال الأعرابي: من قوم إذا عشقوا ماتوا قال: عذري وربّ الكعبة فقلت وممّ ذاك؟ قال: في نسائنا صباحة وفي رجالنا عفة". وحين أردت التثبت منها، عييت مرة أخرى.
وبحثت في نهج البلاغة لابن أبي حديد فوجدت أنّ حجازيات الشريف الرضي يمكن أن توصف بالغزل العفيف، فيما لم يعرف عن "نقيب الطالبيين" صبابة وغزل .
فحبيبة غزله هي مرة أميم "أميمة":
وهل ينفعني اليومَ دعوى براءةٍ
لقلبي ولحظي يا أميمَ مُريبُ.
ومرة ظمياء :
أشمّ منكَ نسيماً لستُ أعرفُه
أظنُ ظمياءَ جرّت فيك أردانا.
وتارة هي لمياء:
ومالي يا لمياءُ بالشعر طائلٌ
سوى أنّ أشعاري عليك نسيبُ.
وكل هذا في الحقيقة هو إعلان عن "لا حبيبة"، وأرى أنّ الشريف الرضي لم يكن قط عاشقا صبا، وأخال أنّ عشق العذريين المعلن يخفي وراءه عطشا للأنثى وشوقا لتلمس مواضع خصبها يتخفى في ثياب العفة.
فهل كان شعر الغزل العفيف تعبيرا عن عفة وتنزهٍ عن الجنس، أم كان تنفيسا عن الحرمان في المجتمعات العربية الإسلامية في عصور الإسلام الأولى في القرنين الأول والثاني الهجريين؟
الكاتب والصحفي فارس يواكيم تحدث ل"العرب" جوابا عن هذا السؤال بالقول “كان الغزل العفيف من تقاليد الحياة الاجتماعية العربية في الجاهلية وصدر الإسلام. وانعكست المفاهيم الاجتماعية في الصياغات الإبداعية الشعرية. كان التعفف ضرورة، لأن الحب بوجه عام "تابوه" لا يجوز الاعتراف به. بالرغم من تمرد بعض الشعراء على الأعراف، مثل قيس بن الملوح (ليلى) وعنترة (عبلة) جميل (بثينة) وكثير(عزة)".
في الوقت نفسه، وانسجاما مع الأعراف، كان الغزل يتقنع بالتعفف، وبصفة “الغزل العذري”. أو يتقنع بمخاطبة المؤنث بصيغة المذكر، وهذا التمويه ورد في الكثير من القصائد.
وانسجاما أيضا مع هذا المنطق، يمكننا النظر إلى بيت عمر بن أبي ربيعة الشهير:
إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا
لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر .
العاشق العذري المتيم الحالم
يهوى العذريون إن صحَّ عشقهم امرأة بعينها لا يغادرونها إلى أخرى، وهذا يضع كل القضية موضع سؤال، فالإسلام كان دائما ضد الكهنوت، ولم يكن دينا يحرّم الجنس، بل يحث على التكاثر والعلاقات الجنسية ضمن مؤسسة الأسرة ورباط الزواج الإسلامي، فكيف عاش هؤلاء متغزلين وهمًا بامرأة واحدة؟
ولم يعرف عن كل أصحاب الغزل العفيف تشببا ووصفا لمحاسن الأنثى في حبيباتهم، فهنّ أشبه بجنيات أسطورية، لا تحيض ولا تحبل، وتكتفي بالتحليق في أخيلة عاشقيهن بغلال وردية ليست شفيفة. معشوقات العذريين لسن إناثا بل هنّ أقرب الى الملائكة وهذا برأيي إعلان قطيعة وبراءة مقصودة من شعر الخلاعة والمجون العربي الفاحش الذي سبق الإسلام، وعاد إلى الظهور في العصر العباسي مع انتشار ألف ليلة وأقاصيصها الإباحية. ولا أود أن أذهب بعيداً في عرض الغزل العربي الصريح قبل الإسلام (ومن العجب أنّ النت خلا منه تماما، وكأنها رسالة ممّن حمّلوا الأدب العربي على وسائل الإعلام الإلكترونية بأنّ أدبنا كان أبدا عفيفا رومانسيا لا يجرح) لكنّي سأكتفي بما اشتهر من شعر الملك الضلّيل امرؤ القيس:
سموت إليها بعدما نام أهلها
سموّ حباب الماء حالاً على حال
فقالت سباك الله إنّك فاضحي
ألست ترى السمّار والنّاس أحوال.
العذريون ما برحوا مسهّدين ساهرين يعانون حرّ الصبابة والحزن الرومانتيكي المغرق في الشاعرية والعفة، فهل كان العرب الفاتحون المنصورون بإسلامهم القوي الذي اجتاح العالم، أهل رومانسية يتعفّفون عن النسوة؟ وما مصير مئات الألوف من الجواري اللواتي غنمهن المقاتلون وأردفوهن على ظهور الجياد ليعودوا بهن سبايا هنّ حِلٌّ لهم بملك اليمين؟
عن حقيقة الحب العذري
الشاعرة ريم قيس كبة لم تبتعد كثيرا عمّا روته كتب البحث في الشعر والتاريخ العذري، لكنها اقتربت جدا من حدود التحريم التي أراد الحاكم العربي الإسلامي في العصر الأموي فرضها فقاربت الموضوع في حوار مع “العرب" بالقول "يرى بعض الباحثين أنّ أصل التسمية جاءت نسبة إلى "بني عذرة".. وهي القبيلة التي ينتسب إليها أكثر من شاعر عذري.. لعل أقدمهم هو عروة بن حزام عاشق عفراء.. وهناك من يحيل أصل المصطلح إلى عفَّة اللسان والمسلك.. أي العذرية".
أما السبب وراء تلك الظاهرة فيرجعها بعض الباحثين إلى أنّ الأمويين كانوا فرضوا على أهل الحجاز سورا من العزلة السياسية لأنهم كانوا يشكون بولائهم.. وقد انقسم أهل الحجاز إلى قسمين القسم الأول هم أهل المدن من أبناء الصحابة وسواهم وكان بنو أمية يجدونهم خطرا يهدد سلطانهم فأغدقوا عليهم الأموال فانصرف الكثير من القوم الى اللهو والمتع.. بينما انصرف البعض الآخر إلى حياة الزهد والتقى والعفاف.
أما القسم الثاني فهم من أهل البادية الذين استبدّ بهم الفقر واليأس فانصرفوا إلى تأمل المثل العليا ونشأت فيهم نزعة شبيهة بالتصوف وهي الغزل الروحي العفيف.
ويرجع فريق آخر من الباحثين سبب تلك الظاهرة إلى أنّ الحب العذري كان غالبا ما ينشأ في سن مبكرة قبل أن تبلغ الحسية نضجها لدى العاشقين.. ويبقى ذلك أسلوبا حياتيا لا تغيير فيه.. وخير مثال حب قيس بن الملوح:
عشقتكِ يا ليلى وكنتِ صبيةً
وكنتُ ابنَ سبعٍ ما بلغتُ ثمانيا.
جبران ومي، قصة حب عابرة للقارات
لنرحل بالقضية إلى القرن العشرين، حيث شاع بين الناس عشق جبران خليل جبران لمي زيادة، وعشقها له، وهو من أغرب نسج الخيال في عوالم الحب العذري، إذ أنّ جبران لم يلتق اللبنانية المبدعة مي زيادة قط. لكن ما جمع بينهما هو رسائل حب تناقلها بريد عابر للمحيطات. وإلى ذلك تحديداً أشارت الباحثة سلمى حفار الكزبري التي حققت مع سهيل بشري تلكم الرسائل حيث تقول "إنّ العلاقة بينهما بدأت بعد أن قرأت مي رواية جبران الرومانسية "الأجنحة المتكسرة". ولكن، بغض النظر عن كيفية بدء "الحب"، فقد أتاحت الخطابات ضوءا باهرا للمؤرخين على حياة كل من كاتبيها وأفراحه وشجونه وآرائه في مختلف شؤون الحياة. وقد كانت تلك علاقة يزيد في تفرّدها أنّ طرفيها لم يلتقيا وجها لوجه على الإطلاق. لكنها دامت قرابة عشرين عاما وأتت إلى ختامها مع وفاة جبران في نيويورك في 10 أبريل 1931. ماذا تسمّي هذا وأين يمكن أن تصنّفه؟".
من جانبي، وضمن رؤية عصرية واقعية فارقت هواجس العصر الرومانتيكي إلى عصر العولمة القاسي بحقائقه الفاضحة وثقافته السريعة، ليس بوسعي كبح نفسي عن هذا السؤال: ما كان يحصل لو التقى الحبيبان، هل كانا اكتفيا بالهمس العذري المتباعد، دون لمسٍ حسيٍّ يحوّل الشوق المحروم إلى سرير عشق صاخب؟
يقف الشاعر على درب حبيبته ويتلو قصيد العشق العفيف متغزلا بمخلوقٍ فضائي أقرب إلى الملاك منه إلى الأنثى، وهو ما عُرف بالغزل العفيف والعذري. ولعل السؤال المهم في عصر العولمة والحقائق العارية هو، هل ظهر الغزل العفيف والحب العذري بسبب عفاف الناس، أم بسبب حدود الإسلام التي حدّت من طقوس التهتك التي شاعت قبل الإسلام؟
يخال لكثير من المحدثين أنّ تعبير "الحب العذري" يختص بالمحافظة على عذرية وبكارة الفتاة، فيما الأمر يرتبط على الأغلب بقبيلة عذرة التي شاع فيها الغزل العفيف بعد الإسلام. وعلى المهتم بشعر ومشاعر العرب في تلك المرحلة أن ينظر بجد الى كيف عاش آباؤهم قبل عقود من موجة الغزل العذري والحب العفيف.
ويحتج المدافعون عن العفة في الحب العذري بأن شعر عنترة وقصائد غزله بعبلة كمثال سبقت ظهور الإسلام، لتنفي بذلك فرضية أنّ التعفف صفة نشأت اضطرارا بسبب الإسلام وحدوده الصارمة بشأن الاختلاط.
الحب العذري هو تشبب عاشقٍ متيمٍ بحبيبةٍ واحدةٍ، ويُجهل في الأصل سبب نسبه إلى بني عذرة، لا سيما أنّ أشهر من عشقوا ودبجوا القصيد الغزلي العفيف لم يكونوا من بني عذرة، فعروة بن حزام، وقيس بن الملوح مجنون ليلى، وقيس لبنى، وجميل بثينة، وعبدالله بن الدمينة، وكثيّر عزة، والعباس بن الأحنف، ويزيد بن معاوية، كلهم ليسوا من بني عذرة، بل إنّ قبيلة عذرة لم تنجب شاعرا عفيفا متعففا واحدا نقلته لنا قصص العرب.
لا علاقة للحب العذري بقبيلة عذرة
حرتُ في تفسير نسب العفاف إلى عذرة، فبحثت في كتاب محدث هو “سوسيولوجيا الغزل العربي” للطاهر لبيب الذي نقل هذا القول “قال سفيان بن زياد: قلت لامرأة من عذرة رأيت بها هوى غالبا خفت عليها الموت منه: ما بال العشق يقتلكم معاشر عذرة من بين أحياء العرب؟ فقالت فينا جمال وتعفّف، والجمال يحملنا على العفاف، والعفاف يورثنا رقة القلوب، والعشق يُفني آجالنا، وإنا نرى عيوناً لا ترونها”. وحاولت أن أتقصى أصل هذه الحكاية فعييت. وبحثت في ما نسب إلى روضة المحبين لإبن قيم الجوزية فوجدت رواية جاء فيها "قال سعيد بن عقبة لأعرابي: ممن أنت؟ قال الأعرابي: من قوم إذا عشقوا ماتوا قال: عذري وربّ الكعبة فقلت وممّ ذاك؟ قال: في نسائنا صباحة وفي رجالنا عفة". وحين أردت التثبت منها، عييت مرة أخرى.
وبحثت في نهج البلاغة لابن أبي حديد فوجدت أنّ حجازيات الشريف الرضي يمكن أن توصف بالغزل العفيف، فيما لم يعرف عن "نقيب الطالبيين" صبابة وغزل .
فحبيبة غزله هي مرة أميم "أميمة":
وهل ينفعني اليومَ دعوى براءةٍ
لقلبي ولحظي يا أميمَ مُريبُ.
ومرة ظمياء :
أشمّ منكَ نسيماً لستُ أعرفُه
أظنُ ظمياءَ جرّت فيك أردانا.
وتارة هي لمياء:
ومالي يا لمياءُ بالشعر طائلٌ
سوى أنّ أشعاري عليك نسيبُ.
وكل هذا في الحقيقة هو إعلان عن "لا حبيبة"، وأرى أنّ الشريف الرضي لم يكن قط عاشقا صبا، وأخال أنّ عشق العذريين المعلن يخفي وراءه عطشا للأنثى وشوقا لتلمس مواضع خصبها يتخفى في ثياب العفة.
فهل كان شعر الغزل العفيف تعبيرا عن عفة وتنزهٍ عن الجنس، أم كان تنفيسا عن الحرمان في المجتمعات العربية الإسلامية في عصور الإسلام الأولى في القرنين الأول والثاني الهجريين؟
الكاتب والصحفي فارس يواكيم تحدث ل"العرب" جوابا عن هذا السؤال بالقول “كان الغزل العفيف من تقاليد الحياة الاجتماعية العربية في الجاهلية وصدر الإسلام. وانعكست المفاهيم الاجتماعية في الصياغات الإبداعية الشعرية. كان التعفف ضرورة، لأن الحب بوجه عام "تابوه" لا يجوز الاعتراف به. بالرغم من تمرد بعض الشعراء على الأعراف، مثل قيس بن الملوح (ليلى) وعنترة (عبلة) جميل (بثينة) وكثير(عزة)".
في الوقت نفسه، وانسجاما مع الأعراف، كان الغزل يتقنع بالتعفف، وبصفة “الغزل العذري”. أو يتقنع بمخاطبة المؤنث بصيغة المذكر، وهذا التمويه ورد في الكثير من القصائد.
وانسجاما أيضا مع هذا المنطق، يمكننا النظر إلى بيت عمر بن أبي ربيعة الشهير:
إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا
لكي يحسبوا أن الهوى حيث تنظر .
العاشق العذري المتيم الحالم
يهوى العذريون إن صحَّ عشقهم امرأة بعينها لا يغادرونها إلى أخرى، وهذا يضع كل القضية موضع سؤال، فالإسلام كان دائما ضد الكهنوت، ولم يكن دينا يحرّم الجنس، بل يحث على التكاثر والعلاقات الجنسية ضمن مؤسسة الأسرة ورباط الزواج الإسلامي، فكيف عاش هؤلاء متغزلين وهمًا بامرأة واحدة؟
ولم يعرف عن كل أصحاب الغزل العفيف تشببا ووصفا لمحاسن الأنثى في حبيباتهم، فهنّ أشبه بجنيات أسطورية، لا تحيض ولا تحبل، وتكتفي بالتحليق في أخيلة عاشقيهن بغلال وردية ليست شفيفة. معشوقات العذريين لسن إناثا بل هنّ أقرب الى الملائكة وهذا برأيي إعلان قطيعة وبراءة مقصودة من شعر الخلاعة والمجون العربي الفاحش الذي سبق الإسلام، وعاد إلى الظهور في العصر العباسي مع انتشار ألف ليلة وأقاصيصها الإباحية. ولا أود أن أذهب بعيداً في عرض الغزل العربي الصريح قبل الإسلام (ومن العجب أنّ النت خلا منه تماما، وكأنها رسالة ممّن حمّلوا الأدب العربي على وسائل الإعلام الإلكترونية بأنّ أدبنا كان أبدا عفيفا رومانسيا لا يجرح) لكنّي سأكتفي بما اشتهر من شعر الملك الضلّيل امرؤ القيس:
سموت إليها بعدما نام أهلها
سموّ حباب الماء حالاً على حال
فقالت سباك الله إنّك فاضحي
ألست ترى السمّار والنّاس أحوال.
العذريون ما برحوا مسهّدين ساهرين يعانون حرّ الصبابة والحزن الرومانتيكي المغرق في الشاعرية والعفة، فهل كان العرب الفاتحون المنصورون بإسلامهم القوي الذي اجتاح العالم، أهل رومانسية يتعفّفون عن النسوة؟ وما مصير مئات الألوف من الجواري اللواتي غنمهن المقاتلون وأردفوهن على ظهور الجياد ليعودوا بهن سبايا هنّ حِلٌّ لهم بملك اليمين؟
عن حقيقة الحب العذري
الشاعرة ريم قيس كبة لم تبتعد كثيرا عمّا روته كتب البحث في الشعر والتاريخ العذري، لكنها اقتربت جدا من حدود التحريم التي أراد الحاكم العربي الإسلامي في العصر الأموي فرضها فقاربت الموضوع في حوار مع “العرب" بالقول "يرى بعض الباحثين أنّ أصل التسمية جاءت نسبة إلى "بني عذرة".. وهي القبيلة التي ينتسب إليها أكثر من شاعر عذري.. لعل أقدمهم هو عروة بن حزام عاشق عفراء.. وهناك من يحيل أصل المصطلح إلى عفَّة اللسان والمسلك.. أي العذرية".
أما السبب وراء تلك الظاهرة فيرجعها بعض الباحثين إلى أنّ الأمويين كانوا فرضوا على أهل الحجاز سورا من العزلة السياسية لأنهم كانوا يشكون بولائهم.. وقد انقسم أهل الحجاز إلى قسمين القسم الأول هم أهل المدن من أبناء الصحابة وسواهم وكان بنو أمية يجدونهم خطرا يهدد سلطانهم فأغدقوا عليهم الأموال فانصرف الكثير من القوم الى اللهو والمتع.. بينما انصرف البعض الآخر إلى حياة الزهد والتقى والعفاف.
أما القسم الثاني فهم من أهل البادية الذين استبدّ بهم الفقر واليأس فانصرفوا إلى تأمل المثل العليا ونشأت فيهم نزعة شبيهة بالتصوف وهي الغزل الروحي العفيف.
ويرجع فريق آخر من الباحثين سبب تلك الظاهرة إلى أنّ الحب العذري كان غالبا ما ينشأ في سن مبكرة قبل أن تبلغ الحسية نضجها لدى العاشقين.. ويبقى ذلك أسلوبا حياتيا لا تغيير فيه.. وخير مثال حب قيس بن الملوح:
عشقتكِ يا ليلى وكنتِ صبيةً
وكنتُ ابنَ سبعٍ ما بلغتُ ثمانيا.
جبران ومي، قصة حب عابرة للقارات
لنرحل بالقضية إلى القرن العشرين، حيث شاع بين الناس عشق جبران خليل جبران لمي زيادة، وعشقها له، وهو من أغرب نسج الخيال في عوالم الحب العذري، إذ أنّ جبران لم يلتق اللبنانية المبدعة مي زيادة قط. لكن ما جمع بينهما هو رسائل حب تناقلها بريد عابر للمحيطات. وإلى ذلك تحديداً أشارت الباحثة سلمى حفار الكزبري التي حققت مع سهيل بشري تلكم الرسائل حيث تقول "إنّ العلاقة بينهما بدأت بعد أن قرأت مي رواية جبران الرومانسية "الأجنحة المتكسرة". ولكن، بغض النظر عن كيفية بدء "الحب"، فقد أتاحت الخطابات ضوءا باهرا للمؤرخين على حياة كل من كاتبيها وأفراحه وشجونه وآرائه في مختلف شؤون الحياة. وقد كانت تلك علاقة يزيد في تفرّدها أنّ طرفيها لم يلتقيا وجها لوجه على الإطلاق. لكنها دامت قرابة عشرين عاما وأتت إلى ختامها مع وفاة جبران في نيويورك في 10 أبريل 1931. ماذا تسمّي هذا وأين يمكن أن تصنّفه؟".
من جانبي، وضمن رؤية عصرية واقعية فارقت هواجس العصر الرومانتيكي إلى عصر العولمة القاسي بحقائقه الفاضحة وثقافته السريعة، ليس بوسعي كبح نفسي عن هذا السؤال: ما كان يحصل لو التقى الحبيبان، هل كانا اكتفيا بالهمس العذري المتباعد، دون لمسٍ حسيٍّ يحوّل الشوق المحروم إلى سرير عشق صاخب؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.