النتائج وصلت.. رسائل SMS تكشف مصير المتقدمين ل«سكن لكل المصريين 5»| فيديو    إعلان نتائج تخصيص 332 وحدة صناعية بالصعيد عبر منصة مصر الصناعية الرقمية    سعر الذهب اليوم الجمعة 30 مايو 2025.. عيار 18 بدون مصنعية ب3934 جنيهًا    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلى على غزة إلى 54,321 شهيد و123,770 إصابة    أيمن الرمادى: الحلقة الأقوى فى الزمالك جمهوره ولا يوجد فضل لأحد على النادى    27 ألفا و927 طالبا يؤدون امتحانات الشهادة الإعدادية غدًا بأسوان    أمجد الشوا: الاحتلال يستغل المساعدات لترسيخ النزوح وإذلال الغزيين    ألمانيا تربط تسلم أسلحة إسرائيل بتقييم الوضع الإنساني بغزة    مصدر أمنى ينفي واقعة تعدي فردي شرطة على سائق أتوبيس جماعي بالقاهرة    مواجهات حاسمة في جولة الختام بدوري المحترفين    المشاط تُهنئ "ولد التاه" عقب فوزه بانتخابات رئاسة مجموعة البنك الأفريقي للتنمية    وزير جيش الاحتلال يقتحم موقع ترسلة قرب جبع جنوب جنين    الداخلية تضبط المتهم بالنصب على المواطنين بزعم العلاج الروحانى بالإسكندرية    شعبة مواد البناء: أسعار الأسمنت ارتفعت 100% رغم ضعف الطلب    محافظ الشرقية يستقبل مفتي الجمهورية بمكتبه بالديوان العام    الأحد.. مجلس الشيوخ يناقش الأثر التشريعي لقانون التأمين الصحي والضريبة على العقارات المبنية    الرئيس السيسي يتلقى اتصالاً هاتفيًا من رئيس الوزراء اليوناني ويؤكدان دفع العلاقات الإستراتيجية بين البلدين    الصحة: تقديم الخدمات الصحية الوقائية ل 50 ألفًا و598 حاجا من المسافرين عبر المطارات والموانئ المصرية    «أوقاف الدقهلية» تفتتح مسجدين وتنظم مقارئ ولقاءات دعوية للنشء    مايا دياب تحيي حفلا في البحرين بمشاركة فرقة «جيبسي كينج»    فى ليلة ساحرة.. مروة ناجى تبدع وتستحضر روح أم كلثوم على خشبة مسرح أخر حفلاتها قبل 50 عام    المنطقة الشمالية العسكرية تستكمل تنفيذ حملة " بلدك معاك " لدعم الأسر الأولى بالرعاية    حسن حسني.. «القشاش» الذي صنع البهجة وبصم في كل الفنون    الليلة.. مهرجان القاهرة للسينما الفرنكوفونية يختتم دورته الخامسة بتكريم اسم الراحل بشير الديك والمؤرخ محمود قاسم والنجمة شيرى عادل    مفتى السعودية: أداء الحج دون تصريح مخالفة شرعية جسيمة    قافلة طبية مجانية بقرية البرشا بملوي تقدم خدمات لأكثر من 1147 حالة    محافظ مطروح يفتتح مسجد عباد الوهاب بحي الشروق بالكيلو 7    خطيب المسجد الحرام: الحج بلا تصريح أذية للمسلمين والعشر الأوائل خير أيام العام    أسامة نبيه: أثق في قدرتنا على تحقيق أداء يليق باسم مصر في كأس العالم    4 وفيات و21 مصابا بحادث انقلاب أتوبيس بمركز السادات    حكم من شرب أو أكل ناسيا فى نهار عرفة؟.. دار الإفتاء تجيب    الإفتاء تحذر: الأضحية المريضة والمَعِيْبَة لا تجزئ عن المضحي    كريم بدوى: زيادة الإنتاج تمثل أولوية قصوى لقطاع البترول    دعاء العشر الأوائل من ذي الحجة لتيسير الأمور وقضاء الحوائج.. ردده الآن    108 ساحة صلاة عيد الأضحى.. أوقاف الإسماعيلية تعلن عن الأماكن المخصصة للصلاة    تحرير 146 مخالفة للمحلات التي لم تلتزم بقرار الغلق    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من مسجد الشهيد بالقليوبية    كأس العالم للأندية.. ريال مدريد يعلن رسميا ضم أرنولد قادما من ليفربول    الرئيس اللبنانى يزور العراق الأحد المقبل    طهران: تقرير الاستخبارات النمساوية المشكك في سلمية برنامجنا النووي كاذب    تعرف على إيرادات فيلم ريستارت في أول أيام عرضه    ليلة في حب وردة وبليغ حمدي.. «الأوبرا» تحتفي بروائع زمن الفن الجميل    نائب وزير الصحة يتفقد عددا من المنشآت الصحية فى البحر الأحمر    شاهد عيان يكشف تفاصيل مصرع فتاة في كرداسة    بحضور محافظ القاهرة.. احتفالية كبرى لإحياء مسار رحلة العائلة المقدسة بكنائس زويلة الأثرية    ريا أبي راشد: أجريت مقابلة تلفزيونية مع مات ديمون بعد ولادة ابنتي بيومين فقط    حملة للتبرع بالدم بمديرية أمن البحر الأحمر    أول هجوم لداعش ضد النظام السوري الجديد يكشف هشاشة المرحلة الانتقالية    رئيسة القومي للمرأة تلتقي الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف    رئيس وزراء اليابان يحذر من التوتر بشأن الرسوم الجمركية الأمريكية    3 ساعات حذِرة .. تحذير بشأن حالة الطقس اليوم : «شغلوا الكشافات»    موعد مباراة الاتحاد والقادسية في نهائي كأس خادم الحرمين والقنوات الناقلة    «مالوش طلبات مالية».. إبراهيم عبد الجواد يكشف اقتراب الزمالك من ضم صفقة سوبر    «اعتذرتله».. ياسر إبراهيم يكشف كواليس خناقته الشهيرة مع نجم الزمالك    "فوز إنتر ميامي وتعادل الإسماعيلي".. نتائج مباريات أمس الخميس 29 مايو    فرنسا تحظر التدخين في الأماكن المفتوحة المخصصة للأطفال بدءًا من يوليو    نجاحات متعددة.. قفزات مصرية في المؤشرات العالمية للاقتصاد والتنمية    تقارير: أرسنال يقترب من تجديد عقد ساليبا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة جديدة لقصيدة التصوف المعاصر
نشر في صوت البلد يوم 04 - 01 - 2017

قال ت. س. إليوت إن الطريق الوحيد للتعبير عن الانفعال في صورة فنية هي العثور على المعادل الموضوعي أو ما أطلق عليه مجموعة من الأشياء أو على موقف أو سلسلة من الأحداث تكون بمثابة صورة للانفعال الخاص بحيث متى استوفيت الحقائق الخارجية التي يجب أن تنتهي إلى تجربة حسية، فإن الانفعال يثار إثارة مباشرة.
لقد عبر الشاعر أحمد فضل شبلول عن هذا المعنى أفضل تعبير عندما حركت في داخله رؤية الأماكن المقدسة. اختار عن وعي تفجر بئر زمزم (كموقف) يفجر لنا من خلاله مشاعره النقية. وهو يرى تلك الصحراء المهيبة تحوي مشاعر حجاج بيت الله الحرام للمغفرة والعفو، بعدما جاء معظمهم من كل فج عميق شعث غبر لا يبتغون سوى فضل الله ورحمته.
أمام هذه المشهد يحرك الشاعر إحساسا صادقا نحو موطنه. وقد جاءت الدفقة تنساب من مسارب الشعور، تحركها رغبة في اللاشعور، ما تلبث إلا أن تتحور على شكل تساؤل:
تسألُني الصحراء
هل كنتَ تغادرُ أحبابَكَ
بحرَكَ
شطآنَكَ .. وسماءَكَ ..
قلبَكَ ..
لولاي؟
وهكذا يعادل (المحسوس) (اللامحسوس) ينبئ عن صلة الشاعر الوثيقة بالحقائق النفسية والكونية التي تلهمه في تجربته. وفي كل تجربة شعرية عناصر مختلفة فكرية وخيالية وعاطفية، وهي محاور جديرة أن نلقي الضوء عليها في ثنايا العمل الفني.
المقابلة بين "الصحراء" و"البحر"، الدال الأول يراه أمامه ويملأ عليه منافذ نفسه، والدال الثاني يرتبط به حيث إنه موطنه، ولكن في المقابلة تلح عليه الصورة العظيمة والإحساس الضاغط.
تسألُني الصحراء
صباحًا ومساءْ
فأغادرُها.
إلى أين؟ ومشاعر البكاء تشدك (للبحر) ومشاعر الفناء تجذبك (للصحراء).
وأيمِّمُ وجهي شطرَ البحرِ
فتهربُ منّي الأمواجُ
وتدخلُ في سردابِ الرملِ النائي.
ولا تنقذك أبدا مشاعر الموطن أمام مشاعر المعتقد لأن الصحراء ببساطة رهيبة ممتدة ما بين (العبد) الفاني والإله ذي الجلال الخالد. فكيف يحتوي الجزء الكل؟ وكيف تغمر مياه البحر مسامات الوجد؟ وكيف يضحي الشاعر الصادق بكل صدق الصحراء المحتوية بيت الله الحرام المبدأ والنهاية.
في اللهو في موطنه قرب شاطئ البحر يخفف من غلواء النفس، لا نجد أمام الجلال إلا الانبهار والفناء في الله.
ويميز تجربة الشاعر ذلك البناء اللغوي وهو يستغل كل إمكانات اللغة الموسيقية والتصويرية والإيحائية والدالة على عمق خبرته واطلاعه، خاصة في استخدام ظرف الزمان.
وكانت عادة في الشعر الجاهلي:
"عمْ صباحًا يا شتائي"
"عمْ مساءً يا ضيائي"
وينقلني بعد ذللك الاستهلال إلى "حالة وجدانية" تعكس "أن الإنسان من تراب"، وهي هدئة وسط تدفق المشاعر، تذكرنا أن ذلك الفؤاد المنسكب فينا من روح الله، والذي جلا عنه رؤية الصحراء، ذلك الضياء قد حن إلى رحلة العودة. تعكس صورة نفسية ما بين "الدوافع الأولية"، "حب الوجود"، والدوافع الثانوية "حب الفناء"، وكيف تذوب محبة الوجود في الفناء، وكيف يذوب الفناء في الوجود.
"عمْ تُرابًا يا فؤادي"
"عمْ فؤادًا يا ترابي"
ووسط هذه الصور الجزئية التي تتدفق في إيقاع آخاذ، تتضاءل رغبات الإنسان في عناق معالمه، لأن ما حدث حرك فيه تلك الرغبة في المشاركة عله يستمد من المعاناة وأصحابها فؤاده ا لمنشرخ، وهو عناق ضاغط (غصبا عنه) لا يقدر إلا على المشاركة الوجدانية:
وأظلُّ أُنادي
تسقطُ منِّي حنجرتي
يهجرني قلبي
يتسكعُ في "أنفاقِ الغربةِ"
إن هذا الفعل (يهجرني) قلبي يعكس مشاعر الغربة، وهو موحي في موقعه، يكمل الألفاظ الأخرى لصياغة الصورة الكلية: (التسكع)، (أنفاق)، (الغربة).
ويعلو رتم العزف الداخلي في متفجرات عدة تعكس معايشة الشاعر لصوره وطول مدة إنضاجها في داخله.
يقدم لنا عالمنا الخارجي المثير للضجر والذي يعكس علو رتم الماديات التي تسحق أزهار الشاعر بلا هوادة.
يمرقُ بين السياراتِ الذئبية
يجري فوق "كباري" الوحشة.
الفعل المضارع (يمرق) أو (يجري) يعكس الأزمة وعدم الاتزان ولفظ (الذئبية) صفة تدل على الموصوف مضاف إليه مشاعر الذئب الذي يندفع ويحاور هؤلاء العابرين المغتربين، وهي صورة تلاحظ في المدن الكبرى.
ويعود مرة أخرى لتلك الخاصية المتفرد بها الشاعر ويجيد دفعها في الوقت المناسب، وهي (المقابلة) ما بين (المادي) و(الروحي)، (المحسوس) و(اللامحسوس) ببراعة وصدق، فيبدأ المحاورة:
قلتُ لقلبي:
هيا نقرأُ وجهَ المغتربين
ووجهَ المطرودين
قَهقهَ قلبي
قال:
فلتقرأْني
وفق هنا في نقل أشياء وجدانية من خلال وسيط هو قبله. أن يبدأ في مشاركة هؤلاء الفقراء مخاوفهم وعدم قدرتهم على عبور الطريق الممتلئ بالسيارات المسرعة، ولكنه قلب يمتاز بالنبل، قال: اقرأ نفسك.
لغة تركيبة مبدعة تتفجر بالصدق والوعي والإحساس، تقود إلى "قمة التوهج" والتضمين في قوله: "تلك الإيام نداولها بين الناس" فيه من النضح والوعي الصوفي لأن هذه دار فناء ورحلة لا تثبت فيها معالم الأشياء ولا المظاهر، وربما لجأ الشاعر إليها لذلك الأسى المعنّى الذي اجتاح جلده وعدم ملكيته لتلك العصا السحرية التي تحول العالم. وهو موفق فيه تماما، وإن كانت العبارتين الآتيتين تشتت بعض الشيء الصورة الكلية:
اقرأْ صمتَ الفقراءِ
حديثَ الصحراء
(وتلكَ الأيامُ نداولها بين الناس)
ولكن عند التعمق في اللفظتين: صمت وحديث، نجد التورية، تلك التي يمكن أن تجمعها حالة شعورية واحدة، في حالة كون الشاعر الذي يصف ولا يشارك.
على كل حال العلاقات المتداخلة ما بين المادي واللامادي أو المعنوي تجعله يتبادل العلاقات.
وتعكس هذه السطور حالة من "التوحد" تحرقها رمال الصحراء العانية المسيطرة وتذكر الإنسان دوما بالفطرة، وتنتقل إلى وجدانه عبر هذا القلب الثرثار:
اقرأْ
وأجبْني
فأنا قطعةُ صحْراءٍ في صدرِك
قطعةُ فحمٍ في جانبِك الأيسر
تتشعبُ عندي وديانٌ
وسهولٌ
وتلالٌ
وجبالْ
يا لهذه المعالم الخالدة التي شهدت مولد الإنسان وصراعه وكفاحه! ويا له من "تماثل عضوي" يخيف ما بين الإنسان محدود الرؤية، وما بين ما يشاهده أمامه، كم من أمم ورجال صهرتها الصحراء. وكم من مهج وأفئدة هفت إلى هذا المكان المبارك، وكم من رجال صناديد كافحوا الباطل:
تتراكمُ فوق دمائي أسئلةٌ
ودهورٌ
وأساطيرٌ
ومُحالْ
لكني أبني مدنًا للمستقبل.
ويبزغ الأمل وسط الصحراء، كي يخفف قليلا من غلواء واقع رُفع إلى تلك اللحظة الإيمانية، وأعانته صنعته في صدق الوصف، والتعمق في الشعور، والتمثل الوجداني في اللاشعور. لحظة صدقة كغرفة إنعاش لزماننا المادي المسرع بالعري لجنة الإنجازات التكنولوجية، في محاولة لإذابة تراثه الروحي الملهم.
وأحطِّم غربةَ أوردتي وشراييني
تتفجّر تحتي زمزم
تهوي أفئدةٌ حولي
تأتيني أفواجٌ وقبائل
فأجبْني
وهنا يتصاعد الموقف الشعوري وتطغى الروح على متطلبات الجسد، بصورة إيجابية تتحطم فيها الغربة، ليس بمعناها المادي، ولكن بهذا المعنى المتغلغل في اللاشعور والمنغرز في بنيتنا الداخلية بموقف يذوب فيه الجسد أمام ماء زمزم الذي نتمنى أن يغسل كل الأدران المادية، حيث تتفجر نافورات الأسئلة والألفاظ توائم الموقف النفسي تماما. من الذي يسأل؟ العبد. ومن الذي يجيب عن الأسئلة؟ الله سبحانه وتعالى "قل إني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان"، ومن يخفف ألم الغربة؟ ماء زمزم المتفجر من أعماق الصلد، يروي العطش.
وتتدفق معاني قرآنية خالدة على لسان سيدنا إبراهيم:
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} الآية (37) سورة إبراهيم.
وبعد .. هذه تجربة شعرية متميزة، ورؤى صوفية مبهرة موحية، وغربة ققد أعيد صياغة مفهومها، فليست غربة عن وطن، ولكن غربة إنسانية عن معاني الإيمان.
وهذه القصيدة بمعمارها الحر، لا نجد بها لفظ زائد أو معنى قلق أو اشتطاط في الدفقات الشعرية، والخروج بها عن دائرة العقل، فلا شيء يطير ولا يستقر، ولا بحث عن لغة الجسد التي ابتدعها بعض الشعراء، فهي جديدة في حدود الذوق وينبطق عليها قول أبرز نقاد فرنسا المعاصرين جانيان بيكو:
"إن الشعر المعاصر قد أصبح نشاطا روحيا مصاحبا للواقع، بمعنى أنه إبداع فني للواقع، ويستوي أن يكون هذا الواقع خبرة نفسية، أو موضوعا وصفيا".
قال ت. س. إليوت إن الطريق الوحيد للتعبير عن الانفعال في صورة فنية هي العثور على المعادل الموضوعي أو ما أطلق عليه مجموعة من الأشياء أو على موقف أو سلسلة من الأحداث تكون بمثابة صورة للانفعال الخاص بحيث متى استوفيت الحقائق الخارجية التي يجب أن تنتهي إلى تجربة حسية، فإن الانفعال يثار إثارة مباشرة.
لقد عبر الشاعر أحمد فضل شبلول عن هذا المعنى أفضل تعبير عندما حركت في داخله رؤية الأماكن المقدسة. اختار عن وعي تفجر بئر زمزم (كموقف) يفجر لنا من خلاله مشاعره النقية. وهو يرى تلك الصحراء المهيبة تحوي مشاعر حجاج بيت الله الحرام للمغفرة والعفو، بعدما جاء معظمهم من كل فج عميق شعث غبر لا يبتغون سوى فضل الله ورحمته.
أمام هذه المشهد يحرك الشاعر إحساسا صادقا نحو موطنه. وقد جاءت الدفقة تنساب من مسارب الشعور، تحركها رغبة في اللاشعور، ما تلبث إلا أن تتحور على شكل تساؤل:
تسألُني الصحراء
هل كنتَ تغادرُ أحبابَكَ
بحرَكَ
شطآنَكَ .. وسماءَكَ ..
قلبَكَ ..
لولاي؟
وهكذا يعادل (المحسوس) (اللامحسوس) ينبئ عن صلة الشاعر الوثيقة بالحقائق النفسية والكونية التي تلهمه في تجربته. وفي كل تجربة شعرية عناصر مختلفة فكرية وخيالية وعاطفية، وهي محاور جديرة أن نلقي الضوء عليها في ثنايا العمل الفني.
المقابلة بين "الصحراء" و"البحر"، الدال الأول يراه أمامه ويملأ عليه منافذ نفسه، والدال الثاني يرتبط به حيث إنه موطنه، ولكن في المقابلة تلح عليه الصورة العظيمة والإحساس الضاغط.
تسألُني الصحراء
صباحًا ومساءْ
فأغادرُها.
إلى أين؟ ومشاعر البكاء تشدك (للبحر) ومشاعر الفناء تجذبك (للصحراء).
وأيمِّمُ وجهي شطرَ البحرِ
فتهربُ منّي الأمواجُ
وتدخلُ في سردابِ الرملِ النائي.
ولا تنقذك أبدا مشاعر الموطن أمام مشاعر المعتقد لأن الصحراء ببساطة رهيبة ممتدة ما بين (العبد) الفاني والإله ذي الجلال الخالد. فكيف يحتوي الجزء الكل؟ وكيف تغمر مياه البحر مسامات الوجد؟ وكيف يضحي الشاعر الصادق بكل صدق الصحراء المحتوية بيت الله الحرام المبدأ والنهاية.
في اللهو في موطنه قرب شاطئ البحر يخفف من غلواء النفس، لا نجد أمام الجلال إلا الانبهار والفناء في الله.
ويميز تجربة الشاعر ذلك البناء اللغوي وهو يستغل كل إمكانات اللغة الموسيقية والتصويرية والإيحائية والدالة على عمق خبرته واطلاعه، خاصة في استخدام ظرف الزمان.
وكانت عادة في الشعر الجاهلي:
"عمْ صباحًا يا شتائي"
"عمْ مساءً يا ضيائي"
وينقلني بعد ذللك الاستهلال إلى "حالة وجدانية" تعكس "أن الإنسان من تراب"، وهي هدئة وسط تدفق المشاعر، تذكرنا أن ذلك الفؤاد المنسكب فينا من روح الله، والذي جلا عنه رؤية الصحراء، ذلك الضياء قد حن إلى رحلة العودة. تعكس صورة نفسية ما بين "الدوافع الأولية"، "حب الوجود"، والدوافع الثانوية "حب الفناء"، وكيف تذوب محبة الوجود في الفناء، وكيف يذوب الفناء في الوجود.
"عمْ تُرابًا يا فؤادي"
"عمْ فؤادًا يا ترابي"
ووسط هذه الصور الجزئية التي تتدفق في إيقاع آخاذ، تتضاءل رغبات الإنسان في عناق معالمه، لأن ما حدث حرك فيه تلك الرغبة في المشاركة عله يستمد من المعاناة وأصحابها فؤاده ا لمنشرخ، وهو عناق ضاغط (غصبا عنه) لا يقدر إلا على المشاركة الوجدانية:
وأظلُّ أُنادي
تسقطُ منِّي حنجرتي
يهجرني قلبي
يتسكعُ في "أنفاقِ الغربةِ"
إن هذا الفعل (يهجرني) قلبي يعكس مشاعر الغربة، وهو موحي في موقعه، يكمل الألفاظ الأخرى لصياغة الصورة الكلية: (التسكع)، (أنفاق)، (الغربة).
ويعلو رتم العزف الداخلي في متفجرات عدة تعكس معايشة الشاعر لصوره وطول مدة إنضاجها في داخله.
يقدم لنا عالمنا الخارجي المثير للضجر والذي يعكس علو رتم الماديات التي تسحق أزهار الشاعر بلا هوادة.
يمرقُ بين السياراتِ الذئبية
يجري فوق "كباري" الوحشة.
الفعل المضارع (يمرق) أو (يجري) يعكس الأزمة وعدم الاتزان ولفظ (الذئبية) صفة تدل على الموصوف مضاف إليه مشاعر الذئب الذي يندفع ويحاور هؤلاء العابرين المغتربين، وهي صورة تلاحظ في المدن الكبرى.
ويعود مرة أخرى لتلك الخاصية المتفرد بها الشاعر ويجيد دفعها في الوقت المناسب، وهي (المقابلة) ما بين (المادي) و(الروحي)، (المحسوس) و(اللامحسوس) ببراعة وصدق، فيبدأ المحاورة:
قلتُ لقلبي:
هيا نقرأُ وجهَ المغتربين
ووجهَ المطرودين
قَهقهَ قلبي
قال:
فلتقرأْني
وفق هنا في نقل أشياء وجدانية من خلال وسيط هو قبله. أن يبدأ في مشاركة هؤلاء الفقراء مخاوفهم وعدم قدرتهم على عبور الطريق الممتلئ بالسيارات المسرعة، ولكنه قلب يمتاز بالنبل، قال: اقرأ نفسك.
لغة تركيبة مبدعة تتفجر بالصدق والوعي والإحساس، تقود إلى "قمة التوهج" والتضمين في قوله: "تلك الإيام نداولها بين الناس" فيه من النضح والوعي الصوفي لأن هذه دار فناء ورحلة لا تثبت فيها معالم الأشياء ولا المظاهر، وربما لجأ الشاعر إليها لذلك الأسى المعنّى الذي اجتاح جلده وعدم ملكيته لتلك العصا السحرية التي تحول العالم. وهو موفق فيه تماما، وإن كانت العبارتين الآتيتين تشتت بعض الشيء الصورة الكلية:
اقرأْ صمتَ الفقراءِ
حديثَ الصحراء
(وتلكَ الأيامُ نداولها بين الناس)
ولكن عند التعمق في اللفظتين: صمت وحديث، نجد التورية، تلك التي يمكن أن تجمعها حالة شعورية واحدة، في حالة كون الشاعر الذي يصف ولا يشارك.
على كل حال العلاقات المتداخلة ما بين المادي واللامادي أو المعنوي تجعله يتبادل العلاقات.
وتعكس هذه السطور حالة من "التوحد" تحرقها رمال الصحراء العانية المسيطرة وتذكر الإنسان دوما بالفطرة، وتنتقل إلى وجدانه عبر هذا القلب الثرثار:
اقرأْ
وأجبْني
فأنا قطعةُ صحْراءٍ في صدرِك
قطعةُ فحمٍ في جانبِك الأيسر
تتشعبُ عندي وديانٌ
وسهولٌ
وتلالٌ
وجبالْ
يا لهذه المعالم الخالدة التي شهدت مولد الإنسان وصراعه وكفاحه! ويا له من "تماثل عضوي" يخيف ما بين الإنسان محدود الرؤية، وما بين ما يشاهده أمامه، كم من أمم ورجال صهرتها الصحراء. وكم من مهج وأفئدة هفت إلى هذا المكان المبارك، وكم من رجال صناديد كافحوا الباطل:
تتراكمُ فوق دمائي أسئلةٌ
ودهورٌ
وأساطيرٌ
ومُحالْ
لكني أبني مدنًا للمستقبل.
ويبزغ الأمل وسط الصحراء، كي يخفف قليلا من غلواء واقع رُفع إلى تلك اللحظة الإيمانية، وأعانته صنعته في صدق الوصف، والتعمق في الشعور، والتمثل الوجداني في اللاشعور. لحظة صدقة كغرفة إنعاش لزماننا المادي المسرع بالعري لجنة الإنجازات التكنولوجية، في محاولة لإذابة تراثه الروحي الملهم.
وأحطِّم غربةَ أوردتي وشراييني
تتفجّر تحتي زمزم
تهوي أفئدةٌ حولي
تأتيني أفواجٌ وقبائل
فأجبْني
وهنا يتصاعد الموقف الشعوري وتطغى الروح على متطلبات الجسد، بصورة إيجابية تتحطم فيها الغربة، ليس بمعناها المادي، ولكن بهذا المعنى المتغلغل في اللاشعور والمنغرز في بنيتنا الداخلية بموقف يذوب فيه الجسد أمام ماء زمزم الذي نتمنى أن يغسل كل الأدران المادية، حيث تتفجر نافورات الأسئلة والألفاظ توائم الموقف النفسي تماما. من الذي يسأل؟ العبد. ومن الذي يجيب عن الأسئلة؟ الله سبحانه وتعالى "قل إني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان"، ومن يخفف ألم الغربة؟ ماء زمزم المتفجر من أعماق الصلد، يروي العطش.
وتتدفق معاني قرآنية خالدة على لسان سيدنا إبراهيم:
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} الآية (37) سورة إبراهيم.
وبعد .. هذه تجربة شعرية متميزة، ورؤى صوفية مبهرة موحية، وغربة ققد أعيد صياغة مفهومها، فليست غربة عن وطن، ولكن غربة إنسانية عن معاني الإيمان.
وهذه القصيدة بمعمارها الحر، لا نجد بها لفظ زائد أو معنى قلق أو اشتطاط في الدفقات الشعرية، والخروج بها عن دائرة العقل، فلا شيء يطير ولا يستقر، ولا بحث عن لغة الجسد التي ابتدعها بعض الشعراء، فهي جديدة في حدود الذوق وينبطق عليها قول أبرز نقاد فرنسا المعاصرين جانيان بيكو:
"إن الشعر المعاصر قد أصبح نشاطا روحيا مصاحبا للواقع، بمعنى أنه إبداع فني للواقع، ويستوي أن يكون هذا الواقع خبرة نفسية، أو موضوعا وصفيا".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.