مرشح الجبهة الوطنية: تمكين الشباب رسالة ثقة من القيادة السياسية    تحت عنوان «إتقان العمل».. أوقاف قنا تعقد 126 قافلة دعوية    نشرة التوك شو| الوطنية للانتخابات تعلن جاهزيتها لانتخابات الشيوخ وحقيقة فرض رسوم على الهواتف بأثر رجعي    سكان الجيزة بعد عودة انقطاع الكهرباء والمياه: الحكومة بتعذبنا والقصة مش قصة كابلات جديدة    هولندا تمنع الوزيرين المتطرفين سموتريتش وبن غفير من دخول البلاد وتستدعي السفير الإسرائيلي    بسبب حسن شحاتة.. اتحاد الكرة يشكر الرئيس السيسي    6 صور لشيما صابر مع زوجها في المصيف    "الحصول على 500 مليون".. مصدر يكشف حقيقة طلب إمام عاشور تعديل عقده في الأهلي    علاء عبد الغني: على نجوم الزمالك دعم جون إدوارد.. ومشكلة فتوح يجب حلها    تشييع جثماني طبيبين من الشرقية لقيا مصرعهما في حادث بالقاهرة    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الثلاثاء 29-7-2025    السيطرة على حريق بمولدات كهرباء بالوادي الجديد.. والمحافظة: عودة الخدمة في أقرب وقت- صور    وزير الثقافة يشهد العرض المسرحي «حواديت» على مسرح سيد درويش بالإسكندرية    سميرة صدقي تكشف حقيقة زواجها من معمر القذافي (فيديو)    تغيير في قيادة «إجيماك».. أكرم إبراهيم رئيسًا لمجلس الإدارة خلفًا لأسامة عبد الله    لجنة للمرور على اللجان الانتخابية بالدقهلية لبحث جاهزيتها لانتخابات الشيوخ    الاندبندنت: ترامب يمنح ستارمر "الضوء الأخضر" للاعتراف بدولة فلسطينية    الرئيس الفلسطيني يثمن نداء الرئيس السيسي للرئيس الأمريكي من أجل وقف الحرب في غزة    وزير الخارجية السعودي: لا مصداقية لحديث التطبيع وسط معاناة غزة    3 شهداء جراء استهداف الاحتلال خيمة نازحين في مواصي خان يونس    وزير الخارجية السعودي: لن نفيم علاقات مع إسرائيل دون إعلان دولة فلسطين    عبور قافلة مساعدات إنسانية إلى السويداء جنوب سوريا    تعرّضت للسرقة المنظمة بمحور "موراج".. معظم المساعدات المصرية لم تصل إلى قطاع غزة    «طنطاوي» مديرًا و «مروة» وكيلاً ل «صحة المنيا»    سوبر ماركت التعليم    في عامها الدراسي الأول.. جامعة الفيوم الأهلية تعلن المصروفات الدراسية للعام الجامعي 2025/2026    تنسيق الجامعات 2025.. موقع التنسيق يفتح باب التقديم بالمرحلة الأولى    الأهلي يضغط على نجمه من أجل الرحيل.. إبراهيم عبدالجواد يكشف    أحمد فتوح يتسبب بأزمة جديدة في الزمالك.. وفيريرا يرفض التعامل معه (تفاصيل)    قرار مفاجئ من أحمد عبدالقادر بشأن مسيرته مع الأهلي.. إعلامي يكشف التفاصيل    أسعار الفاكهة والموز والمانجو بالأسواق اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025    سعر الذهب اليوم الثلاثاء 29 يوليو 2025 بالصاغة.. وعيار 21 الآن بعد الانخفاض الكبير    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية قبل بداية تعاملات الثلاثاء 29 يوليو 2025    النجاح له ألف أب!    «قد تُستخدم ضدك في المحكمة».. 7 أشياء لا تُخبر بها الذكاء الاصطناعي بعد تحذير مؤسس «ChatGPT»    6 مصابين في حريق شقة سكنية بالمريوطية بينهم شرطي (تفاصيل)    ضبط 400 علبة سجائر مجهولة المصدر بمركز المنشاة فى سوهاج    محمد معيط: العام المقبل سيشهد صرف شريحتين متبقيتين بقيمة تقارب 1.2 مليار دولار لكل شريحة    أخبار 24 ساعة.. انطلاق القطار الثانى لتيسير العودة الطوعية للأشقاء السودانيين    صراع على السلطة في مكان العمل.. حظ برج الدلو اليوم 29 يوليو    نوسة وإحسان وجميلة    تعرف على برجك اليوم 2025/7/29.. «الحمل»: تبدو عمليًا وواقعيًا.. و«الثور»: تراجع معنوي وشعور بالملل    أحمد صيام: محبة الناس واحترامهم هي الرزق الحقيقي.. والمال آخر ما يُذكر    أهم الأخبار الفنية على مدار الساعة.. الرئيس اللبنانى يمنح زياد الرحبانى وسام الأرز الوطنى رتبة كومندور.. وفاة شقيق المخرج خالد جلال.. منح ذوى القدرات الخاصة المشاركة بمهرجان الإسكندرية مجانا    محافظ سوهاج يوجه بتوفير فرصة عمل لسيدة كفيفة بقرية الصلعا تحفظ القرآن بأحكامه    للحماية من التهاب المرارة.. تعرف على علامات حصوات المرارة المبكرة    من تنظيم مستويات السكر لتحسين الهضم.. تعرف على فوائد القرنفل الصحية    لها مفعول السحر.. رشة «سماق» على السلطة يوميًا تقضي على التهاب المفاصل وتخفض الكوليسترول.    جامعة الإسماعيلية الجديدة الأهلية تُقدم خدماتها الطبية ل 476 مواطناً    حزب مستقبل وطن بالبحيرة يدعم المستشفيات بأجهزة طبية    حرائق الكهرباء عرض مستمر، اشتعال النيران بعمود إنارة بالبدرشين (صور)    16 ميدالية، حصاد البعثة المصرية في اليوم الثاني من دورة الألعاب الأفريقية للمدارس    مي كساب بإطلالة جديدة باللون الأصفر.. تصميم جذاب يبرز قوامها    ما الوقت المناسب بين الأذان والإقامة؟.. أمين الفتوى يجيب    رئيس الوزراء يتابع مع وزيرة التخطيط استعدادات إطلاق السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية    هل "الماكياج" عذر يبيح التيمم للنساء؟.. أمينة الفتوى تُجيب    إلقاء بقايا الطعام في القمامة.. هل يجوز شرعًا؟ دار الإفتاء توضح    أحمد الرخ: تغييب العقل بالمخدرات والمسكرات جريمة شرعية ومفتاح لكل الشرور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مولى الحيرة .. ملحمة بمسارات ومصائر متشابكة
نشر في صوت البلد يوم 14 - 11 - 2016

مسارات ومصائر متشابكة تلك التي دفع بها الرّوائيّ الجزائريّ إسماعيل يبرير من خلال نصّه الجديد "مولى الحيرة"، وأثناء ذلك لا يقف القارئ على آلام وجودية وحياتيّة خبرها كونه يعيش في الوطن العربي، ولكنّه يكتشف قدرة الكاتب على ترويض السّرد، وقد وصفه على لسان "الشيخ الأبيض الرّائي" بأنّه "وحشٌ".
رواية يبرير عملٌ مختلف وجريء على كلّ المستويات، وهو محاولة جادّة لتقديم بدائل في عالم السّرد، وقد صدرت متزامنة في الجزائر عن منشورات حبر وخارجها عن دار مسكيلياني.
رواية المكان ومساءلة اليسار
في روايته الرّابعة يقترب إسماعيل يبرير من الإنسان أكثر، ويراهن على بناء شخوصه المتداخلة بكثير من الدقّة والحذر، إنّها رواية الاكتمال بالنسبة له، فبعد تجربة "وصيّة المعتوه" استطاع الكاتب أن يهتدي إلى نمط من الكتابة ضمن مشرعه الذي بناه على الاحتفاء بالمكان. وليس الأمر سريّا، فقد صرّح الرّوائي في أكثر من مناسبة بهذا الميل "لم أراهن على الإنسان الذي أكتبهُ (وهو العربيّ، الجزائريّ غالباً) رهانا كاملا، لم أفعل بسبب نقصانه، وليس لقلّة حيلتي، بقدر ما هو قلة حيلة هذا الإنسان الذي يعنيني مأزقهُ الوجوديّ.
الإنسان العربيّ في رأيي القاصر لم يكتمل وجوديا عبر عقود متتالية، منذ مطلع القرن التاسع عشر وهو يواجه صدمات متتالية تأتي على وجوده، تشكّكهُ في الأرض التي يقف عليها، وتسلّمهُ إلى مسلّمات ويقينيات تغتصب الحقّ أو الرّغبة في التفكير وبالتالي في التغيير، ربّما لهذا فإنّ المختلف في العالم العربي كان يناقشُ على الدوام في القرن التالي؟ وربّما بسبب توقنا إلى التاريخ الذي نتخيّله أكثر ممّا نعرفه.
لأجل هذا جاءت حيلة الكتابة عن المكان كممكن وشاهد مع هذا الإنسان، إذ سيكون شكل وروح ووجهة الروايات كلّها متشابهة لو راهنت على إنسان متأزّم، وربّما ستكون روايات تراهن على الحكي لا على فعل الكتابة، روايات ملتبسة تملك التقنية المكتملة أحيانا، والإنسان المنقوص الذي يختفي خلف النموذج السّردي الغربيّ الأمثل. كتبت عن المكان بضيقه، وفسّرت عبره الإنسان الذي يشغلهُ".
وتغوص رواية "مولى الحيرة" في متتالية سردية، حيث تتداخل الحكايات وتتشابك لتشكّل المسار العام لها، ورغم أنّ أبطالها كثيرون إلا أنّ المسار الرّئيسي للبطل الرّئيسي بشير الدّيلي الذي يقود دفّة السّرد، دون أن يتطرّف في إبداء سلطته على النّص، ويتحرّك بالرّواية على مدار أزيد من 420 صفحة، مسنودا براحة منحها له الكاتب من خلال التقسيم المدروس لفصول وأبواب الرّواية.
تدور الرّواية في مدة زمنية تقارب الستة عقود، تبدأ منذ منتصف الخمسينيات وتنتهي في سنة 2015، ورغم أنّ التركيز كان على الحقبة السبعينية ثمّ التسعينية وأخيرا على الألفينية، إلا أنّ الروائي عاد أكثر من مرّة إلى الثورة الجزائرية وما جاورها، قبلها بقليل وبعدها بقليل، وفي عودته كان المنظور السياسي والسؤال حاضرين بقوة، لعلّها إرهاصات الصحفّي التي تسكن الكاتب، وهو يحتكّ بشكلّ يوميّ مع الشأن السياسيّ. حيث إنّ والد بطله بشير الدّيلي كان شهيدا، وقد سعى أن يعرف قبره المجهول دون جدوى، وفي غياب هذا الوالد الشهيد نشأ الدّيلي وحيدا بين جدّيه، وتعلّم في مدارس مدينة الجلفة (جنوب العاصمة الجزائرية)، ثمّ اشتغل في دار البلدية، ورافقه هوسه بالشّعر طوال حياته، فقد كان يحلم بكتابة قصيدة، من أجل هذا التهم الشعر العربي والفرنسي والمترجم، ليكوّن بذلك ثقافة كبيرة في الشّعر.
كان البطل على الدّوام يساريّا إلى أن شعر في لحظة أنّه فقد انتماءه لليسار وأنّ الوطن كلّه يمضي بلا وجهة واضحة، ولعلّ افتراقه عن رفاقه الذين شكّلوا معه نفس الانتماء السياسي جعله يصبح مجرّد مواطن يبحث عن وطن وسكينة، وهنا يمكن أن يتساءل القارئ إن كانت الرواية ترمي في أحد مقاصدها إلى تهديم اليسار، أو إلى مجابهته بسؤال عن جدواه في العالم العربي؟
ولكنّها رواية عن الحبّ والشعر
تطفو أكثر من قصّة حبّ في رواية "مولى الحيرة" فقد اختار إسماعيل يبرير أن يدوّرَ لنا الحكايات المتقاطعة لعشق بشير الدّيلي وحبيبته التي لم يمنحها اسما، واكتفى بوصفها بالخونية، أي العارفة، ثمّ هناك حكاية أخرى للتالية التي أحبّت يحي الشاب الأخرس الذي يملك الكثير من المواهب من بينها حبّه الخطّ العربي ورغبته في رعاية النباتات، وهناك قصّتا حب مكرّرتين للشاب فاتح الباقي الذي يبدو تائها، ولسبب مجهول جعل الكاتب كلّ قصص حبّه فاشلة، بل إنّ أبرزها كان ما حصل بين التالية ويحيى حيث تزوّج كلّ منهما آخر، وبقيا يتساءلان عن حبّهما، أما بشير الدّيلي فقد ضيّع حبيبته بمجرّد أن تزوّجها بعد أن اختارت فجأة التصوّف.
الدّيلي الذي تعب ليكتب قصيدة كبيرة تصنع له المجد، هو ذاته الأب الذي نسي ابنه مينا، وبدت علاقتهما جدّ متشنجة، ولا يمكن أن يعودا إلى علاقة مقبولة إلا في آخر الرواية، لكنّها عودة أقرب إلى الصداقة ولا يبدو فيها الدّيلي معنيّا بصفة الأب.
ولعلّ كون الكاتب شاعرا أيضا منح الرّواية نفسا مختلفا، خاصّة عندما اتّخذ له بطلا شاعرا، أو يكاد يكون شاعراً، فهو بطل غامض، لا يستطيع القارئ أن يفهم إن كان شاعرا حقيقيّا أم مجرّد موهوم، وإلى غاية نهاية الرّواية وكتابته لقصيدته يظلّ السؤال والحيرة يعملان عملهما لدى القارئ وهو يتّبع خطوات بشير الّديلي المثقلة، روح الشّاعر وعذاباته، بل حتّى اللّحظة التي يكتبُ فيها قصيدته، كلّ ذلك صوّره إسماعيل يبرير بعناية واستطاع أن ينقلنا إلى حالات كأنّنا نعيشها.
ويظهر جليّا أن جميع أبطال الرواية وعبر فصولها كانوا يفتّشون عن معنى لحياتهم، في التصوّف أو الشعر أو السياسة أو الحب، وهو مسعى الإنسان المعاصر الذي يجرّب كلّ أدواته من أجل الهروب من الخراب الذي يحاصره.
في رواية يبرير يوجد الكثير من الأشخاص الثانويين، وبعضهم يبدو أقرب إلى السّعي للحصول على متّسع في النّص، فبايزيد وهو رجل أعمال معروف بالفساد، وجد الفرصة ليموت وقد قدّم الكثير من الخدمات لأهل الرّواية، كأنّ الروائيّ يقول لنا إنّ رموز الفساد لا تعني دائما الفساد؟
هناك درجة عالية من الاعتناء بالنباتات والأشياء، بل أن النبات والوقت والسماء والماء والأثاث والحيوانات كلّها مشاريع شخوص أو حالات، بالإضافة إلى حضور الشّعر عبر مقاطع وأبيات لشعراء عرب كبار كالمتنبي وعنترة ومجنون ليلى، ولمتصوّفين معروفين كرابعة والحلاج وابن الفارض.
رهان تكييف الشّكل في خدمة الحكاية
راهن يبرير على بناء صعب إلى حدّ ما، إذ قسّم الرواية إلى جزئين هما: "الطبقة الأولى" و"الطبقة التالية"، وبينهما فصل طويل بعنوان: "مسعى حفيد العنب" وهو يشبه رواية داخل رواية، حيث يتحوّل فجأة إلى حكاية أخرى هامشية، كأنّها محطّة استراحة أو فاصل سردي. وهناك بعض الفصول التي تبدو مثل "إكسسوار"؛ على غرار فصل "صيد الحكاية" و"فصل الحكاية". ولكنّ البداية والنهاية كانتا عبر فصلين بعنوانين هما: "تحرير، مفتتح بمثابة مداعبة" و"افتراض، بمثابة منفذ".
ويحضر مجدّدا "الرّائي" الذي كان مُصوّبا في روايته السابقة "وصيّة المعتوه" لكنّ حضوره هنا كان أقلّ حدّة حيث اقتصر على أحلام بشير الدّيلي فحسب، ما جعل الكاتب يهتمّ بلغته ويصبغ عليها نوعا من الحكمة المقصودة.
يبدو الإشغتال المكثّف على الشّكل ليحوّل الرّواية إلى ما يشبه الأزقّة التي يتجوّل عبرها القارئ، بل إنّها رواية مدينة أو أشبه بالحيّ، حيث تتوزّع المصائر والمسارات على الفصول والأبواب، وقد إختار عناوين فرعية وأخرى رئيسيّة، ما يمكن وصفه باللّافتات التي تمنح الدّخول إلى نصوص تكاد تنجح أن تستقيل من النّص لكنّها تغري بالمواصلة، وقد نجح خيار الشّكل إلى حدّ كبير، بل إنّه أحد التحديّات التي بنيت عليها الرّواية كاملة.
تكاد تكون رواية "مولى الحيرة" حالة من الاحتفاء بحيّ القرابة، هذه هي الجزئية المهمة، فالحيّ هو أيضا بطل مواز، بطل تقصّد الكاتب أن يجعل له بلاغة هو الآخر فأثّثه بحالات وشخوص واقترح الحكايات، لتكون روايته واقعية سياسية ناقدة، ولكنها رواية حب ولغة ودهشة، ورواية مليئة بالرّموز حيث يجب أن تقرأ على مستويات مختلفة.
تعتبر "مولى الحيرة" امتدادا لمشروع إسماعيل يبرير الأدبيّ المقسّم بين الشّعر والرّواية والذي سبق أن قّدم فيه في الرّواية: "باردة كأنثى"، "ملائكة لافران"، "وصية المعتوه، كتاب الموتى ضدّ الأحياء"، وفي الشعر: "طقوس أولى" و"التمرين أو ما يفعل الشاعر عادة" و"أسلّي غربتي بدفء الرّخام" وفي المسرح: "الرّواي في الحكاية" و"عطاشى" وغيرها.
مسارات ومصائر متشابكة تلك التي دفع بها الرّوائيّ الجزائريّ إسماعيل يبرير من خلال نصّه الجديد "مولى الحيرة"، وأثناء ذلك لا يقف القارئ على آلام وجودية وحياتيّة خبرها كونه يعيش في الوطن العربي، ولكنّه يكتشف قدرة الكاتب على ترويض السّرد، وقد وصفه على لسان "الشيخ الأبيض الرّائي" بأنّه "وحشٌ".
رواية يبرير عملٌ مختلف وجريء على كلّ المستويات، وهو محاولة جادّة لتقديم بدائل في عالم السّرد، وقد صدرت متزامنة في الجزائر عن منشورات حبر وخارجها عن دار مسكيلياني.
رواية المكان ومساءلة اليسار
في روايته الرّابعة يقترب إسماعيل يبرير من الإنسان أكثر، ويراهن على بناء شخوصه المتداخلة بكثير من الدقّة والحذر، إنّها رواية الاكتمال بالنسبة له، فبعد تجربة "وصيّة المعتوه" استطاع الكاتب أن يهتدي إلى نمط من الكتابة ضمن مشرعه الذي بناه على الاحتفاء بالمكان. وليس الأمر سريّا، فقد صرّح الرّوائي في أكثر من مناسبة بهذا الميل "لم أراهن على الإنسان الذي أكتبهُ (وهو العربيّ، الجزائريّ غالباً) رهانا كاملا، لم أفعل بسبب نقصانه، وليس لقلّة حيلتي، بقدر ما هو قلة حيلة هذا الإنسان الذي يعنيني مأزقهُ الوجوديّ.
الإنسان العربيّ في رأيي القاصر لم يكتمل وجوديا عبر عقود متتالية، منذ مطلع القرن التاسع عشر وهو يواجه صدمات متتالية تأتي على وجوده، تشكّكهُ في الأرض التي يقف عليها، وتسلّمهُ إلى مسلّمات ويقينيات تغتصب الحقّ أو الرّغبة في التفكير وبالتالي في التغيير، ربّما لهذا فإنّ المختلف في العالم العربي كان يناقشُ على الدوام في القرن التالي؟ وربّما بسبب توقنا إلى التاريخ الذي نتخيّله أكثر ممّا نعرفه.
لأجل هذا جاءت حيلة الكتابة عن المكان كممكن وشاهد مع هذا الإنسان، إذ سيكون شكل وروح ووجهة الروايات كلّها متشابهة لو راهنت على إنسان متأزّم، وربّما ستكون روايات تراهن على الحكي لا على فعل الكتابة، روايات ملتبسة تملك التقنية المكتملة أحيانا، والإنسان المنقوص الذي يختفي خلف النموذج السّردي الغربيّ الأمثل. كتبت عن المكان بضيقه، وفسّرت عبره الإنسان الذي يشغلهُ".
وتغوص رواية "مولى الحيرة" في متتالية سردية، حيث تتداخل الحكايات وتتشابك لتشكّل المسار العام لها، ورغم أنّ أبطالها كثيرون إلا أنّ المسار الرّئيسي للبطل الرّئيسي بشير الدّيلي الذي يقود دفّة السّرد، دون أن يتطرّف في إبداء سلطته على النّص، ويتحرّك بالرّواية على مدار أزيد من 420 صفحة، مسنودا براحة منحها له الكاتب من خلال التقسيم المدروس لفصول وأبواب الرّواية.
تدور الرّواية في مدة زمنية تقارب الستة عقود، تبدأ منذ منتصف الخمسينيات وتنتهي في سنة 2015، ورغم أنّ التركيز كان على الحقبة السبعينية ثمّ التسعينية وأخيرا على الألفينية، إلا أنّ الروائي عاد أكثر من مرّة إلى الثورة الجزائرية وما جاورها، قبلها بقليل وبعدها بقليل، وفي عودته كان المنظور السياسي والسؤال حاضرين بقوة، لعلّها إرهاصات الصحفّي التي تسكن الكاتب، وهو يحتكّ بشكلّ يوميّ مع الشأن السياسيّ. حيث إنّ والد بطله بشير الدّيلي كان شهيدا، وقد سعى أن يعرف قبره المجهول دون جدوى، وفي غياب هذا الوالد الشهيد نشأ الدّيلي وحيدا بين جدّيه، وتعلّم في مدارس مدينة الجلفة (جنوب العاصمة الجزائرية)، ثمّ اشتغل في دار البلدية، ورافقه هوسه بالشّعر طوال حياته، فقد كان يحلم بكتابة قصيدة، من أجل هذا التهم الشعر العربي والفرنسي والمترجم، ليكوّن بذلك ثقافة كبيرة في الشّعر.
كان البطل على الدّوام يساريّا إلى أن شعر في لحظة أنّه فقد انتماءه لليسار وأنّ الوطن كلّه يمضي بلا وجهة واضحة، ولعلّ افتراقه عن رفاقه الذين شكّلوا معه نفس الانتماء السياسي جعله يصبح مجرّد مواطن يبحث عن وطن وسكينة، وهنا يمكن أن يتساءل القارئ إن كانت الرواية ترمي في أحد مقاصدها إلى تهديم اليسار، أو إلى مجابهته بسؤال عن جدواه في العالم العربي؟
ولكنّها رواية عن الحبّ والشعر
تطفو أكثر من قصّة حبّ في رواية "مولى الحيرة" فقد اختار إسماعيل يبرير أن يدوّرَ لنا الحكايات المتقاطعة لعشق بشير الدّيلي وحبيبته التي لم يمنحها اسما، واكتفى بوصفها بالخونية، أي العارفة، ثمّ هناك حكاية أخرى للتالية التي أحبّت يحي الشاب الأخرس الذي يملك الكثير من المواهب من بينها حبّه الخطّ العربي ورغبته في رعاية النباتات، وهناك قصّتا حب مكرّرتين للشاب فاتح الباقي الذي يبدو تائها، ولسبب مجهول جعل الكاتب كلّ قصص حبّه فاشلة، بل إنّ أبرزها كان ما حصل بين التالية ويحيى حيث تزوّج كلّ منهما آخر، وبقيا يتساءلان عن حبّهما، أما بشير الدّيلي فقد ضيّع حبيبته بمجرّد أن تزوّجها بعد أن اختارت فجأة التصوّف.
الدّيلي الذي تعب ليكتب قصيدة كبيرة تصنع له المجد، هو ذاته الأب الذي نسي ابنه مينا، وبدت علاقتهما جدّ متشنجة، ولا يمكن أن يعودا إلى علاقة مقبولة إلا في آخر الرواية، لكنّها عودة أقرب إلى الصداقة ولا يبدو فيها الدّيلي معنيّا بصفة الأب.
ولعلّ كون الكاتب شاعرا أيضا منح الرّواية نفسا مختلفا، خاصّة عندما اتّخذ له بطلا شاعرا، أو يكاد يكون شاعراً، فهو بطل غامض، لا يستطيع القارئ أن يفهم إن كان شاعرا حقيقيّا أم مجرّد موهوم، وإلى غاية نهاية الرّواية وكتابته لقصيدته يظلّ السؤال والحيرة يعملان عملهما لدى القارئ وهو يتّبع خطوات بشير الّديلي المثقلة، روح الشّاعر وعذاباته، بل حتّى اللّحظة التي يكتبُ فيها قصيدته، كلّ ذلك صوّره إسماعيل يبرير بعناية واستطاع أن ينقلنا إلى حالات كأنّنا نعيشها.
ويظهر جليّا أن جميع أبطال الرواية وعبر فصولها كانوا يفتّشون عن معنى لحياتهم، في التصوّف أو الشعر أو السياسة أو الحب، وهو مسعى الإنسان المعاصر الذي يجرّب كلّ أدواته من أجل الهروب من الخراب الذي يحاصره.
في رواية يبرير يوجد الكثير من الأشخاص الثانويين، وبعضهم يبدو أقرب إلى السّعي للحصول على متّسع في النّص، فبايزيد وهو رجل أعمال معروف بالفساد، وجد الفرصة ليموت وقد قدّم الكثير من الخدمات لأهل الرّواية، كأنّ الروائيّ يقول لنا إنّ رموز الفساد لا تعني دائما الفساد؟
هناك درجة عالية من الاعتناء بالنباتات والأشياء، بل أن النبات والوقت والسماء والماء والأثاث والحيوانات كلّها مشاريع شخوص أو حالات، بالإضافة إلى حضور الشّعر عبر مقاطع وأبيات لشعراء عرب كبار كالمتنبي وعنترة ومجنون ليلى، ولمتصوّفين معروفين كرابعة والحلاج وابن الفارض.
رهان تكييف الشّكل في خدمة الحكاية
راهن يبرير على بناء صعب إلى حدّ ما، إذ قسّم الرواية إلى جزئين هما: "الطبقة الأولى" و"الطبقة التالية"، وبينهما فصل طويل بعنوان: "مسعى حفيد العنب" وهو يشبه رواية داخل رواية، حيث يتحوّل فجأة إلى حكاية أخرى هامشية، كأنّها محطّة استراحة أو فاصل سردي. وهناك بعض الفصول التي تبدو مثل "إكسسوار"؛ على غرار فصل "صيد الحكاية" و"فصل الحكاية". ولكنّ البداية والنهاية كانتا عبر فصلين بعنوانين هما: "تحرير، مفتتح بمثابة مداعبة" و"افتراض، بمثابة منفذ".
ويحضر مجدّدا "الرّائي" الذي كان مُصوّبا في روايته السابقة "وصيّة المعتوه" لكنّ حضوره هنا كان أقلّ حدّة حيث اقتصر على أحلام بشير الدّيلي فحسب، ما جعل الكاتب يهتمّ بلغته ويصبغ عليها نوعا من الحكمة المقصودة.
يبدو الإشغتال المكثّف على الشّكل ليحوّل الرّواية إلى ما يشبه الأزقّة التي يتجوّل عبرها القارئ، بل إنّها رواية مدينة أو أشبه بالحيّ، حيث تتوزّع المصائر والمسارات على الفصول والأبواب، وقد إختار عناوين فرعية وأخرى رئيسيّة، ما يمكن وصفه باللّافتات التي تمنح الدّخول إلى نصوص تكاد تنجح أن تستقيل من النّص لكنّها تغري بالمواصلة، وقد نجح خيار الشّكل إلى حدّ كبير، بل إنّه أحد التحديّات التي بنيت عليها الرّواية كاملة.
تكاد تكون رواية "مولى الحيرة" حالة من الاحتفاء بحيّ القرابة، هذه هي الجزئية المهمة، فالحيّ هو أيضا بطل مواز، بطل تقصّد الكاتب أن يجعل له بلاغة هو الآخر فأثّثه بحالات وشخوص واقترح الحكايات، لتكون روايته واقعية سياسية ناقدة، ولكنها رواية حب ولغة ودهشة، ورواية مليئة بالرّموز حيث يجب أن تقرأ على مستويات مختلفة.
تعتبر "مولى الحيرة" امتدادا لمشروع إسماعيل يبرير الأدبيّ المقسّم بين الشّعر والرّواية والذي سبق أن قّدم فيه في الرّواية: "باردة كأنثى"، "ملائكة لافران"، "وصية المعتوه، كتاب الموتى ضدّ الأحياء"، وفي الشعر: "طقوس أولى" و"التمرين أو ما يفعل الشاعر عادة" و"أسلّي غربتي بدفء الرّخام" وفي المسرح: "الرّواي في الحكاية" و"عطاشى" وغيرها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.