المصريون في كندا ينهون التصويت في انتخابات «النواب» وسط تنظيم متميز    أسعار الفاكهة اليوم الأحد 9 نوفمبر في سوق العبور للجملة    مصر تتصدر إنتاج التمور عالميًا وتوسع صناعاتها لزيادة القيمة المضافة    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الأحد 9 نوفمبر    الصين تواصل توسعها في أبحاث الفضاء بإطلاق 3 أقمار صناعية تجريبية جديدة بنجاح    إجراء التقييم المبدئي لطلاب الصفين الأول والثاني الابتدائي.. في هذا الموعد    نظر محاكمة 213 متهما ب«خلية النزهة» بعد قليل    الكاتب السوري سومر شحادة: السوق المصرية تمثل لي أفقًا حقيقيًا للكتابة والقراءة    السوبر المصري.. بيراميدز يتحدى سيراميكا في مباراة تحديد المركز الثالث    مستوى قياسي.. سعر الذهب اليوم الأحد 9-11-2025 بعد ارتفاع الأعيرة محليًا وعالميًا    واشنطن تهمش دور إسرائيل بشأن وقف إطلاق النار في غزة    اعتقالات ومداهمات إسرائيلية فى الضفة الغربية    وزير التعليم العالي: فوز مصر بعضوية "اليونسكو" تتويج لرؤية الرئيس السيسي في تعزيز الحضور الدولي    حظك اليوم الأحد 9 نوفمبر.. وتوقعات الأبراج    شركات السياحة تطالب إدارة المتحف المصري الكبير باستثناء الأفواج القادمة من الغردقة وشرم الشيخ وتخصيص 5 آلاف تذكرة يوميًا لهم    البحر الأحمر تنهي استعدادتها لاستقبال 336 ألف ناخباً للإدلاء بأصواتهم في انتخابات مجلس النواب    إجلاء ما يقرب من مليون شخص مع تهديد الإعصار فونج وونج للفلبين    بسبب تركيبة حليب أطفال، تسمم رضع في 10 ولايات أمريكية والسلطات تفتح تحقيقًا    طقس اليوم: مائل للحرارة نهارا مائل للبرودة ليلا.. والعظمى بالقاهرة 28    سوريا تنفذ عمليات استباقية ضد خلايا لتنظيم داعش    أسفر عن مصرع وإصابة 14.. معاينة موقع حادث انقلاب سيارة بطريق الكريمات    محمد صلاح: الزمالك قادر على حسم السوبر.. وعبد الرؤوف يسير على الطريق الصحيح    أبرز مباريات اليوم الأحد 9 نوفمبر 2025 في جميع المسابقات والقنوات الناقلة    صفاء أبو السعود: حفل «جراند بول» يدعم مرضى السرطان.. ويقام للمرة الأولى في مصر    إخلاء سبيل شخص وصديقه بواقعة التحرش اللفظي بسيدة فى بولاق أبو العلا    خطوات استخراج الكارت الموحد بديل بطاقات التموين في مصر    «إنت بتغير كلامي ليه! أنا عارف بقول إيه».. نقاش ساخن بين أحمد فتحي وخالد الغندور بسبب نجم الزمالك    عيار 21 الآن بعد آخر ارتفاع.. سعر الذهب والسبائك اليوم الأحد 9-11-2025 في مصر    قناة DMC تقدم تغطية حصرية لفعاليات مهرجان القاهرة السينمائى    عمرو أديب يجيب على سؤال اعتزاله: «تاريخي ورايا مش قدامي»    حبس وغرامة.. نقيب الأطباء يكشف عقوبة التجاوز والتعدي على الطبيب في القانون الجديد (فيديو)    وزير النفط الكويتي يبحث قضايا بيئية مع مسؤولين في كوب 30    من الأرز إلى النيل.. الموارنة يجددون رسالتهم في مصر عبر أربعة قرون من العطاء    «معي في قائمة المنتخب».. حلمي طولان يفاجئ لاعب الأهلي قبل ساعات من السوبر    المخرج مازن المتجول في حوار ل«المصري اليوم»: احترم جميع الآراء حول حفل افتتاح المتحف الكبير.. والانتقادات 3% من ردود الأفعال    عمرو الحديدي: الأهلي يفتقد لتواجد إمام عاشور.. ومباراة القمة تكتب دائمًا شهادة ميلاد العديد من النجوم    مسئول أممي: المشهد الإنساني في مناطق بالسودان يثير القلق جراء العنف المتواصل    خوفاً من فضيحة العزوف الشعبي.. هيئةالانتخابات تُخفي صور اللجان بالخارج!!    كورنيليا ريختر أول أسقفة في تاريخ الكنيسة الإنجيلية بالنمسا    «ليس زيزو أو بن شرقي».. أحمد جعفر يكشف أخطر لاعبي الأهلي على دفاع الزمالك    غير صورتك الآن.. رابط موقع تحويل الصور مجانًا ب الذكاء الاصطناعي بعد ترند الزي الفرعوني    ارتفاع عدد المصابين إلى 10 أشخاص فى انقلاب سيارة على الطريق الإقليمى بالمنوفية    إسرائيل حذرت أمريكا وجيش لبنان من عودة حزب الله بقوة    للتخلص من العفن والبكتيريا.. خطوات تنظيف الغسالة بفعالية    نجاح فريق طبى بمستشفيات جامعة بنى سويف فى إنقاذ مريض تلقى طعنتين بالصدر والبطن    أرتيتا بعد التعادل مع سندرلاند: لا أريد الشكوى من أي شيء    تعليم الجيزة تحسم الجدل بشأن تأجيل الدراسة أثناء انتخابات مجلس النواب    تزوجت 5 مرات وتعاني من مرض مناعي نادر.. 17 معلومة عن الإعلامية منى عراقي    زوجة محمد محمود عبدالعزيز تعاني من نزيف داخلي.. 6 أسباب تعرض الحوامل لخطر «الولادة المتعسرة»    المحكمة تُسدل الستار على قضية «أطفال دلجا» وتقضي بإعدام زوجة الأب    تعريفات ترامب الجمركية أدوات لتحقيق أهداف سياسية    كيف نحوِّل المتحف الكبير إلى عملة أجنبية تُخفِّض تكلفة الدَّين الخارجي؟    مقعد آل كينيدي!    «عدد كتب الغيب 3».. خالد الجندي: الله قد يغير في اللوح المحفوظ    أمين الفتوى: صلاة المرأة بملابس البيت صحيحة بشرط    دار الإفتاء توضح ما حكم المشاركة في تجهيز ودفن الميت الذي لا مال له؟    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم السبت 8-11-2025 في محافظة الأقصر    رئيس جامعة الأزهر : من لم يعرف قدر النبي صلى الله عليه وسلم فقد انتفى عنه العلم كله وصار في زمرة الجهلاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جبّور الدويهي يروي بيروت المطبعة
نشر في صوت البلد يوم 20 - 10 - 2016

أستعاد جبّور الدويهي في روايته «طُبع في بيروت» (دار الساقي، 2016) المقولة القديمة «مصر تكتب، بيروت تطبع، والعراق يقرأ» في سياق من السخرية الجميلة والمبطنة. إنّما هذه المرّة لم تُطبع في بيروت كُتُب الشعر أو النثر. لم تُطبع صفحات الأدب. هذه المرّة ما طُبِع في بيروت هو العملة المزوّرة. عملة تكبّد الإنتربول مشاق كبيرة لاكتشاف مصدرها. بحثٌ وسهر ومحقّقون وصلوا أخيرًا إلى مطبعة «كرم إخوان». إلى بيروت: المطبعة الأولى.
خان الكاتب اللبنانيّ الزغرتاويّ الشمالَ هذه المرّة، خان حيّ الأميركان وإهدن وطرابلس. جعل بطله يحمل مخطوطته وينزل إلى بيروت حيث تشرّد على أبواب المطابع ليجد من ينشر له كتابه الأول الذي بدا أنه الأخير. ومَن يظنّ أنّ بيروت ستكون صعبة المراس على الدويهي فهو مخطئ. فالكاتب عالم بأسرار هذه العاصمة النهمة التي تبتلع الكتّاب وتقرّر بمزاجيّة مفرطة أكانت ستنشر كلماتهم أم لا.
قرنٌ بأكمله من تاريخ بيروت يضعه الدويهي بين يدي قارئه. سرد يبدأ مع بدايات القرن العشرين ويصل إلى يومنا هذا: العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. قرن بأكمله، أربعة أجيال من عائلة كرم، ومطبعة واحدة تسرد بيروت بحقباتها الذهبيّة وبزلاّتها المعتمة. عاصمة ومطبعة ومئة عام من الطبع والتمرّد والقتال: «انتهت الحرب بتدمير سبع مطابع في بيروت وضواحيها ونهبِ اثنتي عشرة وإقفال عدد مماثل وتقادم الآلات ومعدّات غالبيّتها بحيث عجز أصحابها عن تجديدها فدخل مجال الطباعة وافدون جدد [...] مطبعة كرم إخوان 1908 كانت من القلّة القليلة التي بقيت على قيد الحياة».
الراوي العليم
ستّة وثلاثون فصلاً قصيرًا تقدّم مشهدًا بانوراميًّا لراوٍ كلّيّ العِلم (narrateur omniscient) يرافق شخصيّاته بأفكارهم ومشاعرهم وخطتهم، يواكب الأحداث الأماميّة والخلفيّة وتلك التي تجري في الكواليس، يتتبّع تاريخ بيروت بحذافيره منذ الحرب العالميّة الأولى (1914-1918) فالاستقلال (1943) فالحرب العالميّة الثانية (1939-1945) فالحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975-1990) وصولاً إلى يومنا هذا. يرافق الدويهي بيروت ومطبعة كرم والشوارع والعائلات وحركة الطباعة بدءًا باليسوعيّين ومطبعتهم الكاثوليكيّة مرورًا بالمطابع الخاصّة وصولاً إلى التطوّر الذي بلغه هذا المجال، حركة سرد مؤطّرة طالما برع بها الدويهي وطالما ميّزت أسلوب رواياته.
ويبدو الدويهي ممسكًا بزمام الزمان والمكان، فيبسط أمام القارئ قصّة فؤاد كرم المؤسّس الأوّل للمطبعة، من بعدها قصّة حفيده لطفي كرم ليصل اليوم إلى عبدالله كرم الوريث الوحيد للمطبعة. قفزات سلسة إلى الماضي، رجعات إلى الوراء تليها مشاهد من الحاضر، تمزج بين الأجيال وتقدّم صورة وافية عن عائلة كرم التي تسير نحو الهبوط. فتبدو هذه الوراثة محكومة بالاضمحلال. وبينما الجيل المؤسّس يمثّل جيل الدهاء والحنكة والقدرة على استغنام الفُرص، يسقط التاريخ في هوّة الانحطاط، ويتجلّى عبدالله الوريث الرابع للمطبعة رمزًا للخمول والخسارة. فيتجلّى عبدالله رمز التهافت أوّلاً من خلال اسمه هو الذي يناديه الجميع «دودول» وهو اسم خالٍ من المعنى والقوّة والجاذبيّة. ثانيًا دودول هو رمز العقم والتلاشي فهو لم يستطع الإتيان بابن ذكر يكون الحامل الخامس لإرث عائلة كرم واسمها، وعندما يطلب منه والده أن يطلّق امرأته ليتزوّج أخرى تؤتي العائلة بوليّ عهد، يقول دودول بضعف: «نطلّق؟ لماذا؟ أنا أحبّ زوجتي» (ص: 184) وليس من الضعف أن يعترف الرجل بحبّه لزوجته، بل الضعف في أن يستعمل هذا الحبّ واجهةً بينما هو فعليًّا لا يقترب منها ولا يجرؤ على النوم معها في الغرفة نفسها وبالكاد يتحدّث معها ويفضّل فتيات الهوى اللواتي يشعر بفوقيّته عليهنّ عندما يدفع لهنّ المال.
وقد يكون دودول أوّل مؤشّرات سقوط مطبعة كرم والمطابع كلّها، سقوط حركة الطباعة في بيروت. قد يكون رمز بيروت التي تخسر الكثير من بريقها الذهبيّ. قد تكون أرستقراطيّته المزيّفة المنهارة تحضيرًا لسقوط أكبر. إنّما لا ضرورة فعليّة لتحميل النصّ بهذه الكمّيّة الخانقة من السوداويّة والتشاؤميّة، فبيروت مزاجيّة متقلّبة دائمًا، لا هي تنكسر تمامًا ولا هي تربح في شكل حاسم، تتماهي مع الصورة التي يمنحها الدويهي لإحدى صاحبات المطابع قائلاً: «سيّدة تدخّن سيكارًا طويلاً ورفيعًا، طلبت له القهوة من دون أن تسأله [...] تأخذ سحبة خفيفة من سيجارها وتجمع أرقامًا على مفكّرة أوراقها صفراء، ترفع عنها رأسها لتجد المنتظر صامتًا يراقبها. واثقة من نفسها، سمراء، مثيرة. لم تسايره». (ص: 9)
مخطئ هو القارئ الذي يظنّ أن بطل هذه الرواية هو الشاعر الشاب الذي ينزل من ضيعته لينشر كتابه. مُخطئ هو الذي يرى في الشخصيّة الأولى التي تدخل مسرح الأحداث المحرّك الأساسيّ للأحداث. فريد أبو شعر شخصيّة هامشيّة، شاعر مأخوذ بأوهامه وكلماته، يتفرّج على أحداث الرواية تمامًا كما يفعل القارئ، لا هو قادر على التصرّف أو الاعتراض، ولا هو قادر على الانسحاب أو الهرب. هو واجهة سرد بيروت المرأة الأولى بتاريخها وقسوتها، هو عذر لسرد بيرسيفون الإلهة الرائعة الجمال.
الإسم الاغريقي
المحرّك الفعليّ لهذه الرواية هي «بيرسيفون» الإلهة اليونانيّة التي استعارها الدويهيّ من الأساطير اليونانيّة وصقلها بحنكة روائيّة لا مثيل لها. فبيرسيفونPersephone هي الابنة الرائعة الجمال لديميتر إلهة الأرض وزيوس إله الآلهة. ولجمالها الأخّاذ، أخفت الأم ابنتها عن العيون وحافظت على جمالها بعيدًا عن الآلهة الأخرى، لكنّ سيّد الموت نفسه أُغرِم ببيرسيفون واختطفها من مخبئها وأخذها إلى مملكته في أعماق الأرض. وبعد نزاع كبير نشب بين الآلهة، حكم زيوس بأن تُمضي بيرسيفون ستّة أشهر فوق الأرض وستّة تحتها فيكون بذلك قد أرضى الأمّ الغاضبة والعشيق الملوّع. فتعيش بيرسيفون حياتها على هذا المنوال وتنجب ولدين من إله الموت. وبيرسيفون مشهورة كذلك لكونها رمز الفخّ الذي يستعين به الآلهة للإيقاع بالبشر، هي الجمال الأخّاذ المُغري الذي يغوي بلا رحمة.
وبيرسيفون الدويهي هي الأخرى متحدّرة من جذور يونانيّة، أخفتها أمّها عن العيون خوفًا عليها من الحسد لجمالها وإشراق وجهها. بيرسيفون الدويهي هي الأخرى تتزوّج مَن لا يهتف إليه قلبها وتنجب منه طفلتين وتشكّل الجمال الوحيد في عالم الحبر والطباعة والكلمات. وعلى غرار بيرسيفون الأولى، تعيش بيرسيفون الدويهي في الطبقة العُليا من المطبعة ولكنّها تنزل إلى أسفل في بعض الأحيان لتغوي عشّاقها أو بالأحرى عاشقها الأوّل: الشاعر.
مهارة روائيّة مبطّنة تحكم حياة فريد أبو شعر الذي يسير إلى حتفه من دون علمه. فبيرسيفون هي التي تجذبه ليقبل العمل في مطبعة كرم مصحّحًا للّغة هو الشاعر الصارم الكلاسيكيّ. هي التي تسرق مخطوطته وتحوّلها إلى كتاب أوراقه هي أوراق العملة المزوّرة. هي التي تُعيد إليه الكتاب وتضع المسمار الأوّل في كفنه ومسيرته نحو الهوّة. هي التي تقرأ الكتب البوليسيّة وتحكم على هذه الرواية بالتحوّل إلى سباق بين الإنتربول والمزوّرين. هي التي تنزل ذات ليلة إلى المصحّح الحالم وتغويه وتثير حنق زوجها - صاحب المطبعة - عليه. هي المحرّك الأوّل للمصائب كلّها التي تحلّ بالشاعر المسكين. وكأنّ الآلهة الجميلة ستظلّ دومًا لعنة الشعراء حتّى في القرن الواحد والعشرين الذي نعيش فيه.
"طُبِع في بيروت" رواية جبّور الدويهيّ التي يصبّ فيها ثقافته الأجنبيّة الصلبة داخل عالمه اللبنانيّ المتين. رواية الشعر والحبّ والكلمات والسنوات والجمال محشورة كلّها في مطبعة بيروتيّة عتيقة. «طُبع في بيروت» رواية بيروت، رواية إلهة يونانيّة فارّة من كتاب أوفيد تأتي لتغوي وتجذب قبل أن تضرب ضربتها القاضية.
أستعاد جبّور الدويهي في روايته «طُبع في بيروت» (دار الساقي، 2016) المقولة القديمة «مصر تكتب، بيروت تطبع، والعراق يقرأ» في سياق من السخرية الجميلة والمبطنة. إنّما هذه المرّة لم تُطبع في بيروت كُتُب الشعر أو النثر. لم تُطبع صفحات الأدب. هذه المرّة ما طُبِع في بيروت هو العملة المزوّرة. عملة تكبّد الإنتربول مشاق كبيرة لاكتشاف مصدرها. بحثٌ وسهر ومحقّقون وصلوا أخيرًا إلى مطبعة «كرم إخوان». إلى بيروت: المطبعة الأولى.
خان الكاتب اللبنانيّ الزغرتاويّ الشمالَ هذه المرّة، خان حيّ الأميركان وإهدن وطرابلس. جعل بطله يحمل مخطوطته وينزل إلى بيروت حيث تشرّد على أبواب المطابع ليجد من ينشر له كتابه الأول الذي بدا أنه الأخير. ومَن يظنّ أنّ بيروت ستكون صعبة المراس على الدويهي فهو مخطئ. فالكاتب عالم بأسرار هذه العاصمة النهمة التي تبتلع الكتّاب وتقرّر بمزاجيّة مفرطة أكانت ستنشر كلماتهم أم لا.
قرنٌ بأكمله من تاريخ بيروت يضعه الدويهي بين يدي قارئه. سرد يبدأ مع بدايات القرن العشرين ويصل إلى يومنا هذا: العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. قرن بأكمله، أربعة أجيال من عائلة كرم، ومطبعة واحدة تسرد بيروت بحقباتها الذهبيّة وبزلاّتها المعتمة. عاصمة ومطبعة ومئة عام من الطبع والتمرّد والقتال: «انتهت الحرب بتدمير سبع مطابع في بيروت وضواحيها ونهبِ اثنتي عشرة وإقفال عدد مماثل وتقادم الآلات ومعدّات غالبيّتها بحيث عجز أصحابها عن تجديدها فدخل مجال الطباعة وافدون جدد [...] مطبعة كرم إخوان 1908 كانت من القلّة القليلة التي بقيت على قيد الحياة».
الراوي العليم
ستّة وثلاثون فصلاً قصيرًا تقدّم مشهدًا بانوراميًّا لراوٍ كلّيّ العِلم (narrateur omniscient) يرافق شخصيّاته بأفكارهم ومشاعرهم وخطتهم، يواكب الأحداث الأماميّة والخلفيّة وتلك التي تجري في الكواليس، يتتبّع تاريخ بيروت بحذافيره منذ الحرب العالميّة الأولى (1914-1918) فالاستقلال (1943) فالحرب العالميّة الثانية (1939-1945) فالحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975-1990) وصولاً إلى يومنا هذا. يرافق الدويهي بيروت ومطبعة كرم والشوارع والعائلات وحركة الطباعة بدءًا باليسوعيّين ومطبعتهم الكاثوليكيّة مرورًا بالمطابع الخاصّة وصولاً إلى التطوّر الذي بلغه هذا المجال، حركة سرد مؤطّرة طالما برع بها الدويهي وطالما ميّزت أسلوب رواياته.
ويبدو الدويهي ممسكًا بزمام الزمان والمكان، فيبسط أمام القارئ قصّة فؤاد كرم المؤسّس الأوّل للمطبعة، من بعدها قصّة حفيده لطفي كرم ليصل اليوم إلى عبدالله كرم الوريث الوحيد للمطبعة. قفزات سلسة إلى الماضي، رجعات إلى الوراء تليها مشاهد من الحاضر، تمزج بين الأجيال وتقدّم صورة وافية عن عائلة كرم التي تسير نحو الهبوط. فتبدو هذه الوراثة محكومة بالاضمحلال. وبينما الجيل المؤسّس يمثّل جيل الدهاء والحنكة والقدرة على استغنام الفُرص، يسقط التاريخ في هوّة الانحطاط، ويتجلّى عبدالله الوريث الرابع للمطبعة رمزًا للخمول والخسارة. فيتجلّى عبدالله رمز التهافت أوّلاً من خلال اسمه هو الذي يناديه الجميع «دودول» وهو اسم خالٍ من المعنى والقوّة والجاذبيّة. ثانيًا دودول هو رمز العقم والتلاشي فهو لم يستطع الإتيان بابن ذكر يكون الحامل الخامس لإرث عائلة كرم واسمها، وعندما يطلب منه والده أن يطلّق امرأته ليتزوّج أخرى تؤتي العائلة بوليّ عهد، يقول دودول بضعف: «نطلّق؟ لماذا؟ أنا أحبّ زوجتي» (ص: 184) وليس من الضعف أن يعترف الرجل بحبّه لزوجته، بل الضعف في أن يستعمل هذا الحبّ واجهةً بينما هو فعليًّا لا يقترب منها ولا يجرؤ على النوم معها في الغرفة نفسها وبالكاد يتحدّث معها ويفضّل فتيات الهوى اللواتي يشعر بفوقيّته عليهنّ عندما يدفع لهنّ المال.
وقد يكون دودول أوّل مؤشّرات سقوط مطبعة كرم والمطابع كلّها، سقوط حركة الطباعة في بيروت. قد يكون رمز بيروت التي تخسر الكثير من بريقها الذهبيّ. قد تكون أرستقراطيّته المزيّفة المنهارة تحضيرًا لسقوط أكبر. إنّما لا ضرورة فعليّة لتحميل النصّ بهذه الكمّيّة الخانقة من السوداويّة والتشاؤميّة، فبيروت مزاجيّة متقلّبة دائمًا، لا هي تنكسر تمامًا ولا هي تربح في شكل حاسم، تتماهي مع الصورة التي يمنحها الدويهي لإحدى صاحبات المطابع قائلاً: «سيّدة تدخّن سيكارًا طويلاً ورفيعًا، طلبت له القهوة من دون أن تسأله [...] تأخذ سحبة خفيفة من سيجارها وتجمع أرقامًا على مفكّرة أوراقها صفراء، ترفع عنها رأسها لتجد المنتظر صامتًا يراقبها. واثقة من نفسها، سمراء، مثيرة. لم تسايره». (ص: 9)
مخطئ هو القارئ الذي يظنّ أن بطل هذه الرواية هو الشاعر الشاب الذي ينزل من ضيعته لينشر كتابه. مُخطئ هو الذي يرى في الشخصيّة الأولى التي تدخل مسرح الأحداث المحرّك الأساسيّ للأحداث. فريد أبو شعر شخصيّة هامشيّة، شاعر مأخوذ بأوهامه وكلماته، يتفرّج على أحداث الرواية تمامًا كما يفعل القارئ، لا هو قادر على التصرّف أو الاعتراض، ولا هو قادر على الانسحاب أو الهرب. هو واجهة سرد بيروت المرأة الأولى بتاريخها وقسوتها، هو عذر لسرد بيرسيفون الإلهة الرائعة الجمال.
الإسم الاغريقي
المحرّك الفعليّ لهذه الرواية هي «بيرسيفون» الإلهة اليونانيّة التي استعارها الدويهيّ من الأساطير اليونانيّة وصقلها بحنكة روائيّة لا مثيل لها. فبيرسيفونPersephone هي الابنة الرائعة الجمال لديميتر إلهة الأرض وزيوس إله الآلهة. ولجمالها الأخّاذ، أخفت الأم ابنتها عن العيون وحافظت على جمالها بعيدًا عن الآلهة الأخرى، لكنّ سيّد الموت نفسه أُغرِم ببيرسيفون واختطفها من مخبئها وأخذها إلى مملكته في أعماق الأرض. وبعد نزاع كبير نشب بين الآلهة، حكم زيوس بأن تُمضي بيرسيفون ستّة أشهر فوق الأرض وستّة تحتها فيكون بذلك قد أرضى الأمّ الغاضبة والعشيق الملوّع. فتعيش بيرسيفون حياتها على هذا المنوال وتنجب ولدين من إله الموت. وبيرسيفون مشهورة كذلك لكونها رمز الفخّ الذي يستعين به الآلهة للإيقاع بالبشر، هي الجمال الأخّاذ المُغري الذي يغوي بلا رحمة.
وبيرسيفون الدويهي هي الأخرى متحدّرة من جذور يونانيّة، أخفتها أمّها عن العيون خوفًا عليها من الحسد لجمالها وإشراق وجهها. بيرسيفون الدويهي هي الأخرى تتزوّج مَن لا يهتف إليه قلبها وتنجب منه طفلتين وتشكّل الجمال الوحيد في عالم الحبر والطباعة والكلمات. وعلى غرار بيرسيفون الأولى، تعيش بيرسيفون الدويهي في الطبقة العُليا من المطبعة ولكنّها تنزل إلى أسفل في بعض الأحيان لتغوي عشّاقها أو بالأحرى عاشقها الأوّل: الشاعر.
مهارة روائيّة مبطّنة تحكم حياة فريد أبو شعر الذي يسير إلى حتفه من دون علمه. فبيرسيفون هي التي تجذبه ليقبل العمل في مطبعة كرم مصحّحًا للّغة هو الشاعر الصارم الكلاسيكيّ. هي التي تسرق مخطوطته وتحوّلها إلى كتاب أوراقه هي أوراق العملة المزوّرة. هي التي تُعيد إليه الكتاب وتضع المسمار الأوّل في كفنه ومسيرته نحو الهوّة. هي التي تقرأ الكتب البوليسيّة وتحكم على هذه الرواية بالتحوّل إلى سباق بين الإنتربول والمزوّرين. هي التي تنزل ذات ليلة إلى المصحّح الحالم وتغويه وتثير حنق زوجها - صاحب المطبعة - عليه. هي المحرّك الأوّل للمصائب كلّها التي تحلّ بالشاعر المسكين. وكأنّ الآلهة الجميلة ستظلّ دومًا لعنة الشعراء حتّى في القرن الواحد والعشرين الذي نعيش فيه.
"طُبِع في بيروت" رواية جبّور الدويهيّ التي يصبّ فيها ثقافته الأجنبيّة الصلبة داخل عالمه اللبنانيّ المتين. رواية الشعر والحبّ والكلمات والسنوات والجمال محشورة كلّها في مطبعة بيروتيّة عتيقة. «طُبع في بيروت» رواية بيروت، رواية إلهة يونانيّة فارّة من كتاب أوفيد تأتي لتغوي وتجذب قبل أن تضرب ضربتها القاضية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.