زلزال بقوة 5.5 درجات يضرب أفغانستان    إغلاق عدد من المقار الانتخابية بالخارج مع استمرار التصويت في انتخابات الشيوخ    ترامب: أولويتنا الآن إيصال الطعام والمساعدات إلى غزة    مقتل 4 أشخاص في إطلاق نار داخل حانة بولاية مونتانا الأمريكية    يونس: محمد شحاتة قادر على التطور.. وأول 10 مباريات فاصلة للزمالك في الدوري    محافظ سوهاج: إحالة واقعة مشاجرة عمال محلات العصائر لنيابة العامة    تشيع جنازة عريس لحق بعروسه بعد ساعات من وفاتها بكفر الشيخ    عمرو دياب يشعل العلمين في ليلة غنائية لا تُنسى    بكفالة 50 ألف جنيه.. إخلاء سبيل منظم حفل محمد رمضان بالعلمين    استشارية أسرية: الزواج التقليدي لا يواكب انفتاح العصر    علي معلول يعلن انضمامه ل الصفاقسي التونسي (صورة)    مصر ترفع رصيدها إلى 91 ميدالية متنوعة في دورة الألعاب الأفريقية للمدارس بالجزائر    تضاؤل فرص لحاق وافد الزمالك الجديد ببداية مشوار الدوري    تنسيق المرحلة الأولى 2025.. تحذير لطلاب الثانوية العامة غير مسجلي الرغبات: «لن تدخلوا كليات القمة»    ما هي واجبات أعضاء مجلس الشيوخ؟.. القانون يجيب    محافظ سوهاج يطمئن على مصابى حريق مطعم بميدان الشبان ويوجه بدعم طبى عاجل    بينهم طفل.. إصابة أسرة كاملة في انقلاب دراجة نارية بالوادي الجديد    سقوط مروع لطفل من دراجة نارية في الوادي الجديد    عيار 21 يفاجئ الجميع.. أسعار الذهب اليوم السبت 2 أغسطس بالصاغة بعد الانخفاض الكبير    استشهاد 3 فلسطينيين في قصف إسرائيلي استهدف خيام نازحين شمال خان يونس    وزير الزراعة: أسعار الدواجن في انخفاض مستمر.. والأعلاف تراجعت 2000 جنيه للطن    حيل مذهلة لتحضير فنجان قهوة تركي لا ينسى (كلمة السر في الثلج)    قرارات عاجلة من محافظ سوهاج بعد حريق المطعم    كما كشف في الجول – النجم الساحلي يعلن عودة كريستو قادما من الأهلي    بيراميدز يستهدف صفقة محلية سوبر (تفاصيل)    أبرزها رفع المعاش واعتماد لائحة الإعانات.. قرارات الجمعية العمومية لاتحاد نقابات المهن الطبية    روسيا ومدغشقر تبحثان إمكانية إطلاق رحلات جوية بمشاركة شركات طيران إقليمية    كواليس من محاكمة صدام حسين.. ممثل الدفاع: طلب جورج بوش وتوني بلير لهذا السبب    عبدالمنعم سعيد: الدمار الممنهج في غزة يكشف عن نية واضحة لتغيير هوية القطاع    رسميا الآن بعد الانخفاض.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 2 أغسطس 2025    مقتل 4 أفراد من أسرة واحدة في سيوة    «الجو هيقلب».. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم: أمطار وانخفاض درجات الحرارة    إسماعيل هنية كشف خيانة الثورة المضادة فباركوا قتله .. عام على اغتيال قائد حماس    الإخوان : وقف نزيف الحرب على غزة لن يمر عبر تل أبيب    الشباب المصري يصدر تقريره الأول حول تصويت المصريين بالخارج في انتخابات مجلس الشيوخ    محمد ممدوح عن «روكي الغلابة»: «كان نفسي اشتغل مع دنيا سمير غانم من زمان» (فيديو)    تحبي تكوني «strong independent woman» ماذا تعرفي عن معناها؟ (فيديو)    عمرو دياب الأعلى استماعا خلال شهر يوليو على أنغامي (صور)    حدث بالفن| كارثة بسبب حفل محمد رمضان ومطرب يلغي حفله في الساحل حدادًا على المتوفي    "ظهور نجم الأهلي".. 10 صور من احتفال زوجة عماد متعب بعيد ميلاد ابنتهما    نجم الزمالك السابق: فترة الإعداد "مثالية".. والصفقات جيدة وتحتاج إلى وقت    الزمالك يحسم صفقة الفلسطيني عدي الدباغ بعقد يمتد لأربع سنوات    حسام موافي ينصح الشباب: مقاطعة الصديق الذي علمك التدخين حلال    منها «الذهاب بكثرة إلى الحمام ».. 6 علامات مبكرة تدل على سرطان البروستاتا يتم تجاهلها    وصول دفعة أطباء جديدة من عدة محافظات إلى مستشفى العريش العام    رئيس أركان حرب القوات المسلحة يشهد فعاليات اليوم العلمى ل«الفنية العسكرية»    ترامب: نشرنا غواصتين نوويتين عقب تصريحات ميدفيديف "لإنقاذ الناس"    الشيخ محمد أبو بكر بعد القبض على «أم مكة» و«أم سجدة»: ربنا استجاب دعائى    2 جنيه زيادة فى أسعار «كوكاكولا مصر».. وتجار: «بيعوضوا الخسائر»    للرزق قوانين    هل يشعر الأموات بما يدور حولهم؟ د. يسري جبر يوضح    أمين الفتوى: البيت مقدم على العمل والمرأة مسؤولة عن أولادها شرعًا    هل أعمال الإنسان قدر أم من اختياره؟ أمين الفتوى يجيب    الأسهم الأوروبية تتكبد خسائر أسبوعية بعد أسوأ جلسة منذ أبريل    فريق بحثي بمركز بحوث الصحراء يتابع مشروع زراعة عباد الشمس الزيتي بطور سيناء    مصر تتعاون مع شركات عالمية ومحلية لتنفيذ مشروع المسح الجوي للمعادن    وزير الأوقاف يؤدي صلاة الجمعة من مسجد الإمام الحسين    إدارة مكافحة الآفات بالزراعة تنفذ 158 حملة مرور ميداني خلال يوليو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جبّور الدويهي يروي بيروت المطبعة
نشر في صوت البلد يوم 20 - 10 - 2016

أستعاد جبّور الدويهي في روايته «طُبع في بيروت» (دار الساقي، 2016) المقولة القديمة «مصر تكتب، بيروت تطبع، والعراق يقرأ» في سياق من السخرية الجميلة والمبطنة. إنّما هذه المرّة لم تُطبع في بيروت كُتُب الشعر أو النثر. لم تُطبع صفحات الأدب. هذه المرّة ما طُبِع في بيروت هو العملة المزوّرة. عملة تكبّد الإنتربول مشاق كبيرة لاكتشاف مصدرها. بحثٌ وسهر ومحقّقون وصلوا أخيرًا إلى مطبعة «كرم إخوان». إلى بيروت: المطبعة الأولى.
خان الكاتب اللبنانيّ الزغرتاويّ الشمالَ هذه المرّة، خان حيّ الأميركان وإهدن وطرابلس. جعل بطله يحمل مخطوطته وينزل إلى بيروت حيث تشرّد على أبواب المطابع ليجد من ينشر له كتابه الأول الذي بدا أنه الأخير. ومَن يظنّ أنّ بيروت ستكون صعبة المراس على الدويهي فهو مخطئ. فالكاتب عالم بأسرار هذه العاصمة النهمة التي تبتلع الكتّاب وتقرّر بمزاجيّة مفرطة أكانت ستنشر كلماتهم أم لا.
قرنٌ بأكمله من تاريخ بيروت يضعه الدويهي بين يدي قارئه. سرد يبدأ مع بدايات القرن العشرين ويصل إلى يومنا هذا: العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. قرن بأكمله، أربعة أجيال من عائلة كرم، ومطبعة واحدة تسرد بيروت بحقباتها الذهبيّة وبزلاّتها المعتمة. عاصمة ومطبعة ومئة عام من الطبع والتمرّد والقتال: «انتهت الحرب بتدمير سبع مطابع في بيروت وضواحيها ونهبِ اثنتي عشرة وإقفال عدد مماثل وتقادم الآلات ومعدّات غالبيّتها بحيث عجز أصحابها عن تجديدها فدخل مجال الطباعة وافدون جدد [...] مطبعة كرم إخوان 1908 كانت من القلّة القليلة التي بقيت على قيد الحياة».
الراوي العليم
ستّة وثلاثون فصلاً قصيرًا تقدّم مشهدًا بانوراميًّا لراوٍ كلّيّ العِلم (narrateur omniscient) يرافق شخصيّاته بأفكارهم ومشاعرهم وخطتهم، يواكب الأحداث الأماميّة والخلفيّة وتلك التي تجري في الكواليس، يتتبّع تاريخ بيروت بحذافيره منذ الحرب العالميّة الأولى (1914-1918) فالاستقلال (1943) فالحرب العالميّة الثانية (1939-1945) فالحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975-1990) وصولاً إلى يومنا هذا. يرافق الدويهي بيروت ومطبعة كرم والشوارع والعائلات وحركة الطباعة بدءًا باليسوعيّين ومطبعتهم الكاثوليكيّة مرورًا بالمطابع الخاصّة وصولاً إلى التطوّر الذي بلغه هذا المجال، حركة سرد مؤطّرة طالما برع بها الدويهي وطالما ميّزت أسلوب رواياته.
ويبدو الدويهي ممسكًا بزمام الزمان والمكان، فيبسط أمام القارئ قصّة فؤاد كرم المؤسّس الأوّل للمطبعة، من بعدها قصّة حفيده لطفي كرم ليصل اليوم إلى عبدالله كرم الوريث الوحيد للمطبعة. قفزات سلسة إلى الماضي، رجعات إلى الوراء تليها مشاهد من الحاضر، تمزج بين الأجيال وتقدّم صورة وافية عن عائلة كرم التي تسير نحو الهبوط. فتبدو هذه الوراثة محكومة بالاضمحلال. وبينما الجيل المؤسّس يمثّل جيل الدهاء والحنكة والقدرة على استغنام الفُرص، يسقط التاريخ في هوّة الانحطاط، ويتجلّى عبدالله الوريث الرابع للمطبعة رمزًا للخمول والخسارة. فيتجلّى عبدالله رمز التهافت أوّلاً من خلال اسمه هو الذي يناديه الجميع «دودول» وهو اسم خالٍ من المعنى والقوّة والجاذبيّة. ثانيًا دودول هو رمز العقم والتلاشي فهو لم يستطع الإتيان بابن ذكر يكون الحامل الخامس لإرث عائلة كرم واسمها، وعندما يطلب منه والده أن يطلّق امرأته ليتزوّج أخرى تؤتي العائلة بوليّ عهد، يقول دودول بضعف: «نطلّق؟ لماذا؟ أنا أحبّ زوجتي» (ص: 184) وليس من الضعف أن يعترف الرجل بحبّه لزوجته، بل الضعف في أن يستعمل هذا الحبّ واجهةً بينما هو فعليًّا لا يقترب منها ولا يجرؤ على النوم معها في الغرفة نفسها وبالكاد يتحدّث معها ويفضّل فتيات الهوى اللواتي يشعر بفوقيّته عليهنّ عندما يدفع لهنّ المال.
وقد يكون دودول أوّل مؤشّرات سقوط مطبعة كرم والمطابع كلّها، سقوط حركة الطباعة في بيروت. قد يكون رمز بيروت التي تخسر الكثير من بريقها الذهبيّ. قد تكون أرستقراطيّته المزيّفة المنهارة تحضيرًا لسقوط أكبر. إنّما لا ضرورة فعليّة لتحميل النصّ بهذه الكمّيّة الخانقة من السوداويّة والتشاؤميّة، فبيروت مزاجيّة متقلّبة دائمًا، لا هي تنكسر تمامًا ولا هي تربح في شكل حاسم، تتماهي مع الصورة التي يمنحها الدويهي لإحدى صاحبات المطابع قائلاً: «سيّدة تدخّن سيكارًا طويلاً ورفيعًا، طلبت له القهوة من دون أن تسأله [...] تأخذ سحبة خفيفة من سيجارها وتجمع أرقامًا على مفكّرة أوراقها صفراء، ترفع عنها رأسها لتجد المنتظر صامتًا يراقبها. واثقة من نفسها، سمراء، مثيرة. لم تسايره». (ص: 9)
مخطئ هو القارئ الذي يظنّ أن بطل هذه الرواية هو الشاعر الشاب الذي ينزل من ضيعته لينشر كتابه. مُخطئ هو الذي يرى في الشخصيّة الأولى التي تدخل مسرح الأحداث المحرّك الأساسيّ للأحداث. فريد أبو شعر شخصيّة هامشيّة، شاعر مأخوذ بأوهامه وكلماته، يتفرّج على أحداث الرواية تمامًا كما يفعل القارئ، لا هو قادر على التصرّف أو الاعتراض، ولا هو قادر على الانسحاب أو الهرب. هو واجهة سرد بيروت المرأة الأولى بتاريخها وقسوتها، هو عذر لسرد بيرسيفون الإلهة الرائعة الجمال.
الإسم الاغريقي
المحرّك الفعليّ لهذه الرواية هي «بيرسيفون» الإلهة اليونانيّة التي استعارها الدويهيّ من الأساطير اليونانيّة وصقلها بحنكة روائيّة لا مثيل لها. فبيرسيفونPersephone هي الابنة الرائعة الجمال لديميتر إلهة الأرض وزيوس إله الآلهة. ولجمالها الأخّاذ، أخفت الأم ابنتها عن العيون وحافظت على جمالها بعيدًا عن الآلهة الأخرى، لكنّ سيّد الموت نفسه أُغرِم ببيرسيفون واختطفها من مخبئها وأخذها إلى مملكته في أعماق الأرض. وبعد نزاع كبير نشب بين الآلهة، حكم زيوس بأن تُمضي بيرسيفون ستّة أشهر فوق الأرض وستّة تحتها فيكون بذلك قد أرضى الأمّ الغاضبة والعشيق الملوّع. فتعيش بيرسيفون حياتها على هذا المنوال وتنجب ولدين من إله الموت. وبيرسيفون مشهورة كذلك لكونها رمز الفخّ الذي يستعين به الآلهة للإيقاع بالبشر، هي الجمال الأخّاذ المُغري الذي يغوي بلا رحمة.
وبيرسيفون الدويهي هي الأخرى متحدّرة من جذور يونانيّة، أخفتها أمّها عن العيون خوفًا عليها من الحسد لجمالها وإشراق وجهها. بيرسيفون الدويهي هي الأخرى تتزوّج مَن لا يهتف إليه قلبها وتنجب منه طفلتين وتشكّل الجمال الوحيد في عالم الحبر والطباعة والكلمات. وعلى غرار بيرسيفون الأولى، تعيش بيرسيفون الدويهي في الطبقة العُليا من المطبعة ولكنّها تنزل إلى أسفل في بعض الأحيان لتغوي عشّاقها أو بالأحرى عاشقها الأوّل: الشاعر.
مهارة روائيّة مبطّنة تحكم حياة فريد أبو شعر الذي يسير إلى حتفه من دون علمه. فبيرسيفون هي التي تجذبه ليقبل العمل في مطبعة كرم مصحّحًا للّغة هو الشاعر الصارم الكلاسيكيّ. هي التي تسرق مخطوطته وتحوّلها إلى كتاب أوراقه هي أوراق العملة المزوّرة. هي التي تُعيد إليه الكتاب وتضع المسمار الأوّل في كفنه ومسيرته نحو الهوّة. هي التي تقرأ الكتب البوليسيّة وتحكم على هذه الرواية بالتحوّل إلى سباق بين الإنتربول والمزوّرين. هي التي تنزل ذات ليلة إلى المصحّح الحالم وتغويه وتثير حنق زوجها - صاحب المطبعة - عليه. هي المحرّك الأوّل للمصائب كلّها التي تحلّ بالشاعر المسكين. وكأنّ الآلهة الجميلة ستظلّ دومًا لعنة الشعراء حتّى في القرن الواحد والعشرين الذي نعيش فيه.
"طُبِع في بيروت" رواية جبّور الدويهيّ التي يصبّ فيها ثقافته الأجنبيّة الصلبة داخل عالمه اللبنانيّ المتين. رواية الشعر والحبّ والكلمات والسنوات والجمال محشورة كلّها في مطبعة بيروتيّة عتيقة. «طُبع في بيروت» رواية بيروت، رواية إلهة يونانيّة فارّة من كتاب أوفيد تأتي لتغوي وتجذب قبل أن تضرب ضربتها القاضية.
أستعاد جبّور الدويهي في روايته «طُبع في بيروت» (دار الساقي، 2016) المقولة القديمة «مصر تكتب، بيروت تطبع، والعراق يقرأ» في سياق من السخرية الجميلة والمبطنة. إنّما هذه المرّة لم تُطبع في بيروت كُتُب الشعر أو النثر. لم تُطبع صفحات الأدب. هذه المرّة ما طُبِع في بيروت هو العملة المزوّرة. عملة تكبّد الإنتربول مشاق كبيرة لاكتشاف مصدرها. بحثٌ وسهر ومحقّقون وصلوا أخيرًا إلى مطبعة «كرم إخوان». إلى بيروت: المطبعة الأولى.
خان الكاتب اللبنانيّ الزغرتاويّ الشمالَ هذه المرّة، خان حيّ الأميركان وإهدن وطرابلس. جعل بطله يحمل مخطوطته وينزل إلى بيروت حيث تشرّد على أبواب المطابع ليجد من ينشر له كتابه الأول الذي بدا أنه الأخير. ومَن يظنّ أنّ بيروت ستكون صعبة المراس على الدويهي فهو مخطئ. فالكاتب عالم بأسرار هذه العاصمة النهمة التي تبتلع الكتّاب وتقرّر بمزاجيّة مفرطة أكانت ستنشر كلماتهم أم لا.
قرنٌ بأكمله من تاريخ بيروت يضعه الدويهي بين يدي قارئه. سرد يبدأ مع بدايات القرن العشرين ويصل إلى يومنا هذا: العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين. قرن بأكمله، أربعة أجيال من عائلة كرم، ومطبعة واحدة تسرد بيروت بحقباتها الذهبيّة وبزلاّتها المعتمة. عاصمة ومطبعة ومئة عام من الطبع والتمرّد والقتال: «انتهت الحرب بتدمير سبع مطابع في بيروت وضواحيها ونهبِ اثنتي عشرة وإقفال عدد مماثل وتقادم الآلات ومعدّات غالبيّتها بحيث عجز أصحابها عن تجديدها فدخل مجال الطباعة وافدون جدد [...] مطبعة كرم إخوان 1908 كانت من القلّة القليلة التي بقيت على قيد الحياة».
الراوي العليم
ستّة وثلاثون فصلاً قصيرًا تقدّم مشهدًا بانوراميًّا لراوٍ كلّيّ العِلم (narrateur omniscient) يرافق شخصيّاته بأفكارهم ومشاعرهم وخطتهم، يواكب الأحداث الأماميّة والخلفيّة وتلك التي تجري في الكواليس، يتتبّع تاريخ بيروت بحذافيره منذ الحرب العالميّة الأولى (1914-1918) فالاستقلال (1943) فالحرب العالميّة الثانية (1939-1945) فالحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975-1990) وصولاً إلى يومنا هذا. يرافق الدويهي بيروت ومطبعة كرم والشوارع والعائلات وحركة الطباعة بدءًا باليسوعيّين ومطبعتهم الكاثوليكيّة مرورًا بالمطابع الخاصّة وصولاً إلى التطوّر الذي بلغه هذا المجال، حركة سرد مؤطّرة طالما برع بها الدويهي وطالما ميّزت أسلوب رواياته.
ويبدو الدويهي ممسكًا بزمام الزمان والمكان، فيبسط أمام القارئ قصّة فؤاد كرم المؤسّس الأوّل للمطبعة، من بعدها قصّة حفيده لطفي كرم ليصل اليوم إلى عبدالله كرم الوريث الوحيد للمطبعة. قفزات سلسة إلى الماضي، رجعات إلى الوراء تليها مشاهد من الحاضر، تمزج بين الأجيال وتقدّم صورة وافية عن عائلة كرم التي تسير نحو الهبوط. فتبدو هذه الوراثة محكومة بالاضمحلال. وبينما الجيل المؤسّس يمثّل جيل الدهاء والحنكة والقدرة على استغنام الفُرص، يسقط التاريخ في هوّة الانحطاط، ويتجلّى عبدالله الوريث الرابع للمطبعة رمزًا للخمول والخسارة. فيتجلّى عبدالله رمز التهافت أوّلاً من خلال اسمه هو الذي يناديه الجميع «دودول» وهو اسم خالٍ من المعنى والقوّة والجاذبيّة. ثانيًا دودول هو رمز العقم والتلاشي فهو لم يستطع الإتيان بابن ذكر يكون الحامل الخامس لإرث عائلة كرم واسمها، وعندما يطلب منه والده أن يطلّق امرأته ليتزوّج أخرى تؤتي العائلة بوليّ عهد، يقول دودول بضعف: «نطلّق؟ لماذا؟ أنا أحبّ زوجتي» (ص: 184) وليس من الضعف أن يعترف الرجل بحبّه لزوجته، بل الضعف في أن يستعمل هذا الحبّ واجهةً بينما هو فعليًّا لا يقترب منها ولا يجرؤ على النوم معها في الغرفة نفسها وبالكاد يتحدّث معها ويفضّل فتيات الهوى اللواتي يشعر بفوقيّته عليهنّ عندما يدفع لهنّ المال.
وقد يكون دودول أوّل مؤشّرات سقوط مطبعة كرم والمطابع كلّها، سقوط حركة الطباعة في بيروت. قد يكون رمز بيروت التي تخسر الكثير من بريقها الذهبيّ. قد تكون أرستقراطيّته المزيّفة المنهارة تحضيرًا لسقوط أكبر. إنّما لا ضرورة فعليّة لتحميل النصّ بهذه الكمّيّة الخانقة من السوداويّة والتشاؤميّة، فبيروت مزاجيّة متقلّبة دائمًا، لا هي تنكسر تمامًا ولا هي تربح في شكل حاسم، تتماهي مع الصورة التي يمنحها الدويهي لإحدى صاحبات المطابع قائلاً: «سيّدة تدخّن سيكارًا طويلاً ورفيعًا، طلبت له القهوة من دون أن تسأله [...] تأخذ سحبة خفيفة من سيجارها وتجمع أرقامًا على مفكّرة أوراقها صفراء، ترفع عنها رأسها لتجد المنتظر صامتًا يراقبها. واثقة من نفسها، سمراء، مثيرة. لم تسايره». (ص: 9)
مخطئ هو القارئ الذي يظنّ أن بطل هذه الرواية هو الشاعر الشاب الذي ينزل من ضيعته لينشر كتابه. مُخطئ هو الذي يرى في الشخصيّة الأولى التي تدخل مسرح الأحداث المحرّك الأساسيّ للأحداث. فريد أبو شعر شخصيّة هامشيّة، شاعر مأخوذ بأوهامه وكلماته، يتفرّج على أحداث الرواية تمامًا كما يفعل القارئ، لا هو قادر على التصرّف أو الاعتراض، ولا هو قادر على الانسحاب أو الهرب. هو واجهة سرد بيروت المرأة الأولى بتاريخها وقسوتها، هو عذر لسرد بيرسيفون الإلهة الرائعة الجمال.
الإسم الاغريقي
المحرّك الفعليّ لهذه الرواية هي «بيرسيفون» الإلهة اليونانيّة التي استعارها الدويهيّ من الأساطير اليونانيّة وصقلها بحنكة روائيّة لا مثيل لها. فبيرسيفونPersephone هي الابنة الرائعة الجمال لديميتر إلهة الأرض وزيوس إله الآلهة. ولجمالها الأخّاذ، أخفت الأم ابنتها عن العيون وحافظت على جمالها بعيدًا عن الآلهة الأخرى، لكنّ سيّد الموت نفسه أُغرِم ببيرسيفون واختطفها من مخبئها وأخذها إلى مملكته في أعماق الأرض. وبعد نزاع كبير نشب بين الآلهة، حكم زيوس بأن تُمضي بيرسيفون ستّة أشهر فوق الأرض وستّة تحتها فيكون بذلك قد أرضى الأمّ الغاضبة والعشيق الملوّع. فتعيش بيرسيفون حياتها على هذا المنوال وتنجب ولدين من إله الموت. وبيرسيفون مشهورة كذلك لكونها رمز الفخّ الذي يستعين به الآلهة للإيقاع بالبشر، هي الجمال الأخّاذ المُغري الذي يغوي بلا رحمة.
وبيرسيفون الدويهي هي الأخرى متحدّرة من جذور يونانيّة، أخفتها أمّها عن العيون خوفًا عليها من الحسد لجمالها وإشراق وجهها. بيرسيفون الدويهي هي الأخرى تتزوّج مَن لا يهتف إليه قلبها وتنجب منه طفلتين وتشكّل الجمال الوحيد في عالم الحبر والطباعة والكلمات. وعلى غرار بيرسيفون الأولى، تعيش بيرسيفون الدويهي في الطبقة العُليا من المطبعة ولكنّها تنزل إلى أسفل في بعض الأحيان لتغوي عشّاقها أو بالأحرى عاشقها الأوّل: الشاعر.
مهارة روائيّة مبطّنة تحكم حياة فريد أبو شعر الذي يسير إلى حتفه من دون علمه. فبيرسيفون هي التي تجذبه ليقبل العمل في مطبعة كرم مصحّحًا للّغة هو الشاعر الصارم الكلاسيكيّ. هي التي تسرق مخطوطته وتحوّلها إلى كتاب أوراقه هي أوراق العملة المزوّرة. هي التي تُعيد إليه الكتاب وتضع المسمار الأوّل في كفنه ومسيرته نحو الهوّة. هي التي تقرأ الكتب البوليسيّة وتحكم على هذه الرواية بالتحوّل إلى سباق بين الإنتربول والمزوّرين. هي التي تنزل ذات ليلة إلى المصحّح الحالم وتغويه وتثير حنق زوجها - صاحب المطبعة - عليه. هي المحرّك الأوّل للمصائب كلّها التي تحلّ بالشاعر المسكين. وكأنّ الآلهة الجميلة ستظلّ دومًا لعنة الشعراء حتّى في القرن الواحد والعشرين الذي نعيش فيه.
"طُبِع في بيروت" رواية جبّور الدويهيّ التي يصبّ فيها ثقافته الأجنبيّة الصلبة داخل عالمه اللبنانيّ المتين. رواية الشعر والحبّ والكلمات والسنوات والجمال محشورة كلّها في مطبعة بيروتيّة عتيقة. «طُبع في بيروت» رواية بيروت، رواية إلهة يونانيّة فارّة من كتاب أوفيد تأتي لتغوي وتجذب قبل أن تضرب ضربتها القاضية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.