في روايته الجديدة، "طُبِع في بيروت، الصادرة مؤخراً عن دار الساقي، يواصل الروائي اللبناني جبور الدويهي ولعه بالأبطال ملتبسي الهوية وبرصد لحظات الأفول سواء لعائلات عريقة أو لمجتمعات كاملة، راسماً كعادته شخصيات روائية يصعب نسيانها. وعلي رأس هذه الشخصيات فريد أو شَعر، الشاعر الخيالي العائش فوق الغيوم، وعبد الله وريث مطبعة "كرم إخوان" وزوجته الجميلة بيرسيفون ذات الأصول اليونانية. حتي الشخصيات بالغة الهامشية مرسومة ببراعة لافتة مثل الناشر الأول الذي عرض عليه فريد أبو شَعر مخطوط ديوانه، ففي لمحة خاطفة نعرف أنه صاحب ذاكرة خرافية، يحفظ معلقة زهير بن أبي سلمي عن ظهر قلب، ضجِر وحاسم في رفض كتاب فريد قبل حتي أن يقرأه. منذ بداية الرواية تتجلي السخرية التي يُقارب بها صاحب "مطر حزيران" بطله فريد: "في عز صيف لاهب استبد بمدينة بيروت في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، نزل شاب مرفوع الحاجبين المقوسين كأنه يومئ دائماً بقول لا، من باص للنقل المشترك لُصق علي جانبيه إعلان "لا تنسوا المخطوفين والمغيبين قسراً ومعوقي الحرب"، وهو يحمل إلي جهة القلب من صدره دفتراً سميكاً غلافه أحمر، كمن يعلق بعنقه يداً مصابة بكسر أو بطلق ناري." يوحي هذا المفتتح كأن حياة فريد تبدأ مع نزوله من "الباص" برفقة مخطوط كتابه، للبحث عن ناشر. ورغم أن وصف حاجبي البطل المقوسين يقربه من الكاريكاتير، إلأّ أن الدويهي حريص طوال الوقت علي ألاّ تصل سخريته إلي هذا الحد، فينجح في كشف الجانب الهزلي من شخصية بطله دون المخاطرة بتسطيحه. التباس الهوية هنا لا يتوقف عند فريد - المنتمي باللقب لعائلة بارعة في الشعر والأدب، قبل أن يكتشف أن أصوله مجهولة بل يتعداه إلي عبد الله كرم، وريث المطبعة، إلاّ أن التباس هوية الأخير اختياري وقصدي، إذ أسقط جده حرف الواو من اسمه "كرّوم"، "وبشطحة قلم صار ابن تاجر الحبوب الحلبي بالمفرق لبنانياً مسجلاً في حي المدور ببيروت من دون أن يكون قد سكن فيه يوماً. ادعي أنه ماروني لشعوره بأن طائفة السريان الكاثوليك التي ينتمي إليها أهله وتتكلم والده لغتها بطلاقة قلة قليلة لن يكون لها شأن يذكر في دولة لبنان الكبير الجديدة." هذا الالتباس المتكرر بطرق مختلفة، من عمل لآخر، أشبه بضربة مسددة بإحكام في وجه الطائفية ومهووسي الهوية النقية. العنوان الواضح ظاهرياً، مخاتل في باطنه، وينطوي علي مفارقة ساخرة، يكشف التمعن فيها عن تأويلات جديدة للرواية. يوحي الدويهي لقارئه علي امتداد صفحات روايته وعبر عنوانها أنه يؤرخ للطباعة في بيروت روائياً، وربما قد يخلص قارئ ما إلي أن "طُبِع في بيروت" مرثية لطرق الطباعة القديمة ولتاريخ بدأ يندثر، لكن في ظني أن المسألة أبعد من هذا، وأن التأريخ للطباعة حيلة فنية وخلفية يؤثث بها الكاتب روايته للوصول إلي ما هو أبعد فنياً: التلاعب والسخرية. ففي النهاية، ندرك أن ما "طُبِع في بيروت" هو النقود المزورة لا ديوان فريد أبو شَعر، حتي وإن كانت قد طُبِعت منه نسخة واحدة فاخرة. وصحيح أن حالة النشر الراهنة، كما تتبدي في الفصل الأول، لا تبشر بخير، غير أن المسألة لا علاقة لها بالرثاء، فالمشاهد مغلفة بالسخرية، وآداء فريد أبو شَعر وكليشيهاته ورومانتيكيته المختلطة بالسذاجة لا تسمح لنا بافتراض أن العالم سينقصه شيء لو لم يُنشَر ديوان "الكتاب". ما يهم جبور الدويهي هنا، هو إحكام الخط البوليسي لروايته وتمتين حبكته، ورمي التفاصيل والمفاتيح برهافة، لتتجمع الخيوط معاً في النهاية، ويتعمق الهزل والسخرية. غير أن الكلام عن خط بوليسي في "طُبِع في بيروت" لا يعني أننا أمام رواية بوليسية، أو علي الأقل ليست كذلك بالمعني الشائع، وإن كان المؤلف يسجل ولع بيرسيفون بروايات "السلسلة السوداء"، وبالجملة المكتوبة علي غلافها الأخير: "روايات رجال الشرطة فيها أكثر فساداً من المجرمين والمحقق المختص لا يحل اللغز دائماً، هذا إن وُجِد اللغز أو وُجِد المحقق." فإن هذه الجملة، في نصفها الثاني تحديداً، تتصادي مع "طُبِع في بيروت" في سخريتها، وفي أن المهم ليس حل اللغز وعقاب المجرمين، بل المعمار الروائي لهذا "اللغز"، والمزج بين أساليب وأنماط كتابية مختلفة، وشد خيوط الرواية معاً والمحافظة علي تشويقها وهزلها الكاشف عن حماقات البشر، ففريد، الذي قضي خمس سنوات في السجن عقاباً علي جُرم لم يرتكبه، يظن أنه بهذا أنقذ بيرسيفون ولم يش بها، كما اعتقد، خلال التحقيق معه، أن التهمة مجرد ذريعة للسطو علي ديوانه.